من المعروف أنه في أية علاقة جنسية سادومازوخية يكون هناك طرف مهيمن في مقابل خضوع الطرف الآخر. ربما تعكس الصفات الأدائية لكل دورٍ الاختلال الواضح لمعادلة توازن القوى والتي تقترحها الألقاب المسبوغة على كل طرف من أطراف العملية الجنسية. ولكن، في الحقيقة، أغلب الأشخاص المنخرطين في مثل هذه الممارسات سيخبرونك بأن الطرف الخاضع يكون هو المسيطر فعليًا على العملية بأكملها. في فيلمه الجديد «الخادمة The Handmaiden»، يقوم المخرج الكوري البارز بارك شان-ووك بتحويل قصة درامية تاريخية إلى معرض سينمائي لتأملاته المستمرة عن العنف المبذول، بجانبيه النفسي والجسدي، في سبيل تلبية نداءات الشبق والشهوة والحب والهوس، مازجًا ذلك الخليط بمهارة في كوكتيل بصري سادو-مازخي لا تقل نكهته اللاذعة عن ديناميكيته الفعّالة. في الفيلم، تقوم الشخصيات بسحب البساط مرارًا من تحت أقدامنا، واحدة تلو الأخرى، وغالبًا ما يحدث ذلك في اللحظة ذاتها التي تتعرّض فيها لأكثر المواقف خطورة. هذه خدعة متقنة، رغم استكمالها لميراث طويل من أفلام سينما التشويق، ولكنها في يد سينمائي مخضرم مثل بارك - يعمل حاليًا في أفضل مستوياته بعد تجريب وبحث - يمكن أن تُنتج تحفة فنية خالصة. سبق لبارك التنقل في أفلامه بين عدد من الأساليب السينمائية المختلفة، دون أن تنحرف بؤرة اهتمامه عن ثيماته المعتادة والمتمركزة حول ثنائية الجنس والعنف، في تأكيد على رؤيته بأنه لا يمكن وضع أي تعريف للفرد المعاصر من دون تفحّص تأثيراته وتفاعلاته مع هذين العاملين. يمكن ملاحظة ذلك في جميع أعماله تقريبًا، بما فيها فيلمه الأمريكي «ستوكر» (2013) الذي شهد تعاونه مع نيكول كيدمان وميا فاسيكوفسكا، وماثيو غود، ولا يشذّ «الخادمة» عن هذه القاعدة. يقول بارك في حوار صحفي عقب عرض الفيلم: «إذا تأملت جميع أفلامي، بما فيها «أولد بوي»، ستلاحظ في أعماقها فكرة الحب والرومانسية. ولكن حين يكون العنف عنصرًا شديد البروز، فإنه يخفي كل ما يقف إلى جواره»، مضيفا أنه لا يخفي سعادته بهذا الفيلم الجديد «الذي يتيح لي الكشف أخيرًا عن محور اهتمامي الفعلي». يستند «الخادمة» جزئيًا إلى رواية للكاتبة البريطانية سارة ووترز بعنوان «Fingersmith»، صدرت في عام 2002 وتمت معالجتها تلفزيونيًا من خلال مسلسل قصير عُرض على شبكة بي بي سي في 2005، مع الحفاظ على هيكل الرواية الأساسي والإطار التاريخي للأحداث التي تدور في العصر الفيكتوري. لكن المخرج الكوري يأتي بالرواية إلى كوريا في ثلاثينيات القرن العشرين وقت كانت تحتلها اليابان، ونظرًا لشهرته على الصعيد الدولي فقد رافقت عودة بارك إلى صناعة الأفلام في بلده الأصلي توقعات كبيرة. في مركز حكاية الفيلم، امرأة كورية صغيرة تنتمي للطبقة العاملة تدعى سوكي (كيم تاي-ري) تعمل خادمة لدى سيدة يابانية ثرية تدعي السيدة هيديكو (كيم مين-هي). وسرعان ما يتبيّن للمُشاهد أن سوكي ليست على هذه القدر من البساطة الذي يتصوّره للوهلة الأولى. في الحقيقة، هي محتالة تم الزجّ بها إلى وظيفتها كجزء من مخطط هندسه الكونت فوجيوارا (ها جونغ-وو)، والذي ينتوي إغواء هيديكو - بمساعدة سوكي بالطبع - من أجل إتمام الزواج بها والاستحواذ على ثروتها، ثم يودعها في إحدى المصحّات النفسية لبقية حياتها. المخطط السابق لا يعدو كونه مجرد بداية لحكاية ملتوية ومليئة بالانقلابات (twists)، تدور داخل قصر