3 فإن أي تهيئة علمية عقلانية مؤسّسة من أجل إعداد للأدوات والحوامل اللغوية المشار إليها أعلاه لا يمكن البتة أن تحوز الرشد والعقلانية إذا ما أوْرثتْ تلك التهيئة للدارجة المغربية، باعتبارها مجرد لغة تواصلية وطنية، ومجرد لغة زمنية في واقعها وفي تصور أصحابها لها (أي غير ذات أي ارتباط بالمقدّس)، كلَّ ما تميّزت به إملائية الفصحى من عقباتٍ في القراءة تتحملها الأجيال بعد الأجيال مدى الحياة إذ لا تزول بالتعلم مهما طال، وذلك لمدة تفوق الألف سنة لم يتم فيها إصلاح إملائي كما يتم بشكل دوري في كتابة اللغات الحيّة، كل ذلك بسبب إعطاء العربية الفصحى في تصور أهلها، ماهية وشكلا وجوهرا، أبعادا دينية مقدسة من خلال ربط شكلها الكتابي إلى حدّ بعيد بالرسم المصحفي. 4 فقارئ نصوص العربية الفصحى، كما هي مدونة طبقا للإملائية المعمول بها حتى الآن، يظل طيلة حياته غير قادر على أن يقرأ نصّا بطلاقة وبدون تردد وذهاب وإياب (انظر تفصيل الأسباب في نص ?Les lecteurs de l?arabe classique ne sont pas tous des cancres» بمدونة OrBinah). يحصل ذلك لأن الإملائية العربية لا تدون، في أحسن الأحوال، سوى نصف ما يتعين أن يتلفظ به القارئ (/كتب/ مثل لتمثيل كل من [kataba]، [kutiba]، [kutubun]، [kutubin] على السواء)، إذ لا تدوّن سوى الأحرف المجردة لجذر الاشتقاق، تاركة ل»فطنة» القارئ رياضةَ استنتاج جميع الحركات القصيرة (الفتحة والضمة والكسرى) التي يتوقف عليها، مع ذلك، تمايُز الصيغ الصرفية واتضح علامات الإعراب التي تميّز الفاعل عن المفعول به وتوضح بقية الوظائف والأدوار التركيبية التي ينبني عليها جميعا قيام الإفادة الأجمالية للجملة، التي ليست مجرد حاصل جمع معاني المعجمية لكلماتها. فانتباه ذلك القارئ موزع باستمرار بين التركيز البصري على بؤرة القراءة، أي الكلمة الكتابية، وبين إعمال جولات بصرية استباقية خاطفة على طول السطرية الكتابية لعله يلمح مؤشرات تركيبية لاحقة بعيدة بؤرة القراءة لتساعده على إعطاء تأويلٍ ناطقٍ صحيح لصور الكلمات الخالية من الحركات؛ كل ذلك في حالة ما إذا كانت هناك مؤشرات أصلا؛ إذ لا تتوفر دائما حتى مع استعداد القارئ لرياضة التوقع الذهني؛ وقد أعطيت لذلك أمثلة ملموسة في مقالات سابقة. وإذ حقل الإدراك البصري الإجمالي للمادة المقروءة (Scoop perceptuel Gestalt en lecture) لا يتعدى ثلاث أو أربع كلمات كتابية (أي الكتل الكتابية التي تفصل بينها بياضات سواء أكانت اسما أم فعلا أو مركبا من المركبات)، فإن تلك المؤشرات، التي هي من طبائع مختلفة لا تحصى، حتى وإن وجدت غالبا ما تكون بعيدة عن حقل الإدراك البصري الإجمالي الجيشطالتي. فلنتأمل المثال الآتي وما يتضمنه من التباس قرائي حسب التقديرات الجزافية الأولي لهذا أو ذاك: [[هذا حديث عن زيد في مكتبته؛ إذ كتب زيد فيها النفيس من الأعمال الأدبية ومن الأعمال الفكرية، كما فيها كثير مما لا قيمة له ...]] ([إذْ كُتُبُ زَيْدٍ...] أم [إذِ كَتَبَ زَيْدٌ]؟). هذه الرياضة الذهنية التوقعية تشوش على القارئ وتستأثر بكل انتباهه وتجعل عملية القراءة أمام العموم خاصة مصدر قلق دائم وتسبب بذلك عقدا بيداغوجية لدى المتعلم الناشئ تدوم في الغالب مدى الحياة. 