كسبت موسكو معركتها الأولى ضد النظام السياسي الجديد في عاصمة أوكرانيا كييف الذي ساندته الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، وذلك بإسترجاعها لشبه جزيرة القرم وضمها إلى روسيا الاتحادية عبر استفتاء شعبي يوم 18 مارس 2014 وذلك بعد أن كانت تلك المنطقة قد ألحقت بأوكرانيا سنة 1954 ضمن التنظيم الداخلي للإتحاد السوفيتي حيث لم يكن لذلك أي بعد إستراتيجي، ولكن بعد تفتت الاتحاد السوفيتي بقيت القرم حيث غالبية السكان من أصول روسية تحت سلطة كييف التي أنفصلت سنة 1991، ولم تطالب موسكو التي كان يحكمها بوريس نيكولايفيتش يلتسن في ذلك الحين بإسترجاعها. ففي سنة 1954 قامت القيادة السوفيتية التي ترأسها نيكيتا خروتشوف بنقل "أوبلاست القرم" من جمهورية روسيا السوفيتية الاتحادية الاشتراكية إلى جمهورية أوكرانيا السوفيتية الاشتراكية. مع ضم روسيا شبه جزيرة القرم الذي ينظر إليه إلى حد كبير باعتباره أمرا واقعا لا رجعة فيه توقع كثيرون الآن مزيدا من المواجهات في السنوات القادمة لجمع شتات الشعب الروسي، ففي كلمة ألقاها في 18 مارس في أعقاب التدخل في القرم شدد الرئيس الروسي بوتين على أنه سيكون مستعدا لاستخدام القوة لحماية مصالح الأقليات التي تتحدث الروسية، أينما كانت. وقد خلف تفكك الاتحاد السوفيتي نحو 25 مليون روسي خارج حدود روسيا الاتحادية يتركزون في أماكن مثل أوكرانيا وكازاخستان وآسيا الوسطى ودول البلطيق وجيوب انفصالية في جورجيا ومولدوفا، حيث هناك عشرات الملايين الآخرين مصنفين في جوازات سفرهم السوفيتية القديمة كأوكرانيين أو من روسيا البيضاء أو قوميات أخرى لكنهم يتحدثون الروسية كلغة أولى. مع إقتراب منتصف شهر أبريل بدأ الحسم في معركة روسيا الثانية في أوكرانيا وذلك حول المقاطعات الشرقية لهذه الجمهورية السوفيتية السابقة حيث يشكل السكان الروس غالبية كذلك. أهمية المواجهة التي تتدخل فيها قوى كثيرة في مقدمتها الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، هي أن نتيجتها ستكون لها إسقاطات هامة ليس على الصعيد الأوروبي فقط بل على الصعيد العالمي وذلك في نطاق صياغة توازنات القوى لنظام عالمي جديد. هل هي مواجهة عسكرية؟ يوم الأحد 13 أبريل أعلن أولكسندر تيرتشينوف القائم بأعمال الرئيس الأوكراني إن سلطات بلاده تعتزم شن "عملية شاملة لمكافحة الإرهاب" يشارك فيها الجيش ضد انفصاليين مؤيدين لروسيا. وقال تيرتشينوف في خطاب للأمة بثه التلفزيون إن روسيا تشن حربا على أوكرانيا بنشر الفوضى في شرق البلاد لكنه قال إن أي مقاتل يسلم سلاحه بحلول صباح الاثنين 14 أبريل لن يتعرض للملاحقة القضائية. وأكد مقتل ضابط في أمن الدولة وإصابة أعضاء آخرين في أجهزة إنفاذ القانون في اشتباك وقع في وقت سابق مع من وصفهم بمتشددين موالين لروسيا قُرب بلدة سلافيانسك. وأضاف "المعتدي لم يتوقف ويواصل زرع الفوضى في شرق البلاد" في إشارة إلى موجة من الهجمات على المباني الحكومية من قبل مسلحين موالين لروسيا في البلدات والمدن الواقعة بالمناطق الناطقة بالروسية في الشرق. وتقول السلطات في كييف إن الانفصاليين يعملون بإلهام وتوجيه من الكرملين وهو ما تنفيه موسكو، وذكر تيرتشينوف "قرر مجلس الأمن والدفاع الوطني شن عملية شاملة لمكافحة الإرهاب تشارك فيها القوات المسلحة