بدأ التفكير في إصلاح أوضاع المغرب على الأقل مع مذكرة الحاج زنيبر وبعدها مع دستور 1908 المسمى بالدستور المجهول (الذي كان يدعو إلى البيعة المشروطة) ثم بعد ذلك مع المطالب التي قدمها الوطنيون إلى المستعمر في الثلاثينيات من القرن الماضي. ومع بداية الاستقلال بدأت بوادر الإصلاح تظهر على أرض الواقع مع الحكومات المتعاقبة: حكومتا البكاي الأولى والثانية ثم حكومة أحمد بلافريج. لكن الحسم مع موضوع الإصلاح في المغرب جاء مع حكومة الفقيد عبد الله إبراهيم التي لم تعمر إلا 17 شهرا (من نهاية 1958 إلى بداية 1960). خلال هذه المدة القصيرة تم التفكير بعمق وبجدية في إنجاز الإصلاحات الضرورية لنقل المغرب من بلد متخلف على ركب الحضارة إلى مغرب عصري ومتحضر. وبما أن المغرب بلد فلاحي بسهوله وجباله وواحاته، وسكانه الذين يبلغ عددهم 11 مليون نسمة آنذاك أغلبهم قرويون ويعيشون على الفلاحة والزراعة وتربية المواشي والدواجن. فإن حكومة عبد الله إبراهيم فكرت في أن الإصلاح الحقيقي الذي يمكن أن يؤدي إلى خلق مغرب حر ومتطور وديمقراطي حداثي، لا بد أن ينطلق من الإصلاح الزراعي كبداية موفقة. وبالرجوع إلى مضمون المخطط الخماسي الأول للمغرب المستقل (1960-1964) نجد أن هذا المخطط قد وضع الإصلاح الزراعي في قلب الإصلاح الشامل الذي تحتاجه البلاد. وربط نجاح الإصلاح الزراعي بالقيام بإصلاحات متعددة في مجالات مختلفة مثل إصلاح التعليم وإصلاح الصحة وإصلاح الإدارة وإصلاح القضاء. بحيث أن واضعي المخطط الخماسي (حكومة عبد الله ابراهيم) كانوا يؤمنون ويعبرون صراحة بأن الإصلاح الزراعي لا يمكنه أن يتحقق بمعزل عن إصلاح المجالات الأخرى ذات الصلة. والعكس صحيح. أي أن الإصلاح في مجالات التعليم والصحة والإدارة والقضاء لايمكنه أن يستقيم إلا إذا تم ربطه من حيث القرار والمضمون والتنفيذ بالإصلاح الزراعي. والضمان في ذلك هو إقرار الديمقراطية في جميع المجالات.لأن الديمقراطية هي الإطار الوحيد والفعال لتحقيق الإصلاح وضمان استمراريته وتحصينه. عمليا الديمقراطية هي التي ستمكن الفلاح من ولوج مراكز القرار محليا وجهويا ووطنيا. ليساهم في سن سياسة الدولة التي يجب أن تهدف أولا وقبل كل شيء إلى التوزيع العادل لخيرات البلاد بين المدينة والبادية وبين القطاعات الحيوية. هكذا يكون الإصلاح بمثابة إطار ووسيلة لتحرير الإنسان وشرط من شروط التنمية الاقتصادية. أي استبدال الإنسان القروي الحالي (آنذاك) بإنسان جديد واعي بأهمية الإصلاح ومساهم في تحقيقه عبر سنوات طويلة من العمل الشاق خدمة للوطن ككل. ومضمون الإصلاح الزراعي كان بالخصوص هو استرجاع الأراضي التي سلبها المستعمر وتوزيعها على الفلاحين الصغار. تنقية الأراضي من الأحجار. مساعدة الفلاحين بالبذور المختارة وبالآليات العصرية وبالأسمدة والأدوية. منح الفلاحين قروض بفوائد تفضيلية. القرض الفلاحي الذي كان يجب أن يلعب الدور الأساسي في هكذا برنامج تعرض للنهب وشبه الإفلاس...!!! وفي نفس المستوى رأى المخطط الأول للمغرب المستقل أن على الدولة بأكملها أن تتبنى اختيارت حاسمة في قطاعات اقتصادية أخرى: فكان القرار هو إنشاء صناعة أساسية من أجل خلق الثروة في البلاد. لأن الثروة هي أساس التنمية وهي موضوع الديمقراطية. وبالفعل بدأت صناعة المواد الكيماوية فوق أرض المغرب. وبلغة الأرقام يؤكد أن صناعة الفوسفاط والفوسفاط الممتاز الثلاثي وفوسفاط الأمنيوم بدأ إنتاجه في معامل آسفي بكمية تصل إلى مائة ألف (100.000) طن في السنة وهو ربع الإنتاج الأمريكي (آنذاك). وإنتاج أربع مائة ألف (400.000) طن من حامض الكبريتيك H2SO4 وهو ربع الإنتاج الفرنسي. وإنتاج مائة وخمسون ألف (150.000) طن من حامض الفوسفور في الوقت الذي كانت فرنسا لا تنتج سوى عشرة آلاف (10.000) طن من نفس المادة. وكان مقررا كذلك في المخطط الخماسي الأول أن تنتج معامل آسفي مادة الأمنياك أيضا. للتذكير فقط فإن هذه المادة لا تزال تستورد من الخارج إلى يومنا هذا!!! كما تقرر في إطار المخطط أن ينتج معمل الناظور 160.000 طن من الفولاذ. كما بدأ العمل في صناعة تكرير البترول وصناعة السكر وصناعة عربات الشحن وصناعة الجرارات وصناعة عجلات السيارات...