تصعيد خطير.. تقارير عن توغل الجيش الجزائري داخل الأراضي الموريتانية    الأخضر يفتتح تداولات بورصة الدار البيضاء    السلطات تمنع تنقل جماهير الجيش الملكي إلى تطوان    اختتام أشغال الدورة ال10 العادية للجنة الفنية المعنية بالعدالة والشؤون القانونية واعتماد تقريرها من قبل وزراء العدل في الاتحاد الإفريقي    شركات الطيران ليست مستعدة للاستغناء عن "الكيروسين"        الموساد يعلق على "خداع حزب الله"    ترامب يؤكد التصدي للتحول الجنسي    حداد وطني بفرنسا تضامنا مع ضحايا إعصار "شيدو"    "إسرائيليون" حضروا مؤتمر الأممية الاشتراكية في الرباط.. هل حلت بالمغرب عائلات أسرى الحرب أيضا؟    من يحمي ادريس الراضي من محاكمته؟    أنشيلوتي يشيد بأداء مبابي ضد إشبيلية:"أحيانًا أكون على حق وفترة تكيف مبابي مع ريال قد انتهت"    حكيم زياش يثير الجدل قبل الميركاتو.. الوجهة بين الخليج وأوروبا    توقيف شخص بالبيضاء بشبهة ارتكاب جريمة الإيذاء العمدي عن طريق الدهس بالسيارة    معهد "بروميثيوس" يدعو مندوبية التخطيط إلى تحديث البيانات المتعلقة بتنفيذ أهداف التنمية المستدامة على على منصتها    كيوسك الإثنين | إسبانيا تثمن عاليا جهود الملك محمد السادس من أجل الاستقرار    مواجهة نوبات الهلع .. استراتيجية الإلهاء ترافق الاستشفاء    إنقاذ مواطن فرنسي علق بحافة مقلع مهجور نواحي أكادير        تشييع جثمان الفنان محمد الخلفي بمقبرة الشهداء بالدار البيضاء    هيئة المعلومات المالية تحقق في شبهات تبييض أموال بعقارات شمال المغرب    فريق الجيش يفوز على حسنية أكادير    حفيظ عبد الصادق: لاعبو الرجاء غاضبين بسبب سوء النتائج – فيديو-    فرنسا تسحب التمور الجزائرية من أسواقها بسبب احتوائها على مواد كيميائية مسرطنة    وزارة الثقافة والتواصل والشباب تكشف عن حصيلة المعرض الدولي لكتاب الطفل    المغرب يوجه رسالة حاسمة لأطرف ليبية موالية للعالم الآخر.. موقفنا صارم ضد المشاريع الإقليمية المشبوهة    فاس.. تتويج الفيلم القصير "الأيام الرمادية" بالجائزة الكبرى لمهرجان أيام فاس للتواصل السينمائي    التقدم والاشتراكية يطالب الحكومة بالكشف عن مَبالغُ الدعم المباشر لتفادي انتظاراتٍ تنتهي بخيْباتِ الأمل    الجزائر تسعى إلى عرقلة المصالحة الليبية بعد نجاح مشاورات بوزنيقة    بلينكن يشيد أمام مجلس الأمن بالشراكة مع المغرب في مجال الذكاء الاصطناعي    الرجاء يطوي صفحة سابينتو والعامري يقفز من سفينة المغرب التطواني    العداء سفيان ‬البقالي ينافس في إسبانيا    مسلمون ومسيحيون ويهود يلتئمون بالدر البيضاء للاحتفاء بقيم السلام والتعايش المشترك    انخفاض طفيف في أسعار الغازوال واستقرار البنزين بالمغرب    جلالة الملك يستقبل الرئيس الموريتاني محمد ولد الشيخ الغزواني    رحيل الفنان محمد الخلفي بعد حياة فنية حافلة بالعطاء والغبن    لقاء مع القاص محمد اكويندي بكلية الآداب بن مسيك    لقاء بطنجة يستضيف الكاتب والناقد المسرحي رضوان احدادو    مباراة نهضة الزمامرة والوداد بدون حضور جماهيري    بسبب فيروسات خطيرة.. السلطات الروسية تمنع دخول شحنة طماطم مغربية    الرباط.. مؤتمر الأممية الاشتراكية يناقش موضوع التغيرات المناخية وخطورتها على البشرية    مقاييس الأمطار المسجلة بالمغرب خلال ال24 ساعة الماضية    ندوة علمية بالرباط تناقش حلولا مبتكرة للتكيف مع التغيرات المناخية بمشاركة خبراء دوليين    البنك الدولي يولي اهتماما بالغا للقطاع الفلاحي بالمغرب    استمرار الاجواء الباردة بمنطقة الريف    ألمانيا: دوافع منفذ عملية الدهس بمدينة ماجدبورغ لازالت ضبابية.    