الأوكرانية". وأضاف "لن نسمح لروسيا بتكرار سيناريو القرم في المناطق الشرقية من البلاد" مشيرا إلى ضم موسكو لشبه جزيرة القرم إثر استيلاء مسلحين موالين لروسيا عليها. بعد هذا التصريح بساعات قليلة أكدت وزارة الخارجية الروسية إن اعلان السلطات في كييف أنها ستحشد الجيش لاخماد تمرد لمسلحين مؤيدين لروسيا في شرق اوكرانيا هو "أمر إجرامي". وقالت الوزارة إن على الغرب أن يكبح جماح حلفائه في الحكومة الأوكرانية. واضافت في بيان "إنها مسؤولية الغرب الآن أن يمنع الحرب الأهلية في أوكرانيا". مصادر رصد أوروبية وأمريكية ذكرت أن موسكو لن تسمح للقوات الأوكرانية بسحق المدافعين عن الوحدة مع روسيا، وأن الجيش الروسي سيتدخل. يوم الأحد 13 أبريل صرح مارك ليال جرانت سفير بريطانيا بالأمم المتحدة إن روسيا حشدت عشرات الآلاف من الجنود المجهزين بشكل جيد قرب الحدود الأوكرانية بالاضافة إلى الخمسة والعشرين ألف جندي الذين نقلتهم إلى القرم في الأونة الأخيرة. وأضاف السفير البريطاني في كلمة خلال إجتماع طاريء لمجلس الأمن الدولي بشأن أوكرانيا إن"صور الأقمار الصناعية تظهر وجود مابين 35 ألف و40 ألف جندي روسي بجوار الحدود مع أوكرانيا مجهزين بطائرات قتالية ودبابات ومدفعية ووحدات للدعم اللوجيستي . في نفس الوقت صرحت السفيرة الأمريكية لدى الأمم المتحدة سامنثا باور إن بلادها مستعدة لتشديد العقوبات على روسيا اذا تواصلت أفعال كالتي شهدتها أوكرانيا في الآونة الأخيرة. ووصف حلف شمال الأطلسي ظهور رجال في شرق أوكرانيا يحملون أسلحة روسية ويرتدون زيا موحدا مثلما فعل الجنود الروس خلال التدخل في جزيرة القرم بانه "تطور خطير". وأضافت باور في تصريح لمحطة "ايه.بي.سي" أن الأحداث الأخيرة في أوكرانيا تحمل "دلائل واضحة على ضلوع موسكو". وقالت "أعتقد أننا رأينا أن العقوبات يمكن أن يكون لها تأثير وإذا تواصلت أفعال كالتي رأيناها خلال الأيام القليلة الماضية فسوف نزيد تلك العقوبات". حدود فعالية العقوبات واقعيا لا تملك الدول الغربية أي شيء يمكنها من منع موسكو من ضم ثلاث دويلات انفصالية بها أغلبية روسية يسيطر عليها الجيش الروسي بالفعل، وهي شريط ترانسنيستريا في مولدوفا ومنطقتا أوسيتيا الجنوبية وأبخازيا في جورجيا التي كانت كلها جزء من الاتحاد السوفيتي. ولا توجد إرادة سياسية لمنع توغل روسيا لمدى أبعد إذا قررت أن تفعل ذلك، حيث يقول الخبراء إن الخط الأحمر الفعلي هو مهاجمة دول البلطيق الأعضاء في حلف شمال الأطلسي، وهي خطوة سوف تستدعي تفعيل البند الخاص بالدفاع الذاتي وقد تقود إلى حرب أوسع نطاقا مع الحلف بما في ذلك الولايات المتحدة القوة النووية العظمى. وقال مسؤول غربي "عمليا لا يستطيع الغرب فعل شيء لمنع بوتين من غزو أوكرانيا أو أية دولة سوفيتية سابقة ليست عضوا في الحلف باستثناء ممارسة الضغوط الدبلوماسية والاقتصادية، والأولوية الآن هي ردع العدوان على حلف الأطلسي". ويشير بعض الخبراء إلى أن أقوى رسالة يمكن للدول الغربية أن توجهها إلى موسكو هي أن كل خطوة تتخذها روسيا لتعزيز وضعها في مناطق تستطيع السيطرة عليها ستدفع دولا أخرى إلى التحرك أكثر صوب الغرب. وهذا يعني حسب الخبراء زيادة الدعم الاقتصادي وربما خطوات نحو منح عضوية الاتحاد الأوروبي لدول أوروبية كانت جزءا من الاتحاد