مذهل يخبّئ بدوره مفاجآت كثيرة، وسيكون من الظلم كشف المزيد من حبكة الفيلم (ناهيك عن أن ذلك سيأخذ مساحة كبيرة من الكتابة ربما لا يسعها هذا المقال). دعونا فقط نقول إن «الخادمة» بالإضافة لكونه فيلما من أفلام الدراما والجريمة والرومانسية، مثلما تقول البيانات على موقع الفيلم الرسمي، فإن الفيلم يقدم وجبة متكاملة من التشويق والإيروتيكية والرعب. يمزج بارك بين هذه الأنواع الفيلمية ببراعة، يساعده في ذلك – قبل أي شيء - موسيقى تصويرية بتوقيع جو يونج-ووك، يطرّزها التوفيق لتخرج بشكل يتناسب تمامًا مع الشيزوفرينية المتلاحمة للفيلم، الفيلم الذي لا يتوقّف عن تبديل اتجاهاته واللعب باحتمالات المشاهدين طوال مدة عرضه، رافضًا الكشف عن جميع أوراقه حتى نهايته. يكيّف بارك وشريكه في كتابة السيناريو تشونغ سو كيونغ رواية ووترز في مكان وزمان مختلفين وبعيدين للغاية عن الأصل المكتوب، والنتيجة؟ يصبح «الخادمة» مختلفًا تمامًا عن كل الأفلام السابقة للمخرج الكوري، ولكن مع احتفاظه بالمزاج العام المميز لها. لا يمكن لأي مُطّلِع على أعمال بارك سوى ملاحظة أن توهج وفيتشيّة «الخادمة» يتجاوزان بأشواط طويلة كل التجارب السابقة التي تصدّى لها المخرج، رغم استمرار تعاونه مع نفس الأسماء تقريبًا. فبالإضافة إلى كاتب السيناريو ومؤلف الموسيقى، لدينا هنا أيضًا مدير التصوير تشونغ تشونع-هوون، وهذا الأخير يستحق تحية خاصة على مجهوداته البصرية. في لحظة معينة من الفيلم، تستغرق الكاميرا في تأملات شهوانية محورها خزانة ملابس السيدة هيديكو (لديها خمسة أدراج مكدسة حصرًا بالقفازات الفاخرة والمطوية بعناية فائقة)، الأمر نفسه يتكرر حين تتسكّع الكاميرا في مرورها على حزوزات الجلد التي تبقى ظاهرة بعد إزالة مشدّ الخصر. ذلك الولع بالتفاصيل الذي يعتمده المخرج يبدو مناسبًا تمامًا، وبخاصة حين يتعلق الأمر باستكشاف الطرق التي يمكن للنية الخبيثة والقسوة المدمرة أن توزّع بها نفسها ضمن حدود الآداب واللياقة الاجتماعية. وبعبارة أخرى، هذه التفاصيل تقدّم ما يمكن اعتباره خلفية جغرافية-سيكولوجية لذلك الشرّ الخالص الشيك الذي تباغتنا به شخصيات الفيلم. هذا التداخل بين القسوة والجمال ليس سوى الأرضية التي يلعب عليها بارك. في الواقع، إن التداخل ليست هي الكلمة الدقيقة. التعايش، ربما، كلمة أكثر ملاءمة. الجمال نفسه قاسٍ بطبيعته، سواء لهؤلاء الذين يتم تعريفهم على أساسه أو لأولئك الذين يسخرون منه لصعوبة الحصول عليه. شخصيات «الخادمة»، حتى أكثرهم خسّةً وشرًّا، تستجلب تعاطف المشاهدين بمثل هذه التحديدات التي يقدّمها الفيلم بسلاسة وبإتقان. من جانبه، بارك متأكد من أن قدرتنا على الاقتراب من الشخصيات -في فيلم مدته ساعتين ونصف تقريبًا- ستجعل خيانات الحكاية الكثيرة محسوسة ولاذعة بشكل أكبر. ولكنه أيضًا يُشهدنا على الشخصيات في تشاركها وتعاطفها مع بعضها البعض، بنفس القدر الذي نتعامل به معهم كمشاهدين، وهذا بالضبط ما يجعل لقسوة شخصيات الفيلم ذلك التأثير القوي والفعّال للغاية. يستخدم بارك كل ثانية من مدة زمن فيلمه في تطوير حبكة مذهلة، يتلاعب بها ومعها، كي يؤوب في النهاية إلى ثيمتيه التوأمتين: الحب والوحشية. «الخادمة» حكاية شهوات متضادة ومؤامرات قاسية، بازل من المشاعر الخصبة، بورتريه ملحمي يقول إنه ربما لا يكون هناك ما هو أكثر إنسانية من اللإنسانية نفسها.