خبير أمريكي يحذر من خطورة سماع دقات القلب أثناء وضع الأذن على الوسادة    استيراد اللحوم الحمراء سبب زيارة وفد الاتحاد العام للمقاولات والمهن لإسبانيا    ندوة تسائل تطورات واتجاهات الرواية والنقد الأدبي المعاصر    لأول مرة بالناظور والجهة.. مركز الدكتور وعليت يحدث ثورة علاجية في أورام الغدة الدرقية وأمراض الغدد    وفاة الممثل محمد الخلفي عن 87 عاما    دواء مضاد للوزن الزائد يعالج انقطاع التنفس أثناء النوم    أخطاء كنجهلوها..سلامة الأطفال والرضع أثناء نومهم في مقاعد السيارات (فيديو)    للطغيان وجه واحد بين الدولة و المدينة و الإدارة …فهل من معتبر …؟!!! (الجزء الأول)    حماية الحياة في الإسلام تحريم الوأد والإجهاض والقتل بجميع أشكاله    عبادي: المغرب ليس بمنأى عن الكوارث التي تعصف بالأمة    توفيق بوعشرين يكتب.. "رواية جديدة لأحمد التوفيق: المغرب بلد علماني"    توفيق بوعشرين يكتب: "رواية" جديدة لأحمد التوفيق.. المغرب بلد علماني    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



محمد مسكين وظاهرة عبد الله المكانة في مسرحية "اصبر يا أيوب"
نشر في الوجدية يوم 20 - 03 - 2010


01 09 1986
البسكليت
الغربة
01 09 1986
البسكليت
كيف تلقى محمد مسكين
ظاهرة عبد الله المكانة
في مسرحية "اصبر يا أيوب"؟
إن الرغبة في تدوين القراءة من أكثر الرغبات إلحاحا عند ممارسة فعل القراءة.وهي رغبة تتوسل كل الأدوات والإمكانيات التي توفرها الكتابة. إذن، بين الكتابة والقراءة علاقة إثبات وامتداد، وباحتجاز العنصر الواحد عن الثاني ضمن هذه العلاقة تتعطل عجلة الفكر والإبداع، فلا أحد يجرؤ على إلغاء تلازم هذين العنصرين والتحامها. لذا نعتبر أدنى فصل بينهما مؤامرة على إنتاج المعنى وإجهاضا للدلالة.
وتجدر الإشارة إلى أن تدوين التلقي/القراءة-مهما كان الغرض منه، سواء إبداعي أم نقدي -يقي القراءة من شر الزوال ويأسرها على امتداد جسد الكتابة، فهي الآن في مأمن ولا خوف عليها من الضياع.
ومحمد مسكين حين دون تلقيه لظاهرة عبد الله المكانة الشعبية في مسرحية "اصبر يا أيوب" فقد منح لنا مشروعية تحقيق سلسلة من القراءات، تنطلق من عبد الله المكانة باعتباره راويا داخل الحلقة، مرورا من تحقيق هذه الشخصية داخل مسرحية "اصبر يا أيوب" وصولا إلى تلقي عبد الله بوصفه شخصية مسرحية في سياق العرض.
أولا. معطيات خارج قراءة محمد مسكين
أ- موقع عبد الله المكانة في الثقافة الشعبية بالمنطقة الشرقية :
يختزن جسد المنطقة الشرقية من المغرب رصيدا ثقافيا شعبيا هائلا، يؤرخ لحضارة الإنسان بالمنطقة، ويكشف عن مؤهلاته الفكرية والأدبية والبطولية والملحمية والفنية والفلكلورية والتاريخية والتراثية. وتصر على البقاء والاستمرار تحديا للزوال والانقراض والتلف. تنير مسالك التاريخ الملتبسة وتطلق العنان لمغامرات الإبداع والخلق والابتكار، عبر فضاء مفتوح بانفتاح الذاكرة، فضاء ساحة سيدي عبد الوهاب. فتأتي الرغبة الجنونية في الحكي والمسامرة والرواية. فضاء مفتوح على الاحتمالات والأبعاد. يحمل بداخله كل إمكانيات الاستمرار والتوهج. يمتزج فيه الأسطوري بالواقع، والخرافي بالعلمي، والهامشي بالمركزي والسكوني بالحركي، والبعيد بالقريب... حيز يستوعب كل المتناقضات والمتنافرات. ساحة سيدي عبد الوهاب قلب المدينة النابض بالحياة، تلفظ أناسها عند كل مساء وتجمعهم من جديد عند الساعات الأولى من طلوع النهار. هذا الفضاء السحري، الغريب، أنجب روادا امتهنوا الحكي والغناء الشعبي، وصار مأواهم وحياتهم اليومية. ماتوا لكن لم يمت ما حكوه. انقرض الجسد وبقيت الذاكرة حبلى بما رووه.
