حكى لي قريب لي، مقيم بالشمال الفرنسي منذ سنوات، على الحدود مع بلجيكا، في واحدة من أجمل البلاد التي تحيط بها الغابات لكلمترات. أنه صدم خلال نهاية الصيف الأخير، أثناء ذهابه للإتيان بأضحية العيد من ضيعة تبعد عن مقر سكناه ب 25 كلمترا، حين وجد الطريق السيار مكتظة بصف طويل من السيارات والشاحنات، ممتد لكلمترات. وأن أمر عبوره، عبور سلحفاة، قد سلخ منه 42 دقيقة كاملة، هو الذي اعتاد العبور في 10 دقائق. طبعا، هو لم ينزعج أبدا من ذلك الصف الطويل، لأنه لا أحد عمل على تجاوز الصف، بل الجميع، ظل في مكانه محترما شروط السلامة وقوانين السير. أكثر من ذلك لم يحدث أن أطلق أحد عقيرة أي منبه للإزعاج أو التنبيه، بل إن الصوت الوحيد الذي ظل يعلو هو صوت إنذارات سيارة الإسعاف ورجال الوقاية المدنية. بدأت تعبر في ذهن قريبي ذاك، أسباب ذلك الإزدحام، التي خمن أنها لا قدر الله، ستكون حادثة سير خطيرة، خاصة وأنه لمح همة وسرعة عبور رجال الدرك في الخط الخاص بهم، بالطريق السيار، قبل وبعد سيارة الإسعاف وشاحنة كبيرة لرجال المطافئ، والذي لم يستغل أي من السواق الكثيري العدد، الفرصة للعبور منه واحتلاله، بل إنه بقي فارغا، مخصصا لحالات طوارئ مثل الذي وجد نفسه، عالقا في صف طويل من السيارات والشاحنات. متمنيا في قرارة نفسه، أن لا يكون في الحادثة عائلة مغاربية، لأن العديد منها تقطع تلك الطريق لشراء أضحية العيد. أخرج كتابا يحكي جزء من تاريخ بناء مدينة تارودانت، وشرع يكمل قراءة صفحاته، وهو يتقدم ببطء في تلك الطريق السيارة المزدحمة، موطنا نفسه، على أنه لا مجال للتوتر، فالأمور ستحل، كما اعتاد ذلك في حالات مماثلة سابقة. بعد قطع كلمترين، بدأت السيارات والشاحنات، تحول من خط عبورها بمساعدة من رجال الدرك الفرنسي، على يسار الطريق السيار، لأن مكان الحادثة يفرض ذلك. انحرف قريبي، بدوره، بسيارته مثل الآخرين، حين بلغ موقع الحادثة، وبدأ نبض قلبه يزداد، طبيعيا، مقررا، أنه لن ينظر أبدا باتجاه ذلك الموقع، لأنه عادة لا يحتمل وضعيات وحالات مأساوية مماثلة. قال مع نفسه، سأعبر فقط، بما يمكنني من سرعة وكياسة، ولا مجال لأن أحمل في خيالي صور الواقعة، التي ستظل تقض مضجعي بمأساويتها لأيام وليال. فهو يعرف حالة جهازه العصبي، ويعرف طبيعة هندسة خريطة عواطفه الشديدة الحساسية. لكن الفضول اللعين غلبه، خاصة حين بدأ يكتشف أنه لا سيارة هناك مشتعلة (لأنه ما الحاجة لرجال المطافئ)، ولا خراطيم مياه ممددة، بل لا وجود حتى لأي سيارة مصابة أو مقلوبة، مما ضاعف من فضوله. حينها، وهو يتقدم نحو مسرح الحادث بتؤدة، ضمن صف العابرين، أصبح نظره كله مركزا على الحادث وتفاصيله. كانت "صدمته" هائلة، فالضحية الذي رأى رجل إسعاف ممددا تماما على الإسفلت يقدم له إسعافات أولية بجدية واحترافية، وزميله قد وضع على جزئه الأسفل غطاء مذهبا، كان كلبا. نعم كلب. أي والله كلب. ضحك قريبي في خاطره طبعا. لكنه لجم بسرعة ضحكه ذاك، وهو قد تجاوز مكان الحادث، لأن الرسالة التي تشربها، هو القادم من ثقافة سلوكية أخرى، أن الأغلى في المسألة كلها، الذي تجندت لأجله سيارات إطفاء وسيارات إسعاف ورجال درك، هو إنقاذ "روح" وإنقاذ "حياة"، حياة كائن حي، كلب. وكان ذلك في منطقة نائية بفرنسا، بعيدا بمئات الكلمترات عن العاصمة باريس، مركز السلطة والقرار. التقدم والتخلف، قرار يصنعه الإنسان. تصنعه تربيته وثقافته السلوكية. يصنعه وعيه المدني في الأول وفي الأخير. ما أطول ما ينتظرنا من تحديات تربوية وسلوكية، قبل وبعد 7 أكتوبر 2016. هنا، عندنا، حتى الوعي بواجب المشاركة في التصويت يقدم العنوان على المسافة بين الخطاب والممارسة. لأنه ما أكثر ما نصيح بأن المرآة وسخة، لكن لا أحد يتقدم ليرفع ، من خلال المشاركة، من الممسحة لتنظيفها وجعلها نقية نظرة.