5 هذا القبيل من المشاكل البيداغوجية في باب مهارة القراءة هو ما يسعى كتاب «...» إلى تجاوزه من خلال النظام الإملائي البسيط والمنسجم والقار الذي اقترح مبادئه وقواعده بالنسبة للعربية المغربية الدارجة التي هي في أطوار الأسس الأولى للتهيئة والتي لا تعاني من ثقل ارتباطها بأي قيمة غير زمنية-نفعية. غير أن هناك اتجاها يفضل تغليب مداراة اللياقة السياسية الظرفية في الأعمال التأسيسية على ما يقتضيه التشخيص والاستشراف المعرفيين. فقد «نوّه» ذلك الاتجاه أيما تنويه بمضمون ذلك الكتاب بعد عرض أجزاء منه في ملتقيات عملية كثيرة، لكنه اعتبره مفرط «الثورية» وقرصا ضخما يصعب ابتلاعه، فاختار ذلك الاتجاه أقراصا مهدئة في باب الإملائية، تتمثل في إملائية ترقيعية غير متجانسة وغير قارة من حيث الصور الكتابية للكلمات (استعمال «نَقْط الإعراب» بطريقة مزاجية في أمثال مادة /ملك/ [مَلِك]، [مُلْك]، [مِلْك]، الخ.) ، وذلك على سبيل لعبة تنكّرية بالأقنعة توهم من يناهض أيّ دور ووظيفة للدارجة مناهضة مبدئية أن هذه الأخيرة لا تختلف عن الفصحى، وأن ما يفوق 80 % من معجمها عربيّ فصيح (وهذا حق عُبّر عنه بالباطل) كما تدل على ذلك الصورُ الإملائية لكلماتها في «قاموس الدارجة المغربية». لكن، وكما سبق أن تنبأتُ شخصيا بذلك في ختام أحدى المقالات الصحفية حول الموضوع، [[فمَهْما أضاف المُداري من لبن إلى كأس التي كانت هي الداءُ، فإنه مذنِب في نظر أي لائم يقضي بأن «ما أسكرَ الكثير منه، فالقليل منه حرام»]؛ وذلك ما حصل وبسبب تلك الأقنعة التنكرية بالضبط، زيادة على تضييع فرصة تأسيسية لترويج إملائية للعربية الدارجة بسيطة ومريحة في القراءة ولا التباس فيها. كل هذا كان قد أثير وبحدة في كثير من ملتقيات استشارة الأكاديمية لإعداد الأدوات والحوامل الديداكتيكية الخاصة بالعربية المغربية الدارجة، ومن بينها القاموس الأساسي مؤلَّفا بالدارجة نفسها وبالحرف العربي كقيمة مضافة (لأن القواميس العامة والموسوعية التي تضم في مجموعها عشرات الآلاف من المواد المعجمية الدارجة، متوفرة منذ سنين مدونة بالحرف اللاتيني مثل معاجم Colin و de Prémare و Harele الخ.)، وذلك خلال الحصص التي قدمت فيها أجزاء من القاموس من جهة، وأجزاء من الكتاب المرقون المذكور حول قواعد النحو والإملائية؛ وقد حضر بعض تلك اللقاءات زملاء لي أمثال الأساتذة عبد الله بونفور، عبد العالي سبيعة ومحمد قيطوط. وإلى هذا يشير السيد نور الدين عيوش في حديثه عن استشارة الخبراء لكن بأسلوب الوقوف عند «ويل للمصلين» (وهو نفس الأسلوب الذي اتبع في التصدير الخاص بالشكر في القاموس)، وإليه أيضا يشير ما ورد في مقدمة القاموس (ص:11) بأسلوب «البناء للمجهول» حيث تمت الإشارة إلى «أن هناك» (؟) اتجاهين في ما يتعلق بإملائية العربية المغربية الدارجة. 