(1) بدءاً من «رؤى في موسم العوسج» (1970)، مروراً ب من «نشيد البجع» و»غيمة أو حجر» و «سدوم» و»بعكس الماء»، إلى «قليلاً أكثر» ف»أخسر السماء وأربح الأرض» (2014)، كان محمد بنطلحة يُطوِّر مشروعه الشعري بصبر وأناة، خارج ادّعاءات النظرية وذائقة التلقي السائد. من ذاتٍ إلى ذاتٍ، تنهل قصيدته، في صيرورة حداثتها، متخيَّلها الكتابي من أمشاج ثقافية وفلسفية وأسطورية، ومن اختلاطات علم جمال اليوميّ، شديدة التنوُّع والرهافة بين ما هو طبيعي ومادي وتجريدي وخلاسي، مُفكَّراً فيه ومقذوفاً به – على الرِّيق- في اللعبة. نقصد باللعبة سأم الشاعر وهو يحتفي بالدالّ الشعري داخل شرط الكتابة الذي لا يعتمد رسم الشيء، بل رسم الأثر الذي يخلقه الشيء، أو ما يُعبِّر عنه هو نفسه في أحد نصوصه ب»فخاخ المعنى». ومن ثمة، من غير المجدي أن نبقى خارج الكلمات، ننتظر ما تحيل عليه؛ لأنّ لا شيء يأتي منها كما تُريد- نُريده منها. فالشاعر يدعونا أن ندخل على الكلمات، أنْ نُفكِّر في داخلها وفي ما تحدثه من همهمات آنية، ليترسَّخ اعتقادنا، مع الوقت، بأنّ لها فضاء آخر يُطوِّح بنا في مشاعر وأفكار غير تلك التي ألفناها داخل منطق العلاقة بين الدالّ والمدلول، لأنّ الذي يتكلم هو الكلمات ذاتها وهي تشتبك، من ملفوظٍ إلى آخر، بذات الشاعر ومتاهته. لنقل إنّ خطورة ما يكتبه هذا الشاعر تكمن في أنّه يصيب القصد الإرادي بمغص شديد، فيتحرك المكتوب بوصفه فعلاً يتجاوب ونزعة الشك التي تعيد التسمية بقدر ما تتسلى مع نظام القيم من أجل بلبلته وتفجيره من الداخل. وعلى هذا النحو، يقول أدورنو: «تتموضع حقيقة الجديد، حقيقة غير المنتهك داخل غياب القصد. هكذا تدخل في تعارض مع الانعكاس، محرّك الجديد، وتمنحه قوة ثانية». يكتب الشاعر خارج أيّ غائيّةٍ للشعر. قصيدته تتقدّم إلينا مُتجرِّدةً من نفعيّتها ومُكتفيةً بذاتها كعالم قائم بقوّة الكلمات. نقرأ في «الوجود والعدم»: «في عُجالةٍ: وَجْهانِ لِعُمْلةٍ واحِدةٍ، الحياة. قرأْتُ هذا في عظْمةِ كتِفٍ عَثرْتُ علَيْها بالصُّدْفةِ بيْن أوْراقي بِدون تاريخٍ. الخطُّ زِناتيٌّ. وفي الهامشِ: الوُجودُ أريكةٌ والعَدَمُ صَوْلَجانٌ» (2) لئن كان النصُّ تنتظمه بنيةٌ نحويّةٌ مُصاغة بدقّة (شكل الحروف، وضع العلامات الإعرابية وعلامات الترقيم، توزيع المتواليات..)، وهو ما نتبيّنه في مجمل أعمال الشاعر، غير أنّ نفس الحرص على الوضوح لا يخصُّ به بنية معناها؛ فهو لا يربط مكوّناتها بعضها ببعض برباطٍ دلاليٍّ إلا بوصفه ذريعة تحاجج الواقع والسأم من الواقع باستدخال آليات الحلم والتداعي والهذيان في رحم المشهدية العارمة. ومثل هذه البنية لا تُنْتج دلالةً، وإنما تحمل اخْتِراقاً لنظام الدلالة بأكمله، نتبين نشاطيّته بالتكثيف والمفارقة ومراوغة الدالّ للمدلول. مغامرة الأنا المتلفّظ في أنّه يقول العمل بوصفه فعلاً في حد ذاته، وهو بهذا المعنى يدشن مصير هذا العمل ويضع كلماته في فضاء بصريّ مُشظّى بكوكبة نجومه التي تضيء وتُعتِّم، تعبر وتُقيم، ترتوي وتظمأ، تنشج وتصمت. ولا يتحدد هذا المصير بسقف مُحدَّد، ولا عبر تصوُّرٍ قبْليّ. هكذا، بين ذهابه الدالّ وإيابه، يقطع الأنا مع مقولة «التجانس» لصالح «التّراكُب» على نحو يفيد انقلاباً في الرؤية إلى بناء القصيدة وتلفُّظاتها. وإذا كانت اللغة تُظْهر وعياً مُفارقاً للعالم وتبني عليه صورتها في العمل، فمن المستحيل التفكير في اللغة بمنأى عن التفكير في اشتغال الدالّ ووضعيته وآثاره على أوضاع الذات، أو