عبد الله المكانة شخصية واقعية معاصرة أرخت لاسمها بفضاء ساحة سيدي عبد الوهاب بمدينة وجدة، واستطاعت أن تضمن استمرار اسمها وذكرياتها وحكمها، وأقوالها التي تعد رصيدا ثقافيا شعبيا يحتل موقعا إستراتيجيا في فضاء الثقافة الشعبية بالمنطقة الشرقية. وعبد الله المكانة كغيره من الرواد الآخرين الذين اكسبوا ذاكرة الجمهور القدرة الهائلة على التداول والترويج والتخزين والتواصل المعرفي. يرصد بطولات ملحمية تاريخية، وأساطير الأولين، ومكرمات الأولياء، وخوارق الصوفية والزهاد.
فبغض النظر عن مضامين هذه الذاكرة المحملة بالحكايات والقصص والرواد، وبغض النظر عن حقيقتها، وعن طبيعتها، وعن صدقها، أو عدم صدقها ما يهم هو قدرة الراوي على الاستيعاب، والتمثل، والخيال... وارتباطه بالمروي له غالبا ما ينتمي إلى أوساط شعبية.
إن الموقع الذي يحتله عبد الله المكانة في الذاكرة الشعبية، وفي الثقافة الشعبية، وفي حياة الإنسان الشعبي، استهوى الكثير من المبدعين، استهوت طريقته في القص، وارتباطه بهموم الشعب فدفع الكاتب المسرحي محمد مسكين ليحاوره ويقرأه وينقله بفعل القراءة إلى متن النص المسرحي."فالقصاص تتوفر في فعاليته مجموعة من العناصر المسرحية من خلال روايته للحكايات والخرافات والأخبار والقصص التي تأتي تارة منظومة، تتخذ هذه "المواد" الفنية قالبا نثريا يمتح من "التاريخي" و"الديني" و"الملحمي" و"العجائبي" دون أن تفوتنا الإشارة إلى عنصر الغناء"[i]
ب. مسرحية "اصبر يا أيوب":
تعتبر مسرحية "اصبر يا أيوب" تدشينا جديدا في مسار الكتابة المسرحية عند محمد مسكين. قدمت هذه المسرحية في إطار المهرجان الوطني لمسرح الهواة الثاني والعشرون بالرباط، وحصلت على جائزة أحسن عمل متكامل وأخرجها وقتئذ الأستاذ يحي بودلال، وأنجزتها جمعية المسرح العمالي بوجدة. وقدمت بعد ذلك عدة مرات، آخرها الدورة الرابعة لمهرجان وجدة المسرحي دجنبر1993.هذه المرة في إطار جمعية المغرب العربي وأخرجها الفنان عبد الرزاق بنعيسى.
ولا زالت هذه المسرحية مركز اهتمام المبدعين والنقاد على حد سواء. وهي منشورة إلى جانب مسرحية "عاشور" ضمن سلسلة كتابات جديدة، العدد 22 فبراير 1985، الطبعة الأولى عن المنشأة العامة للنشر والتوزيع والإعلان-طرابلس/ الجماهيرية. ومنشورة أيضا ضمن منشورات إتحاد كتاب المغرب المخصصة لأعمال محمد مسكين الإبداعية، الطبعة الأولى الرباط ماي 1991.