السوفيتي مثل أوكرانياوجورجيا ومولدوفا أو توقيع اتفاقيات جديدة في مجال الطاقة واتفاقيات اقتصادية مع دول آسيا الوسطى. غير أن خبراء يشيرون إلى أن الأزمة الاقتصادية التي تواجهها أوروبا والولايات المتحدة تحد من قدرتها على تقديم الدعم الكافي. وزيادة على ذلك فإن العديد من السياسيين يرون أن قوة الولايات المتحدة في أفول وأنه سيكون من الخطأ تركيز الاعتماد عليها، خاصة وأن سياسة البيت الأبيض كشفت خلال الأشهر الأخيرة عن حالة من الإضطراب والتفكك والتنكر للوعود. وكثيرا ما شكت موسكو من أن الغرب نكص بوعده بعدم توسيع حدود حلف الأطلسي والاتحاد الأوروبي شرقا باتجاه الحدود الروسية، ولكن المعطيات الحالية أثبتت للكرملين عكس ذلك حيث أصبح بإمكانه رؤية قوات الحلف وقد تمركزت بشكل دائم هناك. ومؤخرا دخلت المدمرة الأمريكية "يو إس إس دونالد كوك" المزودة بصواريخ موجهة مياه البحر الأسود للمشاركة في تدريبات "لطمأنة حلفاء الأطلسي"، كما عبرت سفينة تتبع المخابرات الفرنسية مضيق البسفور. موقف الغرب وأمريكا حتى الآن يظهر لغالبية الملاحظين أن الضغط الاقتصادي هو السلاح الوحيد الحقيقي في جعبة الغرب ومن الصعب تقييم مدى فاعلية هذا السلاح كقوة ردع، وقد فرضت الولايات المتحدة وأوروبا عقوبات على عدد من الشخصيات ورجال الأعمال الروس بعد ضم القرم لكن هذه العقوبات صيغت بحيث لا تكون لها تداعيات اقتصادية واسعة، وقد هددت واشنطنوبروكسل باتخاذ إجراءات أشد إذا دخلت القوات الروسية مناطق أخرى في أوكرانيا، وأدى هذا التهديد إلى تزايد هروب رأس المال من روسيا، الأمر الذي أضر باقتصادها وإن كان بشكل غير مباشر. ولم تبد الدول الغربية رغبة في أن تحدد بالتفصيل طبيعة التصعيد في الإجراءات التي ستتخذها، ويقول البعض إن هذا يقلل من خطر تلك الإجراءات، وقد تضر التحركات المقترحة مثل تجميد أصول عدد أكبر من الشخصيات واستغناء أوروبا عن الغاز الروسي بالدول الغربية مثلما ستضر بموسكو. ويقول مسئولون غربيون أن من بين الإجراءات المطروحة استهداف المستثمرين الروس بشكل أكبر وإلغاء صفقة تصدير فرنسية لحاملتي طائرات هليكوبتر لحساب البحرية الروسية. وتشير المعطيات إلى أن أي تحرك روسي محتمل داخل شرق أوكرانيا، قد يفجر صراعا عسكريا بين روسياوأوكرانيا المدعومة من الغرب، غير أن معارضي أي تورط مسلح غربي يقولون إن العقوبات أثبتت فاعليتها في كثير من الأحيان ولكن مع دول صغيرة مقارنة مع دولة عظمى مثل روسيا. وهو ما أشار إليه مايكل لي النائب السابق لمفوض العلاقات الخارجية بالاتحاد الأوروبي، والذي يعمل الآن مستشارا لصندوق مارشال الألماني بالقول "مع عدم وجود رد فعل غربي يذكر على ما حدث في القرم، قد يشعر بوتين بأنه لن يخسر شيئا إذا ضم مزيدا من الأراضي". ويقول محللون أنه بإستثناء تهديد غربي بشن حرب عالمية ثالثة لن يتراجع الرئيس الروسي عما يعتبره واجبا قوميا ونجدة عشرات الملايين من مواطنيه الذين تشتتوا بعد إنهيار الاتحاد السوفيتي والإبقاء على التقسيمات التي كانت مطبقة. بعض الصقور في واشنطن والذين ينكرون تقلص قدرات الولايات المتحدة في التأثير على الأحداث الدولية، يرون أن هناك بديلا للتهديد بحرب كبيرة، ويؤكدون أن المعطيات القائمة حيال الأزمة السياسية بين كييف وموسكو تشير إلى أن أي تحرك