8 المحاكمة في النزيف ويشكل موضوع المحاكمة تيمة أساسية في مسرحيات محمد مسكين. فهو في كثير من مسرحياته ينحو إلى أدرمة العالم، وإضفاء البعد الجدلي على كتابته، ب "تناول قضايا الهوية من خلال علاقتها بقضايا أخرى، مثل المحاكمات التي تتابع الفكر العربي، وتضعه في قفص الاتهام بدعوى أنه ضد التراث والهوية». ويقترب حمان في (النزيف) من الشخصية التراجيدية. فهو شبيه بشخصية أنتيغون التي وقفت تصارع قوانين المدينة التي يحكمها كريون. وحمان أيضا يرفض قوانين المدينة الجائرة، التي تحرمه من لقمة العيش. فهو يصارع من أجل الوجود. ولم يكن فعل القتل الذي أقدم عليه إلا وسيلة للتخلص من قوانين النظام الظالم، الذي لا يضمن له حقه في العيش الكريم. فالصراع الذي خاضه حمان صراع اجتماعي طبقي في جوهره، إلا أن السلطة تحوله إلى صراع سياسي لتضمن الأمن للمدينة. لأنها ترى أن المواطنين أعداء النظام والقوانين التي تسنها السلطة الحاكمة. ويصارع دمياط أصحاب الحال من أجل البسطاء والضعفاء. فهو يمثل الفكر الواعي المحرض على رفض سياسة الطاعة والاستسلام. وبذلك يمثل حمان الفعل. ويمثل دمياط العقل والفكر. وعندما يموت حمّان، ويصمت دمياط، يستمر الصراع ضد السلطة من خلال حيّ، الذي اقتنع بالفكر الحيّ، وراح يبحث عن الفعل المرتبط بالناس، لأنه أدرك أن الفكر وحده لا يصنع التغيير. إن المتخيل الجماعي في هذه المسرحية، ينطلق من الرؤية التاريخية، والإديولوجية للواقع الخارجي من أجل البحث عن خصوصيته، وتعريته، وتفكيكه، وإعادة تركيبه واتخاذ موقف منه... فالواقع الخارجي بمعالمه وحدوده، وصوره السياسية والاجتماعية والثقافية، اكتسب هنا معالم وقسمات خاصة به، تبلورت فكونت رؤية خاصة للعالم. وتعكس الرؤية الأولى فئة الشخصيات المثقفة، كحيّ، ودمياط، وحمّان. وهي الشخصيات التي اتسمت بالعمق والشمول، والبحث عن الحقيقة حتى آخر المطاف. 9 - الفضاء في النزيف إذا كانت الشخصيات الدرامية هي التي تصنع الأحداث وتخلقها، فإن الفضاء هو المجال الطبيعي التي يحتضن الأحداث ويمنحها دلالاتها. فالأفضية المغلقة كالسجون والمعتقلات والثكنات العسكرية والمصحات... توحي بسلب الحرية وتقييد الحركة، على عكس الأفضية المفتوحة، التّي توحي بالانطلاق والحرية والألفة والأمان. ويبقى فضاء السجن من أشد الأماكن ضيقا وسلبا لحرية الإنسان. فهو يتميز بالانغلاق، والخضوع للقوانين الصارمة، وانغلاقه يكون مصدرا للألم والمعاناة. ويشكل السوق الجوطية في مسرحية (النزيف) المكان الذي يعتقد فيه حمان أنه حرّ وفي مأمن. وهو المكان الذي قضى فيه عمره. لكن هذا الفضاء يكون مهدّدا بالهدم من لدن المجلس البلدي، الأمر الذي يعرض حمان للضّياع والتشرّد. الحارس1: .. أخبرناك مرارا أن- الجوطية- هاته سيبدأ العمل فيها قريبا، ستهدم ليتغير وجه البلد الحارس2: ستنبت المباني العالية، إنه زمن التغير السريع حمان: أحل لكم دمي، فلتسفكوه وسأبقى، كيف أترك مكانا ولدت فيه وكبرت وتقوس فيه ظهري؟. وفي مسرحية (النزيف) تمتزج ذَاتُ دمياطبالمدينة، حتى يصبح جزءا من ساحاتها وأسواقها. لكن سلطة المدينة تُعامله كرقم ضائع فيها. فتصير في عينيه مقبرة، لأنه يحس بأنه شجرة قد اجتثت من تربتها. دمياط: هذه البلاد تطاردها الغربان، وتسحقها الطوائف، هذه البلاد مقبرة يا حمان، لا أرى في أفقها غير الأغلال. إن المدينة التي عشقها دمياط إلى حدّ الجنون لم تقدم له الأمن والعيش والكرامة. فهو يشعر فيها بالضيّاع.. لما يجد فيها من صراع حول السّلطة والمال، والتّنكر لقيم الخير والانتماء والوفاء، فهو وصديقه حمّان مطاردان من أسواقها التّي تجذرّا فيها. ويشعر حيّ هو الآخر أن المدينة تعاديه، وتقيم بينه وبين الناس حواجز وحدودا، حتى لا يوقظ وعيهم على بؤس الواقع، وينبههم إلى ما يخططه المسؤولون في غير صالحهم. ولم تسلم عائشة من قهر المدينة وعذابها. فعندما تقاوم إغراء صاحب الحال، يتهمها هذا الأخير