نالت إذن، مسرحية "اصبر يا أيوب" من التقدير والتنويه والاهتمام، ما جعلها في طليعة أجود ما أنتجته حركة مسرح الهواة خلال الثمانينات بالمغرب. ويعود شيوع المسرحية أيضا إلى عدة أسباب منها : السبب الأول يمكن حصره في مستوى النشر والعرض، لما أهلها لأن تحتل مكانتها في سجل المسرح الهاوي. السبب الثاني يعود إلى كون المسرحية تحمل بداخلها بوادر كتابة مسرحية جديدة. وتبشر بأفق إبداعي مسرحي مغاير. السبب الثالث يعود إلى كون هذه الكتابة تختزن بجسدها، إضافة إلى طريقتها وتقنياتها -طاقات دلالية وإيحائية، ورموز فكرية ودينية، وأسطورية، وشعبية، تختلف مرجعياتها بين الديني والواقعي والمتخيل مما يطرح إشكالية التلقي/القراءة في أفق تحليل هذه المسرحية. ويلح في الرغبة على البحث في آليات وإواليات القراءة، المحققة من قبيل المبدع أولا ثم المتلقي للعرض المسرحي ثانيا. وسوف لن نتطرق في هذا السياق إلى كل الرموز في هذا العمل المسرحي، ولاسيما من تحكمهم مرجعية معينة، بل سنحاول فقط استجلاء معالم قراءة محمد مسكين لظاهرة عبد الله المكانة.
ثانيا: معطيات من داخل القراءة
أواليات قراءة محمد مسكين لظاهرة عبد الله المكانة :
تحكم القراءة إواليات نفسية ومعرفية يستعملها القارئ في تفاعله مع النص المتلقي، وذلك عبر إستراتيجيات تقوم على أسس دينامية وحركية في اتجاه النص قصد تحقيقه. وهذه العملية تتم انطلاقا من موقع القارئ باعتباره موقعا موسوعيا، وبفضل رصيده المعرفي المخزن في ذاكرته وبتفاعله مع مكونات النص وبنيته يتوصل إلى إنتاج المعنى، واستجلاء الدلالات العميقة/الخفية للنص. وبعد هذا الإدراك للمعنى الذي يفترضه المؤلف ويحققه القارئ عبر الفعل القرائي، تأتي المرحلة الحاسمة في الممارسة الفعلية للقراءة، أي مرحلة منح النص المتلقي أبعادا فكرية ومعرفية وإيديولوجية وفنية وجمالية... وهي أبعاد مؤولة من طرف القارئ. وهذه المرحلة لا يمكن التوصل إليها إلا بعد إنجاز أهم خطوة في مسار الممارسة القرائية أو كما يقول أوتن أن مرحلة التأويل تبتدئ عندما يستولي القارئ على النص.
تأسيسا على هذه الأفكار الأولية التي نوجزها قصد ولوج عالم قراءة محمد مسكين لعبد الله المكانة، نخطو في اتجاهين : الأول، تحديد موقع عبد الله المكانة داخل النص المسرحي"اصبر يا أيوب" وتتبع تطوراته في سياق الحدث، وعلاقته بباقي الشخوص الأخرى : أيوب يامنة والإمبراطور... وبهذا الرصد لتحركات عبد الله في شعاب النص نصل عبر نهاية المسرحية إلى ثنائية ضدية تقابل بين عبد الله المكانة كما هو معروف في الثقافة الشعبية المحلية، وبين عبد الله المكانة كما هو في النص، وإثر ذلك نكون قد وصلنا إلى مرحلة أخرى من الكشف تتجلى في قراءة محمد مسكين لعبد الله المكانة، وهي عملية تأويل ظاهرة عبد الله لدمجه في سياق إيديولوجي ومعرفي وفني وجمالي يتوخاه محمد مسكين من هذا العمل المسرحي.
التصريح بالهوية
عبد الله (إلى الجمهور) : إنني عبد الله المغني من يسكن دروبكم وأحزانكم يا ناس، أنا عبدا لله الذي يتحول، أنا المحمل بكل لغات العالم، المحمل بكل نبوءة... مهمتي الحالية أن أغني لأيوب وهو يعمل، هكذا أعيش من أنغامي وبؤسه يا ناس[2]
يصرح عبد الله المكانة في أول حوار له في هذه المسرحية بهويته، ومهمته، ووظيفته. وبذلك يكون قد كشف عن كنه شخصية عبد الله. هذه العملية، عملية الكشف والتصريح تأتي أهميتها أولا في تحديد الموقع الاجتماعي لعبد الله : فهو الساكن دروب وأحزان لمن يحكي ويغني لهم، وما دام متلقيه من الطبقات الشعبية فهو منهم. فعبد الله كما يتحدد من خلال هذا الشطر من الحوار، لا يخرج عن ماهية عبد الله المكانة المغني والحاكي والراوي، لكن المبدع حين يقرأ يطمح دائما إلى جعل قراءته قراءة استكشافية، تبحر عميقا لاستخراج الذر.