روسي محتمل في الشرق، قد يفجر صراعا عسكريا بين روسياوأوكرانيا المدعومة من الغرب، وأنه على الرئيس الأمريكي باراك أوباما الاستجابة لدعوات تسليح أوكرانيا وزيادة برامج التدريب وغيرهما من الروابط العسكرية، وبذلك يمكن فرض حرب استنزاف على الكرملين وسط أوروبا، وبالتالي وقف قدرة الرئيس بوتين على تعزيز قدرات بلاده وفرض وجودها كقوة عالمية موازية لأمريكا. في المقابل قلل المراقبون من فرضيات التدخل الأمريكي المباشر وخاصة في دخول مواجهة نووية مع روسيا. ولكن في حال تسبب أي غزو روسي في حملة تمرد واسعة، فقد يجد الغرب نفسه مدفوعا تدريجيا إلى توفير بعض الدعم السري على الأقل لكييف، لكن من المؤكد تقريبا أن مثل هذا الدعم سيكون محدودا للغاية. حيث أعلن حلف الأطلسي في الأول من أبريل 2014 عما أسماه "إجراءات ملموسة" لتعزيز قدرات أوكرانيا للدفاع عن نفسها، لكن في واقع الأمر اقتصر ذلك على إجراءات غامضة "لبناء القدرات" وتوسيع حجم مكتب الاتصال التابع لحلف الأطلسي في كييف. وقال ديمتري غورينبرغ المحلل الروسي في مركز تحليلات القوات البحرية، وهو مركز تموله الحكومة الأمريكية ويقدم استشارات للجيش، "هذا لا يعود إلى عدم قدرة الغرب على منع أي غزو محتمل، لأن من المؤكد أن بضعة كتائب من قوات حلف الأطلسي تستطيع صد مثل هذا الغزو، لكن عندما يتعلق الأمر بالتصدي للتحركات الروسية في أراضي الاتحاد السوفيتي السابق فلا توجد استراتيجية ولا رغبة في القيام بذلك". الحرب الباردة يقول محللون أن الازمة الاوكرانية أعادت العلاقات بين الحلف الاطلسي وروسيا ثلاثين عاما الى الخلف الى حقبة من الريبة والدعاية التي قيل أنها طويت مع انتهاء الحرب الباردة، وتحول روسيا إلى قوة دولية من الدرجة الثانية. وذكر ضابط متمركز في بروكسل حيث مقر الحلف الاطلسي طالبا عدم كشف اسمه لوكالة فرانس برس "ان الحلف وموسكو يتذكران انهما كانا اشد عدوين في العالم" مضيفا ان "الاقدم من بيننا في الخدمة يسترجعون ردود فعل تخلوا عنها قبل سنوات". وفي مكاتب الحلف الاطلسي علقت خرائط لاوكرانيا على الجدران الى جانب خرائط افغانستان، البلد الذي كان يستأثر بكامل اهتمام المنظمة حتى الان ويقول احد الدبلوماسيين ان "خبراء روسيا عادت اراؤهم مسموعة للغاية لأنهم تكبدوا كذلك الهزيمة أو الاستنزاف في أفغانستان". وتصاعدت حدة اللهجة في الايام الاخيرة بين موسكو والحلف الاطلسي اللذين يتبادلان الاتهامات باحياء اجواء الحرب الباردة التي شهدت مواجهة بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي استمرت من سنة 1947 الى 1991. وقال الأمين العام للحلف الاطلسي اندرس فوغ راسموسن يوم الخميس 10 أبريل "لا احد يريد حربا باردة جديدة. على روسيا ان تتوقف عن السعي للعودة الى الخلف". وردت الدبلوماسية الروسية بالقول ان الحلف الاطلسي هو الذي "يعتمد خطاب الحرب الباردة". واستخدم الحلف الشبكات الاجتماعية مثل "تويتر" سعيا لاعطاء أصداء كبيرة لصور بالاسود والابيض التقطت بالأقمار الصناعية والتي تظهر مئات الدبابات والطائرات والآليات الروسية المحتشدة في مناطق ريفية قرب حدود أوكرانيا. وسارعت روسيا الى الرد مؤكدة أن الصور التقطت اثناء التدريبات التي جرت في صيف 2013 وليس في الاسابيع الاخيرة. غير ان الحلف أكد الجمعة ان هذا