لقد ظل التشكيل المغربي لسنوات طوال سجين النموذج الشعبي الفلكلوري؛ وهو نموذج يرتبط بإشكال عالمي حول الثقافة العالمة والثقافة الشعبية. بل إنه ارتبط أيضاً بالمعرفة العامية الساذجة بنظيرتها المعرفة العلمية، ولم يتم تأسيس «قطيعة» إبستيمولوجية بالمعنى الباشلالي بغية خلق تشكيل يروم التطلع نحو أفق علمي ومنهجي مفكر فيه بطرق علمية أكاديمية تغترف من نهر العلوم الرياضية والهندسية وكذلك علوم الصباغة المتعددة وعلوم الإنسان: علم النفس، علم الاجتماع، التاريخ، الأنثروبولوجيا... إن هذه «القطيعة» تستدعي تنظيم المعرفة الشعبية ووضعها في إطارها حتى تكون منطلقا للمعرفة العلمية التشكيلية المراد تحصيلها من طرف الفنان المغربي على وجه التحديد . يقول الفنان الراحل محمد شبعة عن مشروعه الذي ناضل من أجله في سبيل تأطير الفنانين الشعبيين الذين ظلوا في مستوى تطلع الدولة ولم ينتجوا فنا منهجيا يحوي خطابا تشكيليا يؤطر مشروعهم بل إنهم ظلوا سجناء الفلكلورية : «لقد كنت على حق – وكان ذلك ضروريا- أن أناهض ذلك، ولكننا لم نكن نناهض الفنانين. كنا نناهض التوجيه والتأطير والتحريف الذي كانت تقوم به جهات معروفة للأسف. إن هذه السياسة أجهضت ما كان يمكن أن نقوم به نحن في ظروف أخرى، من استقطاب لبعض التعابير الشعبية وحمايتها وتطويرها، ولكن في إطارها الشعبي: أي أنه لا يمكن أن تحول فنانا فطريا، وأقصد بالفطرة الأمية الأدبية، بحيث يفكر بشكل منهجي في عمله ويعبر عنه وينشئ خطابا حول أعماله. هذا النموذج من الفنانين، هو الذي كنا نريد أن نحتضنه ونؤطره. فليس لأنه فنان شعبي تلغى عنه هذه الضرورة. إنما نريد أن يكون الفنان الشعبي قادرا على الانتقال إلى مرحلة محترمة وهذا لم يتم». يظهر أن فشل هذا المشروع يعود إلى الهوة الفاصلة بين معاهد الفنون الجميلة وبين الفنانين الشعبين من جهة نظرا لتنميطهم في خانة الفولكلور والتشكيل التجاري. كما أن تطلع أساتذة الفنون لم يكن لكي يخلق من ينافسهم في دور العرض بدافع الذات المفكرة المنهجية التي لم تتواضع وتستقطب هؤلاء، فقد ظل القليل منهم من كان على إيمان بفكرة الفنان محمد شبعة بينما السواد الأعظم ظل مع أكاديميته التي يخاف أن ينافسه فيها أحد، وكأنها خليلته أو معشوقته السرمدية. أضف إلى ذلك عدة اعتبارات كانت وراء النظام العام السياسي الذي كان محكوما وما زال بقوى أجنبية تتحكم في أفقه الثقافي والاقتصادي والسياسي حتى لا يرقى إلى مستوى منافستها عالميا، بل إن العروض التي كان يحظى بها هؤلاء الفولكلوريين داخل الوطن وخارجه كانت تشجعهم في تكرار نفس العمل التشكيلي بطرق تجارية قتلت كل تطور للفن أو أية محاولة للتفكير المنهجي والعلمي حول الفن التشكيلي وإشكالية الرقي به ثقافيا وحضاريا. فإلى أي حد يمكن اليوم وفي أفق هذه الألفية أن نطور مهارات الفنان الشعبي الفولكلوري المغربي نحو التكوين والتفكير المنهجي؟ ألا يحق لهؤلاء أن يطوروا مواهبهم وقدراتهم رغم أميتهم المنهجية التشكيلية؟ ألا يمكن لمعاهد الفنون اليوم أن تقوم بتفعيل هذا المشروع الذي لم ير النور لعقود من الزمن؟ (*) أستاذ فلسفة وفنان تشكيلي