بالزنا، ويأمر الشيخ عبد الحميد بتجريمها وجلدها في الأسواق والساحات. حيّ: ... إنها مدينة بلا عقل، الغلبة للسيف والقوة والكلمة الفصل للفقيه المبجلّ حميد بن عبد ربه الملقّب بشمس الحقّ. ويتكون فضاء السجن في مسرحية (النزيف) من دهليز مظلم يلفّه السواد، ومن زنزانة تصبح بعد الاستنطاق بوابة للموت. وتتداخل دلالة السجن مع دلالة المدينة لدى حمّان حين يكتشف العلاقة بين السجن والمدينة، وبين استفزازات السلطة وقهرها المتواصل. وهو ما دفعه إلى الانفجار، والإقدام على قتل المسؤول. دمياط: مدخل وطنك سجن ومخرجه سجون، محيطك سجن وخليجك سجن.. ولا تكاد تخلو أية مسرحية من مسرحيات الهواة من الفضاء الهروبي. ففيها تجد الشخصيات المقهورة والمضطهدة الفضاء الملائم لممارسة الحلم. كما تلتمس فيه تعويضا عن الفضاءات القاهرة الأخرى. ويوجد هذا النوع من الفضاء بشكل مكثف في مسرحية (النزيف). وفيها يبدو دمياط مأخوذا بالرحيل إلى أفضية كونية واسعة، مؤثثة بأجواء صوفية، غارقة في الغموض والسّحر والإشراق. الجماعة: أنت راحل يا دمياط دمياط: نحو الحق، نحو موطني الكبير.. وأتوغل في الشمس، يغمرني الصحو.. (الهجهوج). ويلتجئ موريس اليهودي التائه في البلاد العربية قبل حرب1967 إلى الحلم للهروب إلى فضاءات آمنة ومستقرة، حيث الخضرة والفاكهة والأرض الموعودة، ولم تكن تلك الأرض (الحلم) والملاذ سوى فلسطين. 10 - الراوي في النزيف كان الراوي في التراجيديا اليونانية، يقوم بوصف المشاهد العنيفة التي لم يكن مسموحا بعرضها فوق خشبة المسرح، وبرواية الأحداث ذات الصبغة الملحميّة، كالحروب وغيرها. وفي المسرح المعاصر، فهو ينهض بوظائف كثيرة. فهو يقوم بوظيفة تكسير الإيهام المسرحي، وبدور الرابط الدرامي بين الخشبة والجمهور، ليصبح مشاركا في العرض المسرحي، قادرا على إصدار حكم على ما يراه. كما أنه يساهم في توسيع حدود المسافة الجمالية في العرض المسرحي، حين يتم الانتقال من الحكي إلى الفعل ومن الفعل إلى الحكي، للمساهمة في تجديد نشاط المتلقّي، وتكسير سكونية العرض المعتمد على الفعل فقط. لقد وظف الهواة شخصية الراوي في الكثير من مسرحياتهم. ويقوم الكاشف في مسرحية (النزيف) بدور الراوي الذي يمسك بخيوط الأحداث، فيحرك شخصياتها كما يريد. فهو يقوم بدور الوسيط بين الممثلين والجمهور. فيعلن في بداية المسرحية عن بداية الرشّ الأول، ويقدم دمياط للجمهور، واصفا حالته النفسية، ذاكرا الشروط التي ينبغي توفرها في الممثل الذي سيقوم بهذا الدور. وهذا من شأنه أن يبقي على المسافة الضرورية بين الممثل والشخصية، لإدراك أبعادها، عن طريق الوعي الناقد. الكاشف: هذا الرش الأول يا ناس هاته الليلة... وليلتنا نزيف، لنا الإبحار عميقا.. فلكنا هذا الهجهوج.. شارتنا هذا الرجل. (تتسلط الأنوارعلى=دمياط= الذي يبدو مسافرا مع إيقاع الهجهوج). فالكاشف الراوي هو الذي يقدم الشخصيات للجمهور، ويشرح الأحداث، ويمهد لها، ويعلق عليها حين يرى ذلك مناسبا. وقد يتدخل لينبّه المخرج والتقنيين، فيأمرهم بفعل ما يتطلبه المشهد، من إضاءة، أو ديكور، أوتأثير خاص.. أو غير ذلك. وهو في هذه المسرحية لا يشارك في الأحداث الدرامية، وإنما يكتفي بالحضور والشهادة عليها. ورغم حضوره الدائم فوق الخشبة، يبقى على مسافة من الفعل والشخصيات، حتى يتسنى له مراقبة كل ما يجري فوق [الركح]. إنه يهيمن على الفضاء الدرامي. إذ يوجه كذلك العاملين في المسرح، كما يقوم بمهمة المخرج أحيانا. الكاشف: ( للجمهور) إنه موريس هذا اليهودي صديق الدرب.. فقير مثل هؤلاء الناس، عاشرهم وعاشروه، وتمت الألفة بينهم. ويتدخل الكاشف ليقدم لنا معلومات تساعدنا على فهم أعمق، عند دخول شخصية جديدة، أو عند بداية فعل درامي، أو تغيير في الزمان والمكان. فهو يرسم حدود الحدث الدرامي ويقطعه، وينتقل إلى حدث آخر، أو يدخل شخصية جديدة لتكسّر الحدث الدرامي، وتمنع اندماج المشاهد في المواقف التراجيدية أو الدرامية المؤثرة.