غير صحيح ونشر صورا جديدة "تثبت بشكل واضح ان تأكيدات المسئولين الروس غير صحيحة على الاطلاق". ويتابع بعض الخبراء هذه الخلافات بحذر وقال فيليب ميغو الباحث في معهد العلاقات الدولية والاستراتيجية أن "هذه التلميحات الى الحرب الباردة انما هي هرطقة سواء على المستوى الجيوسياسي أو على المستوى العسكري". واوضح ان "روسيا في عهد بوتين لم تعد لديها المطامع العالمية التي كانت تحرك الاتحاد السوفياتي.. ولا تهدد مباشرة أيا من دول الحلف الاطلسي" كما ان "التوازن بين الكتلتين لم يعد قائما على الاطلاق" لان الميزانية العسكرية لدول الحلف تفوق اليوم باثني عشر ضعفا ميزانية روسيا. خبراء آخرون يرون أن الحديث عن التفوق الغربي وهم، فأسعار الأسلحة الغربية أكبر عدة مرات من الأسلحة الروسية ولهذا فإن الحسابات السابقة خاطئة. إذا كانت الازمة الاوكرانية هي الاخطر على العلاقات بين الحلف الاطلسي وروسيا منذ سقوط الاتحاد السوفياتي، الا انها ليست اول ازمة تطرأ بينهما فكثيرا ما قامت خلافات بين الطرفين ومنها توسيع الحلف الاطلسي شرقا الى دول البلطيق وبولندا ورومانيا، وأزمة كوسوفو، والدرع الصاروخية التي تعتبره موسكو تهديدا بالرغم من نفي الحلفاء استهدافها. وقد حذر دبلوماسي متمركز في بروكسل "علينا الا نخطئ، فالعلاقات بين الحلف الاطلسي وروسيا لطالما كانت متقلبة وليس هناك من سبب حتى يتغير ذلك". تحالف موسكو وبكين يحاول حلفاء أوكرانيا مساندتها بكل الوسائل والطرق المتوفرة حاليا في جعبتهم لحل أزمتها دبلوماسيا بعد تردي الوضع شرق البلاد، في الوقت الذي يعمل فيه "الدب" الروسي على التصدي لمحاولات الغرب تشويه صورته والاضرار بمصالحه الاقتصادية والنفاذ إلى الجمهوريات السوفيتية السابقة التي تعيد توثيق الروابط مع الكرملين، كما أن هناك هاجسا رئيسيا يزعج الغرب عامة والولايات المتحدة خاصة وهو قيام تحالف إستراتيجي ثابت بين موسكو وبكين لأنه سيقلب موازين القوى بشكل حاسم. وزير الخارجية سيرغي لافروف الروسي حذر يوم الجمعة 11 أبريل، من أن تصاعد مشاعر "العداء" الغربي ضد روسيا نتيجة الأزمة في أوكرانيا، يهدد استقرار أوروبا. وقال لافروف، "إن الحض على مشاعر العداء لروسيا على خلفية عنصرية وكراهية للأجانب في العديد من دول الاتحاد الأوروبي وتزايد عدد المجموعات القومية والتساهل إزاء النازية الجديدة سواء في أوكرانيا أو في أماكن أخرى، يهدد بشكل واضح استقرار أوروبا"، حسبما نقلته عنه وكالة "ريا نوفوستي". كما طالب المسئول الروسي بضمانات قانونية لبقاء أوكرانيا على الحياد، معارضا بشدة في، الوقت نفسه، انضمامها إلى حلف شمال الأطلسي. وأبدى وزير الخارجية استعداد روسيا للمشاركة في المحادثات الرباعية، التي تشمل الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد الأوروبي وممثلي أوكرانيا، واقترح أن يتضمن جدول أعمال المحادثات ديون أوكرانيا المستحقة لروسيا عن إمدادات الغاز. وذكر لافروف، إن "ضمان تخفيف حدة الأزمة في أوكرانيا ممكن ويتطلب فقط وقف محاولات منح الشرعية لحكومة "الميدان" في كييف" وهو الأسم الذي يطلقه الروس على الحكومة التي جاءت بعد إعتصامات الميادين في كييف. وجاءت تصريحات المسئول الروسي عقب يوم دام عاشته مدينة أوديسا الواقعة في جنوبأوكرانيا، حيث أصيب 7 أشخاص