شعرية الكتابة عند الهواة من خصائص الكتابة المسرحية الراصدة، للمواقف والأفعال التراجيدية في مسرح الهواة، أنها تحمل خطابا تراجيديا لا يحاكي الخطاب التراجيدي اليوناني، ولا الغربي. كما أنها لا تنقل المآسي، والفواجع، والمعاناة نقلا واقعيا سطحيا. بل هي تمزج بين مقومات النظرية الأرسطية، والمسرح الملحمي البريختي للوصول إلى كتابة درامية ذات خطاب يتسم بشعرية خاصة.. تستهدف الفكر، والعقل، والوجدان معا. فهي كتابة تتغيى التوعية المتعة والجمالية، وتبحث عن الأمل في تغيير المجتمع وتطهيره من تأثيرات المآسي التي تسحق الإنسان العربي، وتجعل من أوجاعه وقضاياه شرطا ضروريا لكتابة مسرح عربي يميز خصوصيته «لأننا إذا لمنعش مصير الأوطان المجروحة ذات الطابع التراجيدي، فلن ينهض فينا المسرح». وما يميز الطابع التراجيدي في مسرحنا العربي البعد السياسي الاجتماعي: أي علاقة الفرد بنظام سلطوي قاهر، قد يكون داخليا أوخارجيا. فهو في النهاية انعكاس لصراع بين رؤيتين تمثل كل واحدة منهما فئة، أوطبقة اجتماعية معينة. ويرجع سبب هذا المنحى في الوعي التراجيدي إلى التأثر بالرؤية التراجيدية الاجتماعية الملحمية (البريختية). هذا الحدث المأساوي، يظهر دمياط مسكونا بالوطن، والناس، والحقيقة. فرغم تحذيرات الناس له ببطش السلطة، وأساليبها في إسكات الأصوات الكاشفة للزيف والظلم، فهو لم يتوقف عن المضي في السبيل الذي اختاره. الممثل1: فلتشهد يا دمياط أننا حذرناك من العسس لاعظمهم الله ولا رعاهم... الممثل2: إنهم ينتشرون هاته الأيام كالذباب.. الممثل3:يقفون بين المؤمن والرحمة.. ويستمر دمياطفي عشق الحقيقة والناس والوطن، ونبذ الظلم والاحتقار والإهانة. فيدعوحمان إلى الشموخ والمضي إلى نهاية الطريق. وتلك هي سمات الشخصية التراجيدية التي لا تتراجع إلى الوراء ولا تستسلم، ولا تظهر الندم والضعف. ويصر دمياط على أن يقدم حمان حكايته وشهادته للناس. وعندما تنطلق الحكاية، تستيقظ ذاكرة دمياط على الماضي، وعلى آلام المدينة وأحزانها، وحكاياتها المأساوية التي تسكن عقل دمياط وجسمه وروحه. وقد سكنه الحزن حتّى أصبح جزءا من ذاته، فتحوّل لديه إلى موقف نفسي وجداني شبيه ممّا يعانيه المتصوّفة في مراحل الوجد. فدمياط هو روح المدينة، وعقلها، ووجدانها، وقلبها. فهو لا يتوقف عن تحذير الناس من الأخطار والمآسي التي سوف تأتي من الأجانب وأعداء الأمة، الأمر الذي جعل الحراس يأمرونه بالصمت، وبالابتعاد عن السوق وأهله. لكن دمياط يرفض الإذعان للحراس، ويتهم الدولة بأنها أصل الشرور والمآسي. موريس: يا دمياط اتق الله ولا تفقد أعصابك، إنهم رجال الدولة، فاحترم الدولة.. الدولة أساس الحياة .. دمياط:الدولة أساس العذاب، وصانعة الجوع والخراب. إن جهر دمياط بالعصيان والتمرد على الدولة، واتهامها بكونها السبب في معاناة المواطنين، جعل الحرّاس يتهمونه بالتحريض وإثارة الفتنة، وتأليب الناس على السلطة. وهذا ما عرضه للمأساة. ولكي يتخلص منه رجال السلطة ويوقفوا جدله وتحريضه، عمدوا إلى قطع لسانه، وحوّلوا هذه العملية إلى اكتشاف عظيم لم يسبق في التّاريخ. ويتوارى دمياط وراء صمته بعد هذه العملية، فيصبح اسمه فهمان. وعندما يدخل دمياط داخل صمته، يصير حيّ بن حمان لسانه الذي يتواصل به مع الناس والعالم... ورغم توقفه عن الكلام ففكره لم يتوقف عن التفكير في المدينة والناس. ويقرر أخيرا -هو وحيّ- الخروج من غربة الفكر إلى الواقع، كي يمتدّ في الآخرين، ويبحث عن الفكر