من سيلقي نظرة بانورامية سريعة حول حال مؤسساتنا التعليمية والتربوية سيصاب بدوار كبير واندهاش شديد؛ لأن هذه المؤسسات تحولت إلى ثكنات عسكرية لاتؤمن إلا بالانضباط واحترام القانون ونظام المؤسسة، حتى الأبواب تشبه اليوم أبواب السجون المخيفة، إذ نجد عند باب هذه المؤسسات حراس الأمن يلبسون أزياء رسمية تشبه الأزياء العسكرية، ويحملون العصي القصيرة كرجال المخزن ليخيفوا بها براعم المستقبل من أجل أن يفرضوا النظام ولو استدعى الأمر في ذلك استعمال القوة والعنف وفرض العقوبات الزجرية سواء أكانت لفظية أم بدنية. وقد سبب هذا الواقع التربوي البذيء في ظهور النظام التربوي الأوتوقراطي الذي يستند إلى لغة القمع والقهر والتخفي مدنيا وراء قناع الديكتاتورية العسكرية التي لاتعرف غير خطاب التأديب والزجر واستخدام العنف الرمزي ولو ضد الأطفال الأبرياء؛ مما يولد في نفوس الناشئة قيما سلبية ومشاعر الحقد والكراهية والخوف والانكماش وعدم القدرة على المغامرة والتخييل والابتكار والإبداع لانعدام الحرية والديمقراطية الحقيقية والمساواة الاجتماعية. ومن نتائج هذا الضغط السياسي ظهور جيل من الشباب اليافعين الذين تمردوا عن الأسرة والمدرسة والمجتمع، وحملوا مشعل الثورة والتغريب وتخريب منشآت الدولة من أنابيب الماء وحنفياته و مصابيح كهربائية وإتلاف كل ماتملكه المؤسسات التعليمية، وتكسير المقاعد وتشويه الجدران، والتغيب بكثرة عن المدرسة التي تحولت إلى سجن قاتل كئيب، وفي الأخير يترك المتعلم المدرسة مبكرا، فينقطع عما فيها بسبب شطط الإدارة وتعسف الطاقم التربوي ناهيك عن ضآلة فرص الشغل وضبابية المستقبل وقتامته الجنائزية. وبذلك، فقد وصلت المدرسة المغربية إلى آفاقها المسدودة، فصارت فضاء مسرحيا تراجيديا يشخص المأساة وصراع الأجيال، ويعكس بكل جلاء التطاحن الاجتماعي والتفاوت الطبقي ويعيد لنا إنتاج الورثة كما يقول بيير بورديو وباسرون؛ لأن النظام التربوي:»يتطابق كل التطابق مع المجتمع الطبقي، وبما أنه من صنع طبقة متميزة تمسك بمقاليد الثقافة أي بأدواتها الأساسية (المعرفة، المهارة العلمية وبخاصة إجادة التحدث)، فإن هذا النظام يهدف إلى المحافظة على النفوذ الثقافي لتلك الطبقة. والبرهان الذي قدمه هذان المفكران يبرز التناقض بين هدف ديمقراطية التعليم الذي يطرحه النظام وعملية الاصطفاء التي تقصي طبقة اجتماعية ثقافية من الشباب، وتعمل لصالح طبقة الوارثين.» ويترتب عن هذا، أن المدرسة الوطنية هي مدرسة غير ديمقراطية تخدم مصالح الطبقة الحاكمة والأقلية المحظوظة، وما التعليم العمومي والتعليم الخصوصي والتعليم الفكري والتعليم المهني سوى تعبير عن تكريس التفاوت الاجتماعي وتحويل المؤسسة التربوية إلى فضاء للتمييز اللغوي والعنصري ومكان للتطاحن الاجتماعي والتناحر الطبقي والتمايز اللغوي. وإذا كان إميل دوركايم ينطلق من رؤية محافظة في تحليل النظام التربوي في علاقته بما هو اجتماعي وسياسي، فإن ألتوسير .يرى بخصوص:» التقنيات والمعارف، أنه يجري في المدرسة تعلم قواعد تحكم الروابط الاجتماعية بموجب التقسيم الاجتماعي التقني للعمل. كما يقول بأن النظام المدرسي وهو أحد أجهزة الدولة الإيديولوجية هو الذي يؤمن بنجاعة استنساخ روابط الإنتاج عن طريق وجود مستويات من التأهيل الدراسي تتجاوب مع تقسيم العمل، وعن طريق ممارسة الإخضاع للإيديولوجيا السائدة.إن المسالك الموجودة في المدرسة هي انعكاس لتقسيم المجتمع إلى طبقات، وغايتها الإبقاء على الروابط الطبقية.» ويرى بودلو .وإستابليه .بأن المدرسة إيديولوجية وطبقية وغير ديمقراطية تكرس التقسيم الاجتماعي لوجود « شبكتين لانتساب الطلاب إلى المدارس يحددهما الفصل بين العمل اليدوي والعمل الفكري، ثم التعارض بين طبقة مسيطرة وأخرى خاضعة للسيطرة». وبما أن المدرسة الليبرالية مدرسة طبقية وغير ديمقراطية، فإنها في الدول المتخلفة والمستبدة تكرس سياسة التخلف والاستعمار وتساهم في توريث الفقر والبؤس الاجتماعي، فإننا نجد إيفان إليتش يدعو إلى إلغاء هذه المدرسة الطبقية غير الديمقراطية في كتابه:» مجتمع بدون مدرسة». فنظرية موت المدرسة حسب كوي أفانزيني هي في الحقيقة نظرية:» تأثرت تأثرا كبيرا بالعوامل الجغرافية التي أحاطت بها والتي قد تجعل منها نظرية صالحة لبلدان أمريكا اللاتينية، غريبة كل الغرابة عن المنطق التربوي للغرب. لاسيما أننا نجد فيها بعض التساؤلات التي تؤيد مثل هذا التفسير الذي يقصرها على بلدان بعينها، ذلك أن إيليش ينزع أحيانا إلى القول بأن المدرسة ملائمة للعصر الصناعي وأنها من إرث هو مخلفاته، وينبغي أن تشجب فقط في البلدان المتخلفة حيث لاتستطيع أن توفر الانطلاقة اللازمة لها وحيث يكون حذفها شرطا لازما لحذف الاستعمار والقضاء عليه، على أنه في أحيان أخرى يطلق أحكاما تنادي بالقضاء عليها قضاء جذريا ويرى فيها مؤسسة بالية أنى كانت». وعلى أي حال، فواقع الديمقراطية في مدارسنا التربوية يرثى له بسبب عدم وجود الديمقراطية وانعدام فلسفة التسيير الذاتي واللاتوجيهية وغياب منظومة حقوق الإنسان ممارسة وسلوكا بسبب غياب الديمقراطية في المجتمع على جميع الأصعدة والمستويات.