بجروح في اشتباكات بين نشطاء موالين لروسيا ومؤيدين للسلطات الجديدة، وذلك بعد وصول مرشح رئاسي معارض للسلطات الأوكرانية إليها. وأوضحت وكالة "ريا نوفستي" الروسية للأنباء أن هذا المرشح هو أوليغ تساريوف وقد أصيب بجروح طفيفة في اعتداء شنه مقاتلون من حركة "القطاع الأيمن" المتطرفة عليه في مدينة نيقولايف بعد وصوله إلى أوديسا المطلة على البحر الأسود للمشاركة في مراسم إحياء ذكرى تحرير المدينة من الاحتلال النازي. واتهم المرشح الرئاسي في مقابلة مع صحيفة "راسيسكايا غازيتا" نشرته يوم الجمعة، المسئولين الجدد الذين عينتهم كييف في مقاطعات جنوب وشرق البلاد، بتمويل وحدات للمقاتلين تتمثل مهمتهم في قمع الاحتجاجات المعارضة وإرهاب المواطنين الروس. وقال تساريوف، "يتولى هذه المهمة مقاتلون جندتهم السلطة المحلية وفي جميع مقاطعات الجنوب والشرق ويشرف على هذه العمليات الارهابية نواب من المحافظين الجدد، ويمول كل منهم نحو 200 من المقاتلين المشبعين بالروح العنصرية تجاه كل ما هو روسي". تردد الحلفاء إذا كان هناك من يحرض على تسخين المواجهة مع موسكو فإن هناك وحتى داخل حلف "الناتو" من يعارض ذلك. رئيس الحكومة التشيكية بوهسلاف سوبوتكا عارض إرسال قوات من حلف شمال الأطلسي إلى أوكرانيا في حال تعرضها لهجوم من قبل روسيا، مبرزا أن قوات الحلف لا يمكنها التدخل في أراضي دول ليست في الحلف. وذكر سوبوتكا في تصريح له بعد اجتماعه، يوم الجمعة 11 أبريل، بأمين عام حلف "الناتو" اندرس فوغ راسموسن في براغ، "أنا لا أعتقد أنه يتوجب على "الناتو" إرسال قوات إلى أوكرانيا وأنه عليه إبداء رد الفعل العسكري فقط في حال الاعتداء على دولة من دوله أو بناء على قرار يصدر عن مجلس الأمن". لكن المسؤول التشيكي أعرب عن ثقته بأنه لن يتم الاستمرار في الاعتداء على أراض أخرى من أوكرانيا وأن كييف ستنجح في الحفاظ على سيادة أراضيها، على حد تعبيره. من ناحيته، أكد وزير الدفاع الأمريكي تشيك هيغل لنظيره الأوكراني القائم بأعمال وزير الدفاع، ميخائيلو كوفال، التزام بلاده بالوقوف إلى جانب أوكرانيا. ويقول كريس دونلي مستشار سابق لحلف الأطلسي بشأن روسيا ويشغل الآن منصب مدير معهد ستيتكرافت "فن الحكم" في لندن "ما نراه هنا هو شكل جديد للحرب وجزء من استراتيجية روسية منسقة". وتابع قائلا "سواء تصدينا له أو سمحنا بحدوثه، فإن الرد إلى الآن لم يكن كافيا بالمرة". حرب الجواسيس يقول محللون أن هناك شعورا متزايد بأن الغرب كان عليه أن يكثف التركيز على فهم نهضة روسيا الجديدة ومنع تحولها إلى منافس جديد للولايات المتحدة. فبعد سنوات من التصور بأن الدب الروسي تحول إلى قزم وجدت الدول الغربية نفسها أمام واقع صعب وهي على أعتاب عصر جديد ربما ينطوي على مواجهة مع موسكو. فبعد مرور ربع قرن على سقوط حائط برلين تقلصت بشدة الخبرات المتعلقة بروسيا في أجهزة مخابراتها وقواتها المسلحة وحكوماتها. ومع تزايد القلق إزاء أنشطة التجسس الروسية المحتملة بما في ذلك الهجمات الالكترونية التي تتزايد تطورا وبرامج التجسس الالكتروني تجدد قدر من الاهتمام بروسيا في السنوات الأخيرة وفي الأساس في مجال مكافحة التجسس. لكن المفاجأة التي عصفت بواشنطن وحلفائها هي استيلاء الرئيس الروسي فلاديمير بوتين على منطقة القرم من أوكرانيا وضمها