حين وصلت مطار هواري بومدين بالضاحية الشرقية لمدينة الجزائر، في أحد أيام شهر يناير الماضي، بعد مضي خمسة عشر عاما على آخر رحلة لي إلى هذا البلد، كنت نهبا لفيض من المشاعر المبهمة، وفريسة لسيل من الانفعالات القوية. ولأنني جئت مباشرة من باريس، فقد حملت معي يومها، في الذاكرة والمخيال، كل ما اختزنه الوعي من صور ومخاوف، وانشغالات، انتقلت إليه، وترسبت في طبقاته، من ذلك القصف الإعلامي المتواصل الذي مارسته وسائل الإعلام الفرنسية على الجزائر وأحداثها وتطوراتها منذ خريف الغضب الدامي في شهر أكتوبر. كنت أتصور وأنا في الطريق من باريس إلى الجزائر، ثم وأنا أقطع المسافة من المطار إلى الفندق، أنني سوف أجد نفسي أعيش لحظة تحول المغرب الأوسط إلى جمهورية إسلامية تكون معالم الحياة اليومية فيها مزيجا من التقاليد الوهابية في العربية السعودية ومن تجليات إيران الخمينية. ولأنني أعرف العاصمة الجزائرية معرفة طيبة، فقد كان أول شيء فعلته، بعد ترك الحقائب في الفندق، هو الانطلاق في الشوارع لمشاهدة الحقيقة، حقيقة الحياة اليومية بهذه المدينة ومقارنتها بما جئت به من صور وتصورات. كان الوقت عصرا وهو لحظة الخروج من المدارس والمكاتب ولعله من أفضل الأوقات، أو هكذا بدا لي في الأقل ربما بسبب حالتي النفسية الآنية، لقياس درجة التغيير الحاصلة في المظاهر الخارجية للسكان. كان الفندق الذي نزلت فيه يقع في عقدة مواصلات قريبة من عدة أماكن إستراتيجية، فهو ملاصق لمبنى الوزارة الأولى، ويطل على مبنى الإذاعة والتلفزة الوطنيتن. وغير بعيد عن ثانوية ديكارت السابقة (التي أُممت وأصبحت الثانوية الدولية)، ثم إنه يقع على بعض خطوات من قصر الشعب، ومن وزارات الفلاحة والصناعة، والصناعات الخفيفة. إنه إذن، موقع ممتاز سوف يسمح لي بالتجول القصير في الفضاءات المحيطة به من التقاط مناظر عساها تعزز ما حملته أو تلغيه. وقد لاحظت منذ الوهلة الأولى أن هذه الجزائر التي أراها أمامي الآن تخرج إلى الشارع. من المكاتب الوزارية المجاورة لقصر الشعب، أو من الإذاعة والتلفزة، وربما من الوزارة الأولى وأيضا من ثانوية ديكارت. لم يطرأ عليها، قياسا لما كنت أعرفه عنها، سوى تغيير طفيف لعل أبرز مظاهره وجود صبايا ملفوفات الرؤوس في قطع قماشية يغلب عليها اللون الأبيض، يرتدين أزياء محتشمة، متعددة الألوان، وإن كان يهيمن فيها الرمادي والأزرق أو ما في جوارهما أو حكمهما من الألوان غير الفاقعة. ومن المفارقات الانطباعية التي أثارت فضولي، هو أن هؤلاء الفتيات، وهن في تلك الأزياء يشبهن الأخوات أو الراهبات المسيحيات أكثر مما يشبهن شيئا آخر، وكانت معي زميلة فرنسية جاءت لتغطية الوضع في الجزائر وسمعتها تقول : «في النهاية تذكرني أزياء الفتيات وطريقة لف الرأس في ذلك الخمار الأبيض بلباس الراهبات الصغيرات عندنا في مقاطعة بريتانيا. ولست أشعر بالغربة وأنا أشاهدهن. وما زلت أحتفظ بصور تذكارية عن الفترة التي أمضيتها في الدير، تكاد تكون نسخة طبق الأصل عن المشاهد التي تمر أمامي الآن. أنظر... هاته الفتاة الملفوفة الرأس. إنها شقراء. لعل والدتها فرنسية. على كل حال، المنظر ظريف والصبايا يبتسمن ويتناقشن بحماس، ومن دون توتر». وعلقت الزميلة الفرنسية : «بديهي أن الأنوثة كما نفهمها في فرنسا تتضرر من مثل هذه الأزياء، لكن من البديهي أيضا أنه لا أحد يستطيع أن يمنع المرأة من أن تكون امرأة. سوف تبقى الأنثى هي الأنثى، حتى ولو أرغمتها التقاليد على الخروج إلى الشارع فيما يشبه الكفن». هذا الانطباع الأول المأخوذ من المحيط القريب لفندق الجزائر، أحدث بعض التشويش في الصور الذهنية التي استوردتها معي من وراء البحر. حقا، إن نسبة الصبايا الملفوفات الرؤوس -ولا أقول المحجبات ولا المغطيات الرؤوس- أن نسبتهن إلى الأخريات ضئيلة في هذا الفضاء والذي شاهدته منذ الدقائق الأولى لوصولي. إنهن اثنتان من عشرة، وهن يثرن فضول الرجال سواء منهم الذين يضطرون أن ينتظروا وراء مقود سيارتهم إشارة المرور في هذه العقدة الإستراتيجية للمواصلات بالعاصمة أو الصاعدين والهابطين مشيا على الأقدام في الاتجاهات المختلفة. إن هذه العقدة تؤدي إلى قلب المدينة بالنسبة للقادمين من الأعالي كما تتحكم في الطرقات المؤدية إلى الأحياء الفوقانية، أحياء الأبيار وحيدرة والمرادية، حيث توجد الفيلات والبيوت والعمارات والشقق الفخمة، وتقيم الطبقات المحظوظة كما أنها تقود نحو الأحياء التحتانية الفقيرة، أي حي القبة وحي باش جراح ومدينة الحراش وحسين داي، حيث تتكدس غالبية سكان العاصمة. وقد فوجئت وأنا أتابع المشهد بأن ذلك الشخص الذي كان فوق منصة صغيرة يطلق التصفيرات ويحرك يديه للتحكم في تدفق سيل السيارات الآتية من الاتجاهات الأربع إنما هو شرطية شابة يقف بجانبها زميل لها لعله حضر لحمايتها خاصة وأن الليل بدأ يقترب. والجزائر العاصمة مدينة لا حياة ليلية فيها. والمشاهد التي رأيناها في ذلك المجال القريب من الفندق والتلفزة والإذاعة والوزارات، بما فيها الوزارة الأولى وثانوية ديكارت لا تقدم بالضرورة صورا نموذجية عن بقية الأحياء. إنها مجرد عينة. ولعلي قلت في الحلقة الأولى من هذه السلسلة إن الجزائريين كفوا عن أن يكونوا عربا بالمعنى السياسي المبتذل. أصدرت ذلك الحكم الخطير، دون أن أقدم أي مسوغ أو تفسير له. وقد يكون المقام مناسبا هنا، لأبرر ذلك الرأي. لقد وجدت نفسي أدلي بهذه الفكرة من دون تأمل سابق، وذلك خلال لقاء حول مائدة عشاء في بيت أحد الأصدقاء. كان المجلس يضم عددا من المحامين والسفراء السابقين والحاليين، والصحفيين العاملين في قطاعات الإعلام المختلفة، من تلفزة وإذاعة وصحافة مكتوبة. وأظن أن الذي أثار الملاحظة هو برنامج تلفزيوني عسى أن يكون ذلك الذي ظهر فيه السيد نور الدين بولقروح زعيم حزب التجديد الجزائري، وقال فيه ردا على سؤال وجهه إليه صحفي حول الحلول التي يراها مناسبة للخروج من الأزمة الحالية قال فيه ما معناه : «يجب أن يستقيل الرئيس الشاذلي بن جديد، وتستقيل حكومة مولود حمروش، وتخرج الجبهة من السلطة». لا أتذكر العبارات بالضبط، ولكنني أستحضر المعنى العام، ويخيل إلي أنه كان مدار حوار تلك الليلة، وطرح أحد الحاضرين سؤالا : هل اعتقلوه؟ وكان جواب الجميع : «لا»، أبدا. إنه حر مستمر في عقد ندواته ومهرجاناته». ثم طرح آخر سؤالا مختلفا في نبرة لا تخلو من الاعتزاز : «يا جماعة قولوا لي : ما هي الدولة العربية أو الإفريقية التي يستطيع فيها مسؤول سياسي معارض أن يقول مثل هذا الكلام، على شاشة التلفزة الرسمية؟». حدث ذلك كله في فترة كانت فيها الصورة الخارجية عن الجزائر توحي بفوضى عارمة، وبغياب الدولة وخلو الجو للجماعات الأصولية تمارس ما تشاء من تحديات وتجاوزات. تلك كانت الصورة التي جئت بها من باريس. ولكن الذي لفت نظري في الأيام التالية كالأيام الأولى من رحلتي الجزائرية، هو هذه الحرية الجديدة، هذا الاستعداد للخوض في أي شيء. وما استرعى انتباهي هو فلتات الألسن، وغياب تلك الحركة التلقائية التي أظن أن العربي قد حولها إلى طبيعة ثانية، إنها تلك الالتفاتة الآلية، يمينا وشمالا، والتي تصدر عن الإنسان العربي، حين يهم بالحديث إلى الآخر. حتى في باريس على مسافة آلاف الكيلومترات من أقرب عاصمة عربية، تستطيع أن تعرف الإنسان العربي من تلك الحركة المميزة له. إنه عندما يتكلم مع صديقه يدير رأسه آليا وتلقائيا، يمينا وشمالا ليتأكد من أن أحدا لا يلاحقه ولا يستمع إليه. أما إذا كان جالسا، فإن حديثه يأخذ طابع التلميح لا التصريح، وتدور العيون في المحيط لاستنطاقه، وتهرب عن نظرات الآخر، ربما تجنبا لإحراجه. في الجزائر لا وجود اليوم لشيء من ذلك. الناس يتحدثون ملء أفواههم في المقاهي والشوارع، في المكاتب والمتاجر، في التلفزة والإذاعة، في الحانات والملاعب، في المساجد والأسواق عن كل شيء، دون أن يعيروا الانتباه لعواقب ما يصدر عنهم من كلام، لا يوجد أي موضوع لا يخوض فيه الناس ليل نهار، بمناسبة ومن دون مناسبة. انتهى عهد التابوهات والمحرمات. شخصية الرئيس الشاذلي بن جديد، حكم حزب جبهة التحرير، الإسلام والدولة، اللغة الأمازيغية واللغة العربية، الفرانكفونية والاشتراكية إلخ... كلها مطروحة للبحث. ومن المفارقات المذهلة في الوضع الجزائري أن هذه الحرية، في التعبير، اقترنت إلى منتصف شهر مايو بإحساس غريب بانعدام الأمن، انعداما وصل إلى حد اعتبار أن الدولة اندثرت أو هي مرشحة للانهيار. والمفارقة تكمن في أن هذا الشعور بغياب الدولة رافقه اطمئنان عميق إلى سلامة صراع الأفكار. ولا شك أن التلفزة الجزائرية عاشت عصرها الذهبي في تلك الأيام. لقد استعادت أو بالأحرى انتزعت مصداقيتها المفقودة، بفضل برامج جديدة شديدة الجرأة، أهمها برنامج كانت تبثه يوم الثلاثاء من كل أسبوع بعنوان «أمام الصحافةface à la presse » وتقدم فيه كل مرة حوارا ساخنا يجريه مجموعة من الصحفيين مع أحد زعماء الأحزاب السياسية الجديدة. كانت شوارع العاصمة تخلو بهذه المناسبة من المارة وينخفض عدد السيارات فيها، لأن كل واحد يريد أن يتفرج على الوجوه الجديدة ويستمع إلى أقوالها وبرامجها وتحليلاتها. وفي اليوم التالي، يوم الأربعاء من كل أسبوع تكون المادة المفضلة للمناقشات هي برنامج الليلة الماضية. وقد توقف العمل بهذا البرنامج في منتصف شهر مايو بدعوى ظروف الحملة الانتخابية، ورافق ذلك التوقف تعيين مسؤولين جدد عن الأجهزة الإعلامية، واقتسام هذه الأجهزة بين الحزب والحكومة، في ظروف وملابسات سوف نأتي على ذكرها. والمراقب الراغب في تلمس ميزان حرارة المناخ السياسي والنفسي والاجتماعي يجد نفسه أمام حرج الاختيار بين المسجد والملعب الرياضي والمطعم والحانة ومدرجات الجامعة، وفي بعض الأحيان، الشوارع والأسواق. كل هذه الأماكن أصبحت منابر مفتوحة للجدل السياسي، والسياسة هي الخبز اليومي للمواطنين، والكلمات التي تتردد كثيرا في هذه الفضاءات على ألسنة المتكلمين، سواء كانوا متحاورين يجلسون حول مائدة طعام، أو خطباء في مهرجان، أو من منبر مسجد هي الديمقراطية والتعددية والانتخابات والأحزاب، والرشوة، والغلاء والتراباندو إلخ... مطعم «لاَلاَمَبْرَا» أو «الحمراء»، الواقع على بضعة أمتار من ساحة الأمير عبد القادر مشهور بأنه المكان الذي يلتقي فيه. أغلب الأيام وخاصة يوم الأربعاء وجوه المجتمع المدني، من محامين وصحفيين وأساتذة جامعيين ومدراء وصفراء، ومراسلين صحفيين أجانب. هنا تسمع العجب العجاب. حضرت مثلا هذا الحوار : الديمقراطية؟ هل تفهم ما معنى الديمقراطية؟ طبعا. هي حق كل واحد في أن يقول رأيه بمطلق الحرية دون أن تعتقله الشرطة؟ هل تظن أن العرب ناضجون للديمقراطية؟ وعلاه؟ ما احناش عرب يا أخي ! نحن بربر... يا راجل خليك. وأنت؟ واش هي الديمقراطية في رأيك؟ اسمح لي نتكلم بالفرنسية. الديمقراطية عندها علاقة وثيقة بتعدد الآلهة. هي لم تولد صدفة فوق أرض اليونان وفي مرحلة الوثنية. كان اليونانيون القدامى، يعبدون أصناما كثيرة، يؤمنون بها، ثم يكفرون عدة مرات في اليوم. يجدفون، ويشتمون وينتقلون من هذا الصنم لغيره. تعدد الأصنام في اليونان القديمة هو تعدد الآراء، والانتقال من عبادة الصنم الفلاني إلى عبادة الصنم الفلاني، إنما هو الشكل القديم لتغيير الرأي. حتى العرب كانوا يخلقون أصناما يعبدونها ثم يكفرون بها ويلتهمونها في آخر الأمر.. ثم جاء الإسلام... آه... رد بالك... ما تهدرشي على سيدنا محمد... في ساحة الأمير عبد القادر حيث يوجد المبنى القديم ذو الطابع الكلاسيكي، الذي كان مقرا للحزب في عهد هواري بومدين ثم صار مقرا لجريدتي الثورة الإفريقية والطبعة العربية الأسبوعية، لجريدة المجاهد، تختلف المشاهد الشارعية عن تلك التي رأيناها بالقرب من الفندق. تقع هذه الساحة في شارع الشهيد العربي ابن مهيدي (شارع إسلي سابقا)، وهو طريق ممنوع على السيارات مخصص للمارَّة. إنه مكان آخر بأناس آخرين. الاكتظاظ على أشده، وعدد الرجال أكثر من عدد النساء، والمحجبات أكثر من السافرات، ونسبة المراهقين والمراهقات أعلى من نسبة الأعمار الأخرى. هنا يخيل إلى الإنسان القادم من باريس أنه أمام مظاهرة صامتة دائمة. ومع ذلك، فإن الصورة، رغم الازدحام الشديد، غير مطابقة تماما لتلك التي نسمع عنها ونحن في الخارج، أزياء النساء حتى المحجبات منهن تتسم بالتنوع والأناقة، إذ تختلط فيها الجبة بالملاءة، بالعباءة وبالحايك، ولأننا هنا غير بعيدين عن الأحياء الشعبية، وخاصة حي القصبة الأسطوري وباب عزون، فإننا نصطدم بقامات وهنادم أكثر نمطية. هنا نستطيع أن نقرأ بسهولة أكثر في الملامح والملابس وطريقة المشي والنظرات والحركات ما يختزنه مجتمع العاصمة من مشاعر النقمة والعصبية والعدوانية والتوتر. الاكتظاظ يمتد إلى كل موقع أو مكان يمكن أن يجد فيه الإنسان فسحة. وفهمت من محدثي أن جهاز الأمن العسكري الذي ما يزال له وجود قوي مؤثر. وإن كان خفيا يعمل في الظل، قام في هذه المناسبة بدور فعال جدا، على مختلف المستويات، تحت الإشراف المباشر للرئيس الشاذلي بن جديد. لقد أفلح الأمن العسكري أولا في تكسير شوكة الإسلاميين السياسية حين أقنع كلا من الشيخ «سحنون»، إمام مسجد باب الواد، والشيخ «محفوظ نحناح»، زعيم جمعية الإصلاح والإرشاد، باتخاذ موقف منفصل عن الموقف الذي التزمه عباسي مدني وعلي بلحاج. هكذا دعا الرجلان، أي الشيخان سحنون ونحناح الناس إلى البقاء في بيوتهم وإلى عدم المشاركة بالمسيرة، وأخرجا إلى الوجود العلني لأول مرة، ذلك الخلاف الذي كان الجميع يتحدثون عن وجوده في صفوف الحركة الإسلامية، من دون أن يقدموا الدليل الملموس عليه. تلك كانت الضربة الأولى الموفقة للنظام في صفوف الإسلاميين المعارضين له. ومن العوامل التي منحت موقف الشيخين وزنا سياسيا خارقا، هو أنهما أعلناه باسم «الرابطة الإسلامية»، وهي هيئة عليا تنسيقية تجمع مختلف التيارات الإسلامية. ويشاركان في قيادتها على قدم المساواة، مع كل من عباسي مدني وعلي بلحاج زعيمي جبهة الإنقاذ الإسلامية. أثناء لقاء مطول أجريناه معه بشقته المتواضعة في أحد المباني القريبة من حي حيدار، بأعالي المدينة قال لنا عباسي مدني بلهجة تشوبها المرارة : «على كل حال، الجماعة كما ترون اتخذوا الموقف في غيابنا ولم يأخذوا رأينا. أنا عضو في قيادة الرابطة، ومع ذلك، سمح الشيخان لِنَفْسَيْهِمَا، سامحهما الله، باتخاذ موقف انفرادي. لقد خذلونا. والحقيقة أن جماعات الإخوان المسلمين صاروا يؤيدون النظام». المقاهي الموجودة على الأرصفة مكتظة، ودكاكين الحلويات، والمخابز، والمتاجر الصغيرة والكبيرة ومخازن الأروقة الجزائرية ومداخل العمارات، وصالونات الفنادق وصالونات الحلاقة. التهجم والوجوم والاكتئاب وانقباض الأسارير، هي العلامات التي تطفح بها الوجوه، وهي وجوه ربما أضناها البحث عن العمل أو السكن. مشهد آخر مختلف هو ذلك الذي رأيناه في أبهاء جامعة الجزائر وممراتها ودهاليزها. لا أتذكر الإحصائيات الخاصة بنسبة الذكور إلى الإناث في الحرم الجامعي ولا أعرف أيهم وأيهن أكثر؟ لكنني لاحظت في اليوم الذي زرت فيه الجامعة أن عدد الطالبات أكثر من عدد الطلاب، وأن الاختلاط بين المحجبات التقليديات والسافرات العصريات أمر طبيعي تمام. لم أجد أثرا لذلك التوتر الذي تتحدث عنه أجهزة الإعلام في الخارج؟ بين من يسمونهم الأصوليين واللائكيين. رأيت الطالبات المحجبات يتناقشن مع زميلاتهن، بل شاهدت الطلاب يتحاورون مع الطالبات بهدوء. ولأنني زرت الجامعة بعد يومين من المسيرة التي نظمتها جبهة الإنقاذ الإسلامية، فقد كان الجدل كله منصبا على هذا الحدث : قالت طالبة لصديقات لها يبدو من ملامحهن أنهن غير مصدقات لما سمعنه منها : قلت لكم العدد كان مليون. ضحكت زميلة لها وحدقت فيها : هبلتي؟ حتى أنتي راكي تصدقي كلامهم. راني نقول ليك... راكي غلطانة... بابا اسمع فالراديو بلي كانوا سبعين ألف. والله غير كانوا مليون... بابا مشى معاهم وهو اللي قال لي... تساءلت ثالثة : كانوا غير الرجال.. وعلاه ما ياخدوا معاهم النسا؟ بابا يقولي بلّي النسا بقاوا في الجوامع... لم أحضر المسيرة التي نظمتها الجبهة الإسلامية للإنقاذ يوم الجمعة 20 أبريل، ولكني وجدت أصداءها ما تزال حية في العاصمة، داخل الأوساط السياسية والشعبية والإعلامية. كانت تلك المسيرة، حتى بعد مضي أسبوعين على وقوعها هي المادة الأولى في أحاديث الناس. وهناك أكثر من سبب لهذه الأصداء العميقة التي خلفتها مسيرة حزب السيد عباسي مدني. وقعت المسيرة في أواخر شهر رمضان، وسبقتها حالة من التذمر والغضب، ناجمة عن الزيادات المهولة في أسعار بعض المواد وافتقاد عدد آخر من السوق، وعلى الرغم من أن الحكومة اتخذت إجراءات صارمة لتوفير اللحوم، عن طريق كميات هائلة من المجمدات أغرقت السوق بأسعار زهيدة، فقد انتشرت ظاهرة الهلع والخوف، المصاحبة عادة لهذا الشهر في الجزائر، انتشارا واسعا دفع الناس إلى انتهاب المواد الإستهلاكية الموجودة لادخارها وتكديسها تحسبا للطوارئ. وذكر لنا أحد التجار أن الإقبال على المواد واسعة الإستهلاك، مثل السكر والشاي والقهوة والحليب ومشتقاته كان يتصاعد بانتظام مع اقتراب حلول يوم المسيرة. «لهبال يا أخي. الناس هبلت... كانوا يتصوروا بلي راهم الإخوان جايين، وزادمين وعافسين وغادين يأخدوا السلطة. حتى حكومة سي مولود تخلعت وزادت خلعت الناس». والواقع أن حكومة السيد مولود حمروش أصدرت قبل بضعة أيام من المسيرة بيانا دراميا في اللجوء إلى القوة لصيانة الأمن العام، وحماية التجربة الديمقراطية، وقطع الطريق أمام الذين يحاولون فرض آرائهم بالعنف واختلف الناس في تفسير ذلك الموقف كما اختلفوا في تقييمه. وقد سمعنا وزيرا سابقا يعاتب الحكومة على انزلاقها نحو لغة التهديد، وسمعناه يصف ما حدث بأنه «مؤشر خطير على ما أسماه بفقدان الحكومة لأعصابها ووقوعها في فخ الخطاب الأمني».كما سمعنا سفيرا متقاعدا يرى العكس بأن لهجة البيان الرسمي كانت ملائمة للمرحلة الحرجة، وأنها قد تكون ردعت المتطرفين من قادة الجبهة الإسلامية، عن تجاوز الخطوط الحمر. والذي لا جدال فيه هو أن بيان الوزير الأول، أضفى على المسيرة قبل وقوعها طابعا تراجيديا وهيأ النفوس لتقبل أسوأ الاحتمالات. وجاء ذلك البيان وكأنه ترجمة لتهديدات سابقة صدرت عن الناطق باسم الجيش وأعلنت عن استعداده للتدخل من أجل حماية الديمقراطية. «وقال لنا وزير في حكومة مولود حمروش : اسمع! لا تصدق كل ما يقولونه في الصالونات، نحن لم نفقد أعصابنا، وكلمات البيان الرسمي، كانت دقيقة، وموزونة ومدروسة، والمثل يقول «ما يَفُلُّ الحديد غير الحديد» ولو أننا لم نستخدم تلك اللغة الحازمة لظن الإخوان أن المغامرة سهلة ويمكن لهم أن يقطفوا ثمارها من دون عناء كبير». هنا موقف آخر ساهم في تأزيم الوضع ألا وهو البلاغ الذي أصدره المكتب السياسي لجبهة التحرير الوطني، وكشف فيه النقاب عن أن الحزب الحاكم يفكر في طرح فكرة تنظيم استفتاء لإبعاد السياسة عن المساجد، وتحريم استخدام هذه المنابر الدينية لأغراض دنيوية. أصدر المكتب السياسي ذلك النص، ونشر بعده نداء آخر يدعو فيه المناضلين إلى تنظيم مسيرات مضادة في اليوم ذاته لأجل الغرض إياه. وفي اليوم السابق للمسيرة أعلن أن جبهة التحرير تخلت عن فكرة تنظيم المسيرة المضادة بالعاصمة تجنبا للاستفزاز وحرصا على صيانة الأمن العام. فما الذي حصل بالضبط؟ مسؤول سياسي جزائري كبير شرح لنا الأمر قائلا : «ما حصل بالضبط هو أن الرئيس الشاذلي بن جديد، إنزعج من الجمود الذي ميز موقف حزب جبهة التحرير إزاء مبادرات الآخرين. وقد كان طرح فكرة الإستفتاء من أجل إبعاد السياسة عن المساجد تهديدا مبطنا موجها للمتطرفين من قادة الجبهة الإسلامية. أرادت الدولة أن تقول لهم : حذار، ثم حذار من الإفراط في الخلط بين الدين والسياسة، ونحن نستطيع أن نحاربكم وأن نُؤلِّب الشعب ضدكم... كذلك فإن دعوة المكتب السياسي المناضلين إلى تنظيم مسيرات مضادة، كان ينطلق من الاعتبارات نفسها، وتحديدا من إشعار عباسي مدني وجماعته بأن الشارع ليس حكرا عليهم». وحين طرحنا السؤال : ولماذا تراجع الحزب عن هذين الموقفين بتلك الطريقة السريعة؟ كان الجواب : اسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون... ومن أهل الذكر إن لم تكونوا أنتم؟ أنتم تعرفونهم... ألا تذكرون جماعة الرياضة والموسيقى؟ تساءلت مستغربا! وما علاقة الرياضة والموسيقى بتظاهرة جبهة الإنقاذ الإسلامية؟ حدَّق فيَّ المسؤول الجزائري وأضاف ضاحكا. آه! يزيك من التمشخير يا شيخ... واش؟ أنسيت؟ أراك ما بغيت تعرف الجزائر خلاص. وبسرعة عادت بي الذاكرة إلى عهد الراحل هواري بومدين... تذكرت بالفعل أن كلمتي «الرياضة والموسيقى» (S.M) كانتا تطلقان في الأوساط السياسية المطلعة على جهاز الأمن العسكري باعتبار تطابق الحروف الأولى من هذه المفردات، أي مفردتي «الرياضة والموسيقى» ومفردتي «الأمن العسكري»، باللغة الفرنسية بعضها مع بعض. ما يفسره عباسي مدني بأنه موقف إنفرادي وخذلان، يرى قادة الرأي العام في المجتمع المدني أنه لعبة سياسية ذكية قام بها الرئيس الشاذلي بن جديد واستطاع بواسطتها حرمان الإسلاميين من إشراك عشرات إن لم يكن مئات الآلاف من أتباع الشيخين، في المسيرة. «واضح -يقول أحد المراقبين السياسيين في العاصمة- أن الأمور كانت ستأخذ بعدا آخر ومسارا مختلفا لو أن الحركة الإسلامية حافظت على وحدتها في هذه المناسبة. وهناك أكثر من علامة استفهام حول الأسباب الفعلية لهذا التصريح. لقد دخلت السعودية على الخط ورمت بثقلها كله مع دعاة التهدئة. ألم تنتبهوا إلى أن الشيخ راشد الغنوشي زعيم حزب النهضة الإسلامية التونسية، وجه نداء إلى الإسلاميين الجزائريين قبيل المسيرة يدعوهم فيه إلى الإعتدال؟ لاَحِظوا أنه وجه نداءه من الرياض، ولاَحِظوا أن عباسي مدني كان موجوداً بالعربية السعودية في تلك الفترة، هل هي مجرد مصادفات؟ إنها أول مرة، يتدخل فيها زعيم إسلامي تونسي بهذه الطريقة المدوية في الشؤون السياسية الداخلية الجزائرية. ثم لاَحِظوا أمرا آخر، بعد بضعة أيام من مسيرة الجبهة الإسلامية للإنقاذ، عقد مركز دراسات مستقبل الإسلام الذي يوجد مقره بلندن، ويشرف عليه التونسي الهاشمي الحامدي، وتموله العربية السعودية، عقد بفندق الأوراسي، وبالتعاون مع «معهد دراسات الإستراتيجيا الشاملة» ندوة دولية جلب لها كل وجوه الإسلام الإصلاحي السياسي. ومعهد دراسة الإستراتيجيا الشاملة التابع للرئاسة ووزارة الدفاع، وقد عين الرئيس الشاذلي بن جديد مؤخرا للإشراف عليه الوزير السابق محمد يزيد. «وقد حضر لتلك الندوة حشد كبير من نجوم الأيديولوجيا الإسلامية الإصلاحية أمثال الشيخ محمد الغزالي ويوسف القرضاوي، ومفكرون حداثيون من طراز برهان غليون السوري، والمهدي المنجرة المغربي، وفهمي هويدي المصري. الشيخ محمد الغزالي دافع بحرارة في الأحاديث التي أدلى بها إلى التلفزة الجزائرية عن نظام الشاذلي بن جديد واعتبر أن الجزائر تأتي في مقدمة الدول العربية الإسلامية التي يقوم نظامها بدور رائد في إعطاء صورة مُشرفة عن الإسلام. ودعني أَقُلْ لك إن تدخلات المفكر المغربي المهدي المنجرة، وخاصة دفاعه الحار عن قضية المرأة، تركت أثرا طيبا هنا. وعلى كل حال، كانت تلك الندوة التي خصصت لها وسائل الإعلام، لاسيما التلفزة تغطية واسعة والتي اختتمها رئيس الدولة بخطاب سياسي أكد فيه على إرادته في بناء دولة القانون، وفي الإستمرار بالإصلاحات الحالية إلى نهايتها القصوى، أقول إنها كانت استئنافا للهجوم في الحقل الأيديولوجي». سفير جزائري متقاعد قال لنا معلقا على الملابسات المحيطة بمسيرة الجبهة الإسلامية للإنقاذ : «رد بالك لا تغلط، الجماعة (يقصد الأمن العسكري) عندهم وسائل ضغط كثيرة على أصحاب اللحية، لا تصدق ما تقوله الصحافة الفرنسية. الفرنسيين عمرهم ولا فهموا حاجة في بلادنا. قالوا بلِّي الجبهة الإسلامية، نظمت في الليلة السابقة للمسيرة «بروفات» يعني تمرينات على الطرق التي سيمر منها المتظاهرون. صحيح. لكن الجماعة كانوا معهم ونقلوهم في سياراتهم، واتفقوا معهم على كل شيء». أشياء أخرى حصلت في هذه المناسبة، وأعطت لمسيرة جبهة الإنقاذ محتوى دراميا، يتجاوز حقيقتها. ثم أشياء أخرى كادت أن تحصل أو افترضها الناس حاصلة بفعل الأجواء المتوترة آنذاك. أما الأشياء التي حصلت، فأهمها أمران : الأول : الاهتمام الإعلامي الخارق الذي أولاه الغرب، وخاصة فرنسا للحدث قبل وقوعه. الثاني : انسحاب جبهة التحرير الوطني، وتخليها عن تنظيم المسيرة المضادة بالعاصمة. الغربيون عموما والفرنسيون خصوصا، أرسلوا نخبة إعلامهم السمعي البصري والمقروء إلى العاصمة الجزائرية، وهم على يقين أن البلد ستتدحرج حتما لتسقط تحت سيطرة الملتحين، جاء الغربيون والفرنسيون إلى البلد، وهم مدججون بأفكار وتصورات مسبقة، تمتزج فيها مشاعر الخوف، بعواطف القلق والحيرة. كان الصحفيون الفرنسيون يترقبون أشياء مثيرة تؤكد ما نقلوه معهم من توقعات وإشاعات. ولهذا كانوا يجعلون من الحبة قبة. لقد فسروا انسحاب جبهة التحرير الوطني بأنه مؤشر قاطع على نهاياتها. الفرنسيون -كما قال لنا أحد أعضاء اللجنة المركزية- حولوا رغباتهم الدفينة، في هذه المناسبة، إلى حقائق صاروا يؤمنون بها ويرجعون إليها. لقد دفنوا الجبهة مبكرا، ولم يعملوا بالحكمة المعروفة : «لا تبيعوا جلد الدب قبل اصطياده». أما التوقعات التي لم تحصل، مع أن الجميع كان يترقبها ويعتبر حدوثها من المسلمات ومن البديهيات فهي ثلاثة : لم يحصل الإضراب العام. لم يعد الرئيس السابق أحمد بن بلة. ولم تحصل تلك المواجهة الدامية التي راهنوا عليها في الضفة الأخرى من البحر الأبيض المتوسط. «فكرة الإضراب العام، دعت إليها مجموعة قيادية في المركزية النقابية يقولون إنها على صلة وثيقة بالتيار المؤيد لابن بلة في جبهة التحرير الوطني»، هذه الرواية سمعناها من أكثر من جهة في الحزب والدولة وفي المعارضة. وسواء كان هذا التفسير صحيحا، أو خاطئا فإن قصده تحميل الرئيس الأول للجمهورية الجزائرية بعضا من مسؤوليات المتاعب التي يصطدم بها الرئيس الشاذلي بن جديد وفريق الإصلاحات الذي يقوده الوزير الأول حمروش، فالذي لا جدال فيه أن الإتحاد العام للعمال الجزائريين أصدر بيانا أعلن فيه مقاطعته للحكومة ولوح فيه بشن إضراب عام، كان الجميع يتوقع حدوثه بعد نهاية شهر رمضان. ولأن التلويح بشبح الإضراب العام، جاء في سياق مؤشرات تصب كلها في مجرى فرضية صدام حتمي بين السلطة والإسلاميين، فقد فسر المراقبون الأمر بأنه جزء من خطة شاملة تستهدف خلق أجواء معينة تمهيدا للإطاحة بالنظام. في هذا الصدد قال لنا أحد السياسيين الجزائريين : «يبدو أن هناك، أو كان هناك سيناريو من مرحلتين : المرحلة الأولى هي مسيرة الجبهة الإسلامية التي كان يُفترض أن تنتهي بعملية «اعتصام» طويلة غير محدودة. كان من المفروض أن يصل عدد المتظاهرين إلى أكثر من مليون شخص وأن تبقى مئات الآلاف منهم جالسة في الميدان العام المواجه للرئاسة ووزارة الخارجية وأن تأتيهم اللوازم من أغذية ومياه وأن تتابع أحوالهم الصحية فرق طبية جاهزة ومنظمة لهذا الغرض. وبموازاة ذلك الإعتصام أمام القصر الجمهوري، تقوم النساء باعتصامات مماثلة في المساجد. أما في مرحلة لاحقة فقد كان السيناريو الثاني، يستند إلى شن إضراب عام، وتكون الذروة في العملية كلها عودة الرئيس أحمد بن بلة لإستلام السلطة مع مجلس وطني مؤلف من شخصيات محترمة. ولعلكم تلاحظون أن الرئيس أحمد بن بلة خرج من صمته الإعلامي الطويل، وأدلى في نفس الأسبوع الذي حصلت فيه مسيرة الجبهة الإسلامية للإنقاذ بأول حديث سياسي إلى مجلة «حدث الخميس l'évenement du jeudi» طرح فيه فكرة تكوين مجلس من الحكماء وهدد الرئيس الشاذلي بن جديد بمصير تشاوسيسكو الروماني». ولست أدري إن كان هذا التوازي الواضح بين وقائع النصف الأخير من شهر مايو، ما حدث منها، مثل المسيرة، وما لم يحدث منها مثل الإضراب العام والمواجهة الدامية، ثم ما رافق ذلك كله من عودة أحمد بن بلة إعلاميا إلى الساحة وعدم عودته شخصيا إلى الجزائر، لست أدري إذا كان ذلك كله تم بفعل المصادفة والتوافق، أم بفضل توافق تلقائي في المواقف بين أطراف متعددة، لكل واحد منها حسابه الخاص، ونظرته المستقلة عن الآخر، وإستراتيجيته للاقتراب من السلطة. «لا أستطيع أن أجزم، لكن ما يحيرني أن هذه الوقائع حصلت كلها، بل تواكبت وتراكمت في ذلك الحيز الزمني الضيق». «وأنا لا أستبعد إطلاقا -يقول محدثنا- وجود تلاعب قد تكون وراءه بعض الأجهزة، التي قد تقدم معلومات مغرية لبعض الجهات : بهدف مزدوج : من ناحية دفعها إلى التقليل من شأن الدولة وهيبتها ومن ناحية ثانية دفع الدولة إلى القيام بردود فعل في مستوى التحديات التي تواجهها في مستوى المخاطر المحدقة بها». حين نقلنا هذا التأويل إلى السيد عباسي مدني، نفى لنا نفيا قاطعا أن تكون فكرة الاعتصام واردة في أذهان منظمي المسيرة وقال : «أبدا لم تراودنا فكرة الاعتصام. حقا نحن نسعى لتغيير النظام وإنما نريد أن يتم ذلك بالطرق السلمية وبإرادة الشعب». كذلك أكد لنا أحد قادة الحركة من أجل الديمقراطية التي يتزعمها الرئيس أحمد بن بلة أن هذا التفسير «مُبالغ فيه». المهم أن الجبهة الإسلامية للإنقاذ نظمت مسيرتها في اليوم الموعود. طيلة ذلك اليوم -كما روى لنا زميل صحفي تابع المسيرة من بدايتها إلى نهايتها- حبس الناس أنفاسهم ترقبا لحصول الكارثة. خلال اليومين السابقين، هرعت ربات البيوت إلى الأسواق والمخازن والدكاكين لشراء كميات هائلة من المواد الغذائية تحسبا للطوارئ. عاشت العاصمة حالة من العصاب الجماعي في انتظار أسوأ الاحتمالات. وفي يوم المسيرة، خلت الشوارع من المارة على غير العادة المألوفة أيام الجمعة.كان من المفروض أن تنطلق المسيرة من مساجد القبة وحسين داي وباب الواد أي تتدفق من الجهات الأربع نحو القصر الجمهوري، بحي المرادية في الأعالي. ذلك هو البرنامج الأولي. وقد خلق انطباعا لدى المواطنين بأن الصدام وقع لا محالة بين «الخوانجية» وسلطات الدولة لم يخرج الناس إلى الشوارع وإنما فضلوا الانتظار وراء الستائر المسدلة، وظلوا يستمعون إلى الإذاعات الأجنبية وخاصة الفرنسية لمتابعة تطورات الموقف، وجاء التغيير الأساسي في برنامج المسيرة، مع إعلان الجبهة الإسلامية أن التظاهرة لن تنطلق مباشرة من المساجد، وإنما سوف تبدأ من ساحة أول مايو وتسلك شوارع معينة إلى الرئاسة. وكان شبح أكتوبر يخيم على المدينة، وكانت مسيرة الإسلاميين كئيبة عابسة، لا وجود للنساء فيها. أغلب عناصرها من الشباب الملتحين، سارت في نظام وصمت وانضباط من غير إطلاق أية شعارات أو هتافات. وكانت وحدات «حفظ النظام» التي أطَّرت المسيرة تضع أشرطة وعلامات تميزها عن المشاركين والمتفرجين قليلي العدد. وبعض الناس قالوا إنهم شاهدوا جماعات يضعون علامات كتبت عليها «الشرطة الإسلامية». وذلك ليس صحيحا على الإطلاق. الإشارات كانت تحمل عبارتي : «لجنة التنظيم» فقط. إنما جو الرعب والترقب والتوجس الذي عاشته العاصمة حمل الناس على تصديق وأحيانا اختراع أمور لا وجود لها. بعض المشاهدات والمشاهدين -وأُصِر على المشاهدات- تصببوا وتصببن عرقا. إنه لأمر مثير حقا أن تشهد تلك الصفوف المتراصة، المترامية، من دون وجه أنثوي واحد. وإعتقادي أن الإسلاميين في تلك المناسبة أرعبوا النساء العصريات، ووزعوا مخاوف عميقة في نفوس الرجال العصريين، واعتقادي أيضا أن ذلك الجو الذي خلقوه هو الذي يفسر الإقبال الخارق على المسيرات اللاحقة أي مسيرة الأحزاب والروابط والشخصيات المدنية (مسيرة 10 مايو) ثم مسيرة قدماء المجاهدين وجبهة التحرير الوطني (11 و17 مايو) وأخيرا مسيرة جبهة القوى الاشتراكية بزعامة السيد الحسين أيت أحمد (31 مايو). وربما كانت المفارقة الفاتنة، هي أن هذه المسيرة التي تمت آخر الأمر في هدوء، ومن دون إراقة الدماء المتوقعة. هذه المسيرة التي كان يفترض أن تعبر عن ذروة نفوذ الحركة الإسلامية وهيمنتها قد تكون بدأت مرحلة عد تصاعدي لمنظميها. وعد تنازلي بالنسبة لخصومهم السياسيين، وهو مؤشر هام تنبئ به المسيرات التالية التي فتحت آفاقا جديدة في الجزائر. الجزائر في مفترق الطرق - مشاهدات ومسموعات 3 - بلد المليون ونصف مليون متظاهر خلال الأسبوع الفاصل بين مسيرة الديمقراطيين ومسيرة جبهة التحرير الوطني، أتيحت لنا فرص عديدة مكنتنا من أن نلمس درجة تدهور المعنويات عند قادة ومناضلي جبهة التحرير. بعض رموز الجبهة ووجوهها التاريخية الذين سألناهم عما إذا كانوا سينزلون إلى الشارع في اليوم الموعود، كانوا يجيبون عن أسئلتنا بصمت محتشم ونظرات كسيرة كئيبة، ترافقها همهمات وغمغمات مبهمة، تَنِّمُ عن حيرة عميقة. لم يكن أحد منهم يستطيع أن يعلن رفضه الصريح أو مقاطعته المباشرة ولا كانت التقديرات المتشائمة تسمح له بأن يغامر بالالتزام بموقف متسرع. وقد تنهد أستاذ جامعي كبير، عضو في الجبهة، أمامنا وروى البيت الشعري المعروف : لا يسلم ابن حرة زميله حتى يموت أو يرى سبيله. ومع ذلك، فقد شارك الجميع في التظاهرة، دون أن يكونوا على يقين من أنها سوف تسجل ذلك الإقبال العظيم الذي سجلته. قال لنا واحد من لجنة التنظيم المشرفة : «قررنا أن نختبر نحن أيضا قوتنا، ولا أخفيك بأننا بذلنا جهودا خارقة، لنعيد للجبهة مصداقيتها. لقد وصل بنا الأمر إلى حد استئجار باخرة من عنابة لأن وسائل النقل الأخرى لم تكن كافية لنقل المناضلين الراغبين في حضور المسيرة». انطلقت الجموع من ساحة أول مايو باتجاه ميدان الشهداء. كان من المقرر أن يبدأ التحرك في العاشرة، لكن المنظمين اضطروا إلى إعطاء إشارة الانطلاق في التاسعة، وذلك بسبب الاكتظاظ الحاصل منذ الساعات الأولى وما أحدثته من اختناقات حركة المرور بمداخل العاصمة ومخارجها وطرقاتها وشوارعها وأرصفتها. كنت أقيم بمكان يبعد كيلومترين على الأقل عن نقطة التجمع، وحين نزلت مع صديق لي للانتقال بالسيارة بهدف الاقتراب من ذلك المكان قابلنا زميل يحث الخطى مسرعا للالتحاق بالمظاهرة. وقال لنا : «واش هبلتو؟ تحبو تركبو السيارة اليوم في الجزائر؟ واش ما سمعتو الراديو؟ راه كاع الطرقان كلها مقطوعة». وما إن خطونا نحو الشوارع المؤدية إلى الميدان، حتى رأينا العناقيد البشرية تزحف في نفس الاتجاه، وتناهت إلى مسامعنا أصداء الهتافات الأولى : جاو... جاو... أولاد الجبهة جاو... جاو... جاو... جاو... أبناء الشهدا جاو.. أول انطباع التصق بالذاكرة من مشاهدة مقدمة المسيرة وشعاراتها وهتافاتها الأولى هي أن غالبية المشاركين حضروا أو أحضروا من الداخل وأنهم ينتمون إلى الجزائر العميقة. سوف يتأكد هذا الانطباع من مشاهدتنا اللاحقة عبر متابعتنا للمسيرة. وقد لاحظنا أن هتاف جاو... جاو... أولاد الجبهة جاو... جاو... جاو... جاو... أبناء الشهدا جاو...، كانا يترددان كلما توغلت المسيرة داخل الشوارع التي توجد بها عمارات فخمة تضم مكاتب الشركات والوزارات ومقرات البنوك وسمعنا شعارا آخر : أنا ما عمري ما ندم... والجبهة ساكنة في الدم. كما سجلنا أن تعاطف الجماهير الواقفة على الأرصفة كان أكثر حرارة وعفوية مما حصل في مسيرة الديمقراطيين. حقا إن المتفرجين في يوم العاشر من مايو لم يكونوا في مناخ يسمح لهم بالترتيب والتفاعل مع المتظاهرين. لأن الأمطار المتهاطلة كانت تجبرهم على تركيز انتباههم في الطريق تجنبا للانزلاق أو تحاشيا للاصطدام بأجساد أخرى. أما في هذا اليوم، فقد كان الجو ربيعيا مشمسا، وهو أمر لا شك أنه ساعد على جو الانشراح العام. التصفيقات والزغاريد التي كانت تنطلق من الشرفات عند مرور بعض الجماعات، بدت لنا أكثر كثافة أيضا. وأهم مجموعة أثارت حماسة الواقفين على الأرصفة والمطلين من الشرفات، هي رجال الطوارق الذين تميزوا عن سواهم بقاماتهم الفارعة وبأزيائهم الخاصة. كانت تلك المسيرة بمثابة عودة إلى الأصل بالنسبة لجبهة التحرير الوطني، وهي في الأساس حركة المجتمع القروي الجزائري. ترى، كم عدد الذين شاركوا فيها؟ مرة أخرى تختلف التقديرات والإحصائيات، مليون؟ مليون ونصف؟ ثلاثة أرباع المليون؟ ثلاثمئة ألف؟مائتا ألف؟ هذه الأرقام ترددت ونشرت في بعض أجهزة الإعلام الجزائرية والخارجية. وقد تكون صحيحة وقد تكون خاطئة، وربما كانت في المنزلتين، بين الصحة والخطأ. لكن الشيء الثابت، الملموس، الذي عايناه هو أن المسيرة بدأت في التاسعة صباحا وكانت لا تزال متواصلة في الثانية بعد الظهر حين أخذ منا التعب مأخذه واضطررنا لمغادرة الشارع إلى موعد كنا ملتزمين به من قبل. خمس ساعات والسيول البشرية تتدفق من ميدان أول مايو نحو ساحة الشهداء، أي على امتداد أربع كيلومترات، وما أظن الجزائر شهدت في تاريخها كله، أو تاريخها في الأقل كدولة وطنية مستقلة، مثل هذا التحرك الجماهيري. ولا أتردد في القول بأن جبهة التحرير عرفت في ذلك اليوم ولادة جديدة. وما استرعى انتباهي هو أنه لم يظهر في هذه المسيرة أي شعار مكتوب، ولم يسمع أي هتاف يمجد الرئيس أو الأمين العام للحزب، كانت هناك مجموعة من الشباب أطلقت هتافا يقول : مولود... حمروش... الجيش والشعب معاك. وكان هناك شخصان فقط، في هذه الأمواج البشرية المتلاطمة الهادرة، يحمل أحدهما صورتين واحدة للرئيس الحالي والأخرى للرئيس الراحل هواري بومدين، والثاني يرفع من حين لآخر باحتشام كبير صورة واحدة للرئيس الشاذلي بن جديد. إن ضخامة هذه المسيرة وخلوها في نفس الوقت من الهتافات والشعارات المؤيدة لشخصية معينة، ظاهرة جديرة بالتنويه، وحين ناقشناها مع مؤرخ جزائري صديق أعطانا هذا التفسير : سوف يخطئ النظام، وحتى قيادة الحزب الحالية، أي مكتبه السياسي، إذا اعتبرا أن هذه المسيرة حصلت لتأييدهما أو للدفاع عنهما. ولعلك تلاحظ معي أن المكتب السياسي الحالي، وهو صاحب الدعوة إلى المسيرة أدخل تعديلا جوهريا على الهدف الأصلي، لقد كان الهدف الأول هو إبعاد السياسة عن المساجد. ولكن هذا الهدف اختفى تماما وحلت مكانه شعارات عامة عن الثوابت الوطنية. وإذا كانت الجبهة كهياكل إدارية، وإمكانات تأطير وتعبئة، قد تجندت لنقل هذه الجماهير الغفيرة إلى العاصمة، فإنه من الواضح أنها تركت حرية المبادرة في طرح الشعارات للقواعد. والقواعد تحركت للدفاع عن الجبهة كأفكار وتاريخ وتراث، وليس كأشخاص ومجموعات أو قيادات. وهذه المسيرة أخرجتها من الصدمة التي أدخلتها في غيبوبة سياسية عميقة، أثمرت غيابا طويلا عن المسرح السياسي، منذ خريف الغضب إلى اليوم. والإقبال الذي لقيته المسيرة لا يكفي لتفسيره أن نقول بأن الجبهة سخرت كل إمكانياتها لنقل الناس، قد يكون هذا صحيحا إلى حد ما. وهو تصرف اعتيادي لجأت إليه الأحزاب الأخرى أيضا. لقد عبأت الجبهة الإسلامية للإنقاذ كل إمكانياتها المادية والبشرية واستغلت حتى المساجد التي هي ملك للشعب، في تنظيم مسيرتها وفي توفير شروط الإقامة والضيافة لأنصارها القادمين من المناطق الداخلية. وهذا أيضا فعلته الأحزاب الباقية، سيما حزب الطليعة الاشتراكية وأصدقاؤه وحلفاؤه لتنظيم مسيرة العاشر من مايو. والدولة الجزائرية شاركت بصورة محتشمة وكتومة في كل هذه الحالات، بتسهيل عمليات النقل عبر المؤسسات التابعة لها. شاركت حتى في جلب أتباع الجبهة الإسلامية للإنقاذ إلى الجزائر، وشاركت أيضا في مجيء الديمقراطيين إلى العاصمة، وقد تكون ساهمت بنفس الطريقة في تسهيل الأمور لجبهة التحرير الوطني. الدولة لم تشارك بالطبع كمؤسسة دستورية في شيء من هذا كله، ولكنها كانت حاضرة من خلال التسهيلات التي مورست في القطاع العام للنقل. والقطاع العام للنقل، مثل القطاعات العمومية الأخرى، ليس حقلا مغلقا. فنحن نجد فيه كافة التيارات السياسية التي يمور بها المجتمع، وهذه التيارات تتعايش وتتصادم، ولكنها لم تلغ بعضها بعضا حتى الآن وأنها تغض الطرف بعضها عن بعض، حين يتعلق الأمر بالاستفادة من التخفيضات ومن الأسعار الخاصة بالرحلات الجماعية، ومن حجز الأماكن في القطارات والطائرات والبواخر. إن كل الجماعات السياسية، تملك من خلال أشخاص معينين، معروفين أو مجهولين، مواقع نافذة في كافة مفاصل القطاع العام. وقد استفاد الجميع من هذه الحالة وما زالوا يستفيدون منها إلى اليوم. ومن ثم فإنه من الظلم والمبالغة اتهام جبهة التحرير بأنها تستحوذ على الدولة وتحتكرها لنفسها، وفي كل الأحوال فإن قدوم الناس بهذه الأعداد الغفيرة من الأقاليم لا يفسره توفر تكاليف النقل وحده. وإذا افترضنا أن هذا صحيح تبقى الضيافة، أي الإقامة والأكل والنوم خلال الليلة أو الليلتين أو الليالي اللواتي قد يضطر القادم من بعيد لإمضائها بالعاصمة. وأنت تعرف أن الإقامة هنا من رابع المستحيلات. إذا لم تكن لك شقة أو لم تكن منخرطا في شبكة عائلية، أو شبكة مودة، أو كانت لديك مبالغ دسمة تتيح لك النزول بأحد فنادق الدرجة الأولى أو الثانية أو الثالثة، وهي محجوزة باستمرار. لا... لا... جاء المناضلون لأنهم يريدون صيانة الجبهة وحمايتها. ولأنهم أدركوا أن هناك قوة جديدة تريد إنهاء دورها التاريخي، وجاؤوا بالخصوص لكونهم لم يتأثروا بالنزاعات العقيمة الدائرة في مستوى القيادة. مسؤول جبهوي آخر، كان مصابا بحالة اكتئاب عميقة، قبل السابع عشر من مايو، التقيناه متهلل الأسارير، فعانقنا بحرارة المنتصر، وقال : «شفت! بنو هلال دخلوها ودخلوا الفئران للغيران». قبل ذلك اليوم، يوم السابع عشر من مايو، حضرنا سهرة، مع مجموعة من الأصدقاء، ضمت فنانين تشكيليين وشعراء وصحفيين من مختلف الاتجاهات، وسمعنا الحوار التالي. واش؟ أراني نقول لك والجبهة نتاع ربي واين راهي؟ خلاص كيفاه خلاص؟ اداها الواد والله؟ غدوة نشوفو! نظن ييجوا الناس بزاف؟ غدوة يشوفو! والله ما يجيهم قط واحد! أراك غالط، والله غير يجوك بنو هلال ولاباس. وعلاش خافوا وانسحبوا من وجه الخوانجية؟ واين راهي هذي الجبهة نتاع ربي اللي راك تحكي عليها؟ ما جابت حتى سبع قطوطة في وهران؟ غدوة تشوفوا! آ.. واه! أراني نقولك بلي اداها الواد. والله يرحم الشهداء. خلاص الجبهة أدَّاتْ دورها ومهمتها وربي يعينها .. مايبقى في الواد غير حجارو! نتراهنوا؟ واش رَايْك؟ نتراهنوا؟ داكور! شحال تقول ييجو؟ ألف وخمسمئة... يمكن ألفين.. أراكم غالطين يا جماعة، ما تعرفوش واش هي الجبهة؟ الجبهة أراهي ما زالت قوية.. الجبهة هي الشعب الجزائري كله.. شوف.. شوف.. أراك تتسخر. هيا نتراهنو. قول شحال؟ أنا نقول ما بين ثلاثة وخمسة آلاف وأنت؟ على الأقل مليون.. مهبول.. والله غير مهبول. يا أخي نسيت! قبل أقل من شهر ما قدرو يجمعو حتى سبع قطوط في وهرن.. واعلاه ما تحصل شي معجزة؟ والله غير تشوفو كيفاه يجوكم بني هلال... لم أتدخل في الحوار، ألح جميع الحاضرين على سماع رأيي، ولكنني اقترحت أن نلتقي جميعا في اليوم التالي، أي بعد المسيرة، ووافقوا على ذلك بحماسة، بعد أن اطمأن كل واحد منهم إلى عدم وجود أي ارتباطات لمنعه من المجيء. في ذلك المساء سمعت حوارا مختلفا تماما! شفت كيفاه؟ اشحال تقول؟ واحد يقول مليون، واحد يقول مليون ونص، واحد يقول ثلث رباع المليون، واحد يقول نص مليون.. كل واحد واش يقول. والله غير معجزة بالصح! وامن أين جابوا هذا الغاشي كله يابورب؟ شفت؟ أراني كلت لكم. يا ودي أراكم غالطين. الجبهة عمرها تنتهي في هذي البلاد! اللهم الجبهة ولا الخوانجية. يا ودي حتى الخوانجية ناس ملاح.. راهم يعبرو عن الفقراء والمساكين والناس المحرومين.. يا أخي شماتة! كيفاه يا بو رب، الجبهة عندها كل هذا الغاشي وراها ومعاها وتمشيه كلكباش وتقول لهم شرقوا اشرقوا، وتقول لهم يغربوا كذلك يغربو! احنا ما عندناش أخبار؟ اسمع! بكري كانوا يقولو لينا بلد المليون ونصف مليون شهيد، وغدوة يقولو بلد مليون ونصف مليون متظاهر. هذي مليحة. وعندك الصح. بالصح ما كانوا فيها النسا خلاص؟ سي... سي...كاينات وكانوا موجودات، بالصح عددهم قليل. الجبهة انتاع الرجال ما شي انتاع تمسخير. وعلاه؟ والنسا حتى هوما لهم حق. يا أخي نسيتو المجاهدات؟ تعرفوا؟ والله غير سمعت العجوزة اليوم تقول للشيخ! نوض، نوض، واش راك الدير؟ هيا نوض روح مع خوتك. وشافت في وقالت : انت كاع ما نحتاج نوصيك. تكلمت معاي ومع الشيخ وقالت لينا : هيا يا رجال روحو شوفو خوتكم. واه.. انتوما لي شقيتوا على البلاد وتمحنتو جبتوا الاستقلال، عيب عليكم تْخَلُّوها للجايحين.. هيا، روحو إلا لقيتو غرابة ما عندهم فين يمشو جيبوهم يتغداو في الدار. وأضاف المتكلم وكان أستاذا جامعيا يقيم مع والديه وأسرته في شقة واحدة، يقول مستغربا : وراس ولادي سمعت لعجوز اليوم تقول هذا الكلام. شفتو؟ قلت ليكم بنو هلال يجيو ولاباس. والله غير بنو هلال انتاع الصح. وانت؟ واش تقول؟ ما سمعنا حسك خلاص. لا، لم أقل رأيي لا في تلك الجلسة، ولا في غيرها من اللقاءات التي جمعتني بمعارف وأصدقاء قدامى بعضهم ما زال في السلطة، وبعضهم خارجها ومنهم من هم في الجبهتين، عدا عن الآخرين الموزعين بين الروابط والأحزاب والهيئات الجديدة. لم أقل رأيي، لأن مهمتي تنحصر في نقل آراء الآخرين، وآراء الآخرين، بدت مضطربة ومشوشة، على الأقل في تلك الأيام. وأكبر دليل على هذه الاضطرابات والتشويش، هو موقف هؤلاء الأصدقاء الذين نقلت نتفا من حواراتهم، بالدارجة، نقلا يكاد يكون حرفيا حرصا على توصيلها بكافة تلويناتها وظلالها وإيحاءاتها. في اليوم السابق لمسيرة الجبهة، كان هؤلاء الأصدقاء باستثناء واحد من بينهم واثقين من أن جبهة التحرير الوطني لن تجمع سوى بضعة آلاف من المتظاهرين، أما في اليوم التالي، فقد كانت المواقف مختلفة. نعم، حصل انفجار فعلي في الحياة اليومية، بعد قيام مسيرة جبهة التحرير الوطني الجزائري، التي أعادت الثقة إلى نفوس مئات آلاف المناضلين. كان هناك تخوف حقيقي من أن يؤدي الفراغ الناجم عن غياب جبهة التحرير الوطني إلى خلق ظروف ملائمة لمواجهة بين الجيش الذي لا يزال عصب السلطة، والإسلاميين الذين كانوا يبدون وكأنهم القوة الصاعدة التي لا يمكن أن تعترض سبيلها أي قوة أخرى. ثم جاءت المسيرة الأخيرة في السلسلة، أي تلك التي نظمتها جبهة القوى الاشتراكية بزعامة السيد حسين آيت أحمد، واختلفت الآراء في تقدير عدد الذين شاركوا فيها، تماما مثلما حدث في سابقاتها، ولكنها اتفقت على اعتبارها لا تقل أهمية عن الأخريات. والملفت للنظر هو أن مسيرة جبهة القوى الاشتراكية التي وقعت يوم 31 مايو عبرت عن جزائر أخرى، مختلفة عن تلك التي أبرزتها الجبهة الإسلامية للإنقاذ وجبهة التحرير الوطني، وبدت من خلال جمهورها وشعاراته أقرب إلى مسيرة الديمقراطيين التي شهدتها العاصمة في العاشر من شهر مايو : لقد كانت المرأة حاضرة فيها سواء كمشاركة مباشرة في صنع الحدث، أو كإشكالية مطروحة على المجتمع، من خلال المطالب والهتافات والشعارات واللافتات. كان هناك شعار «دير بالك على اختي» الذي لم نشاهده ولم نسمع به في أي مسيرة أخرى، وكان هناك شعار «من طنجة إلى طرابلس ومن نواكشوط إلى إيليزي، شعب واحد» وليليزي هو الاسم الذي تحمله ولاية مترامية الامتدادات في أقصى الجنوب الشرقي الجزائري، على تخوم النيجر ومالي. إنها منطقة جميلة رملية تقطنها عشائر الطوارق الأمازيغية. وقد أكد لنا السيد حسين آيت أحمد أن ذلك الشعار كان تلقائيا كتبه مناضلون من حزبه على لافتة رفعوها ونالت إعجاب الجميع، ولابد من الإشارة إلى أن جميع الأحزاب الأخرى بدءا من الجبهة الإسلامية للإنقاذ إلى جبهة التحرير الوطني مرورا بالأحزاب الديمقراطية التي نظمت مسيرة العاشر من مايو، هذه الأحزاب كلها لم ترفع أي شعار أو هتاف يتصل من قريب أو بعيد بالمغرب الكبير. إن هذه الميزة ليست أمرا هينا، بل لعلها كافية لإبراز الهوية الحقيقية للسيد حسين آيت أحمد وحزب جبهة القوى الاشتراكية الذي يقوده. ومن مفارقات الوضع السياسي الحالي في الجزائر أن أحزابا مثل الجبهة الإسلامية للإنقاذ وجبهة التحرير الوطني وحزب الطليعة الاشتراكية، غيبت أو تجاهلت، إما بحكم الإهمال أو بفعل اختياري مسبق، أي انشغال مغاربي من لافتاتها وشعاراتها، وهي أي هذه الأحزاب، ما هي في إيديولوجيتها الثورية، في حين أن حزب القوى الاشتراكية انفرد من دونها بطرح شعار مغاربي أعاد إلى الأذهان، ولو للحظات قصيرة وعابرة، حقيقة انتماء الجزائر المغاربي. على عكس الأحزاب الأخرى : حزب جبهة الإنقاذ، وحزب الطليعة الاشتراكي وحزب جبهة التحرير الوطني التي استفادت بصورة أو بأخرى من إمكانيات الدولة لنقل أنصارها إلى العاصمة، اعتمد حزب جبهة القوى الاشتراكية على إمكانياته الذاتية لتجميع مناضليه والعاطفين عليه، وعلى عكس تلك الأحزاب التي تولت أجهزة الإعلام تغطية مسيرتها بدرجات متفاوتة من الحماسة والموضوعية، حصل تعتيم إعلامي مطلق على مسيرة 31 مايو، وهو أمر فسره المراقبون بأنه يجسد عودة «الرقابة الذاتية» أو «الرقابة» بكل بساطة إلى أجهزة الإعلام. وقد أثار هذا التصرف المجحف ثائرة الصحفيين الجزائريين، واضطرت إدارة التلفزة إلى نشر بيان في الموضوع تفسر فيه «تعتيمها» على حزب حسين آيت أحمد، بأنه ناجم عن رغبتها في عدم التأثير على مسار الحملة الانتخابية الجارية. لكن هذا التفسير لم يقنع أحدا على الإطلاق بل إنه أضعف المصداقية الجديدة التي بدأت التلفزة تكتسبها بفضل برامجها الإخبارية والسياسية الجريئة. مسيرات الجبهة الإسلامية للإنقاذ (20 أبريل) والأحزاب الديمقراطية (10 مايو) وجبهة التحرير الوطني (17 مايو) وأخيرا جبهة القوى الاشتراكية، كشفت للجزائريين والجزائريات الذين شاركوا فيها، كما كشفت للمشاهدين الذين رأوها في الخارج، ولاسيما بفرنسا بلدان المغرب العربي، وجود جزائر أخرى جديدة، متنوعة مختلفة، عن تلك التي كانوا يتصورونها. أما المراقبون الذين تابعوها مباشرة! مثلنا، فقد كشفت لهم شيئا آخر أعمق بكثير وأكثر ثراء وخصوبة. لقد رأينا على الطبيعة، ميلاد تجربة ديمقراطية فعلية. إنني أتحدث هنا بالضبط عن تلك الفترة الفاصلة بين المسيرة الأولى، مسيرة الجبهة الإسلامية للإنقاذ في العشرين من شهر أبريل الماضي، ومسيرة جبهة التحرير الوطني في السابع عشر من مايو. وأحصر معالجتي دائما في تلك الفترة الزمنية الضيقة لأنها تمثل في اعتقادي قمة التحول الديمقراطي في المغرب الأوسط. لماذا؟ أجيب بكل بساطة لكون المجتمع المدني، استطاع خلال ذلك الشهر، أن يعبر في الشارع، عن قواه، وأفكاره واختياراته، من دون أن تمنعه الدولة أو تحاصره. حقا، إن الدولة كانت موجودة، وتدخلت بواسطة قنواتها وأجهزتها ووسائلها المختلفة، ولكنها بقيت في الظل. وكون الجزائر العاصمة شهدت في شهري أبريل ومايو مسيرات سياسية أربع شارك في مجموعها وفي أقل تقدير مليون ونصف مليون متظاهر، بسلام وهدوء ومن دون حصول أدنى شغب أو تكسير أو تخريب، أمر مثل بلا جدال ذروة الوعي السياسي والتطور الحضاري لهذا البلد، وكون الدولة سمحت من جهتها، بهذه المسيرات ولم ترفقها بتظاهرات القوة واستعراض العضلات المألوفة في مثل هذه الحالات، أمر يكشف عن حالة جديدة. قطعا أن هناك أشخاصا سوف يقولون بأن الدولة لم تكن تستطيع أن تفعل غير الذي فعلته، لأن الشارع الجزائري غضبان، ملتهب، وهي تخشى من مواجهته، ولكنني، بعد الذي رأيته رأي العين، أميل إلى الظن بأن الدولة الجزائرية، في تلك الفترة الزمنية التي أشرت إليها، كانت تعرف ما تريد تماما، وأنها لعبت بمهارة «لعبة الاستغماية» أو «لعبة القط والفأر»، مع أطراف المجتمع السياسي الجديد، لقد ظهرت الدولة في الفترة السابقة لتلك المسيرات، وكأنها غير موجودة، وتركت الميدان فارغا لخليط من الجماعات، كانت تصول وتجول، وتتدخل في الصغيرة والكبيرة، وكان الناس ينسبون كل ما تقوم به من مبادرات إلى «الخوانجية» أو «التراباندية»... طوال عام 1989، أي السنة التالية لخريف الغضب، وطوال الشهور الأولى من السنة الجارية، كانت وكالات الأنباء تحمل إلى العالم كله يوميا، وفي أغلب الأحيان نقلا عن وكالة الأنباء الجزائرية الرسمية نفسها أنباء تتحدث عن الصدامات والمواجهات التي تحصل بين هذه الجماعات وبين بعض المواطنين، أو رموز الدولة. كنا نسمع يوميا عن معارك مع «التراباندية» في هذه الجهة أو تلك من البلاد، عن هجمات على المحاكم، ومراكز الشرطة، وعن اعتداءات على الممتلكات والأشخاص، وعن قرارات محلية بمنع المسيرات، وعن اقتحامات صاخبة للحانات، وعن مطاردات للنساء، وعن أشياء أخرى كثيرة، رسخت الاعتقاد لدى المواطن الجزائري، بأن دولته صارت عاجزة عن النهوض بمهامها البسيطة في حفظ النظام والأمن العموميين. «تصوروا -يقول لنا موظف سام- إن موضة اقتناء الكلاب، كلاب الحراسة، انتشرت بالجزائر في شكل مهول، نتيجة انعدام الأمن، وأن اقتناء الأسلحة الفردية توسع أيضا، وأن بعض النساء أصبحن يحملن معهن قنابل أو مضخات دخانية للدفاع عن النفس. يحدث ذلك كله والدولة غائبة. لقد تحولت بلادنا إلى غابة حقيقية يتحتم على كل واحد فيها أن يدافع عن وجوده بوسائله الخاصة». ولست أعرف مقدار المبالغة ومقدار الصواب في هذا الكلام، لكن الذي لمسته أن الوضع أصبح لا يطاق عشية انطلاق المسيرات. إن انهيار المعنويات وصل إلى مستوى بعض الوزراء. سألت أحد الوزراء عن رأيه في الحكومة فقال لي ضاحكا : ما هي شي حكومة، ولكنها حشومة، تصور إني أحتفظ بعدد الجريدة الذي يضم صور الوزراء وأعود إليه يوميا قبل الحضور إلى الوزارة لتذكر الأسماء والوجوه.. ورغم أنني قد أستطيع أن أضع هذه «الفتلة» على حساب الروح الفكاهية للوزير. فإنني بعد التأمل، وجدت فيها تعبيرا دراميا عن حالة التدهور المعنوي الذي وصلت إليه الأوضاع، ثم لمست فيها جانبا إيجابيا هو هذه الصراحة المحرجة في إصدار الأحكام على الأشخاص والنظريات والتجارب، وفي الجهر بها من دون تردد أو خلفيات. وهذه ظاهرة جديدة تمام الجدة في الجزائر. ولست على يقين من أنني، بعد كل ما شاهدته وسمعته، أملك تفسيرا لتدهور صورة الدولة لدى المجتمع المدني وحتى لدى بعض الوزراء المسؤولين. ولكنني فاجأت نفسي ذات يوم وأنا أُرَدِّدُ : «الدولة إنجاز حضاري عظيم والديمقراطية وردة متوحشة تحتاج الكثير من العناية والرهافة والوقت أيضا»، قلت هذا كله في سريرتي وأنا عائد من سهرة ضمت عددا من رموز نخبة المجتمع السياسي والفكري في بيت أحد السفراء السابقين، وسمعت خلالها محاكمة قاسية، متشائمة للنظام. سمعت أحد الحاضرين يقول في ألم : «يا أخي جماعتنا راهم دكدكوا (أي كسروا) الاشتراكية وخايف لا يكسروا الديمقراطية ويديونا معاهم في داهية». والسؤال : هل كل ما حدث بدءا من خريف الغضب، وحتى موجات المسيرات الأخيرة مبرمج؟ إنني لا أطمئن إلى ذلك النوع من التفسير البوليسي للتاريخ، أي تلك الرؤية البسيطة، التي تبحث عن أيد خفية، تتلاعب بالأفراد والجماعات، وتحرك مثل ما يحرك المخرج الدمى فوق خشبة مسرح العرائس. كما أنني لا أطمئن إلى نظرية المؤامرة الخارجية أو الداخلية، ولا إلى التواطؤ بينهما لتفسير ظاهرة التحول المعقد، المتعدد الأوجه الذي تعيشه الجزائر. ثم إنني أنفر بالطبع من محاولات التفسير المفرطة في عقلانيتها وشموليتها، وأرى أن الجوانب «العشوائية» و«الاعتباطية» و«المجانية» و«المسرحية» يجب أن تؤخذ في الاعتبار عند التصدي لحدث كبير، مثل هذا الذي يحصل فوق أرض المغرب الأوسط، ألا وهو الممارسة الديمقراطية. في ضوء هذه التحفظات، يخيل إلي أن الدولة الجزائرية، بمؤسستها المركزية، وتحديدا رئاسة الجمهورية وقيادة الجيش والوزارة الأولى والأمانة العامة للحزب، بكل ما لهذه المواقع من شبكات وخيوط وامتدادات داخل الإدارة وأجهزة الأمن العسكري والشرطة والحزب والإعلام، ربما تعمدت في الفترة الماضية ترك الحبل على الغارب «للقوى الأخرى»، أو حسب تعبير سمعته من وزير سابق «خلاوهم يشطحوا ويردحوا حتى نشوفو لوين راهم يودونا». ولعل حالة القرف التي أسفرت عنها «مرحلة السيبة وغياب الدولة»، هي التي دفعت المجتمع المدني للخروج إلى الشارع بتلك الكثافة والحرارة اللتين شرحناهما، ولعل الانتخابات البلدية والولائية الأخيرة أن تدشن مرحلة جديدة تمهد لما بعدها من إصلاحات يفترض أن لا تحتاج بعدها الدولة إلى ممارسة لعبة «القط والفأر»، مع القوى السياسية الصاعدة. الجزائر في مفترق الطرق - مشاهدات ومسموعات 4 - تفسيرات شريف بلقاسم ومحمد الصالح اليحياوي لهزيمة الجبهة «لا تنس قصيدة ابن زريق البغدادي المنشورة في كتاب : جواهر الأدب للهاشمي... تذكرها جيدا وأنت تكتب عن حالنا واستحضرها خصوصا حين معالجة الكارثة الكبرى التي حلت بجبهة التحرير الوطني». هكذا خاطبنا السيد عبد العزيز بوتفليقة وزير خارجية الجزائر السابق. كنا قد أمضينا مع الرجل الذي تولى رئاسة الدبلوماسية الجزائرية في عهد هواري بومدين، ساعات طوالا يوم انتخابات الثاني عشر من يونيو، صحبة عدد من أعضاء اللجنة المركزية ظلوا يضربون أخماسا في أسداس لمحاولة معرفة موجبات التحول الخطير الحاصل لحزبهم وبلادهم. لم تكن النتائج قد أعلنت بعد مساء ذلك اليوم، ولكن الأصداء والانطباعات الأولى، الآتية من مختلف المكاتب، لم تترك مجالا للشك، في أن هذه الاستشارة الأولى من نوعها، ستنتهي بهزيمة تلك الحركة الوطنية التي قادت الجزائر إلى الاستقلال، وحكمتها بعد ذلك حتى أحداث خريف الغضب الدامي (أكتوبر 1988). خلال الأيام السابقة للانتخابات البلدية والولائية، رافقنا رئيس الدبلوماسية الجزائرية السابق في جولة داخل ولايتي الجزائر العاصمة والبليدة المجاورة لها، وحضرنا معه اجتماعات مغلقة خاصة بأعضاء الحزب في كل مدن البليدة والحطاطبة والقليعة وسيدي بوسماعيل، حاول أثناءها أن يرفع من معنويات المناضلين الهابطة، مكررا أن «اللي ضرْبَتو أيْدو ما يحس بالوجع واللي غلبو الصندوق ما تغْلبْ»، وذلك في إشارة واضحة إلى أن جبهة التحرير الوطني التي قادت البلاد إلى الاستقلال الوطني وانتزعته بالكفاح المسلح، لا ينبغي أن تتأثر بالضربة القادمة، سيما وأنها، أي الضربة تأتي من جبهة الإنقاذ الإسلامية، وهي في صورة ما، امتداد طبيعي لجبهة التحرير الوطني. كان السيد عبد العزيز بوتفليقة، يقوم بجولته الانتخابية تلك، غداة حصول ذلك المهرجان الذي نظمته جبهة الإنقاذ الإسلامية، بملعب الخامس من يوليو، وتحدث فيه زعيماها الشهيران، أي الشيخ عباسي مدني الناطق باسمها والرجل الثاني في قيادتها، أي الشيخ الشاب علي بلحاج. في ذلك المهرجان، رفع الناطق باسم جبهة الإنقاذ الإسلامية بصره إلى الفضاء، وأعلن أنه رأى اسم الله مكتوبا في السماء، وقال : «إن أي شخص لا يصدقه لابد أن يكون ضعيف الإيمان». وفي الأيام التالية، وزعت بالجزائر صورة على أوراق بيضاء مكتوب فيها اسم «الله»، وزعت على أنها تلك الصورة التي شاهدها الشيخ عباسي مدني. وقال زعيم الجبهة الإسلامية للإنقاذ إن سحابة رافقته من الجزائر العاصمة إلى مدينة بلعباس في الجزائر وقرأ فيها نفس الكلمة. «أرأيت يا صديقي كيف نحن؟ مصيبة! هذه مصيبة كبرى، مازلت أذكر -يقول السيد عبد العزيز بوتفليقة- كيف قالوا لنا في منتصف الخمسينات إنهم رأوا الملك محمد بن يوسف في القمر. كنت يومها في الطريق الذي يسمى اليوم شارع الفداء بالدار البيضاء، وكان الناس يتدافعون بالمناكب وأبصارهم معلقة بالسماء. وكنت ما أزال فتى يافعا، وقد دفعني أحد المارة وألح على أن أقلب نظري في السماء وسألني : هل رأيته؟ وقلت له كلا! لم أر شيئا، وعلى كل حال كانت «رؤية»، الملك الشرعي المغربي في الفضاء، تعبيرا عن حالة من الانفعال الجماعي القوي تصُبُّ في مناخ التعبئة العامة ضد الاستعمار الفرنسي. أما الاستنجاد بالسماء هذه المرة، عندنا بالجزائر، فهو من باب الشعوذة لا أكثر ولا أقل. إنها الشعوذة في خدمة السياسة». وللتذكير، فإن السيد عبد العزيز بوتفليقة، وهو من مواليد مدينة وجدة المغربية، كان مناضلا في صفوف الحركة الوطنية وصديقا ورفيقا للمرحوم عمر بن جلون ولعدد كبير من المناضلين والمسؤولين المغاربة. وقد ترك مقاعد الدراسة على إثر الإضراب العام الذي شنه الطلاب والتلامذة الجزائريون عام 1956، استجابة لنداء جبهة التحرير الوطني، والتحق بصفوف جيش التحرير، وظل يقاتل داخل وحداته إلى أن حصلت البلاد على استقلالها، عام 1962. كان يومها برتبة رائد، وكانوا يسمونه الكومندان عبد القادر. وفي نطاق تسوية النزاع الناشب آنذاك بين الحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية بزعامة الدكتور يوسف بن خدة، والقيادة العامة لجيش التحرير الوطني بقيادة العقيد هواري بومدين، ذهب عبد العزيز بوتفليقة، بصفته عضوا في الأركان العامة، إلى فرنسا من أجل إجراء مقابلات وحوارات مع الزعماء الخمسة (أحمد بن بلة، حسين آيت أحمد، محمد بوضياف، محمد خيضر ورابح بيطاط) لمعرفة رأيهم، وعاد من رحلته تلك ليقدم تقريرا سياسيا يوصي فيه بالتحالف مع الجيش وأحمد بن بلة. وكان ذلك التحالف الإطار الذي سويت بموجبه أزمة صيف 1962، كما كان أساسا لوصول أحمد بن بلة وهواري بومدين إلى السلطة. ثم كان الخلاف الذي انفجر بين أحمد بن بلة والعقيد هواري بومدين، حول عبد العزيز بوتفليقة، بمثابة الشرارة التي أدت إلى انقلاب التاسع عشر من يونيو 1965. لقد تولى السيد عبد العزيز بوتفليقة وزارة الخارجية وعمره لا يتجاوز السادسة والعشرين، وبقي فيها حتى وفاة بومدين (دسمبر 1978). معرفتنا بالرجل تعود إلى فترة الستينات، وقد دخلنا معه الجزائر من الحدود المغربية، وفي موكب الرئيس أحمد بن بلة خلال النصف الأول من شهر يوليو سنة 1962. دخلنا يومها من وجدة إلى مغنية فتلمسان، وكانت تلك الرحلة بداية لرفقة طويلة، ماتزال مستمرة، رغم الخلافات التي قد تقوم بيننا حول العديد من المسائل. عرفنا الرجل وزيرا للخارجية في ذروة إشعاع الجزائر، وعرفناه رئيسا للجمعية العامة للأمم المتحدة، ورأيناه وهو يوشك أن يصعد إلى قمة الدولة غداة وفاة هواري بومدين، ثم رأيناه لاجئا في شوارع باريس، يتهرب من لقائه عدد كبير من الذين كان وليا لنعمتهم. كانوا يتهربون منه وينتقلون من الرصيف الذي يجدونه فيه إلى رصيف آخر، وكان هو يبتسم ويستغرب. حدث ذلك في الفترة التالية لغياب هواري بومدين وضمن محاولة نظمتها مجموعة من العناصر النافذة للإساءة إليه. والغريب في الأمر، أن بعض هذه العناصر مدينة بوجودها له ولكنهم قلبوا له ظهر المجن. ولقد سمعناه يردد أكثر من مرة : «واتق شر من أحسنت إليه». ثم عاد عبد العزيز بوتفليقة إلى الجزائر، وظل بعيدا عن الأضواء، يرفض الإدلاء بالتصريحات ويرفض القيام بأي نشاط سياسي، إلى أن انفجرت أحداث خريف الغضب الدامي، ودفعته لأن يشارك في إصدار النص المعروف ببيان الثمانية عشر، وانتهى به الأمر إلى المشاركة في المؤتمر الاستثنائي الأخير حيث وقع اختياره مع آخرين في اللجنة المركزية الجديدة. وها نحن ننزل عند رغبته الودية، فنستشهد بقصيدة ابن زريق البغدادي، لدى معالجتنا لإشكالية حزب جبهة التحرير الوطني. يقول ابن زريق البغدادي : لا تعذُليه فإنّ العذَل يوجعُه قد قُلت حقا ولكن ليس يسمعُه جاوزْت في لومه حدّا أضرّ بهِ من حيث قدَّرت أن اللّوْم ينْفعُه فاستعملي الرّفق في تأنيبه بدلا من عُنفه فهُو مضنى القلْب موجعُه القصيدة طويلة، تعد من عيون الشعر العربي، وبيت القصيد فيها هو ذلك الذي يقول فيه الشاعر : أعْطيت مُلْكا فلم تُحسِن سيَاسته كذَلك من لا يسُوسُ الملك يَخْلَعُه نعم، أعطيت الجبهة بالفعل «ملكا فلم تحسن سياسته»، وكان طبيعيا أن تؤول الأمور إلى ما آلت إليه. هذا على الأقل، هو التفسير المجازي الذي سمعناه من عدة وزراء ومسؤولين سابقين وحاليين في الحزب والدولة، لكن التفسير المجازي يبقى قاصرا عن الإلمام بمجمل الأسباب التي أدت إلى هزيمة الثاني عشر من يونيو 1990. هناك أكثر من رأي حول هذه