الحيّ، لأن حيّ "يرفض كل الفلسفات المجردة التي تغيّب البعد الواقعي والمباشر للحياة والمجتمع، لأنّه لاحقيقة خارج الإنسان، ضمن المجتمع وما يكابده من صراعات وتناقضات". وهكذا تلخص حكاية دمياط مأساة المثقف والإنسان المتمرد. كما تعكس مسرحية (النزيف) ككل تمردا على الفكر المجرد والمثالي. لقد سعى محمد مسكين في هذه المسرحية "إلى شعرنة الخطاب المسرحي، برؤية فلسفية تهتمّ بقضايا السقوط التراجيدي للمثقف العربي أمام الواقع الذي يهمش ويكسر المثقف والثقافة". لقد حاول مسرح الهواة -من خلال نموذج النزيف- تجاوز البناء الكلاسيكي، ولاسيما في بناء الشخصية التراجيدية. فهم يصوّرون مواقف تراجيدية، لكنهم يريدونها أن تكون خاضعة لمراقبة المتلّقي وفحصه، حتّى لا يقع فريسة الإيهام والاندماج. لذلك كانوا يعمدون كثيرا إلى تكسير الحدث، والتلويح بأن المأزق التراجيدي ليس مغلقا تماما، وإنما هناك مخرج ما، وأن الرؤية التراجيدية ليست قدرا نهائيا لا مفر منه.وقد استخدم هؤلاء الكثير من تقنيات الكتابة الدرامية، كتقنية التمثيل داخل التمثيل، والتعريف بالشخصية... وغير ذلك من التقنيات التي سوف نقف عندها. دراما النزيف والمدينة يقول جلين ويسلونGLENN D .WILSON «إذا سلّمنا بأن واحدا من أهم أهداف الدراما، إنما يتمثل في محاولتها أن تحدث تأثيرا انفعاليا قويا لدى المشاهدين، فإن الموت هو الحادث المثالي الذي ينبغي تصويره أو تقديمه هنا. فليس هناك من موضوع يمكن أن يكون مثيرا للاضطراب والقلق أكثر من الموت ذاته". ويبقى الموت هو التيمة الأساسية، وأحد العناصر الفعالة في التراجيديا، وفي المسرحيات الجادة بما يخلفه هذا الحدث من تأثير على الشخصية الدرامية وفي مسرحية (النزيف) يصدر الحكم بالموت على حمّان بتهمة قتل أحد المسؤولين على حفظ النظام العام في المدينة، بعد أن أغضبه وحاول طرده من السوق. وهذه المدينة التي تحدث عنها الجاحظفي مسرحية المسكيني الصغير تكاد تكون هي المدينة التي تتكرر في الكثير من مسرحيات الهواة. وهي المدينة التي يقول عنها حيّ في مسرحية (النزيف): حي: ..انقسمت المدينة إلى من يملك ومن لا يملك، وحوصر العقل، حورب باسم الله وصلب الحكماء، إنها مدينة بلا عقل. الغلبة للسيف والقوة... وتعتبر صور التعذيب التي عددها الجاحظ، هي نفس الصور، والأساليب التي تمارسها الفئة المهيمنة على السلطة في مسرحية (النزيف).فأثناء التحقيق مع حمان المتهم بقتل المسؤول يقول المحقّقان: المحقق2: يا ويح مصيرك، ما أسوده ياحمّان.. المحقق1: باسم القومية العربية ستدمر. وعندما تمتنع عائشة عن الخضوع لرغبة صاحب الحال، يتّهمها بالزنا والخيانة، فيستدعي الشيخ عبد الحميد لإدانتها وإقامة الحدّ عليها. ولم يسلم الشيخ عبد الحميد نفسه من بطش صاحب الحال حين يصدر فتوى يدين فيها أصحاب الحال والساهرين على البلد، يتّهمهم فيها بالفساد والتشجيع عليه، ثم يأمر صاحب الحال الحراس باعتقاله بتهمة الإخلال بالنظام العام. وفي مسرحية (النزيف) يمهّد المحققون مع حمان لتهيئة الملفّ، وملئه بالتهم المناسبة للحكم الجاهز. ودون محاكمة عادلة يصدر الحكم بالموت في حق حمّان، فيستسلم للحكم الصادر من أجهزة قوية تديرها أيد خفية. ويحاكم العقل باسم الدين الذي يمثله الشيخ عبد الحميدالمؤتمر بأوامر المسؤول. فيحاكم حيّ بتهمة استخدام العقل والمنطق المستوردين من اليونان. فيتهم بالزندقة والمروق وتأسيس النقابات، والخروج على قوانين الخليفة. ويكون الحكم عليه بالنفي.