إلى روسيا ما ينم عن حاجة ماسة للتركيز من جديد على موسكو. ويؤكد مسئولون حاليون وسابقون في واشنطن إنه بعد هجمات 11 سبتمبر 2001 بات التركيز منصبا على التشدد الإسلامي وعلى الشرق الأوسط ثم على صعود نجم الصين بحيث لم تعد شئون الاتحاد السوفيتي السابق من التخصصات التي تعزز مستقبل صاحبها المهني. وعلى النقيض عما كان عليه الحال إبان الحرب الباردة حينما كان الوصول إلى معظم الأراضي الروسية بعيد المنال بالنسبة إلى الغرب يقول متخصصون إقليميون إن الخبرة موجودة اليوم بين الأكاديميين ورجال الأعمال.. لكنها خبرة غير مستغلة. تقول فيونا هيل ضابطة المخابرات الأمريكية المتخصصة في شؤون روسيا خلال الفترة من 2006 إلى 2009: "هناك معين طيب من الخبراء المتخصصين في روسيا.. أناس عاشوا هناك ولديهم خبرة عالية.. لكن لا يوجد طلب عليهم من جانب الحكومة". وأضافت هيل التي تعمل الآن مديرة لمركز الولايات المتحدة وأوروبا في معهد بروكينغز "البنتاغون والبيت الأبيض فقدا الكثير من خبرائهما المتخصصين في شؤون روسيا". وقال ضابط مخابرات غربي سابق طلب لرويترز عدم نشر اسمه: "المشكلة الأساسية تتمثل في الوفرة العددية في وقت ينصب فيه التركيز على مكافحة الإرهاب والعراقوأفغانستان والأحداث العربية". ويقول مسئولون ومحللون إن روسيا تمثل في الأساس تهديدا لدول الجوار لكن الأمر يستدعي قدرا أكبر من الحذر الذي ازداد خلال العقدين الماضيين. والأمر لا يتعلق بالوفرة العددية وحدها، لأن جحافل المتخصصين الغربيين في الشئون السوفيتية لم ترصد باستثناء قلة قليلة انهيار الاتحاد السوفيتي عام 1989. ويقول مسئولون ومحللون إن هناك شعورا متزايدا بأن الغرب كان عليه أن يكثف التركيز على روسيا وخاصة مع تزايد إنفاقها الدفاعي بنحو 30 بالمئة بعد حربها مع جورجيا عام 2008. بينما تقول مصادر في المخابرات إن من بين الأسباب التي جعلت أحداث القرم تأخذ واشنطن وحلفاءها على حين غرة هو أنه خلال الحشد العسكري الروسي في المنطقة لم تكن هناك مؤشرات تذكر على حدوث تدخل عسكري وشيك للاستيلاء على شبه الجزيرة، على الرغم من أن موسكو حشدت علانية قواتها قبل أيام بدعوى إجراء تدريبات. ورغم أن المسئولين الأمريكيين يتابعون الآن عن كثب حشد القوات الروسية على الحدود الشرقية لأوكرانيا يختلف الخبراء الغربيون بشأن ما إن كان بوتين يعتزم غزو المنطقة. وبالنسبة إلى الولايات المتحدة ساعدت واقعتا تجسس أمكن رصدهما خلال العقد الأخير في إعادة الأنشطة الروسية المريبة إلى دائرة اهتمام أجهزة المخابرات، كانت الأولى عام 2008 حين تم اكتشاف برنامج تجسس متطور أطلق عليه اسم "إيجنت بي.تي.زد" أصاب أجهزة كمبيوتر خاصة بوزارة الدفاع بعد تسلله إليها عبر وحدة تخزين "يو.إس.بي" عثر عليها لاحقا في مرأب سيارات تابع لقاعدة عسكرية أمريكية في الشرق الأوسط، وأمضى مسئولو البنتاغون أشهرا في تنظيف الأنظمة الإلكترونية. ولا يزال هذا الهجوم واحدا من أخطر حوادث اختراق الأمن الإلكتروني التي عانت منها الحكومة الأمريكية. أما الحدث الأبرز فكان إلقاء القبض على عشرة جواسيس في الولايات المتحدة وطردهم ومن بينهم أنا تشابمان التي أصبحت مذيعة بالتلفزيون الروسي واكتسبت صيتا ذائعا. وجاء هذا بعد معلومات من معارض روسي وتحقيق موسع أجراه مكتب التحقيقات