وعلى هذا الأساس يلصق محمد مسكين علامات، وحالات، ومحمولات فكرية وإيديولوجية بشخصية عبد الله، فهو المتحول، والمحمل بكل لغات العالم، والمتنبئ، عمله الأساسي هو الغناء لأيوب وهو يعمل، حيث مصدر حياته الغناء وبؤس أيوب.
عبد الله إذن، من هنا فصاعدا سيصبح صوت أيوب الجهور، والحامل لتعبه، والمعبر عن همه وآماله وآلامه. وهذا ما صرح به أيوب أيضا : "أيوب :... منذ ذلك الحين وأنت عقلي الذي يفكر ولساني الذي يتكلم"[3].
لا نرغب في هذا المقام أن نخصص حيزا آخر للحديث عن شخصية أيوب؛ لأن اشتغال عبد الله داخل النص كمحور أساسي تتصل به وتنقطع عنه باقي الشخصيات الأخرى مع أن المسرحية لها عنوان مثير : "اصبر يا أيوب" حيث يوهم هذا العنوان لأول وهلة أن أيوب محور هذا العمل، وهذا صحيح من موقع القراءة الأولية، والسطحية، والجزئية. لكن حين نتوغل أكثر في مساحات النص نكتشف أن الأساسي هو هذه العلاقة بين أيوب (العامل) وعبد الله (المثقف).
فعبد الله هو بطل هذه العلاقة، وما أيوب إلا تجلي لالتزام عبد الله وانشغاله بقضايا أيوب. فهو لم يعد الشاعر الشعبي المحلي، بل "ارتبط بفضاء أوسع ذلك هو فضاء المحرومين والكادحين، وأصبح عبد الله رمزا فلسفيا حين يصير العقل الذي يفكر به أيوب"[4].
تحتوي المسرحية على أكثر من مؤشر دال على طبيعة علاقة عبد الله بأيوب. هذه العلاقة بقدر ما تشغل الخلفية التي كانت من وراء هذا العمل المسرحي، بقدر ما تتوغل في تفاصيله لتؤكد جوهر الصراع القائم بين أيوب (العامل) ولسان حاله (عبد الله) من جهة، وبينهما معا والإمبراطور صاحب حقول الهندية من جهة أخرى :
الإمبراطور : ما هي شروطكم؟
أيوب : اسأل عبد الله يا مولاي
هامان : تكلم يا صديقنا عبد الله
عبد الله : الثلث يا مولاي من إنتاج الهندية[5]
أيوب كما يتجسد في النص، لا رأي له، وأن من يملك الرأي والسداد هو عبد الله. لكن السؤال الذي يمكن طرحه في ذروة تألق هذه العلاقة المتراصة هو: هل سيواصل عبد الله التزامه بقضايا أيوب؟ وبالجواب عن هذا السؤال، من النص طبعا، نكون قد لممنا أجزاء قراءة محمد مسكين لعبد الله المكانة، وبالتالي نكون قد مسكنا بموقف المؤلف من عبد الله.
عبد الله يمارس لعبة الهروب
إن الصورة المجسدة عن عبد الله، خارج هذه القراءة، أي لدى الناس ليست هي نفسها داخل هذه القراءة، أي لدى محمد مسكين. فعبد الله لم يكن في يوم من الأيام هاربا ولا متخاذلا. بل كان بسيطا، وعاديا، يحكي ويروي. همه الوحيد إضحاك الناس وإمتاعهم بالقصص والحكايات وجني بضع دراهم لسد أفواه عياله. لكن محمد مسكين/المبدع يتلقى عبد الله المكانة على عكس هذه الصورة، ويحاول أن يجعل منه شخصا ليس بالبسيط، ولا بالمادي بل شخصية درامية يمكن لها أن تفتح آفاقا جديدة في النص المسرحي.
وقد أومأ عبد الله في حوار سابق أنه "المتحول"، وفعلا حين ألصق الكاتب بشخصية عبد الله هذه السمة عمل على تطويرها ليبقى البناء الدرامي متماسكا، مقنعا وممتعا. وهذا التحول لا يحصل على مستوى الموقف فحسب، وإنما أيضا على مستوى شكل وجود عبد الله-إن صح التعبير- أي خاصية شكله في الحلقة كفضاء حددنا بعض سماته، وخاصيته في المسرحية هي الشكل الأول عبد الله يروي. وفي الشكل الثاني ينتج موقفا، أي يفعل ويتحول من موقع إلى موقع. يتحول من موقع الراوي إلى موقع الشاهد، ومن الموقع الأمامي إلى الموقع الخلفي. ومن موقع الصامد إلى موقع الهارب. وأول ما يدشن هذا التحول الأخير هو بداية فتور علاقة عبد الله بأيوب. والعودة إلى الذات، للإنصات إليها وتحقيق نرجسيتها.