إلخ. وبالموازاة مع ذلك كان المخطط يهدف ? في إطار إصلاح التعليم ? إلى تكوين الأطر الكفأة والمسلحة بالفكر والأخلاق والمستعدة لخدمة الوطن وتملك الإصلاح وحمايته. والهدف الثاني هو تعميم التعليم عن طريق بدل مجهود من أجل محو الأمية تماما. والوصول إلى تكوين شعب قارئ. وقادر على تدبير الإشكالات التي تصادفه في حياته، أفرادا وجماعات. تعليم مجاني حقا. والمجانية كان يراد بها: المجانية في ولوج قاعة الدرس ومجانية الكتب والأدوات. ومجانية الألبسة والتغذية. ومجانية النقل المدرسي. وفي مجال الصحة كان المخطط يهدف إلى بناء المستشفيات الكافية للتطبيب والتداوي|، بجميع التخصصات والتجهيزات الضرورية. وكذا بناء مستوصفات في كل الأحياء. وبناء مراكز صحية في التجمعات السكنية بالبادية والمناطق النائية. ومدها بالأدوية المجانية للمرضى الفقراء والمعوزين. وتوفير دور الولادة في حميع المناطق المحتاجة إليها على امتداد التراب الوطني. كما كان المخطط يهدف من بين أولويات إصلاح الإدارة إلى تسهيل المساطر ومحاربة الرشوة. أما في مجال القضاء فكان يهدف إلى اعتبار القضاء مؤسسة مستقلة بذاتها إلى جانب المؤسستين التشريعية والتنفيذية. واعتبر المخطط أن الإصلاح بالمغرب له عمود فقري لا محيد عنه. هو الإصلاح الزراعي. لأن الدراسات كانت تؤكد في سنة 1960 بأن فلاحا واحدا فرنسيا يضمن غذاء سبعة مواطنين فرنسيين. ويرتقب أن يضمن غذاء سبعين مواطنا فرنسيا في منتصف سبعينيات القرن الماضي. لكن الفلاح المغربي لم يكن يضمن حتى غذاءه الفردي. والسبب في ذلك هو الاحتكار الفاحش للأراضي الفلاحية. حيث نجد في سنة 1960 أن عدد الأراضي الصالحة للزراعة هو 5. 500.000 هكتار. منها 1.500.000 هكتار يحتكرها 6.000 اروبي بمعدل 250 هكتار لكل واحد. وكلها أراضي خصبة ويتركز جلها في مناطق السهول الشاطئية. وفي أودية الأنهار الكبرى المسقية. وبعضها تعرض في مرحلة أخرى للسطو من طرف تجار فاس خاصة في منطقة الحياينة. و 4.000.000 هكتار يستغلها 8.000.000 فلاح مغربي. أي بمعدل نصف هكتار لكل واحد. وأغلبها من أراضي الحمري. هذه الغمة هي التي ستدفع الفلاحين الفقراء وهم غلبة، إلى مغادرة حقولهم الصغيرة والالتحاق بالمدن والاستقرار بضواحيها مشكلين أحزمة البؤس في أغلبها. فخلافا للهجرة القروية بأوربا التي دعت إليها التطورات الصناعية، فالهجرة القروية بالمغرب دعت إليها خشية الإملاق. وبالسرعة المألوفة تتحول جيوش هؤلاء المهاجرين إلى مروجي المخدرات وبلطجية الانتخابات. هم نفسهم الذين كان المخطط الخماسي الأول للمغرب المستقل (1960-1964) يراهن عليهم كخبرات فلاحية وسواعد مهمة من أجل تحقيق الإصلاح الزراعي وتطوير العالم القروي. وبالتالي تحسين ظروف حياتهم ومعيشتهم داخل قراهم ووسط حقولهم. لابد أيضا من القول بأن خيبة أمل هؤلاء الفلاحين والمزارعين هو أنهم كانوا يعقدون الأمل على أن استقلال البلاد الذي يكافحون من أجله سيمكنهم من استرجاع أراضيهم التي سلبها منهم الاستعمار الغاشم. الأمر الذي لم يتحقق طبعا. السؤال الذي حير الجميع ولا يزال ربما: الطريقة التي تم بها إقبار هذا المخطط الخماسي الطموح، مباشرة بعد عودة الوفد المغربي الذي كان يرأسه جلالة المغفور له محمد الخامس، من الولاياتالمتحدةالأمريكية. حيث استجاب الملك لطلب بعض الأشخاص الذين لم يكونوا يمثلون سوى أنفسهم. طالبوا بإقالة حكومة عبد الله ابراهيم صاحبة المخطط الخماسي الأول للمغرب المستقل. أقيلت الحكومة فعلا على بعد أسبوعين من تقديم الطلب. وأقبر المخطط.وتعطل الإصلاح. وتوقفت عجلة التنمية. وضاعت الأغلبية من الشعب واستفادت الأقلية القليلة. ربما السبب في ذلك مرده إلى أن أي إصلاح لايمكن أن يرى النور إلا إذا كان مكفولا بأسمى قانون في البلاد، متوافق حوله. وهي الحلقة المفقودة ربما حتى في برنامج حكومة التناوب الأولى التي فتحت أوراشا كبرى مهمة جدا ثم توقفت هذه الأوراش فيما بعد دون معرفة الأسباب الحقيقية الكامنة وراء هذا التوقيف. اليوم قبل غذ: لايمكن لأي إصلاح أن يتحقق في غياب حكومة شعبية وبدون سلطة ديمقراطية تسهل مهام الحكومة. لذا فالإصلاح اليوم يجب أن يندرج في إطار الحسابات الملموسة والآنية. وهو ما يلزم الدولة برمتها بالانخراط الفعلي والحماس الوطني في تخطيط صارم ينقذ البلاد من كل ما يمكن أن يشتبه في وقوعه.