النقطة. فالسيد الشريف بلقاسم الذي تحمل مسؤولية الأمانة التنفيذية لجبهة التحرير الوطني، غداة الإطاحة بحكم الرئيس أحمد بن بلة يقول في هذا الصدد : الجبهة مظلومة. إنها لم تحكم البلاد أبدا، لا في عهد أحمد بن بلة ولا في عهد هواري بومدين، ولا حتى في أيام الرئيس الشاذلي بن جديد، لقد كانت السلطة الحقيقية باستمرار، في يد الرئيس. الرئاسة كانت صاحبة القرار في كل شيء. وعلى عكس ما حدث في البلدان الاشتراكية، أو في بعض البلدان العربية مثل سوريا والعراق، حيث وجد الحزب قبل أن يصل إلى السلطة، ثم عمل بعد وصوله إليها على احتلال المواقع الإستراتجية في الدولة والجيش والمجتمع، لم يكن بالجزائر حزب حقيقي، وإنما كان هناك الجيش. والجيش هو الذي وصل إلى السلطة عام 1962، وهو الذي اختار أحمد بن بلة، رئيسا للدولة قبل أن ينتخبه الشعب. ثم إن الجيش هو الذي أسقط أحمد بن بلة وجاء بهواري بومدين إلى قمة الدولة في عام 1965، والجيش هو الذي فرض الشاذلي بن جديد في شتاء 1978 خلفا لهواري بومدين. ويتابع الشريف بلقاسم كلامه قائلا : كانت جبهة التحرير الوطني، في كل المعارك الحاسمة رديفا مكملا للجيش، والمؤتمرات التي عقدتها سواء مؤتمرها التأسيسي الأول في وادي الصومام يوم 10 غشت 1956، ومؤتمرها الثاني في ربيع 1964، بالجزائر العاصمة، أو المؤتمر الاستثنائي بعد وفاة هواري بومدين، أو المؤتمرات اللاحقة في ظل حكم الرئيس الشاذلي بن جديد، كانت هذه المؤتمرات كلها ثمرة لتوازن القوى المرحلي القائم آنذاك في القطاعات والأجنحة والاختيارات الجهوية والإيديولوجية والاجتماعية، داخل جيش التحرير الوطني، ثم داخل الجيش الوطني الشعبي، لذلك لم تحل هذه المؤتمرات ولا اللجان المركزية ولا المكاتب السياسية المنبثقة إشكالية الصراع على السلطة. «وهذه ظاهرة عامة ملازمة لتاريخ جبهة التحرير الوطني منذ نشوئها في أول نوفمبر 1954 إلى غاية انعقاد مؤتمرها الأخير. لقد انعقد مؤتمر الصومام، أي المؤتمر التأسيسي الأول في وقت احتدم فيه الصراع بين الداخل والخارج، وانبثقت عنه لجنة التنسيق والتنفيذ التي تعطي الأولوية للداخل على الخارج وتمنح الأسبقية للسياسي على العسكري»، ولكن الأزمة بقيت قائمة وانفجرت عام 1958، فيما عرف بمؤامرة «الكولونيلات». وانفجرت الأزمة مجددا في مجلس قيادة الثورة بطرابلس بين الحكومة المؤقتة وقيادة الجيش، قبيل الاستقلال، وانتهت بانتصار جناح الجيش-بن بلة على الحكومة المؤقتة. ثم انعقد المؤتمر الثاني للجبهة في ربيع 1964، مع ظهور المؤشرات الأولى للصراع بين أحمد بن بلة وهواري بومدين، وانبثقت عنه لجنة مركزية، لم تلعب أي دور في تسوية الأزمة القائمة يومها، وهي أزمة حسمها الجيش بحركة التاسع عشر من يونيو 1965. والأمانة التنفيذية التي كنت على رأسها، والتي يفترض أنها هي قيادة الحزب، لم تقم بأي دور يذكر في أزمة خريف 1967 التي نشبت بين العقيد هواري بومدين، رئيس مجلس الثورة والعقيد الطاهر الزبيري رئيس هيئة الأركان العامة، والجهاز المركزي للحزب الذي تولى مسؤوليته المرحوم قايد أحمد، لم يكن له أي دور يذكر في أزمة السبعينات، ويمكنك أن تسأل السيد محمد الصالح اليحياوي، الذي تولى مسؤولية الحزب بعد ذلك، فسوف تجده متفقا معي على طول الخط. وقد قال لنا السيد محمد الصالح اليحياوي، الذي تحمل في السنوات الأخيرة في عهد بومدين، مسؤولية حزب جبهة التحرير، كلاما يصب في نفس الاتجاه القائل بأن جبهة التحرير لم تتول الحكم بالمعنى أو بالصورة التي تعطيها عنها وسائل الإعلام : «في الواقع -يقول السيد محمد الصالح اليحياوي في حديثه إلينا- إنني حين قبلت أن أتولى مسؤولية الحزب، بعد المصادقة على الميثاق الوطني، كانت لدي فكرة واضحة عما يجب عليَّ أن أنجزه. كنت أتصور أن مهمتي تنحصر في الإعداد لمؤتمر الحزب، الذي يجب عليه أن ينتخب قيادة جديدة. وقد أوضحت للمرحوم بومدين شخصيا أنني لا أريد المساهمة في بناء حزب صوري، يكتفي بالتصفيق لقرارات السلطة ومبادراتها. وجرى الاتفاق على أن نبدأ الإعداد لمؤتمر الحزب بتنظيم مؤتمرات للمنظمات الجماهيرية، مثل الاتحاد العام للعمال الجزائريين، الاتحاد الوطني للفلاحين، الاتحاد الوطني للنساء الجزائريات والاتحاد الوطني للشباب والمنظمة الوطنية لقدماء المجاهدين. وجاءت الوفاة المفاجئة للرئيس هواري بومدين لتضع حدا لهذه المحاولة». ويضيف السيد محمد الصالح اليحياوي : ومازلت أذكر أننا اجتمعنا في مجلس قيادة الثورة بعد وفاة الرئيس هواري بومدين واستقر رأينا على أن تتم خلافته وفقا لمقتضيات الدستور، أي أن يتولى السيد رابح بيطاط، بصفته رئيسا للمجلس الوطني الشعبي (البرلمان)، منصب رئيس الدولة مباشرة، ويمارس الصلاحيات المنصوص عليها، في انتظار عقد مؤتمر عام للحزب يقوم باختيار المرشح للرئاسة باسم الجبهة، ويقدمه إلى الشعب لينتخبه. كان ذلك هو القرار الذي توصلنا إليه جميعا، وقد كلفت مع الأخ الشاذلي بن جديد، لتبليغه إلى السيد أحمد بيطاط، باسم مجلس الثورة. وبالفعل طلبنا موعدا مع رئيس المجلس الوطني الشعبي وأبلغناه قرارنا ووافق عليه من دون تردد. وافترقت مع الشاذلي بن جديد على أساس أن نلتقي مرة أخرى، مع أعضاء مجلس الثورة لنتابع مداولاتنا من أجل معالجة مشاكل المرحلة الانتقالية. وفي اليوم التالي، اتصل بي الشاذلي بن جديد هاتفيا وقال بالحرف : «يا أخي، راهُمْ الجماعة فرضُوا عليَّ باش نكون رئيس». وعبارة «الجماعة» الواردة في حديث السيد محمد الصالح اليحياوي تعني جهاز الأمن العسكري الذي كان يديره آنذاك العقيد قاصدي مرباح. «نعم، لقد اخترنا أن يتولى الشاذلي بن جديد رئاسة الدولة بعد وفاة الرئيس هواري بومدين»، ذلك ما أكده لنا السيد قاصدي مرباح أثناء لقاء مطول أجريناه معه في منتصف شهر مايو الماضي، أي قبيل إجراء الانتخابات البلدية والولائية الأخيرة وانهزام جبهة التحرير الوطني فيها. وقد قال الرجل كلاما أكثر صراحة في الجلسة المغلقة التي عقدتها اللجنة المركزية أثناء اجتماعاتها الأخيرة، بقصر الأمم في قصر الصنوبر. قال قاصدي مرباح كلاما يفهم منه أنه لعب دورا حاسما، بصفته مديرا للأمن العسكري، في تنصيب الشاذلي بن جديد رئيسا للجمهورية وأمينا عاما للحزب. «كان بإمكاننا أن نختار غيره، ولكننا فضلناه على الآخرين لأسباب كثيرة». ومن دون أن نخوض في التفاصيل، تفاصيل الدوافع والحسابات والتصورات التي أمْلَتْ على الأجهزة النافذة في الجيش، وفي مقدمتها الأمن العسكري، اختيار الشاذلي بن جديد، خليفة لهواري بومدين، نكتفي بالإشارة إلى أن القرار الحاسم، كان جاهزا ،كما رأينا من خلال هذه الشهادات، حتى من قبل أن يجري التفكير في تحديد تاريخ معين لانعقاد مؤتمر الحزب. اسمع! عندي لك «سْكوب Scoop» (أي خبر خاص) «راهُو محمد الشريف شافْ عباسي مدني وقالوا ياودي راك غالط، وتحسبْ في راسك غادي تحكم البلاد؟ أنت راني بْنِيتْ الحزب، واخْتَرْتْ البرلمان والمجالس البلدية والولائية، وما كانتْ عنْدي حتَى سُلْطة، عنداكْ تغلطْ وتصدَّق اللعبة». الصديق الذي نقل لنا الكلام، عن السيد محمد الشريف مساعدية، المسؤول السابق لجبهة التحرير الوطني، هذا الصديق وزير وسفير سابق، جاء حديثه إلينا في معرض حوار مرسل استمر عدة ساعات غداة انتصار جبهة الإنقاذ الإسلامية. إنها شهادة أخرى تندرج في سياق التفسيرات السابقة القائلة بأن جبهة التحرير الوطني، كانت دائما أداة مسخرة في يد رئاسة الجمهورية. ويأتي مثل هذا الرأي وهذا التفسير في صيغ مختلفة، على لسان كثير من الشخصيات الفكرية والسياسية التي استمعنا إليها في الجزائر وباريس. وهذا التفسير يطرح على المراقب الراغب في فهم الحدث السياسي الجزائري إشكالية معقدة، يمكن صياغتها في سؤال بسيط : هل تشكل الهزيمة الأخيرة حكما على النظام كله، بما فيه من رئاسة وحزب، أم أنها تشكل نهاية شبح ووهم، هو حزب جبهة التحرير الوطني؟ إن التداخل القائم بين الدولة-الحزب، والحزب-الدولة، أمر بديهي لم يكن أحد ينازع في سلامته، قبل أحداث خريف الغضب الشهير. أما بعد ذلك، فقد سارت الأمور سيرا مختلفا، وبدا أن كل طرف من طرفي اللعبة، يريد التنصل من المسؤولية ليحملها للآخر. وهذا التنصل من المسؤولية، هو الطابع البارز في جدل الطرشان القائم بالجزائر حاليا، بين أطراف اللعبة السياسية الرسمية، وهو الذي يفسر صعوبة فرز من مع من؟ ومن هو ضد من؟ لقد حصل خلل ما في اللعبة كلها لا نستطيع أن نحدد تاريخه بالضبط، ذلك في الأقل، هو رأي وزير سابق يتابع التطورات عن كثب ويحاول فهم الأمور فهما عقلانيا : الأمور تسير عندنا بطريقة عجيبة، منذ أن أقر مبدأ التعددية الحزبية وحزب جبهة التحرير الوطني الذي يفترض أنه الحزب الحاكم، غائب عن الساحة السياسية والإعلامية. ألم تلاحظ أنه طوال السنة الماضية، لم يظهر ولا مرة واحد على الشاشة الصغيرة؟ لقد أصبحت التلفزة الرسمية الجزائرية طوال الفترة السابقة لمسيرة 17 مايو جهازا يخدم المعارضة علنا. هكذا أتيحت الفرصة للأحزاب وشخصيات نكرات أن تتحدث من خلاله إلى الناس، وأن تعمل معاول الهدم والتجريح والتشريح في كل ما أنجزته الجبهة. «وأنا -يقول الوزير السابق- لست مقتنعا بتلك الفكرة التي صدرت عن الأخ عبد الحميد المهري وبررت الغياب السياسي والإعلامي، بأنه ناتج عن قرار واع يهدف إلى ترك المجال مفتوحا أمام الأحزاب الجديدة. ويهدف بالخصوص إلى عدم تمكين هذا الحزب من اتهام الجبهة بالاحتكار. كلا ليس هذا التفسير صحيحا ولا هذا الموقف، إن صح أنه موقف مدروس، تصرفا صائبا. إنني أرى أنه موقف خاطئ مئة بالمئة. ولا تعنيني المبررات التي يسوقها بعض الإخوة لشرح غياب الحزب الحاكم، وعدم استخدامه لأجهزة إعلام الدولة في الدفاع عن منجزاته وفي رسم خطة جديدة لتلافي الانهيار الشامل». كانت الموضة خلال الفترة السابقة للانتخابات الأخيرة هي انتقاد جبهة التحرير الوطني. أحد الزملاء العاملين بقسم إعلام الحزب، روى لنا الحكاية التالية : «حين استلم الأستاذ عبد الحميد المهري الأمانة العامة لجبهة التحرير الوطني، كان أول قطاع اهتم به هو جهاز الإعلام. وقد عقد اجتماعات مع الصحفيين الحزبيين، استمع خلالها إلى آرائهم وحاول أن يكتشف معهم الطريقة الأنسب لتطوير صحف المجاهد والثورة الإفريقية والشعب، ولم يتردد بعض هؤلاء الصحفيين في القول بأن أقصر وأبسط وسيلة للوصول إلى الجمهور الواسع هي نقد جبهة التحرير الوطني. ولم تكن مهام الأمين العام للحزب تسمح له بالتفرغ للإشكالية الإعلامية. وقد أُلغيت الدائرة الإعلامية وأصبحت تابعة للعلاقات الخارجية، ولأن الأمين العام بطبعه إنسان مهذب ودبلوماسي، فإنه لم يتدخل كثيرا في شؤون الصحافة الحزبية. ولعل بعض الصحفيين ولاسيما منهم العاملون في المطبوعات الصادرة باللغة الفرنسية، فهموا صمته أو غيابه، على أنه ضوء أخضر يسمح لهم بأن يكتبوا ما يؤمنون به. وهكذا كتب أحدهم مرة مقالا بأسبوعية الثورة الإفريقية يتحدث فيه عن اللوبي البعثي، وآخر يتكلم فيه عن وجود «المنتخبين» أي أنصار التيار الإسلامي، داخل جبهة التحرير الوطني نفسها، وكتب ثالث مقالا يتكلم فيه عن اللوبي «البعثي الهلالي» وكانت نتيجة ذلك كله أن العميد الهاشمي هجرس، عضو المكتب السياسي لجبهة التحرير الوطني، مسؤول العلاقات الخارجية والإعلام، اتخذ قرارا بإلغاء الصفة الرسمية عن جريدة الثورة الإفريقية التي كانت تصدر باعتبارها اللسان المركزي لجبهة التحرير الوطني، فأصبحت توزع بوصفها «مطبوعة صادرة عن جبهة التحرير الوطني». «ولعلك تلاحظ معي-يقول الزميل الجزائري- أن الذين عُينوا مؤخرا على رأس أجهزة الإعلام الرسمية، كلهم من الذين كانوا يقولون بهذا الرأي داخل صحف الحزب. فالسيد عبدو باي مدير التلفزة هو الذي طلب من عبد الحميد المهري السماح له بانتقاد جبهة التحرير في جريدة الحزب، ومحمد حمدي مدير وكالة الأنباء الرسمية الجديد، هو كاتب المقال الشهير عن «الملتحين» داخل الجبهة، والسيد خير الدين عمير الذي اختير لمنصب مدير أسبوعية(Algérie actualité) (الجزائر الأحداث)، كان من كبار منتقدي حزب الجبهة، والروائي «الطاهر وطار» المدير العام الجديد للإذاعة الوطنية، قال قبل أسبوع من تعيينه إن الجزائر «تحكمها عصابة». حقا إن هناك كثيرا من الوقائع المحيرة في سلوك الحزب الحاكم ورموزه الكبار، بدءا من الرئيس الشاذلي بن جديد وانتهاء بأعضاء اللجنة المركزية : الواقعة الأولى هي الطريقة التي دخلت بها جبهة التحرير الوطني المعركة ضد الجبهة الإسلامية للإنقاذ. والواقعة الثانية هي سلوك الرئيس الشاذلي بن جديد طوال الفترة الفاصلة بين المؤتمر الاستثنائي وبين الإنتخابات البلدية والولائية. والواقعة الثالثة هي المبادرات التي اتخذتها حكومة مولود حمروش طوال هذه المدة. والواقعة الرابعة هي ذلك التصريح المثير الذي صدر عن الوزير الأول السابق عبد الحميد الإبراهيمي حول مسألة الرشوة. لقد دخلت جبهة التحرير الوطني المعركة المباشرة ضد الجبهة الإسلامية للإنقاذ في منتصف شهر أبريل حين أعلنت عن مبادرتين هامتين أولاهما وجود نية لديها لتقديم مشروع للإستفتاء ينص على ضرورة إبعاد المساجد عن السياسة، وثانيهما تنظيم مسيرة مضادة في نفس اليوم الذي أعلنت الجبهة الإسلامية للإنقاذ أنها ستنظم فيه مسيرتها التاريخية (20 أبريل) ولكن جبهة التحرير ما لبثت أن تراجعت عن المبادرة التالية، وصمتت عن المبادرة الأولى. وما يزال المراقبون في العاصمة الجزائرية يتساءلون عن الاتجاه الكامن وراء المبادرتين وما يزالون يتساءلون عن القوة الخفية الفاعلة، التي تدخلت لإلغائهما. وهناك روايات وشائعات كثيرة بهذا الشأن، من بينها واحدة تقول إن الوزير الأول مولود حمروش، هو صاحب المبادرتين، وقد طرحهما في المكتب السياسي، وأقنع الآخرين بهما، وربما كما يقول البعض، تحت تأثير «غضبة رئاسية»، فهم منها رئيس الحكومة أن الرئيس الشاذلي بن جديد غير راض تماما عن سلوك قيادة الحزب. تضاف إلى هذه الرواية شائعة أخرى تقول بأن رئيس الدولة هو الذي أوحي بتينك المبادرتين من أجل اختبار قوة الجبهة وتوريطها في استعراض عضلات لا قبل لها به. والذي لا شك فيه أن الرئيس الشاذلي بن جديد تدخل في اللحظات الأخيرة للضغط على جبهة التحرير من أجل إلغاء مظاهرتها المضادة في العاصمة، ولعله تدخل أيضا لتوقيف الجدل الناشب حول علاقة المساجد بالسياسة. لم تنظم جبهة التحرير الوطني المظاهرة المضادة في العاصمة، ولم تتمسك بمشروع الاستفتاء حول العلاقة بين المسجد والسياسة، وإنما اختارت يوم 17 من مايو لتنظيم مسيرة وطنية عبأت لها كافة إمكانياتها واعتبرت غداة وقوعها إيذانا بعودة الحزب الحاكم إلى حلبة الصراع كقوة مهيمنة. لقد أعادت تلك المسيرة إلى نفوس أعضاء الجبهة الثقة في نفوسهم ولعلها رسخت الاقتناع لدى القيادة، بالانتصار المحتوم، في الانتخابات البلدية والولائية القادمة. وبالفعل تصرفت الرئاسة والأمانة العامة للحزب والوزارة الأولى، غداة تلك المسيرة بما يوحي أن النظام كان مطمئنا إلى نتائج المعركة الآتية. فقد قام وفد من اللجنة المركزية لجبهة التحرير الوطني، يقوده الأمين العام عبد الحميد المهري بزيارة رسمية إلى تونس، تحادث أثناءها مع المسؤولين التونسيين وأفهمهم أن الجبهة سوف تفوز في المسابقة الانتخابية ولا داعي للتخوف من صعود التيار الإسلامي. وفي نفس الأسبوع، أدى العميد العربي بلخير الأمين العام لرئاسة الجمهورية زيارة سرية للمغرب، قدم خلالها للمسؤولين المغاربة صورة وردية عن الوضع، وطمأنهم على صلابة الجبهة وقوتها. بموازاة هذه الاتصالات ذات الطابع الإقليمي، اتخذت حكومة مولود حمروش، في نفس الفترة مبادرتين إحداهما سياسة إعلامية والثانية اقتصادية سياسية. أما المبادرة الإعلامية، فتمثلت في إحداث تغيير شامل في إدارات التلفزة والإذاعة الوطنية ووكالة الأنباء الرسمية، وعدد من الصحف والمجلات. وقد رافق هذه المبادرة إلغاء برنامج «أمام الصحافة Face à la presse» الأسبوعي الذي كانت تستضيف فيه التلفزة زعماء أحزاب المعارضة، ولعله من قبيل المصادفة أن الحزب الذي كان مرشحا للكلام في ذلك الأسبوع الذي ألغي فيه البرنامج المذكور، هو حزب الحركة من أجل الديمقراطية في الجزائر بزعامة الرئيس السابق أحمد بن بلة. وقد ذكر لنا أحد الأعضاء القياديين في الحركة من أجل الديمقراطية بالجزائر أن السيد عبد القادر الإبراهيمي، الذي كان يومها مديرا للتلفزة الوطنية، وهو للمناسبة ابن عم الدبلوماسي المعروف الأخضر الإبراهيمي، ذكر لنا أنه تلقى قبل نصف شهر من حدوث تلك التغييرات، تعليمات رسمية تأمره بإلغاء الحصة المخصصة لحزب أحمد بن بلة. والملاحظة أن تلك الفترة، اقترنت بتصعيد واضح في لهجة الخطاب الرسمي تجاه الرئيس السابق، إلى حد أن رئيس الحكومة مولود حمروش، قال لأول مرة وبصريح العبارة في تصريح لصحيفة إيطالية : «إن بن بلة سيُقَدَّم للقضاء إذا عاد إلى الجزائر». لقد اقترنت تلك التعيينات الجديدة على رأس أجهزة الإعلام بعودة الرقابة، أو في الأقل «الرقابة الذاتية Auto-censure» إما كترجمة لتوجهات أو توجيهات رسمية علنية أو ضمنية، وإما كتعبير عملي عن اجتهادات شخصية للمسؤولين الجدد الذين يريدون أن يبينوا أنهم أهل للثقة والمهمة الموكولة إليهم. وكان أول ضحية لهذا التوجه الإعلامي الجديد هو حزب الرئيس السابق أحمد بن بلة الذي مُنعت قيادته من تقديم برنامجها للنظارة ثم حزب جبهة القوى الاشتراكية بقيادة السيد حسين آيت أحمد والذي حُرم المشاهدون أيضا من رؤية وقائع مسيرته الكبرى يوم الواحد والثلاثين من شهر مايو. دخل علينا السيد «عبدو باي» المدير الجديد للتلفزة، صباحا ونحن في اجتماع هيئة التحرير وقال لنا بالحرف : لن نبث شيئا عن مسيرة حسين آيت أحمد. «ذلك ما رواه لنا زميل جزائري يعمل بدار التلفزة الوطنية والحجة، كما يقول الزميل الجزائري، هي تجنب التأثير على الحملة الانتخابية». أما المبادرة الأخرى ذات الطابع الاقتصادي السياسي فتتجلى في الحملة الهائلة التي أعلنتها الحكومة ضد ظاهرة «التراباندو Trabando» أو حركة التهريب. وقد جندت الحكومة في الحرب الشاملة التي أعلنتها على المهربين كل وسائل الشرطة والدرك والجمارك، وظلت التلفزة الوطنية طوال النصف الثاني من شهر مايو، والنصف الأول من شهر يونيو تبث صورا مثيرة عن البضائع المختلفة وملايين الدنانير والفرنكات الفرنسية التي استولت عليها الإدارة من أوكار المهربين. ولأن ظاهرة التراباندو، تمس وفقا للإحصاءات الرسمية، أكثر من مئة ألف شخص منظمين في شبكات قوية تغطي التراب الجزائري كله وتملك امتدادات متابعة في الخارج، فقد أحس بها الرأي العام بأسره وبرزت تأثيراتها القوية في الحياة اليومية للمجتمع برمته، سائق طاكسي قال لنا متذمرا : «يا أخي، حتى الرزق نتاعنا كلاتو الحكومة... أراه الشعب هو اللي يعيش من التراباندو...». وحين قررت الحكومة شن الحرب على المهربين، انعكس تصرفها انعكاسا فوريا على الشارع. لقد اختفت العديد من المواد والسلع التي كان الناس يجدونها في السوق السوداء، اختفت تلك الأشياء بسبب الهلع الذي أصاب شبكات التهريب. ورافقت هذه الحرب قرارات غير شعبية انعكست في تحديد حجم المشتريات الشخصية التي يحق لكل جزائري أن يستوردها مرة واحدة في السنة. وينص القانون الجديد المضاد للتهريب على أن لا تتعدى تلك المشتريات ثلاثة آلاف دينار (أي حوالي خمسمئة دولار). حتى شركة الخطوط الجوية الجزائرية تأثرت رحلاتها الخارجية بالحرب الجديدة ضد التراباندو. وقبل أن تفتح حكومة مولود حمروش معركتها ضد المهربين، كان من الصعب على المسافر الذي لا يعرف شخصا قويا متنفذا في الدولة أو في إدارة الشركة، أن يجد مقعدا على متن أي طائرة جزائرية خاصة إذا كانت وجهته المغرب أو تونس، أو أحد البلدان الأوربية. قال لنا أحد المسؤولين في شركة الخطوط الجوية الجزائرية، بعد مرور أسبوع واحد على تدشين الحملة ضد المهربين : «لقد كان المواطنون الجزائريون يحتجزون التذاكر قبل بضعة أشهر إلى درجة أن خطوطنا كانت كاملة باستمرار، قبل شهر على الأقل. أما بعد الحملة الأخيرة ضد التراباندو، فقد انخفض عدد المسافرين سواء منهم المغادرون أو القادمون بنسبة ثمانين في المئة. كانت لدينا ثلاث رحلات يومية في الاتجاهين بين باريس والجزائر، خفضناها إلى رحلة واحدة. ولا شك أن لهذا الهبوط في عدد المسافرين سببا نفسيا. إن غالبية المسافرين ليسوا بطبيعة الحال من المهربين، إلا أن الخوف من التعرض لمضايقات لا مبرر لها من قبل رجال الشرطة والأمن ربما دفع كثيرا من الأشخاص العاديين إلى العدول عن المجيء إلى البلاد إن كانوا من المهاجرين، وعلى الاستنكاف عن السفر إن كانوا من المقيمين في الوطن. ولا تنس أن كثيرا من الذين يسافرون إلى المغرب مثلا، إنما يذهبون لرؤية الأهل والأقارب، وبعضهم يجمعون ثمن تذكرة الذهاب والإياب من الأصدقاء، مقابل شراء بعض الأشياء الصغيرة غير المتوفرة بالسوق المحلية». ولقد شاهدنا بالعين تأثير حرب وزارة مولود حمروش على حركة السفر مع المغرب وفرنسا. رأينا مكاتب شركات الخطوط الجوية المغربية والجزائرية والفرنسية، خلال تلك الأيام فارغة من الزوار، ورأينا العاملين والعاملات فيها جالسين وراء مكاتبهم، وكأنهم