عبد الله : أليس لدي الحق في الحياة؟ أن أذوق معنى الراحة؟
يامنة : ليس على حساب الآخرين، ليس على حساب أيوب، أليس عقله الذي يفكر ولسانه الذي يتكلم؟
عبد الله : لست فكر ولا لسان أي أحد... أريد أن أستريح قليلا...
ثم ألم تفضلي أنت الأخرى حياة القصر على ملاحقة أيوب وعمل المنديل؟[6]
هذا الإعلان هو بداية تشكل القطيعة بين أيوب (العامل) وعبد الله (المفكر) وبالتالي هي مرحلة انفصال الفكر عن واقعه :
عبد السلام : (إلى أيوب) ويخدعونك يا أيوب، يرحل دماغك وتبقى شجرة تصعقها العواصف، ما أبلدك يا أيوب[7]
إن تخلي عبد الله عن أيوب تعتبر خيانة وما بعدها خيانة، ومهما تكون دوافع وأسباب التخلي فإنها غير محمودة، وبتخلي عبد الله عن أيوب تكون المسرحية قد وصلت إلى حدود توسيع نطاق الشهادة والنقد، ليصبح الحدث الذي تدور حوله المسرحية حدثا موسوما بزمن الخيانات العظمى. ولا يكتفي الكاتب الإدلاء بمواقفه من خلال هذه القراءة، بل يصر على جعل الجمهور شاهدا على هذه الخيانة. وهذا ما تتيحه قراءة محمد مسكين لعبد الله، حيث تأبى أن تكون سطحية، عائمة وإنما من خلال تلقي عبد الله يريد الكاتب أن يقحمنا في طقوس تنسل من العادي والمألوف لتعانق الشائك والمعقد. فالزمن زمن خيانة، وعبد الله رمز الخيانة، والجمهور ومن واجبه أن يكون شاهدا على هذه الخيانة :
عبد السلام : (من القاعة) ألا فلتشهدوا، زمن الخيانة هذا، والخيانة تدق أبوابنا إننا نعترف أن الكلمات تركض نحو الخيانة وتورق غدرا وترقص الحروف نشوانة وينتحب الوطن. وليعلم كل من يذهب إلى الحصاد إشراقة كل صباح، ويتكلم لغة المناجم أن الخيانة تتم باسمه في الأماسي ومجالس الأنس، وليعلم كل أيوب أنهم يجرحونهم جثة، ويدرون الكبريت على الجراح، ونسقط كالنخيل نسقط، وذاكرتنا من الأخطاء لا تستريح. ونحن لا نصحو بين غفوة الدهشة ورعشة اليقظة[8].
هذه القراءة تجعل من عبد الله المكانة الإنسان العادي البسيط رمزا للمثقف المتخاذل. المثقف الذي يتخلى عن قضيته الجوهرية لصالح نرجسية الذات وأنانيتها، ورغم ذلك فهو يعي خيانته ويوصي من تخلى عنهم بالبحث عن البديل.