بالعلاقة المتوترة بين الكلمات والأشياء. وإذاً، لا يمكن للغة أن تكون/ تؤدّي وظيفةً جماليّة كما أيّ لغة: من لغة تنهض تخييليّاً من ركام الأشياء، إلى لغة تُشارِف على العماء ولا تتحقق دلالاتها تحقّقاً خطّياً أو زمنيًّا، بل على خطّ الزلازل تقيم. مدلولها في ناحية البحر، ودالّها في شكل سديم لا يكفّ عن القلب ومعاودته: «.. أَضَعُ يَدي وَراءَ أُذُني وأشْرعُ في تأَمُّلِ الدَّوالِّ وَهِيَ (مِثْلي وَمِثْلُكَ) تُهّرْوِلُ هُنا أيْضاً، فوْقَ خطَّ الزّلازِلِ ظَهْراً لِظَهْرٍ «. (3) للذات، هنا، مغامرتها في قول ما لا ينقال، وهي تنزلق من دالّ إلى دالّ، مثلما يكتب جاك لاكان: «الذات إنْ كان لها وعي بدالٍّ ما يمتلك أثراً من عدمه، فهي ليست شيئاً آخر غير الذي ينزلق داخل سلسلة من الدوالّ»، مع فارقٍ أن الدالّ في التحليل النفسي هو خارج لسانيّ، فيما هو هنا يظلُّ مبدأ الخطاب، أي عبور الذات في الدلاليّة. ومن الطريف، أن يعرض الشاعر في أحد نصوصه «مساهمة في التحليل النفسي»، مُصعِّداً لعبة الانزلاق التي لا تُفرِّط بِحالٍ في خسارات الذات التي ليس لها ما تخسره أصلاً. الذات التي من «سلالة الهمج». بيد أنها ذاتٌ مُتجدّدةٌ لها قدرة الخيميائيّ الذي يجيد اللعب ما بين المتباعدات والمتنافرات، ويترك الكلمات «عالقة في بخار المعاني»، فيفجؤنا بالمعنى من أمكنة لا نتوقعها. ليل المعنى «حيث أنا»: «كم مرّةٍ طويتُ ركبتي وفي نيّتي أن أطوي ما بين «جزيرة أَمْسِ» و»جزيرة يُمْكِنُ» في ثانيةٍ ! كم قلتُ: يا لساني، كُنْ قاطرةً. وإذا به جَرَسُ إِنْذار ! مع من ألعبُ؟» (4) يتخذ محمد بنطلحة من الميتاشعري مظهراً للكشف عن وعيه الكتابي من طور إلى آخر أكثر اختلافاً، ومن ثمّة يحتاج في معظم أعماله إلى تنبيه قُرّائه بانتقالات طارئة تحدث في صميم تجربته الشعرية. وهو لا يفعل ذلك من باب الإخبار وحسب، بل إنه يتخذه سخريّةً من نسق القواعد التي تحجر على سبل الإبداع وتقف دونها، ولاسيما فيما يتعلق بقواعد العروض والبلاغة واللغة التي بلغت قُدْسيّتها في التصور النقدي القديم حدّاً لا يطاق. وهو في كلّ ذلك يبشر على أنقاض القديم بالجديد والغامض والمفارق والمسكوت عنه من منظور تصوُّره ل«فيزياء العبارة» التي عليها مناط قصيدته الحديثة. صنع ذلك في «نشيد البجع» و»سدوم»، لكنّه يجعل من الميتاشعري لاحقاً بمثابة «بذرة ديونيزوسيّة» تنقض بشعريتها المفارقة المنطق السائد والاعتيادي لطبيعة المعنى الشعري بمنطق تخييلي ممسوس، عبر الانتهاك الذي يحمل اللغة على أن تقول ما لا تريد، وما لا تقصد عادةً. وفي نصوص من «قليلاً أكثر» و»أخسر السماء وأربح الأرض» نكتشف هذا الوعي المفارق داخل شرطه الكتابي المفتوح واللانهائي الذي يدمغه لعب الدالّ المتوتر بين الشعري والسردي: «أنا من هرقْتُ فوق الأرض/ قارورةَ المعنى». «لا سياج حول النصّ/ الحقولُ تحترق». «أن أقوم باختطاف اللغة/ وأترك في مكانها ورقةً صغيرةً/ وفوقها:/ Liquidation Totale». «ولكن، أيها السارد !/ هل أنت هو الذي قلتَ: «لا مناص»؟/ أم أنا؟/ لا يهمُّ./ قد تغيّرت الأحداث،/ والنافذة/ هِيَ/ هِيَ./ هكذا في النص./ أما في الواقع فليس ثمّة لا جؤذر/ ولا نافذة./ ثمة مسرحٌ/ وثمة كواليس.» بعض الشعراء المحدثين وضعوا كتيبات لشرح نظريّتهم في الشعر وبسط آرائهم ومواقفهم حوله، إلا هذا الشاعر الذي كتب «الجسر والهاوية» من أجل أن يقطع مع السبل المُيسِّرة إلى شعره؛ وهذا دليل آخر على غرائب هذا الخيميائي ومُتعه العجيبة. شاعر وناقد