6 فإذ أصبحت الدارجة المغربية، من خلال صورها الإملائية في «قاموس الدارجة المغربية» (صور هي عبارة عن «كوبّي-كولي» لصور الكلمات في معجم الفصحى) مفتقدة لأي هويّة كتابية، فلا هي زبيب ولا هي حِصريم كما يقال، أو كما يقول المثل الفرنسي (/ني فيكً، ني ريزان/) «لا هو تينٌ ولا هو عِنَب»، فقد كان ذلك من بين الثغرات التي انقض عليها مناهضو «المسخ والتلهيج» الذين أجمعوا على أن القاموس خليطٌ خِلاسيٌّ هجين لا يعكس الهوية الحقيقية للدارجة المغربية التي يدّعي شرحَ كلماتِها، بما أن ذلك الشرحَ «غالبا ما يتمّ في [ذلك] القاموس بالعربية الفصحى». يقول ذلك الذي دشن الحملة الإعلامية ضد ذلك القاموس عن طريق تخصيص ملفّ خاص له في أسبوعيته، فأخذ سائر الهواة يردّدون نفس مؤاخذاته: [... انتهى كلام الأساتذة الأجلاء. ومن سوء حظهم أن قراءة الصفحات الألف تقريبا تكذبهم، لا في العربية التي زادوا عليها ‹المغربية› لتوصيف هذا المسخ اللساني، ولا في المعنى الذي غالبا ما يكون في القاموس بالعربية الفصحى] (أسبوعية «الأيام» عدد 737، 15-21 ديسمبر 2016؛ انظر «الإعلام المغربي والقضايا السوسيو-تربوية» في مدونة OrBinah). إنه حقُّ مرة أخرى، تم الوقوف عليه بحدس عفوية مباشرة وتَمَّ التعبير عنه بباطل نتيجةً لجهل الهواة «الجينيراليستيّين» بجوهر حقائق أمور التخصّص وبالعلل الفعلية الكامنة وراء ما يعتري تَبيُّنَ العربيةِ الدارجة من التباسات كما هي مدونة في «قاموس الدارجة المغربية». فإذ تمثلت الإملائية المعتمدة في «قاموس الدارجة المغربية» في مجرد «كوبّي-كولي» لصُوَر الكلمات حسب إملائية مقابلاتها في إملائية الفصحى، المفتوحة، بحكم طبيعتها الجزئية الناقصة، على قراءات متعددة كما سبق التمثيل لذلك، فإن المستعمل للقاموس، وكذلك قارئ أيّ نص من العربية الدارجة مدوّنٍ بتلك الطريقة، ممّن لهم إلمام بالفصحى وتعوّدٌ على قراءة نصوصها بالطريقة المشار إليها أعلاه، يأخذ ما هو مكتوب في «قاموس الدارجة المغربية» على أن لفظَه لفظُ عربيةٍ فصحى، فيَجنحُ نحو إعمال تقديراته القرائية، فيضيفُ من ذهنه حركاتٍ إلى صور الكلمات، فيجد «بالفعل»، في نهاية العمليات، أن الدارجة عربيةٌ فصحى؛ وذلك ما لم تلُح له في نطاق حقل الإدراك البصري (الذي لا يتعدى ثلاث إلى أربع كلمات) مؤشرات معجمية خاصة بالدراجة، مثل أدة الإضافة /ديال/، أو اسم الموصول /اللي/ أو أداة الغاية /باش/ «كَيْ» أو المركب الموصولي /باش/ «الذي به» أو أداة المضارعة /كا/ (التي يدونها القاموس تارة متصلة وتارة منفصلة حسب المزاج، وتارة متصلة على شكل /ك/). أما غير المُلمّ بالفصحى قراءةً وكتابةً من المغاربة، وكذا الأجنبي الراغب في تعلم الدارجة، اللذين وضع القاموس أصلا ومن حيث المبدإ لفائدتهما، فغيرُ مفكَّر في الأسس المعرفية التي تمكنهما من إضافة ما لا تظهره الكتابة من حركات الفتح والضم والكسر. فلنُعط مثالا من فتح جزافي لمجلد القاموس، إنه مادة /ترجمة/ التي تمت معالجتها في القاموس على الشكل الملتبس أسفله في «أ» عوض شكل «ب» الذي لا يطرح أي مشكل في تبيّن هوية السجلّ اللغوي المكتوب ولا أي صعوبة في المضمون التلفظي المنطوق لما هو مكتوب؛ وذلك بمجرد التواضع على التأويل الجديد الخاصة بكتابة وقراءة الدارجة (الفتحة والضمة والكسرة تمثل بأحرف الألف والواو والياء، نظرا لانعدام تقابل الممدود وغير الممدود في هذا السجلّ) أ- [/ترجمة/: عملية نقل نصّ أو خطاب للغة مخالفة للّغة للغة الأصلية ...] (قراءة المُلمّين بالعربية: «عَمَلِيّةُ نَقْلِ نَصٍّ أَو خِطَابٍ لِلُغَةٍ مُخَالِفَةٍ لِلُّغَةِ الأَصْلِيَّةِ») ب- /ترجمة/: «عاماليّة› تحويل شي نصّ من اللوغة الأصلية إلى لوغة أخرى مخالفة» (تذكير: الدارجة ليس فيها مدّ؛) هذه بعض العناصر التوضيحية الأولى حول طبيعة ما تمّ وما يتم إعداده من أدوات ديداكتيكية في إطار تهيئة العربية المغربية الدارجة في أفق أيّ اعتراف رسمي أو غير رسمي بوظائف معينة لذلك السجل من سجلات العربية، ومن بين تلك الأدوات «قاموس الدراجة المغربية» الذي صدر مؤخرا والذي لم يتمّ تناوله هنا، كما كان قد تمّ تناوله قبل أكثر من سنة عن تاريخ صدوره (انظر «الأسئلة التي يتم تغييبها بخصوص كيفية تدوين الدارجة المغربية»، وكذلك «بعض مظاهر الإملائية التي يتم إعدادها لتدوين الدارجة» في مدونة OrBinah)، سوى من حيث طريقة كتابة كلماته وشرحها، أي على مستوى النظام الإملائي نظرا للدور التاسيسي لهذا المستوى؛ أما الأوجه الأخرى، مِثل الهوية الصنافية-الوظيفية القاموس المذكور (أهو معجمٌ مدرسي ابتدائي، أم أساسي، أم هو معجم شامل، أم قطاعي، أم موسوعي، الخ.) بما يفرضه كل صنف من أولويات في اختيار المادة المعجمية بدل جعل القاموس المعيّن عبارة عن كيسٍ أو جَولق يُرمي فيه كل «حاطِبِ ليلٍ» بما صادفه (مفردات أساسية، أخرى ضاربة في الاطلاحية التقنية القطاعية، وأخرى تنتمي إلى مختلف أوجه «الغاوس» الخاصة بالفئات الاجتماعية) إلى أن يبلغ حجم الصفحات المطلوبة. ثم إن هناك مسألة تقنيّات ترتيب المادة المعجمية العامة (مختلف أنظمة «أبُجَدْ» و»أبَتٍ»؛ انظر «Ordre alphabétique : enjeux insoupçonnés» في نفس المدونة) وعلاقة بتدبير أمر الاشتقاق؛ وكذلك ومسألة عناصر وخطوات معالجة المداخل المعجمية (من اسم وفعل وصفة وحرف). ولربما تيسّرتْ العودةُ إلى هذه المسائل لاحقا كما تصرف معها «قاموس الدارجة المغربية» إذا ما سمح الوقت بذلك. وعلى كل حال، فأمر هذه الأوجه الأخيرة أمر هيّن، ويمكن تدارك ما يكون قد طرحته تلك الأوجه من مشاكل بسهولة. ------------------- Elmedlaoui, M. (2000) «L›Arabe Marocain: un lexique sémitique inséré sur un fond grammatical berbère»; pp: 155-187 in Salem Chaker, éd. Etudes Berbères et Chamito-Sémitiques; mélanges offerts à Karl-G. Prasse; réunis par Salem Chaker et Andrjez Zaborski. Peeters: Paris-Louvain 2000. (*) باحث متخصص في اللسانيات