عبد الله : سادتي أبحر طويلا في هروبي، أهرب من همومكم التي ألفتني من طول المعاشرة، فابحثوا عن نقيضي داخلكم وبينكم، إنه موجود فيكم ومعكم، لملموا جراحه نابتا في الزنازن عبد الله يقرأ بؤس الوطن جهرا يستمر...[9]
تبدو استلهامات محمد مسكين في قراءته لظاهرة عبد الله المكانة من خلال الحيز الذي شغلته شخصية عبد الله في النص المسرحي، وإذا كنا إلى حدود هذه السطور حاولنا وصف تلقي محمد مسكين لعبد الله، وإبراز معالم هذه الشخصية واقعيا وإبداعيا، ورصد تحولاتها داخل المسرحية، فإننا سنحاول أن نبحث عن خلفيات هذه القراءة وعن أبعادها أو بصيغة أخرى: ماذا يريد محمد مسكين أن يقوله من خلال هذه القراءة؟ ولماذا عبد الله المكانة وليس شخصا آخر؟
ب- أبعاد وخلفيات هذه القراءة :
يقول د. مصطفى رمضاني: "ولقد استطاع محمد مسكين أن يستوعب التراث الشعبي الملحمي فوظفه توظيفا سما به حتى جعله رمزا معبرا عن حالات إنسانية، كما أنه أضفى عليه مسحة واقعية فأصبح فعلا دراميا يجسد عفوية الإنسان المغربي المهمش طبقيا والمستلب فكريا"[10]. إن قدرة محمد مسكين على تلقي التراث الشعبي المحلي واستيعابه مكنته من فتح مسالك التأويل وتوظيف المقروء توظيفا غدا معه النص الجديد أيضا قابلا للقراءة والتأويل. وأشير هنا إلى أن التوظيف هو أقصى مرحلة تصل إليها القراءة. أننا لا نوظف الشيء بجهله وإنما بإدراكه ومعرفته. وهكذا يمكننا أن نفتح أمامه آفاقا جديدة، وقد يغير التوظيف أحيانا من مسار التاريخ، وتاريخ التلقي حين يتحول-مثلا- الهامش إلى المركز كما هو الشأن بالنسبة لشخصية عبد الله المكانة في مسرحية "اصبر يا أيوب" : حين تحول عبد الله المكانة بفعل القراءة من عبد الله الراوي والمغني الشعبي الذي يملأ فضاء ساحة سيدي عبد الوهاب إلى شخصية درامية، تنخرط ضمن الطرح الإشكالي لقضايا المعالجة الدرامية فترمز إلى قضية إنسانية ممتدة في التاريخ. وهي علاقة المثقف بالطبقة التي ينتمي إليها، وعلاقة هذا المثقف بالسلطة.
فظاهرة عبد الله بوصفها نصوصا تحققت على أرض ساحة سيدي عبد الوهاب، لم تجعل محمد مسكين يقف عند حدود التفكيك والإدراك البصري لهذه الظاهرة أو التحليل المحايد لنصوصها المحكية ولبنياتها اللغوية المشغلة داخلها، بل استثمر ذلك وتجاوزها في آن واحد للقيام بعمليات تحيينية بإضافة دلالات جديدة للنص.
ويتبين أن النص الأدبي الشفاهي (ظاهرة عبد الله المكانة هنا) يتضمن مجموعة من الفضاءات الفارغة التي تتطلب من القارئ، وبواسطة قراءته المتعاونة مع النص لتأثيثها. يقوم النص على الاقتصاد العلاماتي، لا يمكن أن يقول كل شيء وإنما يقول فقط ما يضمن اتساقه الخطي، لذلك فهو يتميز بنوع من الدينامية التواصلية مع المتلقي بحيث ينتظر منه المبادرة التأويلية الملائمة[11].
وعليه، فقد لمح محمد مسكين في نصوص عبد الله المكانة (الشفوية طبعا) أشياء تملك القدرة على التأويل، أي منح إمكانية التأويل، وبتأويل هذه الأشياء تمكن من خلق معنى جديد يقابل المعنى التقليدي لتلقي عبد الله المكانة. وإذا كانت القراءة هي حصيلة التفاعل بين القارئ الموسوعية وبنية المقروء، فإن هذه القراءة قد تحدث تغييرا في مسار التلقي، وتجعل من النص المقروء أو المروي منفتحا قابلا للتفجير والتأويل.
ثالثا: كيف تلقي عبد الله المكانة من خلال العرض المسرحي
إن قراءة العرض المسرحي لا تستقر على مستوى واحد من التلقي، لأن المتلقي-بصفة عامة- خليط من الأذواق والاختيارات والموافق والثقافات والمرجعيات. كما أن تحقيق سلسلة من القراءات موكول إلى كيفية علاقة المتلقي بالعرض. وهي لا تخرج-حسب فريشارد دومارسي في كتابه "عناصر سوسيولوجية الفرجة"- عن نموذجين لتلقي الفرجة: النموذج الأول يسمى بالقراءة الأفقية la lecture horizontale والنموذج الثاني يسمى بالقراءة العرضية la lecture transvervale.
إن ما يميز النموذج الأول هو الطابع التقليدي، بحيث ما يهم المتلقي هو الحكاية و"انتظاره المتلهف للنهاية". وهي قراءة عائمة وسطحية، لا تحاول أن تنشأ علاقات بين عناصر العرض، وتحلل مستوياتها وتربطها بسياقات العرض التاريخية والفكرية والإيديولوجية والجمالية...
أما النموذج الثاني فهو قراءة متسائلة، تحليلية نقدية، لا تتورط بفعل جاذبية الحكاية، بقدر ما تحاول أن تكون محايدة باحثة عن تفكيك عناصر الدلالة التي تظهر في العمل. تضع بينها وبين العمل مسافة حتى لا يصل لديها التماهي ويتأثر المتلقي سلبيا بالعمل.
