بات انسحاب بريطانيا من الاتحاد الأوروبي وشيكا. وينبئ انتخاب دونالد ترامب لرئاسة الولاياتالمتحدة بتحول في الوحدة ضد روسيا، التي كانت السمة المميزة للسياسة الغربية الدولية منذ نهاية الحرب العالمية الثانية. كم هو دراماتيكي أن يكون هذا التحول في تخمين أي شخص. إلى أي مجال يمكن أن يتمدد تأثير روسيا؟ ماذا ستكون العواقب على الدول التي هربت من الهيمنة السوفييتية السابقة قبل جيل واحد؟ كيف سيؤثر ذلك على قدرة الاتحاد الأوروبي الضعيفة أصلا على صنع السياسة الخارجية؟ على مدى العقد الماضي، شهدت أوروبا انهيار دول على حدودها الشرقية، بل أكثر من ذلك انهارت دول على حدودها الجنوبية، عندما عرض زعماء الاتحاد الأوروبي عضوية بولندا والتشيك والمجر وسلوفينيا وافق الرأي العام في أوروبا الغربية على ذلك. نما اقتصاد القارة بقوة، واعتبر العديد من الفرنسيين والإيطاليين أن في ذلك إعادة لتوحيد أوروبا المسيحية على غرار ما كانت عليه في الماضي. وفي الوقت نفسه، أبدى الكثير منهم معارضته لفكرة انضمام تركيا إلى الاتحاد الأوروبي. كان دمج بلدان أوروبا الشرقية للحفاظ على نظام أوروبي مستقر خلال مرحلة ما بعد الحرب، سياسة روجتها المؤسسة السياسية في بروكسل ولندن وباريس. وكان الناخبون في فرنسا وإيطاليا أكثر تحفظا. بعد العام 2003، عندما حصل الاتحاد الأوروبي على دعم قوي من الولاياتالمتحدة وبولندا، في سعيه إلى تعزيز التعاون الاقتصادي وعملية الإصلاح مع أوكرانيا، كانت عضويتها المستقبلية في حلف شمال الأطلسي مطروحة أيضا على الطاولة. يشرح مزاج التمرد ضد المزيد من التكامل الأوروبي، الذي ينظر إليه كمشروع تأسيسي، التصويت الفرنسي ضد معاهدة "ماستريخت" في العام 2005. لقد تصرف الحكام الفرنسيون وكأن شيئا لم يحدث. بما أن الأزمة المالية في العام 2008 أخذت نصيبها من البؤس في مختلف أنحاء الاتحاد الأوروبي، فقد تراجع الاهتمام بالمزيد من الالتزام بالانخراط في أوكرانيا بشكل حاد. وفي العام 2015، كشف استطلاع لمركز "بيو" أن غالبية طفيفة في فرنسا وألمانيا وإيطاليا قالت إن بلدانها لا يجب أن تتمسك بالتزاماتها بموجب معاهدة الناتو بالدفاع عن حلفاء الناتو في شرق أوروبا، وبالفعل كان أحد أعضاء الاتحاد الأوروبي هدفا لهجوم من روسيا. الناخبون، لا سيما أولئك المحافظون والقوميون، أصبحوا بعد ذلك ينظرون للإرهاب والتدفقات الواسعة من الهجرة من البلدان التي تقع جنوب حوض البحر المتوسط، على أنهما يشكّلان تهديدا يفوق بكثير السياسة الروسية العدوانية على نحو متزايد. وسمحت الفوضى الدموية التي اجتاحت منطقة الشرق الأوسط منذ العام 2011 للرئيس الروسي فلاديمير بوتين بالتحول من دكتاتور إلى زعيم حالم متشكك في أوروبا، وهو يريد رؤية روسيا الأرثوذكسية باعتبارها حصنا ضد الإسلام الراديكالي والإرهاب. يميل المزيد من الناخبين المحافظين إلى توافق. انتبه السياسيون لذلك. ويجدر بنا أن نتذكر أن نيكولا ساركوزي، الذي يعتبر نموذجا للانتهازية، ركض كمرشح براغماتي موال للولايات المتحدة نحو الرئاسة في العام 2007، وركض نحوها أيضا كشعبوي موال لروسيا في محاولته الفاشلة في خريف هذا العام. ولأكثر من عقد من الزمان، عرض فرنسوا فيون، الذي يقود اليمين الفرنسي في المعركة الانتخابية خلال الربيع المقبل، مد اليد إلى روسيا، وهو يعلم أن الناخبين الفرنسيين هم أكثر قلقا حول الهجرة والإرهاب مقارنة بما تقوم به روسيا في أوكرانيا. إنه ليس الوحيد من بين كبار السياسيين الأوروبيين حين قال إن مصالح روسيا يجب أن تؤخذ بعين الاعتبار. يشاركه الرأي الرؤساء الذين تم انتخابهم مؤخرا من مولدافيا وبلغاريا، بالإضافة إلى الرئيس التشيكي، الذي أعرب مؤخرا عن امتنانه للروس لأنهم تولوا مهمة إنقاذ بلاده من النازية وانتقد عقوبات الاتحاد الأوروبي معتبرا أنها "هراء". ودفع الرئيس المجري فيكتور أوربان، الذي يرفض أي تدخل للاتحاد الأوروبي في شؤونه الخاصة، قدما باتجاه خطط لإنشاء محطة للطاقة النووية تتكفل بها روسيا رغم معارضة بروكسل، وهو يتذمر باستمرار من الإسلام والمهاجرين. تعكس أوروبا الشرقية بشكل متزايد الحالة الاجتماعية المحافظة لدى روسيا وعودة شعبها إلى الهوية القديمة كمسيحيين وسلافيين. وقد قام الكرملين بعمل جيد لاستغلال هذه الموجة. تظهر سحابة تخيم على مستقبل حلف شمال الأطلسي مع اقتراب يوم التنصيب في واشنطن. ولكن إلى أن تصبح سياسة ترامب تجاه الاتحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلسي وروسيا أكثر وضوحا، فإنه من المستحيل الحديث عن تحول جذري في السياسة الأوروبية تجاه روسيا. تعتبر المشكلة التي يواجهها العديد في أوروبا الشرقية حادة، هل يستمرون في مواجهة العدوان الروسي والترهيب بالعقوبات والانتشار العسكري شرقا؟ هل يجب عليهم قلب التحالفات؟ بالكثير من الواقعية، هل ينبغي استيعاب صعود روسيا؟ التخلي عن العقوبات يعني نهاية سياسة الغرب في محاولة وضع حد للحرب في أوكرانيا. إذا سارعت الدول الأوروبية بشكل فردي لعقد صفقة مع الكرملين، فإن ذلك من شأنه أن يدفع نحو المزيد من التنازلات في سوريا ومنح روسيا المزيد من النفوذ في أوروبا الشرقية. ولكن هل يستطيع أيا كان أن يخمّن أين ستتوقف طموحات بوتين؟