صيارفة في سوق للعملات الأجنبية ينتظرون قدوم زبناء مفقودين. ورأينا مطار الجزائر العاصمة، وهو الذي يكون في الأيام العادية سوقا كبرى لا يجد الإنسان لنفسه موطئ قدم فيها، رأيناه وكأنه مخزن كبير خال من البضائع. رأينا ذلك كله وسمعنا عنه تفسيرات تقول أشياء كثيرة من بينها أن المضاربين، قرروا -هم الآخرين- مقاطعة شركات الطيران لأجل إرغامها لتضغط على الحكومة حتى تغير سياستها. قال أحد الوزارء السابقين، وهو يحاول أن يقيم أمامنا هذه السياسة : «لاجدال في أن الوزير الأول مولود حمروش أراد من وراء ضرب حركة «التراباندو» أن يضرب الموارد المالية للجبهة الإسلامية للإنقاذ. إن حزب «عباسي مدني» ليس ضد التهريب وهو يعتمد على الآية القرآنية الشهيرة : «وأحل الله البيع وحرم الربا» لتبرير موقفه هذا. وشبكاته المالية والاقتصادية مترابطة مع المهربين. لكني أشك في أن يكون اختيار اللحظة، لحظة الانتخابات الولائية والبلدية مناسبا. كان على الحكومة أن تؤجل المواجهة مع المهربين إلى ما بعد الانتخابات، لكي لا توسع دائرة التذمر والنقمة ضدها. وحدها النخبة السياسية الواعية هي التي ستفهم مغزى بادرة الحكومة في هذا المجال. أما الشعب فلابد أن يزداد سخطه عليها سيما وأن المهربين، هم في الغالب الأعم، من صغار الناس، أما كبار المهربين، فهم يتمتعون بحمايات قوية داخل أجهزة الدولة، وهو أمر قد يخلق متاعب إضافية لفريق الإصلاحات العامل تحت إشراف مولود حمروش. ومنذ الآن يقال إن الرئيس الشاذلي بن جديد، غير راض عن الطريقة التي جرت بها الأمور وربما حاسب وزيره الأول عليها واعتبرها من جملة الأسباب التي أدت إلى انهزام جبهة التحرير». لكن هاتين المبادرتين، أي التعيينات الجديدة في الأجهزة الإعلامية والحرب المعلنة ضد المهربين، لم تحظيا بإجماع مناضلي الجبهة أو لم تثيرا حماسهما في الأقل. بل إن أحد معلقي جريدة «الشعب» التي أُلْحِقت في تلك المناسبة مع جريدة المجاهد اليومية الصادرة باللغة الفرنسية، بحزب جبهة التحرير، كتب مقالا يتهم فيه المدراء الجدد بأنهم موالون لثالوث الباكس، والأمازيغية وحزب فرنسا (أي أنهم بربر وشيوعيون وفرانكفونيون إن لم يكونوا فرنسيين)، وفي كل الأحوال لا علاقة لهم بجبهة التحرير الوطني. ثم إن جبهة التحرير الوطني تأخرت كثيرا عن دخول المعركة وحين انخرطت فيها، اقتحمتها في ظروف سيئة للغاية. «كانت جبهة التحرير الوطني -وفقا لأقوال مثقف جزائري- بعد خريف الغضب تشبه جيشا مهزوما، متكسرا متراجعا، منسحبا بصورة فوضوية إلى مواقع مجهولة، فوق أرض عراء، لايملك تغطية جوية ولا صاروخية ولا حتى مدفعية ثقيلة أو أسلحة خفيفة لمشاغلة العدو وإعاقة تقدمه. وفي هذه اللحظة بالضبط اختارت الجبهة أن تتخلص من المارشالات والجنرالات والكولونيلات وحتى الكومندانات، واختارت أن تحيل أصحاب الرتب العليا والخبرة الميدانية على التقاعد وأن تضع على رأس قواتها المندحرة ضباط الصف من رتب النقباء، في أحسن الأحوال ومن رتب العرفاء والملازمين والجنود العاديين. لم تفهم قيادة الجبهة أن الهزيمة تستوجب إبقاء القيادة القديمة في مكانها أو في أضعف الأحوال تمكينها من لعب دورها في إدارة المعارك الآتية لتثبيت المواقع، في المقام الأول، على أن تجري المحاسبة لاحقا بعد صمت المدافع. ولما انتبهت قيادة الجبهة إلى أنها في حاجة ماسة لخبرة القادة القدامى، كان الوقت قد فات، وأستطيع أن أقسم لك بأن الشغل الشاغل للحكومة والرئاسة، يوم مسيرة السابع عشر من مايو مثلا، هو الخوف من ظهور أحد الزعماء التاريخيين على الشاشة. لقد صدرت تعليمات صارمة إلى التلفزة والإذاعة في ذلك اليوم لكي لا تشير من قريب ولا من بعيد إلى وجود شخصيات مثل عبد العزيز بوتفليقة وعبد السلام بلعيد ومحمد الصالح اليحياوي ومحمد الشريف مساعدية، ضمن المشاركين في تلك المسيرة. بدأت الحملة الانتخابية رسميا يوم 21 مايو، لكن جبهة التحرير الوطني لم تدخلها إلا يوم 27. ويعزى هذا التأخر إلى وجود خلاف قوي بين الأمين العام للجبهة، عبد الحميد المهري الذي كان يرغب في إشراك الزعماء القدامى في الحملة، استجابة لرغبة القاعدة، وبين الوزير الأول مولود حمروش، الذي كان يفضل أن يوظف تلك المناسبة لإبراز عناصر الشباب المؤيدين له. وسوف ينعكس هذا الخلاف في الخطاب السياسي ويؤدي إلى ضياع المناضلين وانهيار معنوياتهم. خلال الأيام التالية لإعلان نتائج الانتخابات، أنتجت جبهة التحرير الوطني كتابة، وشفويا وحتى بالصمت تأويلات متضاربة لما كسبته من نتائج، وكان المراقب المتتبع لمجريات الأمور يستطيع أن يعرف ميل مخاطبه السياسي، حين يسمعه يقول بأن «القدامى» هم الذين أغرقوا السفينة، أو ينصت إليه وهو يدعي أن «الحمروشيين» هم المسؤولون عن الهزيمة. ويحار المراقب، بعد سماع هذه المواقف والتحليلات التنصلية في تحديد الجهة المسؤولة قبل غيرها عن المسيرة التي قادت جبهة التحرير الوطني إلى ما هي فيه اليوم، يحار ويقوده السؤال إلى السؤال دون أن تتراءى له شواطئ اليقين الدافئ الذي يريحه من عناء التحرير والاستكشاف. يحار لأن النصر له، كما قال أحد الكبار، آلاف الآباء، أما الهزيمة فهي يتيمة إن لم تكن مومسا وابنة حرام. لا أحد يقول إنه مسؤول عن الهزيمة، بل لا أحد يعترف بأنه ساهم فيها. ومع ذلك، فهناك واقعة لعلها أسهمت أكثر من غيرها في الاختيار الذي أبرزته صناديق الاقتراع يوم الثاني عشر من يونيو، إنها ذلك الرقم الذي نسبه أحد الصحفيين بجريدة «المساء» في شهر مارس الماضي إلى السيد عبد الحميد الإبراهيمي الوزير الأول سابقا، والذي قال فيه إن مبلغ 26 (نعم ستة وعشرون) مليار دولار، ذهب إلى جيوب الخواص عبر الصفقات التي عقدتها الدولة خلال ربع قرن مع الشركات الأجنبية. إنه مبلغ خيالي يساوي مديونية الجزائر الخارجية. الوزير الأول قال كلامه بلهجة تلقائية أثناء محاضرة ألقاها أمام طلاب كلية الحقوق بضواحي العاصمة. ويبدو أنه أول من فوجئ بوقعه وبالأصداء الواسعة التي أثارها في الداخل والخارج. وعلى إثر صدور هذا الكلام في صحيفة «المساء»، قامت قيامة الطبقة السياسية الجزائرية، ولم تقعد حتى اليوم، وطرح السؤال البديهي : ترى، لصالح من يعمل الوزير الأول السابق؟ لقد طرحنا هذا السؤال على الرجل حين التقينا معه في بيته المتواضع بحي حيدرة، وكان جوابه أنه سوف يقدم لنا كل المعطيات والتوضيحات، بعد الانتهاء من الجلسات الرسمية السرية التي سيعقدها مع لجنة تقصي الحقائق البرلمانية. وسواء أَخَذت التحريات القانونية مجراها ونُشرت نتائجها على الملأ، أم طُمست الفضيحة لهذا السبب أو ذاك، فالذي شاهدناه وسمعناه طوال الأسابيع اللاحقة لذلك التصريح، وحتى حصول الانتخابات البلدية والولائية، يؤكد أن حديث السيد عبد الحميد الإبراهيمي قَضَم حقيقةً ومجازاً قِسما كبيرا مما تبقى من مصداقية لجبهة التحرير الوطني ولحكم الرئيس الشاذلي بن جديد. لقد أدلى الرجل بذلك الرقم أمام الطلاب، دون أن يتصور إطلاقا أنه أشعل نارا جديدة في بيت ما يزال واحدا من ساكنيه والمستظلين فيه، باعتباره عضوا في اللجنة المركزية، أدلى بالرقم وذهب إلى الحجاز لتأدية العمرة، كما تعود أن يفعل منذ عدة أعوام. ولما عاد إلى العاصمة وجد أن مصالح الرئاسة، سحبت منه السيارة الرسمية والسائق اللذين كانا لديه، بحكم وظيفته السابقة. حدث ذلك كله رغم أن شقيقه، «محمد الميلي» ما زال مثله عضوا باللجنة المركزية، وأكثر من ذلك وزيرا للتربية الوطنية، حتى السيد عبد الحميد المهري الأمين العام للحزب، تألم من هذا التصرف، واعتبره غير لائق، كما قال لنا أحد مساعديه الذي نقل لنا عنه قوله : «لو أخذوا رأيي في الأمر لاقترحت عليهم أن يعطوه سيارة ثانية». وقد اعتبر عبد الحميد المهري، في برنامج تلفزيوني أن اتهامات الوزير الأول خطيرة لا تمس الحكم وحده وإنما تضرب مصداقية الجزائر كلها في الصميم. لكن الذي زاد الطين بلة، هو أن السيد مولود حمروش رئيس الحكومة لم يُكذِّب ما قاله عبد الحميد الإبراهيمي، وإنما اكتفى بالتخفيف من وقع الحدث حين أشار إلى أن الرشوة تقدر فقط بمبلغ مليارين من الدولارات. وتعقدت الأمور حين دخل الرئيس الشاذلي بن جديد الحلبة ملتزما بأن الدولة سوف لن تدخر جهدا لإظهار الحقيقة ومعاقبة المرتشين. «كارثة..كارثة حقيقية...»، هكذا وصف لنا الأمر موظف سام في وزارة الاقتصاد والمالية، مضيفا إلى هذا الحكم القيمي قوله : «إما أن نكون مسؤولين أو لا نكون، الحديث عن الرشوة يعني الدخول في حقل ملغوم. وكان على السيد عبد الحميد الإبراهيمي أن لا يرسل الكلام على عواهنه، ثم كان على الصحافة أن تكون مسؤولة وأن لا تنشر أي قول أو ثرثرة تسمعها حتى ولو من مسؤول كبير في الدولة والحزب. أما المصيبة الكبرى، فهي دخول الرئيس والوزير الأول في الجدل الدائر حول هذه الحكاية. كان عليهما أن يصمتا وأن يتركا لجنة التحريات البرلمانية تتابع أشغالها. لقد انفجرت فضائح مالية كبيرة وكثيرة في فرنسا مثلا، تمس شخصيات نافذة في الدولة وفي الحزب الحاكم، ولكننا لم نسمع قط أن رئيس الجمهورية أو وزيره الأول اتخذ موقفا علنيا من هذه الأشياء. أراهن معك على أن كثيرا من الأصابع سوف تحترق في لهب هذه الفضيحة». وجاءت تصريحات عبد الحميد الإبراهيمي بمثابة هدية من السماء للجبهة الإسلامية للإنقاذ، التي وجدت فيها المن والسلوى لحملتها الانتخابية. لذلك كان شعار «راهم سراقين ولازم يتركوا الحكم ويتحاسبوا على فعايلهم» لازمة سمعناها في الشوارع، والمقاهي والمهرجانات التي تابعناها طوال الأسابيع الماضية. وعلى الرغم من أن السيد عبد الحميد الإبراهيمي نفى لنا نفيا قاطعا، أن يكون قصد من حديثه أمام الطلاب، أية إساءة إلى جبهة التحرير الوطني، فقد سرت في الدوائر الإعلامية كما في الأوساط السياسية والدبلوماسية بالجزائر العاصمة، سرت شائعة قوية تؤكد أن السيد عباسي مدني زعيم الجبهة الإسلامية للإنقاذ قابله وأبلغه بحاجة التيار الإسلامي إلى خبراء اقتصاديين نزهاء مثله، ووعده، في حالة استلام جبهة الإنقاذ للسلطة، بالاستعانة بمعارفه وخبراته. وكان من النتائج المباشرة لهذه الفضيحة أن الحكومة الجزائرية طلبت من الدول التي لديها معها عمليات تبادل اقتصادي وتجاري تسليمها قوائم كاملة بأسماء الأشخاص الذين تلقوا عمولات عن الصفقات المعقودة باسم الدولة الجزائرية، وقد وُجِّه الطلب إلى كل من باريس، واشنطن، روما، مدريد، لندن، طوكيو، وجاء الرد الأول من العاصمة الفرنسية. لهذا الغرض، ذهب السيد الغازي حيدوسي وزير الاقتصاد والمالية شخصيا إلى باريس في أوج الحملة الانتخابية واستلم من نظيره الفرنسي، لائحة طويلة يقال إنها تشتمل على 250 (مئتين وخمسين) اسما من بينهم شخصيات قوية في الدولة والحزب والجيش أو مرتبطة بوشائج القرابات الجهوية أو لها علاقة بمجال القرار السياسي. «هذه القائمة موجودة الآن ليس فقط عند وزير الاقتصاد والمالية ولكن يقال أيضا إنها متوفرة لدى بعض المعارضين ولاسيما جماعة الرئيس السابق أحمد بن بلة، ذلك ما رواه لنا رئيس تحرير مجلة لنوفيل أيكونو ميست (أي الاقتصادي الجديد)، وهي أسبوعية اقتصادية فرنسية ناطقة بلسان رجال الأعمال الفرنسيين. ويصف هذا الخبير الفرنسي عملية تسليم اللائحة بأنها «مادة انفجارية» توضع في سوق المزايدات السياسية الخفية التي تعصف بالنظام الجزائري. ولا شك في أن الأطراف المشاركة في اللعبة السياسية سوف تستعملها خلال المساومات الجارية في الكواليس من أجل إعادة رسم الخريطة السياسية وترتيب المواقع وتوزيع الأدوار ضمن صياغة البدائل المطروحة. ومازلت متحيرا -يقول هذا الخبير الفرنسي- في فهم الدوافع والحسابات الكامنة وراء القرار الفرنسي بتسليم هذه القائمة». وإذا كانت عبارات «الصدمة» و«الحيرة» و«الدهشة» و«الاستغراب» وما في معناها، هي أكثر المفردات استعمالا، فإن هناك شخصيات ووجوها بارزة من نجوم المجتمع المدني، لا تلوك أحكامها ولا تتردد في تسمية الأشياء بمسمياتها. ومن أبرز هذه الشخصيات عميد السينمائيين الجزائريين السيد محمد الأخضر حامينا مخرج الأفلام الشهيرة (سنوات الجمر les années de braise)، رياح الأوراس le vent de Aurés والصورة الأخيرة La dernière image، هذا المخرج الكبير الذي حصل على عدة جوائز عالمية لأفلامه، غاضب، ناقم، لم يعد يتحدث عن الثقافة ولا عن السينما ولا عن المسرح، وإنما يتكلم عن المخاطر والمنزلقات التي تحيق ببلاده. إن مخرج سنوات الجمر، على يقين تام، بأن هذه الانتخابات الحرة الأولى قد تم التلاعب فيها بل تم تزييفها وأن قسما من أهل السلطة يقوم الآن بمقايضة خدماته في أفق تكوين حكومة عن الجبهة الإسلامية للإنقاذ تحل محل حكومة جبهة التحرير الوطني. وتأتي أهمية موقف المخرج في السياسة مباشرة، من أنه عندما يفعل ذلك، لا يلف ولا يدور، وإنما يذهب مباشرة إلى الهدف، ثم أخيرا من كونه صديق شخصي للرئيس الشاذلي بن جديد، وللعقيد مصطفى الشلوفي الأمين العام لوزارة الدفاع الوطني. وموقف السيد الأخضر حامينا، كان مادة النقاش الأولى في الجزائر خلال الأسبوعين الأخيرين من شهر يونيو، وقد عبر عنه في حديث صاخب نشرته له أسبوعية «الجزائر الأحداث Algérie actualité»، ونشرته في عددها الذي يحمل تاريخ 21-27 يونيو 1990، والمجلة المذكورة معروفة بقربها من الرئاسة. ونورد فيما يلي مقتطفات من هذا الحوار الهام، الذي يعكس بحكم نوعية صاحبه، وعلاقاته المتينة بالرئاسة ووزارة الدفاع، عمق القلق والحيرة الناجمين عن انتصار الجبهة الإسلامية للإنقاذ. سؤال : كرست نتائج الانتخابات البلدية انتصار الجبهة الإسلامية للإنقاذ. فما هو التعليق الذي توحي به إليكم هذه الانتخابات؟ جواب : لقد تم فعل كل شيء للوصول بنا إلى هذه النتيجة. أي انتصار الجبهة الإسلامية في الانتخابات البلدية. إن الأحداث التي مهدت لهذا الانتصار لم تكن عرضية تحركها حتمية عمياء أو عشوائية، وإنما هي ثمرة واعية ومدروسة لمؤامرة واعية إن لم أقل إنها مسيسة وتواطؤية. سؤال : أوضحوا ما تقصدونه؟ جواب : في البداية، لابد أن نشير إلى أن السماح بتكوين حزب يستند إلى الدين، كان خرقا صريحا وصارخا للدستور، لكون هذا الأخير يمنع تأسيس الأحزاب على الأسس الدينية أو الجهوية. ومع ذلك، فقد سمح بتكوين الجبهة الإسلامية للإنقاذ وذلك بعد مرور بضعة أشهر فقط على إعلان الدستور الجديد. فما هي يا ترى المساومات والحلول التوفيقية التي أدت إلى الاعتراف بالجبهة الإسلامية للإنقاذ وإلى احتقار نص الدستور؟ إن هذا الاختيار يقودنا مباشرة إلى الانقسام. فمن جهة، هناك أنصار الجبهة الإسلامية للإنقاذ والآخرون. ما معنى ذلك؟ هل معناه أن الأولين مسلمون والآخرون كفار؟ إن هذا الوضع لمن شأنه أن يثير انقساما عميقا داخل المجتمع الإسلامي. وفي الإسلام، لا جريمة أسوأ من الفتنة. هذا أولا. ثانيا : حصلت تجاوزات وتعديات كثيرة من طرف الجبهة الإسلامية للإنقاذ بقيت السلطة صامتة أمامها. ويمكن لنا اليوم، أن نفسر هذا الصمت بأنه تواطؤ. ثالثا : أدلى السيد عباسي مدني، مسؤول الجبهة الإسلامية للإنقاذ، بحديث إلى جريدة «أوريزون Horizons» (آفاق) وصف فيه رئيس الجمهورية بأنه إنسان خرف أو مُخَوَّف، ووصف رئيس الحكومة بأنه رجل غير كفؤ. وبعد مرور ثلاثة أيام، استقبل بحفاوة كبرى من طرف رئيس الجمهورية. وهذا أظهر عباسي مدني أمام جميع السكان بأنه الرجل القوي لكونه شتم الرئيس ولكون هذا الأخير استقبله. ومنذ تلك اللحظة، أعطيت له كافة الأصوات. والأخطر والأدهى من ذلك كله أن عباسي مدني، كان أول من استُقبل في الرئاسة. رابعا : قررت الجبهة الإسلامية للإنقاذ تنظيم مسيرة، وقررت جبهة التحرير الوطني بدورها تنظيم مسيرة مضادة في نفس اليوم، أي 20 أبريل. وهكذا وجدت فرصة سانحة تسمح للحكومة بمنع المسيرتين. ولكن، وعلى الرغم من الاتصالات التي تمت بين الحكومة والجبهة الإسلامية للإنقاذ، فقد تمسكت هذه الأخيرة بموقفها بينما انسحبت جبهة التحرير الوطني من الميدان. ومعنى هذا أنها وهي التي كانت تبحث عن مواجهة مع الجبهة الإسلامية للإنقاذ، قد انهزمت لأنها تنازلت في وقت حافظت فيه الجبهة الإسلامية للإنقاذ على مسيرتها. خامسا : قام مولود حمروش بمنع «التراباندو» وذلك خطأ جسيم حصل قبل شهر واحد فقط من حلول موعد الانتخابات وهو يؤكد وجود المؤامرة التي تحدثت عنها. وفي تقديري أن هذا الخطأ منح الجبهة الإسلامية للإنقاذ 25 بالمئة، إضافية من الأصوات. وكما هو الشأن في إيران، مع تجار «البازار» فإن الجزائر تعيش جزئيا بواسطة «الترابانديين»، أي المهربين، وذلك لانعدام حلول أخرى. وأنا أتحدث عن الشبان الكثيرين الذين لا يجدون أمامهم أي اختيار آخر، في بلد عاجز عن توفير الشغل لهم. وأما «الكبار» فلم يقترب منهم أحد. والواقع أن أكبر «تراباندي»، أي أكبر مهرب في هذه البلاد، هو الدولة. لقد اتخذت الدولة قرارا سخيفا تمنع به قدماء المجاهدين وأبناء الشهداء من بيع سياراتهم التي استوردوها بفضل تسهيلات خاصة، وشكل ذلك القرار مسا خطيرا بحقوق المواطنين وبحقوق الملكية الفردية. ولنكن جديين، فالدولة هي التي استولت على 15 في المئة من العملة الصعبة المخصصة لاستيراد السيارات وهي التي فرضت ضريبة تتراوح بين 140 و250 في المئة على السيارات المستوردة. إنها دولة قوادة، دولة تجارة الرقيق الأبيض والنخاسة. سادسا : إن تصفية عدد كبير من الإطارات قبل بضعة أشهر من حلول موعد الانتخابات البلدية والولائية تندرج ضمن نفس الخط التآمري. وفي نفس السياق نلاحظ أن اختيار مرشحي جبهة التحرير الوطني أملته اعتبارات عشائرية وجهوية وعصبوية وولائية. وإجمالا فقد قدمنا اليوم للجبهة الإسلامية للإنقاذ المهر أو الصداق، قبل أن نهديها العروس، الزوجة، أي قبل أن نسلمها المجلس الوطني الشعبي ثم البلاد كلها. أنتم إذا تشككون في انتصار الجبهة الإسلامية للإنقاذ؟ أنا أقول وأكرر القول بأن الحكومة وجبهة التحرير الوطني، وضعا الجبهة الإسلامية للإنقاذ في حالة تسمح لها بالظفر. وإلا فكيف تفسر كون السيد عباسي مدني، في الندوة الصحفية التي عقدها مباشرة بعد انتصار حزبه، شكر وزير الداخلية على «تفهمه وتعاونه»؟ أنا أرى أنه يوجد اليوم، داخل السلطة، أناس تركوا السفينة وأصبحوا يوجهون إشارات بواسطة أشخاص آخرين، إلى الجبهة الإسلامية للإنقاذ. ولا ينبغي أن ننسى أنه تم السماح للأشخاص بأن يصوتوا من دون إبراز بطاقات الهوية. فما معنى ذلك؟ لو أننا رغبنا في حشو صناديق الاقتراع لفائدة الجبهة الإسلامية للإنقاذ لما وجدنا وسيلة أفضل وأنجع. ولو أن الأمور تجري بصورة طبيعية لسقطت رؤوس كثيرة. ثم إنه لا ينبغي أن نهمل بعض أعضاء جبهة التحرير الوطني الذين كان ينبغي لهم أن يقوموا بالدعاية لحزبهم، وبدلا من أن يفعلوا ذلك قاموا بالدفاع عن مصالحهم وأهدروا وقتا ثمينا في تبرير الأعمال التي قاموا بها أثناء تحملهم للمسؤوليات. الجزائر في مفترق الطرق - مشاهدات ومسموعات 5 - (الحلقة الأولى) مساجد الشعب والمساجد الحرة والمساجد الخاصة ودورها السياسي يقال إن الرئيس هواري بومدين، زار ذات يوم قرية نموذجية اشتراكية، من تلك القرى التي بنتها الدولة في حقبة السبعينات للفلاحين المستفيدين من الثورة الزراعية. وبعد أن وزع عددا من المساكن الجديدة فيها، سلم مفتاح أحد البيوت إلى فلاح مسن، ووقف يحاوره من أجل معرفة رأيه في التجربة الجديدة. حاول رئيس مجلس الثورة، في ذلك الحوار الذي جرى أمام شهود عيان، روى لنا واحد منهم وقائع الحادث، حاول أن يشاطر الفلاح فرحه، وقال له أكثر من مرة ما معناه «هذا نهار كبير تبدأ فيه أنت وعائلتك حياة جديدة». وظل بومدين يكرر كلامه، نهار كبير... نهار كبير هذا...