هذه باختصار شديد أنواع تلقي العرض المسرحي، لكن المسألة قد تغدو بالنسبة لموضوعنا مختلفة شيئا ما. فالمتلقي (من كلا النوعين) متلقي معاصر لعبد الله المكانة (على الأقل إلى حدود هذا التاريخ). يعني أن كل متلق لعرض "اصبر يا أيوب" (خاصة متلقي المنطقة الشرقية) يعرف الرجل، وحين يقبل العرض على تقديم عبد الله المكانة في سياق مختلف عنه في الواقع، فإنه يخلق عنده عناصر تشويش تدمر معها المرجع.
ويظهر عبد الله غريبا لدى المتلقي، ولا يتوقف على ترديد العبارة التالية "فابحثوا عن نقيضي داخلكم وبينكم، إنه موجود فيكم ومعكم". فعبد الله يكسر ألفة المتلقي واعتياده له، يطالبه بالخروج عن المألوف ويدفعه للبحث عن أفق انتظار جديد، ينفي أفق انتظار تلقي عبد الله المكانة الراوي الشعبي.
تبرز هذه الإشكالية من داخل العرض المسرحي"اصبر يا أيوب" بحيث أنه لم يستطع أن يجيب عن أسئلة المتلقي، أو بالأحرى لم ينسجم أفق العرض المسرحي مع أفق انتظار المتلقي عبر موضوع عبد الله المكانة. فقد خيب العرض أفق المتلقي ووتره في آن واحد، والمتلقي أمام هذا الوضع تفتر مقاومته للعرض ولعبد الله بالخصوص. في الوقت الذي يصر فيه عبد الله من داخل السياق الدرامي على مطالبة المتلقي بالبحث عن المغاير والمختلف...
وفي هذا السياق فليس أمام المتلقي إلا أن يغير أفق انتظاره. ويدمر المرجع الذي تمتح منه شخصية عبد الله. ويسير نحو تأسيس رؤية نقدية تجعل من عبد الله محورا للتأويل، والبحث في طاقته الإيحائية.
ولا بد أن المتلقي سيطرح سؤالا من هذا القبيل: لماذا قرأ محمد مسكين ظاهرة عبد الله المكانة على النحو، ولم يقرأه على نحو آخر؟ وبطرح هذا السؤال تكون المسرحية قد وصلت إلى ما تصبو إليه، أي وصلت إلى استفزاز المتلقي وإحراجه. ودفعه إلى طرح أسئلة، والسؤال دليل على التطلع، ورفض المحدودية والسهولة في الاقتناع، وعدم الرضا بالكائن، وتغيير موقع المتلقي من المنفعل المستهلك إلى الفاعل المنتج. وفي هذه الحالة لم تعد مسؤولية توفير الأجوبة متعلقة بالعمل وإنما أصبح المتلقي هو أيضا مطالب بتقديم أجوبة لأسئلة النص والعرض.
د.محمد جلال أعراب
............................................................
الهوامش والإحالات:
1-رشيد أمحجور، فن الراوي كشكل مسرحي-المسرح المغربي نموذجا-مجلة الثقافة المغربية، السنة الأولى (1991)العدد 3، دار المناهل للطباعة والنشر، ص63.
[2]- محمد مسكين، عاشور، اصبر يا أيوب، مسرحيتان، كتابات جديدة: عدد22، الطبعة الأولى، فبراير 1985، المنشأة العامة للنشر والتوزيع والإعلان، طرابلس الجماهيرية، ص 100.
[3]- المسرحية، ص .123
[4]-د. مصطفى رمضاني، الاحتفالية الملحمية عند محمد مسكين من خلال عرض "اصبر يا أيوب" جريدة أنوال، الخميس 6يناير 1983، عدد 46، ص 12.
[5]- المسرحية، ص 33.
[6]- المسرحية، ص 141.
[7]- المسرحية، ص 151.
[8]- المسرحية، ص 142.
[9]- المسرحية، ص5 ص151.
[10]- د.مصطفى رمضاني، الملحمية الاحتفالية عند محمد مسكين، 12.
[11]- أنظر، ميلود حبيبي، النص الأدبي بين التلقي وإعادة الإنتاج من أجل بيداغوجية تفاعلية للقراءة والكتابة، نظرية التلقي : إشكالات وتطبيقات، منشورات كلية الآداب والعلوم الإنسانية بالرباط سلسلة ندوات ومناظرات رقم 24، (1993)، ص 173 و ص174.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.