كيف يتعالق النقد والإبداع؟ وما هي حال الإبداع في حواضر الصحراء؟ هل استطاع الجيل الجديد من أبنائها الباحثين أن يخرجوا دفائنها إلى حيز البحث والتنقيب والمدارسة؟ إلى أي مدى تخلص هؤلاء الباحثون من إكراهات الهوية المغلقة وتوتّرات الجغرافيا؟ كانت هذه أهم الأسئلة التي طرحها الباحثون في الندوة التداولية التي نظمتها جمعية أصدقاء متحف الطنطان للتراث والتنمية الثقافية، بتنسيق وشراكة مع المديرية الجهوية للثقافة جهة كليميم- وادي نون والمندوبية الإقليمية للتعاون الوطني، تحت موضوع «النقد والإبداع- تجارب من الصحراء»، وذلك مساء السبت 12 نونبر 2016 بالخزانة الوسائطية، استهلت بكلمات افتتاحية لابراهيم الحَيْسن رئيس الجمعية وخالد بويا محافظ الخزانة وتقديم لمحمد سالم بوبريك أحد الفاعلين الجمعويين بالمدينة. وتميزت الجلسة الثقافية الأولى بإلقاء الشاعر والناقد عبد اللطيف الوراري لعرض تمهيدي أطره الباحث اسليمة أمرز. أثناء هذا العرض تطرق الوراري إلى المتعالق بين النقد والإبداع، وقال إنّه منذ قديم الثقافة، لا تخفى علاقة التلازم بين طرفي العملية الإبداعية، وهي علاقة جدلية أكثر منها ستاتيكية، على نحو يحفز الروح المبدعة على التوثب ويفتح أمامها سبل الإلهام والابتكار، وبالقدر ذاته يدفع النظرية إلى أن تجدد أدواتها النقدية باستمرار. وزاد: «وجدنا أن هذه العلاقة إذا ما اختلّت تحت أي حسابات أو دعاوى حصلت في تاريخنا الأدبي، فإن روح الإبداع كانت تخفت لتفسح المجال للتقليد والاجترار»، لكن في ضوء ما يشهده مجال الثقافة والأدب والفنون من تحول في المفاهيم وحوامل الكتابة إنتاجا وتلقّيا، إشارة إلى أنه «على المبدع أن يكون مسكونا بتلك الروح ومأخوذا بتجلياتها النصية والأيقونية، وعلى الناقد أن يهتدي إلى ضوئها وممكنات عملها بأدوات مرنة ومنفتحة تكشف الغامض وتدني البعيد. من الشعر إلى السرد، ومن المسرح إلى الفنون التشكيلية، ثمّة روح وإصغاء واقتراح لعوالم ممكنة تسافر بالإنسان إلى الجميل والمبتكر والمدهش، بَلْهَ المبتذل والمنسي». ولم يفت الوراري أن يثمن تقديره بحركة النقد الأدبي التي يعرفها المغرب، أو تلك التي يعرفها في صحرائه مع كوكبة من الباحثين الذين بين الخبرة المعرفية ورصانة المنهج وأدواته التحليلية، أوجدوا بحوثا قيمة تخص الأدب الحساني وثقافة الصحراء بوجه عام. كما أقيمت الجلسة الثقافية الثانية المخصصة لمقاربة تجارب شخصية في الإبداع الشعري والدراسات التراثية والفنية. قام بتيسير هذه الجلسة الباحث محمد عالي الحَيْسن، وشارك فيها الشاعر والباحث الطاهر خنيبيلا الذي تحدَّث عن ديوانه الشعري «البوح بالمكون من ألوان الموزون» المتضمن لنصوص معنونة حسب ترتيب بحور(بتوتت) الشعر الحسَّاني مع تعريفات وتقطيعات لهذه الأخيرة وربطها بمقامات الموسيقى الحسانية (أزوان) المناسبة لحكايتها، وكذا شروحات لبعض كلمات المعجم. وقد أصر الشاعر على البوح بملاحظاته حول بعض بحور الشعر الحسَّاني مستدلا بما يراه داعما لرأيه ومستفزا قرائح الباحثين للمزيد من الجدية والتأمل في هذا الاتجاه، كما تناولت نصوص الديوان مختلف الأغراض من مديح وتوسل وتوحيد وحكمة وغزل ومساجلات أدبية وغيرها. ليتناول الكلمة الشاعر محمد أحمد الومان بورقة تمحورت حول ديوانه الشعري الصادر سنة 2015، وهو عبارة عن مجموعة قصائد نثرية تمثل السخرية السياسية في الشعر النثري، وتعالج مجموعة من القضايا السياسية والاجتماعية والحقوقية بالمغرب وبالعالم العربي. عقب ذلك، أعطيت الكلمة للباحث اسليمة أمرز الذي أكد على أن التجربة النقدية في الصحراء لا تزال جنينية رغم وجود بعض الكتابات والإنتاجات الأدبية التي هي بحاجة إلى دراسة وتمحيص، قبل أن يتحدث عن كتابه الصادر قبل سنتين «أشكال الفرجة في التراث الحسَّاني» (جزآن) اشتراكاً مع زميله عالي مسدور، وهو مشروع يسعى إلى إيجاد خصوصية ثقافية للمسرح الحسَّاني التي تتمثل في ضرورة استلهام التراث نحو تأسيس فعل مسرحي أصيل وجاد نابع من خصوصية ثقافة ضاربة في عمق المدى. وكان مسك ختام الجلسة الكلمة التي أدلى فيها الناقد التشكيلي ابراهيم الحَيْسن بحديثه عن بعض إصداراته الفنية الجديدة تبحث في مناطق التقاطع والحدود المفتوحة بين الفنون رغم تباين تقنيات ووسائل التعبير، وهي: «الجمالية والإيديولوجيا- عن العلاقة المتشابكة بين الفن والسياسة» (منشورات اتحاد كتاب المغرب، 2013)، «المنجز التشكيلي في المغرب- روافد وسمات»، منشورات جمعية أصدقاء متحف الطنطان- 2015، و»التشكيل والسينما- الغواية المفتوحة بين اللوحة والفيلم»، منشورات جمعية الفكر التشكيلي- الرباط، 2015. ولا يخفى الدور الريادي والتأسيسي الذي يقوم به ابراهيم الحَيْسن في إماطة اللثام عن كون شاسع من ثقافة الصحراء وتراثها الأدبي والفني من خلال قراءة عالمة تزاوج بين المنظورين الأنثروبولوجي والجمالي. وقد تركت هذه الندوة بما طُرح فيها من آراء وقضايا، استحساناً طيّباً لدى الحاضرين من باحثين محليين وخرّيجي الجامعة، بحيث تفاعلوا معها من خلال نقاشاتهم وتعقيباتهم التي أغنت وأضاءت مسالك أخرى. وبموازاة مع هذه الندوة، نُظّم معرض للكتب والدراسات حول الثقافة الحسَّانية، إلى جانب حفل توقيع إصدارات الباحثين المشاركين.