الاتحادي الأمريكي. ولا توجد أدلة كثيرة على أن أولئك الجواسيس حققوا نجاحا كبيرا في مهامهم. وربما يسهم ضم روسيا للقرم في إحياء تخصصات عسكرية مثل حروب الدبابات والغواصات التي أهملت بسبب الحملة الطويلة في أفغانستان ذات الأراضي الجبلية الوعرة والتي لا تطل على بحار. وقال ضابط أوروبي كبير سابق: "الحروب المضادة للغواصات من الأشياء التي أغفلت بقوة لسبب بسيط هو أن طالبان ليست لديها غواصات". مستقبل القوة الأمريكية مع تصاعد المواجهات بين موسكووواشنطن في العديد من مناطق العالم وخاصة في الشرق الأوسط مع تعثر مشروع الشرق الأوسط الجديد، ثم أزمة أوكرانيا يتجدد بقوة الجدل حول مستقبل القوة الأمريكية ومكانها في النظام الدولي، هذا الجدل الذي انطلق منذ الثمانينيات من القرن الماضي، حتي قبل انهيار الاتحاد السوفيتي. وقد افتتح هذا الجدل المؤرخ الأمريكي بول كيندي بكتابه الضخم "صعود وهبوط القوي العظمي"، الذي تبني مفهوم أن القوة العظمي تتوجه للانحدار، إذا ما توسعت في استخدام قواتها العسكرية بأكثر من إمكانياتها الاقتصادية. وقال إن الولايات المتحدة لابد أن يصيبها ما أصاب غيرها من دول عظمى قبلها، بسبب التوسع الزائد عن الحد فى فرض النفوذ. وقد وصل بول كينيدى إلى ان هذا الأفول يكاد يكون حتميا، إذ تميل الدولة العظمى، بعد بلوغها درجة معينة من القوة والسيطرة، إلى ان تمد نفوذها إلى أبعد من طاقتها، أى إلى أبعد مما تستطيع الاحتفاط به، إذ يفرض عليها هذا التوسع نفقات اقتصادية فضلا عن بعض الأعباء السياسية والاجتماعية، لا تقدر على مواجهتها، فإذا بها تنكمش وتضطر إلى تقليص نفوذها، ويحمل هذا الانكماش وتقلص النفوذ كل مظاهر الأفول وفقدان القوة. طبق بول كينيدى هذا "القانون" على الولايات المتحدة فإذا به يصل إلى نتيجة مؤداها ان الولايات المتحدة قد أصابها بالفعل هذا المرض الذى أصاب الامبراطورية البريطانية فى أوائل القرن الماضي، وان مصير الولايات المتحدة هو نفس مصير بريطانيا، وهو ان تتحول إلى دولة عادية عاجزة عن فرض إرادتها على العالم. وقد تجمع حول هذا المفهوم وطوره عدد من الباحثين عرفوا ب "مدرسة الاضمحلال"، والتي قوبلت بدورها بالنقد والتفنيد من جانب عدد من الخبراء الاستراتيجيين، مثل زبجنيو برجينسكي وصامويل هنتنغتون. قدمت المجموعة الأخيرة صورة أكثر تفاؤلا حول المستقبل الأمريكي، تقوم علي أن القوة الأمريكية هي قوة متعددة الأبعاد علي عكس القوي الدولية الأخري التي تعتمد علي بعد واحد من عناصر القوة. وقد سادت الرؤية الأخيرة، وخفتت أصوات مدرسة الاضمحلال مع نهاية التسعينيات، حيث ترسخ الاعتقاد بأن الولايات المتحدة تملك عناصر القوة العسكرية والاقتصادية والتكنولوجية مجتمعة بما لا تملكه قوة أخري. وعلي المستوي العالمي، برزت الولايات المتحدة في تلك الفترة بوصفها القوة الأعظم الأولي، بل والوحيدة، في العالم. غير أن هذه الصورة ما لبثت أن تراجعت مع مجيء إدارة بوش الابن، وما تعرضت له مصداقية القوة للولايات المتحدة، نتيجة ما واجهته من نكسات في العراقوأفغانستان. وتوافق ذلك أيضا مع صعود قوي أخري، خاصة الصين، وصعود قوي أخري، مثل الاتحاد الأوروبي، والهند، وروسيا. في أوكرانيا كما في الشرق الأوسط يتم بناء معادلات توازن عالمية جديدة. عمر نجيب [email protected]