ظلت المدينة موضوع إثارة واشتغال فني وفكري في مختلف الأجناس الإبداعية من الأدب والتأمل الفلسفي إلى المسرح والسينما والفنون المرئية قاطبة. فزيادة على كون المدينة تعكس «نظامها» الخاص في الهندستَيْن المَدَنِيَّة والمعمارية ما يمنحها طابعها البصري الخاص، فإنها تمثل وعاء لنمط العيش المجتمعي بجميع تجلياته المظهرية والسلوكية، بحيث لا يمكن فصل طبيعة الساكنة عن الطابع المعماري الذي يحتضنه ويتحرك داخله. في الحواضر المغربية العتيقة، يتجاور النمط المعماري التقليدي مع النمط الحديث في البناء، ومكناسة الزيتون بعَراقَتِها تمثل إحدى هذه النماذج بامتياز. ففي مقابل أسوارها وقبابها وأبوابها ورياضاتها التي تشكل المدينة القديمة وامتداداتها، حظيت بتصميم مَدَني حديث وبديع يمنح التنقل السلس داخل رقعة تضم أهم البنايات والمؤسسات الإدارية (السوق المركزي، القصر البلدي، البريد، المحكمة، بنك المغرب...) و»الترفيهية» (المعهد الموسيقي، دور السينما وعلى رأسها «كاميرا»، نوادي، مقاهي...)والحدائق والتماثيل التي تم اقتلاعها وغيرها. فَلِ «حَمْرِيَة» التي أقمت فيها أكثر من ربع قرن جاذبية خاصة، نابعة من تخطيطها البنيوي (Plan de masse) المدروس بعناية المتخصصين، إذ لا تتوخى البذخ المجاني، بقدر ما تمُدُّكبأرْيَحِية مُرورِية داخل مساحتها المحدودة والمترابطة فيما بينها وبين مخارج أخرى، بشكل يُغنيك عن ركوب السيارة، فيماتبعث على نوع من الحَميمِيَّة التي تمنحك الإحساس بالتموضع في مكان خارجي وداخلي في نفس الآن، على شاكلة إقامة عائلية فسيحة الأركان. وكلما رفعتَ عينيك تستمتع بأناقة الواجهات Les façades المعهودة في أنماط الآرديكو والمعمار الكولونيالي. هذه المدينةالجديدة التي كانت تُنعت ب «باريس الصغيرة»، شكَّلت مظاهر الحداثة بوصفها «مدينة متحررة من كل الطابوهات التي كانت تعادي إرادة الانفلات مما هو مغلق. استكمال معالم المدينة عمل تاريخي تم في التاريخ، وفي الزمن، وفي معرفة الذهنيات، وفي وضع مسافات بين مدينة قديمة محاطة على ماضيها بأسوار الماضي، وأخرى مفتوحة ومشرعة على كل الاحتمالات. عمل كان خلاصة ما قام به الفرنسيون حين مهَّدوا في حمرية لإقامة المجتمع الأوربي» كما يقول الدكتور عبد الرحمن بن زيدان، مشيرا إلى أن تدشين هذه المدينة العصرية تم في 1921 بحضور المارشال ليوطيوبويميرو (التشكيل المغربي بلغة الذاكرة، 2010). ونحن نقيم هذا الاحتفاء الرمزي بالحداثة، ضمن اشتغال إبداعييجمع بين التشكيل والمعمار، لا بد من التذكير بحظ مكناس في الاستقبال المبكر لأحد أساطين الفن الغربي، إذ أقام فيها الفنان الرومانسي أوجين دولاكرواE. Delacroix(1798- 1863) الذي حط الرحال بها عام 1930 في إطار بعثة عسكرية إبّان عهد مولاي عبد الرحمان بن هشام، ليجد نفسه مأخوذا بقوة الضوء وفخامة المعمار وطرافة اللباس، ويدفع نهمه البصري للاستقبال الفوري لكل ما تلتقطه العين، إلى أن شكَّلَت لديه رحلة مكناس مرورا بطنجةانعطافا أسلوبيا تحول من خلاله نحو اللمسة السريعة، المفعمة بالنور واستكشاف مرئيات المغرب الجديدة. فمن دولاكروا الذي انبهر بأصالة المعمار وطقوس ساكنيه إلى ماتيو بروندي الذي رافق نَفَس وإيقاع المدينة الحديثَة، ظلت مكناس بشقّيْها التراثي والمعاصر،المدينة الملهمة لعديد المبدعين من الأجانب والمغاربة على حد سواء. من هذا الولع الذي يُؤَلِّف بين الفني والمعماري، تنبثق هذه الأعمال التشكيلية التي تأتي كحلقة موالية لمعرض الانطلاق («الجديدة: مائة سنة من الحداثة»، قاعة الشعيبية طلال، غشت 2016،جمعية باكت آر Pact'Artبتنسيق مع المديرية الجهوية لوزارة الثقافة بالجديدة)، الحلقة التي اجتمع فيها أعضاء الجمعية (الفنانون: عبد الكريم الأزهر، الزبير الناجب، صلاح بنجكان، أحمد الأمين، آدم المحفوضي،بنيونس عميروش) إلى جانب ضيوف مكناس (الفنانون: الحسين سخون، محمد الكوندي، ميمون الزراد) في إطار إقامة فنية بالمركب الثقافي المنوني التابع للمديرية الجهوية لوزارة الثقافة بمكناس (من 25 إلى 27 نونبر 2016)، باعتبار هذه الأخيرة المؤسسة التنسيقية بالحضور الفعلي لمديرها الأستاذ عبد الرحيم البرطعي الذي رافق وتابع التجربة منذ إرهاصاتها الأولى بالجديدة. إن هذه الأعمال القائمة على ثيمة الفن والمعمار (Art et Architecture) (من 02 دجنبرإلى نهاية2016– ضمن فعاليات الدورة الأولى ل»مهرجان مكناس» احتفاء بالذكرى 20 لتصنيف المدينة تراثا عالميا، بين 02 و07 دجنبر 2016)، هي تصورات ذاتية وموضوعية يتداخل فيها المتخيل بالواقع المرئي لجمالية معمار مكناسالجديدة التي تترجم إحدى صور الحداثة. لا يتعلق الأمر هنا بمحاكاة نُظُم التشييد أو النقل الوفي للبنايات والشوارع، وإنما الأمر كامِنٌ في النظرة الخاصة لكلفنان، رؤيته للواجهات والنوافذ والشرفات وللأجواء المَدينِية، وكيفية معالجتها وفق مسالك أسلوبه الموصولة بإلزامية اعتماد السند الورقي (ورق الآرش، الورق المقوى، الكرتون...) مع التأكيد على عنصر الخط والكرافيك، في مجاورة قصدية لرَسيماتCroquis وتخطيطات المهندس المعماري، وكاختيار للعودة إلى أصل الرسم Dessin وتداعياته الغرافيكية. نتوخى في جمعية باكت آر إلى أن تقودنا هذه التجربة لتعميق العلائق التعبيرية بين فن التصوير La peinture والفن المعماري، لاعتبارهما ينتميان معا لحقل الفنون التشكيلية، فيما نطمح إلى أن نصنع لكل مدينة صورها النابعة من تعبيرية تشكيلية واعية ومنطلقة في ذات الحين، ما يجعلنا في ديمومة توغل جمالي يستوحي كيانه الشكلي والرمزي من سحر مدننا المغربية العريقة التي نعمل جاهدين على أن يُلاحِقها مشروعنا الوطني برغبة العاشق وعزيمة الواثق. *(فنان تشكيلي وناقد)