، والفلاح صامت لا يتكلم وأخيرا نطق ليقول : «واه... نهار الحد اليوم» (إنه يوم الأحد...). استحضرت هذه الحكاية، وغيرها من الحكايات المماثلة أو المختلفة المتصلة بالسنوات الماضية من تاريخ الجزائر، وأنا أحاول أن أجد نقطة انطلاق المسيرة الطويلة المعقدة التي أوصلت الجزائر إلى نتائج الانتخابات البلدية والولائية الأخيرة، وأدخلتها، وربما أدخلت معها المنطقة المغاربية كلها إلى «منطقة الاضطرابات»، حسب تعبير خبراء الأرصاد الجوية. البذور الأولى للمسيرة الحالية وجدت في تلك السنوات. وحكاية ذلك الفلاح المسن، مع رئيس مجلس الثورة الجزائرية، تعطينا رغم اختصارها الشديد، بل ربما بسبب هذا الاختصار، لحظة مكثفة من لحظات تلك المواجهة متعددة الأوجه الناشبة، منذ عشرين سنة، بين المجتمع المدني والدولة. كان بومدين، وهو منحدر من أسرة فلاحية فقيرة بمدينة قالمة في الشرق الجزائري، يعلق آمالا عريضة على تلك الثورة الزراعية التي وزعت الدولة بمقتضاها، مئات آلاف الهكتارات على الفلاحين الفقراء، وكان حين يزور قرية زراعية جديدة، يبدو سعيدا للغاية. إلا أن ذلك الجواب القصير الذي واجهه به ذلك الفلاح، ينم عن وجود هوة سحيقة بين تصوره لمشروعه الثوري وبين وعي طبقة الفلاحين الفقراء التي ينتمي إليها، والتي أراد أن يخدمها ويحررها بواسطة الثورة الزراعية. إن «النهار العظيم»، كما تخيله بومدين، مجرد يوم أحد، عند ذلك الفلاح. والصراع الذي وصل إلى أحد محطاته الدرامية يوم 12 يونيو 1990، بحصول الجبهة الإسلامية للإنقاذ على أغلبية المجالس البلدية والولائية، وبتراجع جبهة التحرير الوطني تراجعا يهددها بالزوال الأبدي، بدأت تباشيره ومؤشراته، مع حملة التعريب والثورة الزراعية خلال سنوات 1970-1976. في تلك الفترة، دشن هواري بومدين، ما سيعرف لاحقا ضمن حوليات السياسة الجزائرية بالثورات الثلاث : الثورة الزراعية والثورة الثقافية والثورة الصناعية. واقترنت بدايات هذه الثورات، بموجة ما سمي : «الصحوة الدينية». قبل ذلك، تميزت العلاقة بين السلطة المنبثقة عن انقلاب 19 يونيو 1965، وبين القوى السياسية التقدمية بالقطيعة. ولأنه لم يكن هناك أي وجود لتنظيم سياسي رسمي، يستطيع أن يعبئ الشعب للتعبير عن آراء مخالفة لسياسة الدولة، فقد انحصرت المواجهة داخل جدران الجامعة، ووصلت إلى ذروتها بإقدام الحكومة على اتخاذ قرار بحل منظمة الاتحاد الوطني للطلاب الجزائريين (يوم 16 يناير 1971). ولابد من أن نسجل هنا، أن الطلاب المغاربة الذين كانوا يتابعون دراساتهم في الجامعات الجزائرية، وكانوا منظمين في إطار الاتحاد الوطني لطلبة المغرب، ومؤطرين في غالبيتهم داخل حزب القوات الشعبية، خاضوا مع رفاقهم الجزائريين نفس المعارك وتعرضوا لنفس المضايقات، بما فيها من اعتقالات وعمليات تعذيب ومداهمات ومطاردات. حل نظام بومدين اتحاد الطلاب الجزائريين، ولكنه وجد نفسه مرغما على تحقيق نوع من الهدنة مع اليسار الطلابي والسياسي. وأصدر بومدين قرارا بالتعريب، وقرارا بتأميم شركات النفط، ثم قرارا بتجنيد الطلاب في فرق للتطوع من أجل الثورة الزراعية. ولأن غالبية الطلاب الجامعيين في تلك المرحلة، كانوا من خريجي المدارس الفرنسية من أبناء الطبقات الوسطى الفرانكفونية، الحضرية، ولكون مرحلة السبعينات اتسمت بصعود التيارات الماركسية والماركسوية والمتمركسة، بجميع منوعاتها الماوية والتروتسكاوية. فقد ظهرت الثورة الزراعية، كما لو كانت اختيارا سياسيا من وحي الشيوعية الملحدة. ومقابل حملات التوضيح والشرح والتعبئة والتوعية التي كانت تقودها فرق المتطوعين والمتطوعات في أوساط الفلاحين، من أجل تحسيسهم بمشاكل الأرض، تشكل تحالف بين رجال الدين وكبار الملاكين العقاريين لعب فيه الأولون، أي رجال الدين دور المدافعين الإيديولوجيين عن الملكية الخاصة، وقام فيه الملاكون بتمويل بناء مئات المساجد، وكذلك تمويل عشرات الهيئات والروابط الدينية ذات الطابع الإحساني أو الخيري. وبينما كان الطلاب والطالبات الواقعون تحت تأثير حزب الطليعة الاشتراكي (الحزب الشيوعي الجزائري سابقا)، وكذلك تحت نفوذ الجناح اليساري من جبهة التحرير الوطني، يحاولون أن يشرحوا لصغار الفلاحين أن الدولة تدافع عنهم، كانت العناصر المتأثرة بالفكر السلفي والإخواني، تتجنب الخوض في المشاكل الواقعية، وتقول إنها تدافع عن دين الله وسنة رسوله، وهما يحرمان تحريما قاطعا «أخذ أموال الناس بالباطل». وقد أتيحت لنا في تلك المرحلة مشاهدة معارك ملحمية في الأحياء الجامعية بالعاصمة وقسنطينة ووهران، انتهت بطرد «الخوانجية»، كما يسمونهم في المصطلح الجزائري الشائع. وتتوفر اليوم جملة من الوقائع المكتوبة والمروية، تؤكد أن هذه السياسة الراديكالية، لم تكن تحظى إطلاقا بإجماع أعضاء مجلس الثورة، وإنما كانت سياسة شخصية للرئيس هواري بومدين. وفي هذا الصدد يروي السيد عبد السلام بلعيد، أحد أعضاء مجلس الثورة قال له : «لقد خدعنا هواري بومدين. ونحن لم نقم بحركة 19 يونيو 1965 لنستمر على نهج بن بلة. كان بومدين يقول بأنه ضد الاشتراكية كما طبقها أحمد بن بلة، وكان يزعم أنه ضد التسيير الذاتي وضد الفوضى وضد عدم التنظيم، ولكنه بعد 19 يونيو، حافظ على التسيير الذاتي في المجال الزراعي وانطلق تدريجيا في سياسة التأميمات . وقد فعل بومدين ذلك كله فقط بدافع الديماغوجية ومن أجل كسب تأييد السكان، وفي النهاية انتهج خطا سياسيا مناقضا تماما لذلك الذي كنا نظن أنه متفق معنا بشأنه» (المصدر : كتاب المصادفة والتاريخ لعبد السلام بلعيد صفحة 219...). أصدر بومدين قرار التعريب العام في بداية حقبة السبعينات، لكنه «جمده» مباشرة، ليتفرغ للثورة الزراعية والثورة الصناعية. ورغم أن عملية التجنيد التي تمت في أوساط الطلاب «المفرنسين» بدت كما لو كانت عقابا لهم، وإبعادا عن الحقل السياسي الجامعي، فقد تقبلتها التيارات اليسارية والمتياسرة، لكونها ظهرت لهم كفرصة ذهبية لتحقيق الاتصال مع الجماهير الشعبية وسوف ينتهي ذلك التجنيد في منتصف السبعينات ويقترن انتهاؤه ببداية النقاش حول «الميثاق الوطني» (سنة 1976). في تلك السنة، حصل نوع مكتوم من «فك الارتباط» بين بومدين وحلفائه اليساريين، حصل ذلك لأسباب عديدة من جملتها نشوب النزاع مع المغرب حول الصحراء المغربية. وسمح النظام للجناح السلفي، الذي كان يمثله آنذاك كل من الشيخ عبد الرحمان شيبان وزير الاوقاف ومولود قاسم وزير التعليم الأصلي، بتشجيع التيارات الدينية في صراعها مع الجماعة اليسارية. شهدت مرحلة القطيعة الفعلية بين اليسار الماركسي وهواري بومدين تحولا آخر موازيا، كانت ترمز إليه شخصيتان عسكريتان داخل مجلس الثورة، سوف يكون لهما دور حاسم في تصفية التركة الاجتماعية للثورة وفي صعود التيار الديني إلى مرتبة الهيمنة السياسية والإيديولوجية التي أصبح يحتلها اليوم. أما الشخصية الأولى، فهي العقيد محمد أحمد عبد الغني الذي تولى قيادة الناحية العسكرية في قسنطينة، من خريف 1967 حتى بداية عام 1976. وأما الشخصية الثانية، فهي العقيد الشاذلي بن جديد الذي ظل قائدا عاما للناحية العسكرية بوهران من منتصف الستينات حتى وفاة هواري بومدين. كانت هاتان الشخصيتان ترمزان إلى المعارضة العسكرية ضد بومدين، وكانت لكل واحدة منهما في تلك المنطقتين المهمتين جدا، علاقات طيبة مع كل من التيارات الدينية السياسية، وقد تجسد التحالف بين كل من العقيد محمد أحمد عبد الغني والعقيد الشاذلي بن جديد من جهة، والجماعات السياسية الدينية من جهة أخرى في مشروعين ثقافيين روحيين، سوف يصبحان بعد انتهائهما، قاعدتين راسختين من قواعد العمل والإشعاع السياسي لرجال الدين. المشروع الأول هو مسجد الإمام عبد القادر بقسنطينة. والمشروع الثاني هو مسجد الإمام ابن باديس في وهران. وإذا كان أعيان مدينة قسنطينة، مدينة جمعية العلماء، ومدينة الشيخ عبد الحميد بن باديس هم أصحاب فكرة تشييد المسجد الذي أصبح يحمل في عاصمة الشرق الجزائري اسم الأمير عبد القادر، إذا كانوا كذلك، فإن العقيد عبد الغني، ذلك الضابط القادم من الغرب الجزائري، كان هو الباني الفعلي لتلك المؤسسة الدينية الثقافية. وكان عبد الغني قد خلق حول نفسه هالة كبرى وسمعة تصفه بأنه من أمهر المنظمين العسكريين. وقد أسند إليه هواري بومدين، مسؤولية تلك الناحية العسكرية ومنحه سلطات واسعة للإشراف عليها، غداة قيام العقيد الطاهر الزبيري، رئيس هيئة الأركان بمحاولته الإنقلابية في خريف 1967. وسرعان ما أصبح العقيد عبد الغني، في نظر سكان قسنطينة والدوائر التابعة لها مثل مدن عنابة وسكيكدة والقالة على الشاطئ، ثم مدن سطيف وقالمة ووادي الزناتي والمليلة وعين ملية في الداخل، سرعان ما صار في نظرهم صنوا للرئيس هواري بومدين، إلى درجة أن هذا الأخير أطلق عليه صفة «باي قسنطينة». و«الباي» مثل «الداي» كلمة تركية، كانتا تطلقان في عهد السلطة العثمانية على الأميرين التركيين اللذين يحكمان كلا من مدينة الجزائر وقسنطينة. كان العقيد محمد أحمد عبد الغني قويا، إلى حد أنه عندما اتخذ هواري بومدين قرارا بتعيين الرائد حسن العربي في منصب معاون رئيس هيئة الأركان المحلية للناحية العسكرية بقسنطينة، استقبله عبد الغني وقال له بالحرف : «انتظر حتى يأتي سي بومدين لتنصيبك». وانتظر الرائد حسن العربي -(وهو للمناسبة عميد اليوم، خرج من الجيش والتحق بوزارة الخارجية ويشغل حاليا منصب سفير الجزائر ببغداد)- انتظر شهورا بمدينة قسنطينة ثم عاد إلى الجزائر من دون أن يتمكن من ممارسة المهمة التي انتدبته لها وزارة الدفاع. وبقي عبد الغني يحكم إمارته القسنطينية إلى منتصف السبعينات، حين تمكن بومدين من إقناعه بالتخلي عن قيادتها العسكرية للالتحاق بالعاصمة واحتلال منصب الوزير الأول بها، في منتصف السبعينات. وفكرة بناء مسجد الأمير عبد القادر، الذي سيصبح بعد الانتهاء من تشييده، فضاء جامعيا، فكريا، سياسيا وإيديولوجيا، تدور فوق ساحته صراعات ساخنة بين مختلف التيارات الإسلامية نفسها، هذه الفكرة تعود إلى سنة 1968، أي إلى ذروة موجة الاتجاه اليساري بالجامعة. قصة بناء المسجد، والشخصيات التي ساهمت فيه، ومختلف الأطوار التي مر منها المشروع، ومجالات استخدامه من طرف الدولة، وقائع تستحق أن تروى ولو في اختصار شديد، لكونها ترمز إلى ذلك التداخل العميق بين صعود الجبهة الإسلامية للإنقاذ وكسوف جبهة التحرير الوطني. ولد المشروع بمبادرة من عدد من وجهاء مدينة قسنطينة على رأسهم السيد مولود المهري، خال السيد عبد الحميد المهري الأمين العام لجبهة التحرير الوطني، ومن بينهم نور الدين برارحي، والد السيد عبد الحق برارحي الذي كان وزيرا للتعليم العالي، أثناء خريف الغضب الدامي، وأحرق المتظاهرون سيارته، من بينهم كذلك الشيخ مرزوق بن الشيخ بلحسين، شقيق الشيخ عباس بلحسين، إمام مسجد باريس في الفترة ما بين 1980-1989. لنتوقف قليلا عند هذه القائمة من الأسماء، وسوف نجد أنها تنتمي كلها إلى جمعية العلماء الجزائريين، ولكنها تتألف أيضا من أثرياء التجار والملاكين العقاريين، وكانت تجد امتداداتها السياسية داخل النظام الجزائري نفسه، عبر شخصيات نافذة مثل الدكتور أحمد طالب الابراهيمي، ابن الشيخ البشير الابراهيمي. وقد تقلب الدكتور أحمد طالب الابراهيمي في عدة مناصب وزارية هامة، في عهد الرئيسين هواري بومدين والشاذلي بن جديد، فشغل على التوالي مناصب وزير التعليم ثم وزير الإعلام في الفترة البومدينية، ووزارة الخارجية في زمن الشاذلي بن جديد. في الأصل، كان الهدف لا يتعدى بناء مسجد يتسع لألف من المصلين، لكن العقيد أحمد عبد الغني تحمس للفكرة، وأقنع الرئيس هواري بومدين بها، فتولتها الدولة وحولتها إلى مسجد ضخم يتسع لعشرة آلاف شخص، مع سلسلة من المرافق من بينها مكتبة ضخمة ومعهد للدراسات الإسلامية. وقد أسند إنجاز البناء إلى الإدارة الوطنية للتعاونيات، التابعة للجيش الوطني الشعبي. وفي الأخير، تحول مسجد الأمير عبد القادر حسب تعبير مؤرخ جزائري شاب إلى «مسرح تدور فوق خشبته أعمال واستراتيجيات متناقضة وغير متوافقة في أغلب الأحيان. فمن جهة، كان هناك أولئك الذين يعتبرون البناية مخزونا احتياطيا يستطيعون أن يجلبوا منه المواد المفقودة في السوق، ومن جهة ثانية، كان هناك أولئك الذين يعتبرونه وسيلة للحصول على وظيفة شرفية، تخرجهم من الوضعية المغمورة التي كانوا يعيشون فيها.وكان هؤلاء الأخيرين، يحرصون أشد الحرص على أن تكتب أسماؤهم جنبا إلى جنب، مع مدير القطاع العسكري وأعضاء رابطة المؤسسين والمسؤول المحلي للحزب والمفوض المركزي، وأخيرا، هناك الحكومة الراغبة في تحويل المشروع إلى أداة دعائية تلمع من خلالها صورتها على الصعيد الوطني وعلى الصعيد العربي والإسلامي» (المصدر : الإخوان والمسجد صفحة 65 للمؤرخ الجزائري أحمد رواجية مطبعة كارطالا في باريس ربيع 1990). لابد أيضا من الإشارة إلى طرف ثالث في هذا المشروع، وهو أثرياء وأمراء المملكة العربية السعودية والخليج العربي. هناك شخص يدعى بوبكرف من أغنياء المدينة، مدينة قسنطينة بالطبع، يقال إنه هو صلة الوصل بين علمائها وبين أهل الخليج والجزيرة العربية. يقال إن ذلك «المحسن» يتدخل في كل شيء، فهو عضو بالهلال الأحمر، ومؤسس ل «جمعية رعاية الأرامل واليتامى» وبالخصوص مشرف على جميع التبرعات التي تأتي، بطرق مختلفة وملتوية، من شبه الجزيرة والخليج العربيين. وليس سرا أن أمراء السعودية والخليج العربي كانوا يعتبرون الدولة الجزائرية، في عهد هواري بومدين «ملحدة» بحكم علاقاتها القوية مع الاتحاد السوفياتي، وليس سرا كذلك، أنهم كانوا يبعثون مبالغ مالية طائلة لبناء المساجد لمحاربة «الإلحاد» وقد ساهمت الأموال السعودية والخليجية، في بناء مئات، إن لم نقل آلاف المساجد، وفي صعود الموجة السياسية الإسلامية واكتساحها للساحة. ومثل ما فعل العقيد محمد أحمد عبد الغني في قسنطينة، قام العقيد الشاذلي بن جديد، وهو في وهران برعاية مشروع مشابه تمثل في تشييد مسجد الإمام ابن باديس بعاصمة الغرب الجزائري. حقا، إن مسجد وهران لم ينشأ تماما في نفس الفترة التاريخية، وإنما ولدت فكرته تدريجيا تحت تأثير ما حصل في قسنطينة ووجدت تشجيعا ومساندة قوية، من طرف الرئيس الشاذلي بن جديد. ولعل اختيار علماء قسنطينة لاسم الأمير عبد القادر الجزائري، وهو سليل مدينة معسكر المجاورة لوهران، أن يكون أثار غيرة الوهرانيين ودفعهم لإطلاق اسم ابن باديس القسنطيني، على المسجد الذي قرروا بناءه بعاصمة الغرب الجزائري. المهم أن المسجدين، شكلا قمة التنافس الذي شاركت فيه الدولة والأعيان وأثرياء المدينتين في تلك الفترة، لاستغلال فضاء الرمزية الدينية من أجل كسب عطف المواطنين. والمهم أن الجزائر المستقلة، وخاصة منذ بداية حقبة السبعينات، بنت من المساجد وأماكن العبادة، أكثر مما بنت من المدارس والكليات والجامعات، وإن ذلك كله كان له أثره الواضح في صعود التيار الإسلامي إلى مكان الصدارة في الحقل السياسي. ولا شك أن الفترة الطويلة للتسلط الاستعماري على هذا البلد العربي المسلم، ومحاولة مسخ شخصيته وتشويهها ومحوها وصلت إلى حد إصدار قرار (عام 1938)، باعتبار العربية لغة أجنبية، لا شك أن ذلك الماضي كان له وزنه في الإقبال الخارق على استرجاع مقومات الشخصية الوطنية، لكنه لا يكفي وحده لتفسير الرهانات المحيطة بعملية بناء المساجد، وما رافقها من تحرك سياسي، يوشك أن يقلب الوضع في البلد رأسا على عقب. إن الأجيال الجديدة التي لم تعرف الاستعمار الفرنسي هي التي تساهم في النهوض بنشر المساجد، وهي التي تملؤها في أوقات الصلوات الخمس، وهي التي تشكل القوة الضاربة للجبهة الإسلامية للإنقاذ. وهذه ظاهرة لا بد من الإلحاح عليها. ففي ولاية الجزائر العاصمة مثلا، كان عدد المساجد وأماكن العبادة مع بداية حقبة الثمانينات، لا يتجاوز مائة وخمسة وثلاثين ولكنه ارتفع إلى مائتين في العام الماضي، كما ذكر لنا ذلك موظف كبير بوزارة الأوقاف والشؤون الدينية، هذا إضافة إلى مشاريع تصل إلى حدود الخمسين قيد الإنجاز أو الدرس. وفي عام 1986، كانت مدينة قسنطينة عاصمة الشرق الجزائري تشتمل على تسعين مسجدا وحوالي اثنتي عشر ثانوية، نصفها موروث عن العهد الفرنسي، في حين أن تسعين بالمائة من المساجد، شيدت خلال العشرين سنة الماضية، وتملك وسائل مالية وتجهيزات مادية أكثر وأوفر من المؤسسات المدرسية. وعلى المستوى الوطني كان عدد المساجد، قيد التشييد (في عام 1986) حوالي 1055، تضاف إليها ستة آلاف من أماكن العبادة الجاهزة للاستعمال، وفقا لإحصائيات وزارة الأوقاف سنة 1971. ولكن هذه الأرقام، كما يشير إلى ذلك المؤرخ الجزائري، أحمد رواجية، في كتابه عن «الإخوان والمسجد»، هي دون الحقيقة بكثير وقد لا تمثل سوى نصف الأماكن المشيدة بعد الاستقلال. ذلك أن الإشارات أو المؤشرات الإحصائية التي تقدمها وزارة الأوقاف والشؤون الدينية وتأخذها عنها وسائل الإعلام الرسمية، لا تأخذ في حسابها سوى المساجد المعترف بها، أي الواقعة مباشرة تحت وصايتها. ونحن نعرف أنه توجد آلاف المساجد السرية، غير المسجلة لدى الدولة، بل نحن نعرف أن هناك سوقا سوداء للشؤون الدينية، على غرار السوق السوداء بالنسبة للبضائع المادية. نعم، هناك سوق موازية للروحيات، مثلما هناك سوق سوداء للماديات. ومثل ما أن السوق السوداء التي تباع فيها السجائر والمشروبات الكحولية، والسلع الأخرى المهربة من الخارج، لا تخضع لإشراف الدولة، كذلك فإن السوق السوداء، السوق الموازية لتوفير أماكن العبادة، تكون هي الأخرى خارجة عن رقابة الدولة. إن العين المجربة والمجردة، تستطيع أن تلتقط بسهولة في الأحياء الشعبية، وفي الضواحي، وحتى في أماكن العمل، مظاهر هذه السوق السوداء الروحية، إن صح هذا التعبير، تماما مثل ما تستطيع أن تعثر بأماكن معينة من المدن الكبرى، على السلع المفقودة في مخازن الدولة. إنما الفرق في الحالتين كبير، وكبير جدا. في الحالة الأولى، أي السوق السوداء للبضائع المادية، تستطيع الدولة أن تقوم من حين لآخر بحملات تنظيف ومطاردات بواسطة الشرطة والجمارك. أما في الحالة الثانية، فإنها كثيرا ما تدخل في المزايدة من أجل بسط سيطرتها على المجال الديني، بما هو حقل خصب وضروري لتعزيز مشروعيتها الرمزية. رسميا لا وجود للسوق السوداء، ولكنها قائمة، تفقأ العيون ويعترف بها الناس ويتعاملون معها بمن فيهم الرسميون، ورسميا لا وجود لمساجد وأماكن للعبادة، خارجة عن نطاق مؤسسات الدولة، ولكن المساجد «الخاصة» والمساجد «الحرة» ومساجد الشعب، ربما تكون في الحقيقة أكثر عددا وأوسع جمهورا من مثيلاتها التابعات للدولة. والمشرفون على هذه المؤسسات التعبدية «الخاصة» أو «الحرة»، يتحايلون على الدولة بشتى الوسائل، ولكن من أكثر حيلهم انتشارا أن يتماطلوا في إنهاء أعمال البناء، تجنبا لقرار قد تتخذه وزارة الأوقاف لإلحاق المبنى الجديد أو ضمه لممتلكاتها. ومن هنا ذلك الطابع «المؤقت» الذي نلاحظه في كثير من المساجد. إن أغلب المساجد، وخاصة تلك الموجودة في حي القبة وباب الوادي، بالعاصمة، حيث جرت العادة على أن يتولى زعماء الجبهة الإسلامية للإنقاذ (لاسيما الشيخ عباسي مدني وعلي بلحاج) إلقاء خطب سياسية أو دينية، أيام الجمعة، تبدو من الخارج وكأنها لم تكتمل بعد، لكن الذي يدخل إليها يلاحظ أنه لا ينقصها شيء. في الكتاب الآنف الذكر (الإخوان والمسجد Les frères et la mosquée)، الصادر قبل بضعة أسابيع في باريس، للمؤرخ الجزائري أحمد رواجية والذي عالج فيه استراتيجية السيطرة على الفضاء الديني، بما هي تمهيد ومدخل للاستيلاء على الحقل الرمزي بكامله، في أفق الاستيلاء على السلطة البلدية والولائية وصولا إلى الحكم الوطني المركزي، تقسيم منهجي للمساجد إلى أربعة أنواع : أولا : مساجد الشعب. ثانيا : المساجد الحرة. ثالثا : المساجد الخاصة. رابعا : مساجد الدولة. لا ينبع هذا التمايز الذي يقيمه المؤلف بين مختلف أماكن العبادة، من وضعها القانوني وإنما من الوظيفة أو بالأحرى من الصفة التي يمنحها لها منشؤوها وممولوها، أي آباؤها الروحيون والماديون، وبعبارة أخرى، إذا كانت جميع المساجد، من الوجهة القانونية ملكا للدولة، وفقا لبنود الدستور والميثاق الوطني التي تجعل النشاط المعماري في المجال الديني مقصورا مبدئيا على الدولة، فإن هذه المساجد، بما فيها تلك التابعة لوزارة الأوقاف، لم تكف يوما عن أن تكون حقلا وسلاحا وهدفا بين أيدي كافة القوى الاجتماعية المتصارعة على الساحة، وبين أيدي كل الرموز والفعاليات السياسية والإيديولوجية. ولأنه لم يكن هناك، قبل خريف الغضب الدامي، أي مجال تتنفس منه المعارضة ضد نظام الحزب الواحد، فقد أصبحت المساجد، مع مرور الوقت، ساحة التعبير الحر الوحيدة في البلد. وبالطبع لم تكن هناك قوة أخرى، سوى التيار الإسلامي، مرشحة للاستفادة من هذه الحالة. مساجد الشعب تطلق عادة على أماكن العبادة التي يتم تشييدها في الخلاء، على ضفاف الأنهر أو فوق فضاءات مهجورة لا تصلح لهذا النمط من العمران، وتسمى كذلك لكونها موزعة فوق مجالات خضراء غير محددة الهوية. وهي تسمى «مساجد الشعب» من طرف الذين بادروا ببنائها من دون الحصول على رخصة الدولة، بينما يطلق عليها الرسميون «المساجد الفوضوية». وحين تكتشف السلطات عملية البناء وهي ما تزال في أطوارها الأولى، فهي غالبا ما تعمد إلى توقيفها، أحيانا بنفسها ثم اعتقال المسؤولين عنها وتقديمهم للمحاكمة. وغالبا ما يثير تصرف الدولة غضب السكان الذين يطالبون ليس فقط بتحرير المعتقلين، ولكن أيضا بمنحهم أرضا صالحة لبناء مسجد. وحين ترفض الدولة الاستجابة لمثل هذا المطلب، يقوم الناس بالاستيلاء عليه بالقوة ويشيدون عليه بناء من الباطون المسلح، عادة ما تغض الدولة الطرف عنه، في نهاية الأمر خوفا من استثارة عواطف المواطنين. يروي الشيخ محمد الصالح عابد حكاية هذه المساجد الفوضوية، التي مثلت لحظة هامة من لحظات الصراع بين التيار الإسلامي ونظام الحزب الواحد : «كنا نشيد مساجد من تنك في البداية، تؤدي فيها فريضة الصلاة لفترة من الوقت. وبعد ذلك ننزع جزءا من جدار التنك أو القصدير، ونعوضه بحائط جاهز. وبعد مرور أربعين يوما أو شهرين، يزداد عدد المؤمنين وتزداد قوتهم، فنقوم بهدم قسم من ذلك البناء القصديري، وغالبا ما يكون ذلك في الليل، وفي نفس الوقت، نعوض القصدير بمواد صلبة نشيد منها جدرانا ومحرابا بدائيا ونفرش مجموعة من الزرابي. ومن مزايا المواد الجاهزة أنها متينة، قابلة للاستعمال بسرعة. هكذا كنا نضع السلطات أمام الأمر الواقع، إنها لا تستطيع أن تدمر مكانا للعبادة مثل هذا، إلا إذا فجرته بالألغام، وقبلت مواجهة المؤمنين. وكنا نتقدم بعد ذلك إلى السلطات، ونحن مرفوعي الرؤوس، ونطالبهم برخصة البناء، وسواء قبلوها أو رفضوها، في تلك الحالة، فالأمر لا يهمنا. إننا نسمي هذا السلوك «لعبة» ونستطيع القول بأنها لعبة مكنتنا من الوصول إلى أهدافنا. ثم إن الأخبار تنتشر، بسرعة سريان النار في الهشيم. والمؤمنون الذين تعبوا من تسويف السلطات ومماطلتها ومراوغتها، اكتشفوا اللعبة، ولم يعودوا في نهاية المطاف يكلفون أنفسهم مشقة توجيه طلب إلى الإدارة. بهذه الطريقة السرية أو تكاد تكون سرية، تقدم الإسلام، على حد تعبير محمد الصالح العابد، مثلما يسري الدم في الشرايين. وهل تستطيع الدولة أن تعرف ما يدور في خلد المواطن؟ إنها لا تستطيع أن ترى إلا ما هو ماثل للعيان، ولا تملك أن تعرف ما يجري في رأس أي رجل. وإذا، فالإيمان لا تمكن مراقبته لكونه يعمل في أعمق مناطق النفس وأكثرها سرية». إلى هذا النوع من المساجد، يجب أن نضم أيضا الجوامع التي شيدت وفقا لرخص إجبارية قدمتها السلطات الإدارية. لقد شاهدنا عشرات من هذه المساجد المتواضعة، في أحياء الحراش وباش جراح (الذي انطلقت منه مظاهرات الأطفال والمراهقين الأولى، في شهر أكتوبر 1988) وبلكور وباب الواد، وحتى حي الأبيار السكني البورجوازي بالعاصمة ثم رأيناها بحي الفلاليين وحي الزيادية بقسنطينة، وحي الحمري بوهران، ولمسنا فيها رموزا حية، ناطقة بالقطيعة العميقة التي حصلت بين الدولة والمجتمع وبين الشعب والحزب الحاكم، وبين النخبة العصرية والسواد الأعظم من الناس، وأسفرت عن صعود الجبهة الإسلامية للإنقاذ، وانتكاس جبهة التحرير الوطني في الانتخابات البلدية والولائية الأخيرة. وما كان لهذه المساجد أن تشهد النور، لولا مثابرة القيمين عليها وصبرهم وإصرارهم على إنجازها خارج إطار الدولة ومؤسساتها. لقد أخطأت الجزائر، حين دخلت في عملية المزايدة في العقل الديني، واحترقت أصابعها بفعل هذه الخطيئة الأصلية، واحترق معها الحزب الحاكم، احتراقا لا شك أنه يحتاج بعده إل فترة نقاهة طويلة، قبل أن يستعيد عافيته. الجزائر في مفترق الطرق - مشاهدات ومسموعات 5 - (الحلقة الثانية) جبهة التحرير تصل إلى ذروة مجدها وانهيارها في عهد بن جديد جبهة التحرير الوطني التي نشأت في منتصف الخمسينات وحكمت الجزائر باسمها مباشرة في عهد الرئيس أحمد بن بلة (1962-1965) ثم وُضعت على الرف خلال مرحلة أولى أيام هواري بومدين، ثم أُحْيِيَت أثناء السنوات الأخيرة من حكمه (1976-1978)، لم تجد مكانتها الحقيقية إلا في عهد الشاذلي بن جديد. أثناء عهد الرئيس أحمد بن بلة كان هناك مكتب سياسي ولجنة مركزية ولكن مراكز القرار الحقيقية بقيت محصورة بالرئاسة ووزارة الدفاع الوطني. وفي عهد بومدين كانت «السلطة الثورية»، أي مجلس الثورة الذي تحول بالتدريج إلى جسد هامد جاءت بعده «القيادة السياسية» وهي مصطلح غامض كان يخفي حقيقة الحكم الفردي الذي انتهى إليه هواري بومدين في أواخر أيامه. ولعله من الإنصاف للحقيقة التاريخية أن نقول بأن الشاذلي بن جديد، هو الذي أعطى جبهة التحرير الوطني، فرصة تاريخية لم يقدمها لها، لا أحمد بن بلة ولا هواري بومدين. وقد تجلت ذروة سلطة الحزب، من الناحية الرمزية على الأقل، حين انتقل بمناسبة حلول الذكرى الثلاثين لإندلاع ثورة أول نونبر إلى المبنى السابق للحكومة العامة لتحويله إلى مقر مركزي له. حصل ذلك في أول نونبر 1984، وكان بمثابة حدث تاريخي له دلالته العميقة في حوليات السياسة الجزائرية. كانت تلك البناية، وهي أكبر العمارات وأكثرها عصرية بالعاصمة تطل من موقعها الإستراتيجي الفريد على حي القصبة، وتواجه مباني وزارة الدفاع الوطني، وتشرف على البريد المركزي وساحة الأمير عبد القادر وتتراءى من شرفتها منشآت الميناء وخطوط السكك الحديدية الآتية من الشرق والغرب، والطريق الشاطئي المؤدي إلى المطار، والسهول المنتجة الخصبة وشرفات جبال الأطلس البليدي المغلفة بالضباب. وكانت تبدو بحكم ضخامتها وشكلها الهندي العصري المتناسق والميدان القائم أمامها والسلالم الرخامية الفاخرة التي تقود إليها، بمثابة قصر كرملين حقيقي. في تلك البناية، كانت توجد الحكومة العامة الفرنسية في عهد الإستعمار. ومع الإستقلال خصصت لعدة وزارات، وعندما أصبحت مقرا مركزيا للحزب، منع وقوف السيارات أو دخول المارة إليها إلا برخصة خاصة الأمر الذي جعل الناس يتندرون ويطلقون عليها إسم «قصر الكرملين». لقد أصبحت حرما مقدسا، وخيل للناس يومها أن الحزب، أصبح هو الحاكم بأمره في البلاد. لكن السلطة الفعلية، كانت في حي المرادية، بالأعالي، حيث توجد مباني الرئاسة، وهي مجمعات بسيطة ذات شكل هندسي يجمع بين الطابع التركي والطابع الأندلسي لتقاليد المعمار الجزائرية. خلال الأسبوع الذي جرت فيه الانتخابات البلدية والولائية الأخيرة، تم أيضا انتقال جبهة التحرير الوطني من مقرها المركزي آنذاك، إلى بناية كانت احتلتها في السابق، وتحولت أثناء عصرها الذهبي الرمزي (1984-1988) إلى مقر لوزارة الداخلية، بشارع زيروت يوسف على جبهة البحر. كان حزب جبهة التحرير موجودا بتلك العمارة خلال عهد هواري بومدين الأول ثم انتقل منها إلى مبنى آخر يقوم بساحة الأمير عبد القادر، وتحول من ذلك المبنى إلى قصر الحكومة، وأخيرا رحل من قصر الحكومة مجددا، ومع الإنتخابات البلدية والولائية، يعود مرة أخرى إلى بناية زيروت يوسف. وهذا «الحل والترحال» يجسد مراحل صعود الحزب وهبوطه، أطوار قوته وضعفه، مظاهر هشاشة أو متانة نفوذه داخل الدولة. وكان حزب جبهة التحرير الوطني حتى انفجار خريف الغضب الجزائري (أكتوبر 1988)، يخشى بطبيعة الحال كل تشكيك في احتكاره للعمل السياسي، يخشى على الإمتيازات التي تمنحها له «مشروعيته التاريخية»، يخشى عليها من أن تمسها أو تنال منها الإنتقادات الصادرة عن المعارضين. ولقد وسع الشاذلي ابن جديد في الأيام الأولى من عهده سلطات الحزب وجعلها تشمل مجالات كانت خارجة عنها مثل التعليم والأوقاف والشؤون الدينية، وفي أول مؤتمر عقده الحزب بعد وفاة هواري بومدين (المؤتمر الرابع في يناير 1979) نصت المادة المائة والعشرون من نظامه الداخلي على أن أي شخص طمح لتحمل مسؤوليات قيادة المنظمات الجماهيرية، لابد أن يكون عضوا منظما في الحزب. جاء المؤتمر الخامس الذي انعقد فيما بين 24 و26 سبتمبر 1985 تحت شعار : «الوفاء، الإستمرارية، التطور» ليؤكد أن من واجب الحزب أن يقوم بتقوية الإتحادات الثقافية والعلمية والمهنية بوصفها امتدادا للمنظمات الجماهيرية، وذلك في المجالات التي تراها ضرورية من أجل تحقيق الرقي الثقافي والعلمي والمهني. وبعبارة أخرى، يقع على عاتق الحزب واجب التكفل بالمشاكل المتعلقة بهذه الإتحادات بسبب المكانة التي تحتلها في أوساط الجماهير، وبسبب المهمات الموكولة إليها لتحسيس التعبئة وإقامة الصلات العضوية بين هذه الفئات والجماهير الشعبية. ويجب على الحزب أن يدرج في جميع المستويات أنشطة الإتحادات في برنامج شامل للعمل (المصدر خطاب السيد صالح مسؤول التنظيم بالحزب المنشور بجريدة مجاهد - الطبعة الفرنسية عدد 26 1987). هذه الرقابة النظرية الشاملة على المجتمع مضافا إليها الغياب المطلق لوسائل التسلية والترفيه، وانعدام الهياكل الثقافية، ذلك كله يفسر الانتشار الفوضوي لمساجد الشعب، بما هي حقل سياسي معاكس لسياسة الجبهة. وعلى الرغم من كل العقبات التي وضعتها الإدارة بوجه تكوين الهيئات الخارجة عن سيطرة الحزب، فقد بلغ عدد الروابط والجمعيات الدينية والثقافية والرياضية، التي تكونت بمجموع التراب الجزائري فيما بين 1971 و1987 حوالي أحد عشر ألفا (11000). وفي ولاية الجزائر العاصمة وحدها تكونت في نفس الفترة الزمنية خمسمائة وإحدى وأربعون رابطة، من بينها أربعمائة وخمسون، تهتم بصيانة التراث، أي أنها إما تُعنى بتشييد مساجد جديدة، أو صيانة مساجد قديمة، أو تحويل مباني موجودة في أماكن للعبادة أو الحفاظ على مكتبات أوترميمها. وهكذا فإن صرامة القانون الإداري الذي يمنع قيام هيئات خارجة عن إطار الحزب، لم تمنع قيام آلاف الروابط الدينية وشبه الدينية، الثقافية وشبه الثقافية، الرياضية وشبه الرياضية، ولم تحل بينها وبين ملء الفراغ الحقيقي الذي تركه الحزب. وتشير المادة الثانية من المرسوم الخاص بتكوين الروابط إلى أن إنشاء أية هيئة يستلزم موافقة ذات طابع مزدوج : موافقة وزارة الداخلية أو ممثليها على الصعيد المحلي، بعد موافقة الوزارة الوصية. وحين يتعلق الأمر برابطة دينية، فلا بد من ترخيص صادر عن وزارة الشؤون الدينية، ثم ترخيص من الولاية، وهي عادة ما تطالب بترخيص من المجلس البلدي الشعبي، الذي لابد له بدوره أن يطالب بترخيص من إدارة الشؤون الحضرية. كل هذه السدود وضعها المشرع، في عهد الحزب الواحد، للحيلولة دون تنامي ظاهرة الحياة الروابطية، بما هي ممارسة مناهضة الدولة. لقد تمكن السلفيون الجزائريون، سواء منهم الجدد المعروفون اليوم باسم الجبهة الإسلامية للإنقاذ، أو القدامى الذين كانت لهم قنواتهم الرسمية مع السلطة، فتمكنوا من اختراق كافة السدود وبنوا لأنفسهم شبكات من المساجد والروابط والهيئات أمكنتهم من الإلتفاف حول صعوبات العمل في ظل نظام الحزب الواحد، وجعلتهم يبرزون كقوة سياسية أولى، في جزائر ما بعد خريف الغضب الدامي. النوع الثاني من المساجد، أي «المساجد الحرة» دائما وفقا لترتيب المؤرخ الجزائري الشاب أحمد رواجيه، تم تشييده بمبادرة من «الأصوليين» أنفسهم. وأريد أن أتوقف قليلا عند هذه الكلمة. إنها ترجمة لكلمة Intégristes الفرنسية وهي، أي الأصول، تعمل بالتناوب، مع «الإسلاميين» للحديث عن هذه الظاهرة الجديدة. وكلمة «الإسلاميين» مترجمة أيضا عن عبارة «Islamiste» الآتية إلينا من الغرب. والتسميات السياسية مجال رهان إستراتيجي، لا يجوز لنا أن نستهين بها، وسوف أحرص شخصيا على عدم إستعمال هاتين الكلمتين، أي «الإسلاميين» و«الأصوليين» إلا إذا وضعناهما بين أقواس ومزدوجات، أحرص على عدم استعمالهما لكونهما لا تفيان بالغرض، ولكون الظاهرة التي تعالجاها لها تراث قديم وحديث في تاريخنا الفكري السياسي، الماضي والمعاصر. إن كلمة الأصوليين يفترض أن تعني ببساطة المنشغلين بأصول الدين أو المتفقهين فيها، وهي حالة لا أظن أن من تطلقها عليهم وسائل الإعلام الغربية أو العربية، يستحقونها، أو حتى يقبلونها. أما «الإسلاميون» حتى ترسل بالمعنى الإطلاقي، أو بالمعنى المطلق فقد توحي بأن بعض المواطنين الآخرين الذين لا ينتمون إلى مثل هذه التنظيمات والذين قد يذهبون إلى حد معارضتها والإعتراض على ممارستها وخطتها وأهدافها، ليسوا «إسلاميين» بل حتى ليسوا مسلمين ولأن الإلتباس في مثل هذه الأمور، قد يقود إلى إختلاط في المفاهيم والأدوار، وإلى تنصيب فئة من المجتمع كمرجعية أو معيارية في حقل ملغوم مثل مجال العلاقة بين المقدس والسياسي فإنني أفضل أن أستعمل كلمة السلفيين والسلفيين الجدد أو الإخوان المسلمين أو الإخوان المسلمين الجدد. إنني أرفض مصطلحات «الأصوليين» و«الإسلاميين» ليس فقط لكونها ترجمات، وإنما بالخصوص لكون استعمالها المفرط من طرف أجهزة الإعلام الغربية والعربية يوشك أن يخلق في عالمنا العربي، وفي مغربنا الكبير بالذات، مناخا من الإرهاب الفكري، لا تعود معه المعالجة الفكرية الهادئة ممكنة ولا يعود معه حتى مجرد التفكير محتملا. والذي ألاحظه بعد ذلك أن الناس البسطاء في المغرب والجزائر، مازالوا يطلقون على الذين اتخذوا من الدين سلاحا سياسيا، لمحاربة الحكام كلمات مثل «الإخوان المسلمين» أو «الخوانجية» وأريد أن أضيف إليها السلفية أو السلفية الجديدة، وفي كل الأحوال أُلح على أن هذه المصطلحات كلها وما سواها، مما هو في معناها أو قريب منه، إنما هي أولا وأخيرا، ممارسة سياسة إعتيادية جدا نادرا ما تكون الحجج الدينية المستعملة فيها سوى نمطٍ لإسكات الصوت الآخر. والمساجد الحرة تم بناؤها من طرف السلفيين الجدد، وهي على العكس من مساجد الشعب ومساجد الدولة، تستخدم لأغراض سياسية واضحة، يشكل فيها الخطاب الديني سلاحا سياسيا مكشوفا. مساجد الشعب، هي في وجه من الوجوه، تعبير عن نمط من أنماط المقاومة السلبية ضد الوضع القائم، ومساجد الدولة، هي ضرب من ضروب القهر والإرهاب الأيديولوجي، بينما المساجد الحرة تشكل فضاءات لصراع مفتوح ضد النظام السياسي بكل تجلياته الطبقية وغيرها. وهذه المساجد الحرة تستند إلى المهمشين والمحرومين من كل ثمرات الحداثة. خطباء المساجد الحرة، في غالبيتهم من الشباب المتخرج من الجامعات أو المعاهد العليا، الذين لا عمل لهم، والمتهم الوحيد لديهم هو الدولة. الخطب التي تُلقى في هذه الأماكن تتكلم دائما عن نفس الموضوعات : التوزيع المجحف للثروات، المشاكل الإجتماعية من سكن وصحة ونقل وتمدرس، انحراف المجتمع أو جزء منه عن الأخلاق الإسلامية كما يفهمها المتكلمون، انتشار عادات إستهلاك الكحول، الدعاية المقنعة أو المكشوفة، تقليد الغرب وغياب إحترام الأسلاف. وتجد هذه الموضوعات آذانا صاغية لدى الشباب، لاسيما أولئك الذين أكملوا دراستهم الثانوية باللغة العربية، والذين انضافت إليهم ابتداء من عام 1985 أعداد غفيرة من خريجي التعليم المزدوج. كل هؤلاء الشباب يجدون أنفسهم في الشارع، فليتقطهم بل يتخطفهم أو يتلقفهم، حقيقة ومجازا، الدعاة السلفيون الجدد، بالمساجد الحرة. تجد الخطب الملقاة بهذه الأماكن نجاحا خارقا بهذه الأوساط لأن الخطباء يعرفون كيف يضعون أصابعهم على الجروح النازفة وكيف يعينون المسؤولين عن مأساة هؤلاء الشباب. وإقبال الأجيال الصاعدة من المتعلمين على المساجد الحرة تفسره حرية التعبير التي يملكها الخطباء، مقارنة مع الخُطب الموجهة في مساجد الدولة، وتفسره الآفاق المسدودة أمام طلاب تخرجوا حديثا إن من التعليم العالي أو من ثانويات التعليم الفني من دون أن يجدوا لهم مواقع في هياكل الإنتاج أو في الإدارة. كما يفسره انعدام أماكن التسلية وقتل الفراغ. وحين تتوفر هذه الأماكن مثل مركب رياض الفتح بجوار مقام الشهيد بالعاصمة، لا تكون في متناول ذوي الدخول المحدودة. إن تناول فنجان قهوة برياض الفتح، مثلا، يكلف ما بين 10 و12 دينارا، وهو مبلغ لا يتوفر عليه الشاب العاطل عن العمل والباحث عن وسيلة لتزجية أوقات الفراغ وصرف الطاقات المتفجرة الكامنة. والمساجد الحرة تلعب في هذه الحالة دور التعويض والتنفيس، أو هكذا على الأقل يفهمها روادها. والسلفيون الجدد يقولون إنها تحمي الشباب من الإنحراف الخلقي ومن الجنوح إلى ممارسة عادات سيئة كالسرقة وتناول المخدرات. وقد تناقشنا مع مجموعة من الشباب، ذات يوم بعد انتهاء صلاة الجمعة في مسجد القبة، وهو المكان المفضل لتجمعهم، من أجل الإستماع إلى الإمام الشاب علي بلحاج، الرجل الثاني في قيادة الجبهة الإسلامية للإنقاذ، تناقشنا معهم وحاولنا أن نعرف منهم الدوافع التي تجعلهم يقبلون على المساجد الحرة، ولا يذهبون إلى مساجد الدولة. واش تْحَبْ؟ راهم يكذبو علينا. ماكاينا لا خدمة ولا ردمة. ما طالبين والو... يهَدروا ...يهَدْروا... وما يعْملوا حتى حاجة. بلْعوا علينا طْريقْ الخدمة ويحبُون نْبلْعُ أفَّامْنَا. ما نِيشْ عارف؟ خرْجُونا من المدرسة ومالْقينا شغلْ. وأين تحبنا نروحُو؟ عندنا ستاد والجَامع، هذا الشيء اللّي كايْنْ. وأين تحبنا نروحو يرَحم والْديكْ؟ نبقاوْ قاعْدينْ في الديُور؟ نلْعْبو بيهم؟ جابُو لكلابْ من ألمانيا، لي بيرجي ألمان باهْ يطلْقوهُم علينا. يقولوا علينا حايْطيست؟ مانيشْ فاهم عْلى ربْهُم واش يحبُونا نعملْ. إذا مشينا للجامعْ يْقُولوا علينا من الفيس، وإذا درْنا في الزناقِي يقولوا علينا بطاليين، وإذا وْقَفنا وما تحركْنا يسَمُونا حائطيين، ولا مشينا للستادْ يقولوا فوضويين، يَرْحَم والْديكْ قول لينا واشْ نْديرو؟ هيا قُول لينا؟ حتى الستادْ ما عندنا دراهم باشْ ندخلوه ! في الجمعة 15 يونيو، أي بعد مرور ثلاثة أيام على الإنتخابات البلدية والولائية وبعد الإنتهاء من تأدية الفريضة، والإستماع إلى تلك الخطبة العنيفة التي ألقاها الإمام الشاب علي بلحاج، لاحظنا أن الإضطراب دب فجأة في صفوف المصلين الذين بدأوا يطوون سجاداتهم الصغيرة بسرعة ويقفون وأبصارهم معلقة بالسماء. ثم تعالت فجأة أصوات «الله أكبر... الله أكبر»، حدث ذلك في مسجد القبة الشعبي، الذي كان يُلقي فيه الشيخ عبد اللطيف السلطاني، مؤلف كتاب «المزدكية أصل الإشتراكية» خُطبه النارية ضد النظام في عهد بن بلة وعهد بومدين. ثم تحول بعد وفاته إلى مكان من أمكنة النقد الديني السياسي للنظام القائم. في ذلك اليوم، وبعد النصر الإنتخابي الكاسح، كانت النفوس معبأة ومستعدة لتقبل ما تسمعه وتصدق ما تراه وما لا تراه... ألقى الإمام علي بلحاج خطبة سياسية نارية هدد فيها فرنسا، مؤكدا أن الجزائر لن تنسى الجرائم التي ارتُكبت فوق أراضيها خاصة غداة الحرب العالمية الثانية ثم في الفترة الفاصلة ما بين نوفمبر 1954 ويوليوز 1962، والجزائر سوف تجعل فرنسا تدفع الثمن غاليا. سمعنا ذلك كله ورأينا الناس تتدافع بالمناكب، وتتزاحم، لأن سحابة اعتيادية كانت معلقة في السماء، قالوا إنهم رأوا فيها إسم الله. وقد سقط عدد من الناس تحت تأثير لحظة الإنفعال الجماعي، وأخذ آخرون يمرغون أنفسهم في التراب، مثل الدراويش من فرط التأثر. وشاهدنا مصوري القناة التلفزيونية يلتقطون تلك السحابة، التي بثت صورتها إلى جميع أنحاء العالم، ذلك المساء. وتمكنا من رؤيتها على القناة الثانية في تلك الليلة، عند صديق فرنسي يملك هوائيا يمكنه من إلتقاط كافة البرامج الآتية من وراء البحر، شاهدنا تلك السحابة الهزيلة في الصورة المتلفزة، بعد أن كنا رأيناها بالعين المجردة قبل ساعات، ورأينا كيف تستطيع الخرافة أن تفعل فعلها السحري في عقول الناس، وكيف يمكن لأي دجال أن يثير حالة من الانفعالات النفسية القوية تدفع الناس إلى تصرفات جنونية وتضعهم في حالة القابلية النفسية لتصديق أي شيء. بجانب مساجد الشعب والمساجد الحرة، توجد المساجد الخاصة، وهي عادة تكون من صنع وجهاء وأعيان محليين، أو تجار جمعوا ثرواتهم بالطرق المختلفة. من هؤلاء التجار من تنزل عليهم الثروة فجأة بسبب صفقة رابحة أو بفضل المضاربات العقارية، أو من خلال المشاركة في عملية من العمليات التجارية الغامضة. وقد جرت العادة أن يتجنب هؤلاء الأعيان والوجهاء والتجار إحترام قانون الروابط والجمعيات لأنه يقيد رغبتهم في الظهور، وربما كانت مناسبة لكشف مصادر ثرواتهم. إن هذه المساجد الخاصة كثيرا ما تكون مناسبة لإستثمار أموال طائلة، تستوجب تحويل ملايين من العملة الصعبة إلى الخارج لشراء عناصر الإنارة والديكور وعدد من المواد غير المتوفرة في السوق المحلية، والمحسن الذي يتولى بناء مسجد خاص، يتعرض في حالة مروره من القنوات الرسمية لمخاطر عديدة، ليس أهونها أنه قد يفقد سمعته في هذه المناسبة مرتين : مرة أولى حين يظهر وكأن الدولة هي صاحبة المشروع ومرة ثانية حين تنكشف بعض الجوانب غير المشرفة في عملية تحويل العملة واستيراد مواد البناء. والتاجر أو الوجيه أو المحسن الراغب في بناء المسجد، حريص كل الحرص على استعادة أمواله، على الأقل في شكل «رد إعتبار رمزي». يقول الأستاذ أحمد رواجية في كتابه : «الإخوان والمسجد» : «من أجل النجاح على المستويين : الإجتماعي والديني، لماذا لا يجري التفكير في إعادة الإعتبار إلى نظام الأوقاف القديم ذلك النظام الذي ساد قبل الإستعمار، وأثناء العهد الإستعماري، وكان يضمن للذين يعطون أملاكهم للأوقاف كل الشروط الضرورية للدخول إلى الجنة في العالم الآخر، ويضمن لهم كذلك الحرمة الإجتماعية، في هذه الحياة الدنيا؟ لكن التشريع الرسمي لا يسمح بإعادة الإعتبار للأحباس أو الأوقاف الخاصة. لقد أُدمجت هذه الأوقاف غداة الإستقلال في أملاك الدولة، باعتبار أن الإسلام دين الدولة. وفي هذا المجال، اقتدت الجزائر المستقلة بالقانون الإستعماري الذي أصدر في أكتوبر 1844 مرسوما، أكده من جديد قانون 16 يونيو 1851، يسمح بنزع الطابع غير القابل للتفويت عن الأوقاف الخاصة من أجل تمكين الأوروبيين من تملكها» (المصدر، الكتاب المشار إليه آنفا صفحة 94...). كل هذه الصعوبات القانونية -كما حدثنا أحد المحامين الجزائريين المتخصصين بهذا المجال، والعاملين أيضا في حقل الدفاع عن حقوق الإنسان- لم تمنع كبار التجار والوجهاء من الإلتفاف حول التشريع الجاري به العمل. إنهم يجدون بالفعل مصاعب كبرى في إدارة مؤسساتهم الخيرية لكنهم يتحايلون عليها. وهذه المؤسسات تنبت كالفطر في صورة مساجد، تسمح لأصحابها بأن يضربوا عصفورين بحجر واحد. فهم من ناحية يقومون بخرق التشريع الخاص بالأوقاف التقليدية ومن جهة ثانية ينتزعون الحرمة الإجتماعية التي لا يستطيعون أن يكتسبوها من خلال ثروتهم وحدها. هكذا نجد أن التشريع الذي يحرم على الخواص إدارة كل ما هو مقدس، يتم تجاوزه بواسطة لعبة العلاقات الشخصية وعلاقات القرابة أو المعروفة التي يملكها الوجهاء والأعيان والتجار مع كبار الموظفين والمسؤولين العاملين بوزارة الأوقاف والذين كثيرا ما يغُضُّون الطرف عن ممارسات خارجية مبدئيا على القانون، وعلى عكس السلفيين الجدد الذين لا يعبأون بمواقف النظام منهم، فإن الأعيان لا يترددون في المشاركة بلعبة الدولة، وهم يأخذون بعض رموز الدولة، رهائن حقيقيين عندهم، بفعل المصاهرات والمبادلات الإقتصادية والمالية. وهم يقولون إنهم مع الإسلام بما هو دين للدولة. لكن بشرط أن تُعطى لهم حرية استثمار جزء من فوائضهم الإقتصادية في مساجد تحمل أسماءهم، مقابل تكوين رابطة شبه دينية. ويضيف مخاطبنا : «ولكن هذه الرابطة غالبا ما تكون شكلية وإسمية لا غير، وليست لديها أية وكالة رسمية، لأنها مؤلفة في كثير من الأحيان من أقارب المالك. وهذا الأخير هو المسؤول عن الإدارة والصيانة والإدامة والتنشيط ودفع رواتب الأئمة. وبالطبع يقول المالك دائما : «المسجد ملك لله والدولة»، إلا أنه من النادر في الواقع الملموس، أن يتدخل الإله والدولة في تحديد المهمات التي وضعها المحسن للمسجد، وهي مهمات ليست تعبدية ولكنها اجتماعية أيضا تهدف في المقام الأول إلى توسيع مجال نفوذ صاحب المشروع وتوسيع سمعته في محيطه. ولأن المسجد الخاص يتم تشييده، إجمالا بنفس الحي الذي يقطنه المحسن، وربما يكون ملاصقا لبيته الفخم فإن الناس الذين يرتدونه لتأدية فرائض الصلوات الخمس، يكونون عادة من أصدقاء الرجل ومعارفه أو ممن له صلة بهم». وقد زرنا واحدا من هذه المساجد لحظة صلاة العصر، في يوم من الأيام، ورأينا المؤمنين ينسحبون، ويشكلون جماعات جماعات، خارج المسجد يناقشون أمور الحياة اليومية بما فيها من شؤون التجارة والمدرسة والنقل والسياسة. وكانت الحملة الإنتخابية على أشدها، وكانت التعاليق كلها تدور حول الشعارات والخطب واللوائح الخاصة بمختلف الأحزاب. إلتقطنا هذه الثرثرة، ونحن نقف مع شلة من الأصدقاء أمام مدخل مسجد بحي الأبيار. واشْ؟ سْمعْت واش قال الشيخ علي بلحاج في قسنطينة؟ لا ما سْمعت والو... كُنت مسافر، رجعت اليوم من وهران ! واش يقول؟ قال لهُم نحن ما نضمنْ لكُم لا سكن ولا عمل، الشي الوحيد اللي نضمنُوه لكُم هو الجنة. أراك تَتْمَسْخَر... يا راجلْ عيبْ عليك... أرْوَحْ ! يا سي بلعيد... قولوا واش سمعت في قسنطينة البارح... مافهمْت عليك؟ قُلْت ليك قولْ لُو واش سمعْت في قسنطينة... يا أخي كُنتْ هناكْ وأحكيتْ لي... نقول ليك الصّحْ ما سمعْت والو كُنت في لُوزينة ورْجعت شفت جماعة وقالو لي بللّي راهوا الشيخ علي بلحاج جا مْعَ عباسي مدني، وخْطبْ وقال للناس : إلا فوطِتُوا علينا نضْمنْ لْكُم الدخول في الجنة، ما نضْمن لكم لا سكن ولا عمل... عيش رجَبْ ترى العجب ! راهم يقولو باللي الإنسان اللي ما يْفوُطِي عليهم ما هو شي مسلم... نظن بللي الناس عشو مع هندي لفكاير؟ راهم يطلقوا في الدعيات ويقولو اللي ما يْفُوطِي علينا كافر... أهْلا... أهْلا... سي الحاج ! سامع واش راهُم يقولو جْماعة؟ ياودّي غير خلّينا... الله يسْتر. الناس مافاهمين والو راهُم يقولو لْهم فُطيو على الإسلام. وعْلاه أحنا يهُود ولا نصارى؟ أسمع البارح كنت ماشي في الطريق قْريب من ساحة الأمير عبد القادر... شفت واحد يعَلق ليزافيشْ نْتاع الفيس) أي الجبهة الإسلامية للإنقاذ FIS).. كان راح يطيح قلت لو رَد بالك. تعرف واشْ قال لي؟ إذا متْ نمشي في سبيل الله، وندخل الجنة خير لي من الهم والشر اللي راني فيه. والجبهة؟ مبْقاو عندها مناضلين كيما بكري ! راهم معَولين يرْبحو بالإدارة ! الماتش مبيُوعة. جمهور هذا المسجد الخاص يختلف كليا عن الجماهير التي رأيناها في القبة وباب الواد. نحن هنا في حي الأبيار السكني البرجوازي، والرواد الذين التقطنا قليلا من ثرثرتهم، ينتمون فيما يبدو من مظاهرهم الخارجية، إلى مختلف شرائح الطبقات المتوسطة، بما فيها من تجار وموظفين وأساتذة وأصحاب مهن حرة من الأطباء والمحامين والمهندسين. تلك في الأقل هي الصورة التي قدمها لنا عنهم ذلك الصديق الذي رافقنا في زيارتنا للمسجد وقت صلاة العصر. وقد شرح لنا ذلك الصديق، وهو دبلوماسي سابق، أصبح يمارس الأعمال الحرة أن الثرثرة التي إستمعنا إليها تحدث يوميا في تلك الفترة التالية لصلاة العصر، وتدور دائما حول أحداث الساعة. وهناك موضوع آخر غالبا ما يأخذ حيزا من الوقت ألا وهو التجارة. والأسئلة التي تطرح دائما هي : هل يجوز بيع السلع بنسبة من الأرباح تفوق عشر مرات سعرها الحقيقي؟ وهل يجوز في سوق يسيطر عليها الوسطاء بيع السلع بأسعار منخفضة قياسا إلى تلك الأثمان التي يفرضونها؟ وهل يجوز إتباع سياسة الدولة في هذا المجال؟ وهل يحق للدولة أصلا أن تتدخل في شؤون التجارة؟ وهناك دائما كما يقول هذا الصديق، في هذه المناسبات التي تكرر يوميا، شخص يبدو أنه أَفْهَمُ من الآخرين لكونه يحفظ بضع آيات قرآنية أو يحفظ أحاديث نبوية تتصل بالتجارة والمعاملات. لم يكن الشخص موجودا في ذلك اليوم الذي زرنا فيه مسجد الأبيار. وقد سمعت-يقول صديقنا- أنه ذهب للمشاركة في الحملة الإنتخابية مع الجبهة الإسلامية للإنقاذ. إنه أستاذ جامعي يردد باستمرار : «ما فرطنا في الكتاب من شيء» ويردد أيضا : «وأحل الله البيع وحرم الربا». تصور أن الإلتباس الحاصل بين هذه الأمور والمناقشات الجارية في كل مكان بشأنها، في المساجد والجامعات والمعاهد والكليات، خلقت جوا متوترا داخل المساجد والمؤسسات المالية. وفي يوم من الأيام، ذهب الناس إلى صناديق التوفير الوطني فوجدوا شبابيكها مغلقة بسبب إضراب عام لم يُعلن عنه من قبل ولم يسمع عنه أحد. وقيل إن سبب الإغلاق يرجع إلى أن عددا من المنخرطين الجدد في الجبهة الإسلامية للإنقاذ والعاملين بهذه المؤسسات الرسمية التابعة لوزارة المالية اقتنعوا بأن التوفير هو نوع من الربا. وقرروا شن إضراب عن العمل ثم عادت صناديق التوفير، لفتح أبوابها أمام الجمهور دون إعطاء أي تفسير مقنع لتصرفها الغريب ذلك. الجزائر في مفترق الطرق مشاهدات ومسموعات 6 - (الحلقة الأولى) كيف استُعملت المسألة اللغوية في الأزمة السياسية «من المسجد إلى البلدية» : تحت هذا العنوان أمكن لنا أن نعالج وقائع وأحداث السنوات العشرين الماضية، بما هي محطات أو مراحل مسيرة طويلة انتهى الشوط الأول منها في الثاني عشر من يونيو الماضي، حين حملت صناديق الاقتراع إلى المجالس البلدية والولائية أغلبية ساحقة تأتي إلى السلطة المحلية باسم جبهة الإنقاذ الإسلامية، وتأتي لتمارس هذه السلطة باسم الإسلام. «البلدية هي اللبنة الأولى في الدولة الإسلامية» : كان ذلك هو الشعار الأوسع انتشارا في الحملة الانتخابية الأخيرة. «اللبنة الأولى» استغرق بناؤها عشرين سنة على الأقل. قامت هذه اللبنة على ثلاثة أركان هي المسجد والمدرسة واللغة. ومن مفارقات السياسة الجزائرية، أن الدولة الجزائرية، الدولة البومدينية، الثورية، ذات التوجه الاشتراكي هي التي وفرت الأجواء والأسباب لصعود التيار الديني إلى مقام القوة المهيمنة في الحياة السياسية، وأن الرئيس الشاذلي بن جديد وحزب جبهة التحرير الوطني هما اللذان، ساعدا بدورهما على انتصار هذا التيار انتصارا ساحقا في أول انتخابات ديمقراطية، قد تكون مجرد تمهيد أو مدخل ... السلفيين إلى قيادة المجتمع والدولة في المستوى المركزي. ونحن نستطيع أن نؤرخ للمرحلة التي انتهت في منتصف يونيو الماضي، ببداية حقبة السبعينات. ففي تلك الفترة أصدر هواري بومدين قرارات الثورة الزراعية وقرارات تعريب، ومنذ ذلك الحين اقترن الصراع الاجتماعي بالصراع الثقافي. لقد تكونت مباشرة، بعد صدور قانون الثورة الزراعية، اللجان الجامعية للثورة الزراعية، بالتعاون مع السلطات الحكومية لمواجهة ما سمي آنذاك: الحملة المحركة والموجهة من طرف الرجعية وأحد أهدافها هو تخريب وتلغيم المستوى النوعي في علاقات الجماهير الشعبية مع السلطة الثورية، وما زلنا نذكر ذلك الخطاب الملتهب الذي ألقاه هواري بومدين في أطر تلك اللجان الجامعية وقال لهم فيه أنه يعتبرهم «مفوضين سياسيين»، وما زلنا نذكر كيف أن هؤلاء الطلاب والطالبات وكانت غالبيتهم الكبرى تنتمي إلى حزب الطليعة الاشتراكي (الحزب الشيوعي سابقا). كانوا يذهبون إلى الفلاحين، في القرى الاشتراكية الجديدة، وفي تجمعات «الثورة الزراعية» ويقولون لهم : «تقدموا فإن الرئيس معكم»، ووفقا للإحصائيات الرسمية المتوفرة بوزارة الفلاحة والإصلاح الزراعي فقد ارتفع عدد الطلاب المتطوعين من ألف طالب وطالبة مع بداية عملية التطوع في عام 1972 إلى عشرة آلاف طالب سنة 1975. في البداية كانت عملية التطوع قد أُطلقت فيما يبدو لشرح أهداف الثورة الزراعية للفلاحين ولكنها ما لبثت أن امتدت إلى العمال الصناعيين، الذين التحق العشرات إن لم يكن المئات منهم بالطلاب، وأصبحوا مثلهم رسلا للسلطة الثورية لدى جماهير الفلاحين المستفيدين من ثمرات الإصلاح الزراعي. ووفقا لرواية سمعناها من المؤرخ الجزائري محمد حربي، الذي كان يومها في السجن، مع السيد حسين زهوان، عضو المكتب السياسي لجبهة التحرير الوطني (1964-1965) بوصفهما عضوين في قيادة منظمة المقاومة الشعبية، وبتهمة تأييد الرئيس السابق أحمد بن بلة، وحصل ذلك التحالف بين الحزب الشيوعي الجزائري والرئيس هواري بومدين كترجمة للسياسة السوفياتية التي كانت تنتهج في عهد ليونيد بويجنيف خط تشجيع ما يسمى ب«الطريق الرأسمالي». كما حصل ذلك التحالف نتيجة التقارب الذي نشأ بين هواري بومدين وفيديل كاسترو. عنصر آخر لعب دورا قويا في تأليب العناصر المحافظة ضد الثورة الزراعية هو مشاركة الفتيات الجامعيات في حملات التطوع. لقد تركت تلك المشاركة النسائية ذكريات حية في النفوس. كانت صور الفتيات، السافرات، وهن يلبسن البناطل والبوط، ويشاركن مع زملائهن في التجمعات والمهرجانات لتحسيس الفلاحين بأهمية تلك الثورة الزراعية، حدث غير مألوف في حياة المجتمع الجزائري. ولقد قدمت تلك المشاركة، يومها (على حد تعبير جريدة المجاهد عدد 20 يوليو 1976)، على أنها واقعة إيجابية جدا، وكون المرأة الشابة، أي الفتاة الجامعية، قبلت أن تتخلص من الحجاب الذي لا يخدم لا مصالحها ولا مصالح أسرتها، ولا بطبيعة الحال، مصالح البلاد، يعني أن الرجل يوشك أن يغير رأيه تجاه المرأة. إنه رجل جديد، تغريه أفكار التقدم، وهو رجل يريد أن يحطم الأغلال التي قيدته بها قوى الشر وقوى الرجعية، دائما وقفا لتعبير جريدة المجاهد. غير أن ما كانت تراه جريدة المجاهد مؤشرا على تغيير عقلية الرجل تجاه المرأة، سوف تنظر إليه العناصر المحافظة بما هو ذمة الاستفزاز للتقاليد والأخلاق «السلف الصالح»، وسوف تلفظ الحملة التطوعية أنفاسها الأخيرة في منتصف عام 1976، وسوف تقوم السلطة الثورية بفك تعبئة الطلاب والطالبات لأنها لم تعد بحاجة إليهم، ولأنها أيضا مشغولة بحدثين جديدين. الحدث الأول خارجي، ذو طابع إقليمي، يتمثل في النزاع الناشب حول الصحراء المغربية، والحدث الثاني داخلي، وذو طابع سياسي إيديولوجي، يتمثل في مناقشة الميثاق الوطني الجديد، وفي إعداد الدستور الجديد، والاستفتاء حوله، ثم الانتخابات الرئاسية، بعد ذلك. ولسوف يستفيد السلفيون الجدد من تجميد التحالف بين هواري بومدين واليسار الماركسي، ويبادرون بإقصاء العناصر اليسارية من الأماكن التي كانت تحتلها في الجامعة. لقد شهدت الأحياء الجامعية بالجزائر العاصمة وقسنطينة، في فترة الثورة الزراعية مواجهات عنيفة أسفرت في نهاية المطاف عن فرض هيمنة التيار السلفي الجديد (أو التيار الأصولي الإسلامي) على الساحة الجامعية. وذكر لنا أحد قادة الحركة الطلابية من الذين شاركوا بمعارك تلك الفترة، وهو اليوم أستاذ جامعي أن هزيمة المجموعات اليسارية في تلك المواجهات ترجع لعدة عوامل أهمها أن هواري بومدين وضع حدا لتجربة التطوع في المجال الزراعي والاجتماعي، لتوجيه المتطوعين إلى الخدمة الوطنية تحت ضغط احتمالات الحرب مع المغرب. لم يكن هواري بومدين وفقا لأقوال هذا الأستاذ الجامعي يثق بالأصوليين ولا بالسلفيين، وكان يخشى دخولهم إلى الجيش وتأثيرهم فيه، لذلك أُرسلت تعليمات سرية إلى قيادات الوحدات العسكرية لتجميد الطلاب اليساريين الذين سبق لهم أن عملوا في اللجان الجامعية للثورة الزراعية، وبقي الميدان فارغا أمام الآخرين. وقد حصلت المواجهة اللفظية الأولى في شهر أبريل (عام 1974) أثناء انعقاد ندوة بجامعة قسنطينة حول قانون الأسرة الجزائرية والمغاربية. في تلك الندوة، وقد حضرناها، كما يقول محدثنا، أعادت إشكالية الصراع بين المعربين والمفرنسين إلى صدارة النقاش، بعد أن كانت التعبئة الطلابية حول الثورة الزراعية قد وضعتها في المرتبة الثانية. وعلى الرغم من أن الموضوعات المطروحة للنقاش، لم تكن لها صلة مباشرة بالمسألة، فقد اسْتُعملت اللغة العربية، في هذه المناسبة، سلاحا للتعبير عن أزمة كامنة تمس الإختيارات السياسية والإيديولوجية للنظام. كان افتتاح الندوة باللغة الفرنسية وسرعان ما انطلقت، منذ الجلسة الأولى أصوات وهتافات تنادي «بالعربية... بالعربية...» وكان هناك محاضرون تونسيون ومصريون وجزائريون يجيدون الحديث بالعربية، وقد وجد المنظمون أنفسهم أمام جمهور متحمس منقسم على نفسه. كان المفرنسون يصفقون للخطب التي تُلقى بالفرنسية، وكان المعرَّبون يردون عليهم بالصفير. وكان من بين المحاضرين أستاذ مصري من أصل قبطي، وأستاذ تونسي، من الحزب الحاكم في تونس، حزب بورقيبة الذي ينظر إليه السلفيون الجزائريون الجدد على أنه حزب ملحد وعلماني، يتهيآن لمعالجة إشكالية الأسرة المسلمة أو الإسلامية.. وفجأة انطلقت هتافات : «استعمار.. استعمار.. لا مسيحية، لا يهودية ولا ماركسية-لينينية في الإسلام». معسكر المعرَّبين والمُستعربين كان يتهم خصومه بالشيوعية، ويعتبر محاولات التجديد مشبوهة وخارجة عن أحكام القرآن والسنة، وكان المعسكر الآخر، أي المعسكر التقدمي، يستشهد بأقوال بومدين ويصف خصومه بأنهم أعداء الثورة. وقد شاهدنا -يضيف محدثنا- واحدا من الأساتذة المشارقة، وهو معروف بانتمائه إلى الإخوان المسلمين، شاهدناه يحرض الطلاب الجزائريين المعربين ضد زملائهم من خريجي الأقسام الفرنسية. وإذا كانت المواجهة اقتصرت في الجامعة قسنطينة على الصراع اللفظي، فإنها أسفرت بالجزائر العاصمة، خلال شهر مايو 1975 عن عدد من القتلى والجرحى في صفوف الطرفين. وقد انفجرت تلك المواجهة الدامية أو الدموية، بمناسبة انتخابات فرع اتحاد الشباب الجزائري، الذي أصر التقدميون على أن يكون مقياس الإنتماء إليه، وتحمل مسؤولية قيادية في صفوفه، يَتِمان بضوء المشاركة في حملة التطوع لفائدة الثورة الزراعية. ومع ذلك فلا بد من الإشارة إلى أن الانقسام السياسي في صفوف الطلاب، لم يكن دائما بتلك الدرجة من البساطة. أي أن الطلاب المفرنسين، لم يكونوا وحدهم المناصرين للثورة الزراعية، ولا كان سائر الطلاب المعربين أو المستعربين إجمالا، خصوما لهم. وفي هذا الصدد، يقول السيد رشيد بنعيسى، أحد زعماء طلاب الإخوان المسلمين الجزائريين : «لقد شاركنا دائما في الثورة الزراعية وكان أحد شعاراتنا في تلك المرحلة : «مع الثورة الزراعية وضد الشيوعية» وكنا نردد نشيدا وطنيا معروفا الأمر الذي كان يثير سخط الآخرين، خاصة حين كنا نسافر معهم في حافلة واحدة لم نكن نهتم بمثل هذا النوع من النقد. كنا نعرف ما نريد تماما، وكنا نقول أنه يجب أن يكون نقدنا للثورة الزراعية، نقدا تقنيا، ونقدا لطريقة تسييرها ولا ينبغي بأي وجه من الوجوه أن نحولها إلى اختيار دغمائي. وبالطبع لم يكن لنا أي موقف طبقي، بل بالعكس كنا نردد أنها لا بد أن تكون مفيدة، خاصة وأن غالبيتنا من أصول فلاحية... نحن في الحقيقة كادحون، بل إننا بصراحة من الفقراء أو من المعوزين» (المصدر : الحركة الإسلامية في المغرب العربي صفحة 153 تأليف فرانسوا بيركا L'islamisme au Maghreb, François Buriget édition Kerthala). في كل الأحوال، كان الثالوث : المسجد، المدرسة واللغة، مجال الصراع، في الحقل الرمزي بين من يسمون به «الأصوليين» أو «الإسلاميين» أي السلفيين والسلفيين الجدد من جهة وحزب جبهة التحرير الوطني والدولة الجزائرية من جهة أخرى. إنما لا بد من التأكيد هنا على أن ذلك الصراع لم يكن بين «معربين» في صف «الرجعية» و«مفرنسين» في صف «التقدمية». فقد كانت العناصر المعربة أو العربية أو المستعربة موجودة في هذا الصف أو ذاك، وكذلك كانت العناصر المفرنسة والمتفرنسة أو الفرنكوفونية موجودة هي الأخرى في هذا الصف أو ذاك. وهناك عدة وجوه فكرية، تثبت مواقفها أن الأمر لم يكن بالبساطة التي يتصورها الناس. هناك المهندس، مالك بن نبي، وقد ألف كتبا كثيرة في اللغة الفرنسية وهو يُعتبر أحد آباء التيار الإصلاحي الإسلامي، وهناك المؤرخ الكبير مصطفى الأشرف الذي تولى لفترة قصيرة وزارة التربية الوطنية وحاول أن يُدْخِلَ إصلاحات على نظام التعليم والتعريب، ثارت ضده ثائرة المثقفين باللغة العربية، وهناك الروائي الطاهر وطَّار، الذي يكتب بالعربية، والمعروف باتجاهه التقدمي المناوئ للسلفيين، وهناك الروائي الكبير، كاتب ياسين الذي وصلت عداوته للسلفيين إلى حد أنه أوصى بأن لا يُصَلُّوا عليه بعد وفاته، وهو كما نعرف من كبار أدباء اللغة الفرنسية. وهناك الروائي رشيد بوجدرة الذي يجيد اللغتين ويكتب بهما نثرا روائيا ونصوصا شعرية راقية، وهو لا يتردد في القول بأنه شيوعي، وغير هؤلاء وأولئك من المؤرخين والكتاب والفلاسفة المحسوبين على التيار التقدمي أو التيار السلفي، من غير أن تكون اللغة التي يلجأون إليها للكتابة، المبرر الوحيد لاختيارهم السياسي. يقول رشيد بنعيسى : كان معلمنا الكبير هو مالك بن نبي، وهو رجل ذو ثقافة فرنسية واسعة، وهو الذي بيَّن لنا برؤيته الراقية والعالية جدا، كيف أن العلم لا يمكن أن يختلط بما هو ديني. وكان قد أنشأ في بيته وكما أسماه مركز الإرشاد الثقافي، كنا ننظم داخله ما نسميه «جلسات التفكير». وكان مالك بن نبي يقول أنه يجب أن نكتب على واجهة بيته : «لا يدخل أحد هنا إلا إذا كان مهندسا». لم نكن نريد أن نقوم بالوعظ، وإنما كنا نرغب كما يقول إقبال، لا في بناء الفكر الديني، وإنما في بناء الفكر الشامل للإنسان المسلم. وكان مالك بن نبي بمثابة الكاشف أما زواره فكانوا من العناصر الناضجة الجاهزة للعمل. كنا نعرف أن حل مشكلة العالم الإسلامي لا يكمن في بعض المقولات السياسية ولا يكمن كذلك في نطاق الدولة-الأمة، كنا ندرك أن الحل ليس مرهونا بمقاربة اقتصادية، وإنما هو متصل بالإشكالية الحضارية والثقافية. وبعد مرور عشرين سنة ها نحن ندرك أن إشكاليتنا هي هي... إننا نلمس مفاهيم الهوية الثقافية ونعيد اكتشافها بعد أن حاولنا تغييبها وإنكارها على امتداد عشرين سنة (المصدر كتاب الحركة الإسلامية بالمغرب العربي لفرانسوا بيركا (صفحة 153). ويضيف رشيد بنعيسى : «أما عملية بناء المساجد (يقصد المساجد الحرة المستقلة عن الدولة) فقد بدأها الفركفونيون. والطلاب الأربعة الذين فتحوا مسجدا عام 1967 كانوا من الفرنكفونيين، أي المتحدثين باللغة الفرنسية. وخلال سنوات عديدة كان جمهورنا كله من ذوي الثقافة الفرنسية، وقد كنت شخصيا ألقي الخطب الوعظية بهذه اللغة، أي اللغة الفرنسية. وهذا في الحقيقة أمر يكشف لنا دلالة هذا البحث الدائم عن الهوية. ولم يأت إلينا المعرَّبون إلا في مرحلة لاحقة. وخلال سنوات ثلاث أو أربع، كانت غالبية المؤمنين الذين يترددون علينا من كليات العلوم، أي من الطلاب الذين يتابعون دروسهم بالفرنسية. أما الآخرون فقد كانوا بعيدين تماما عن الإسلام. ولا بد من الإشارة إلى أن الصحافة المكتوبة بالعربية في الجزائر، كانت طوال تلك الفترة مناهضة بعنف للإسلام، أكثر من جريدة المجاهد الصادرة باللغة الفرنسية» (المصدر السابق نفس الصفحة..) مع وفاة هواري بومدين، سوف تنقلب الآية، ويصبح المسجد والمدرسة واللغة عناوين لرهانات استراتيجية، ذات أبعاد سياسية سوف تنكشف طبيعتها ومراميها وتداعياتها الداخلية والإقليمية، بالتدريج. ورغم المظاهرات الشعبية الضخمة التي رافقت تشييع جنازة هواري بومدين (أواخر ديسمبر 1978) وأوحت للمشاهدين بوجود تيار شعبي قوي، يساند سياسة الرجل الراحل، فإن السلفيين والسلفيين الجدد، اعتبروا غيابه بمثابة «انتصار للإيمان على الإلحاد» على حد تعبير المؤرخ الجزائري الشاب (أحمد رواجية : الإخوان والمسجد صفحة 118). كانت تلك الوفاة فرصة لهم للخروج من طور السرية إلى العمل في وضح النهار من أجل «تصفية الجزائر الاشتراكية اللائكية». ومباشرة، برزت موضة اللحية وإرسال الذقون الطويلة في الجامعة وكان بروزها إيذانا ببدء عهد جديد ستأخذ فيه المواجهة أشكالا صريحة عنيفة دموية ومكشوفة (في الأغواط والعاصمة) لتنتهي بإحكام السيطرة والهيمنة على ساحة الحقول الرمزية، أي المسجد والمدرسة واللغة، ثم يتوج ذلك كله بنتائج اقتراع الثاني عشر من يونيو، على طريق الوصول إلى السلطة الوطنية المركزية. في الفترة ما بين 1978 و1981 تمحور الصراع الذي قاده السلفيون أساسا حول التنديد بالتقدميين الذين قدموا إلى الرأي العام بما هم عملاء للاستعمار الشيوعي. وبموازاة هذه الحملة الداخلية ذات الطابع الإيديولوجي، شُنَّت حملة أخرى تندد بصمت السياسة الجزائرية الرسمية عن الاحتلال السوفياتي لأفغانستان. وقد ذهب مئات من الشبان الجزائريين للتطوع في صفوف المجاهدين الأفغانيين. ذهبوا عن طريق الشبكات السعودية والأفغانية والباكستانية وذهبوا عن طريق شبكات أخرى إلى الجبهة الإيرانية وإلى لبنان، وعاد منهم العشرات إلى البلاد ليصبحوا كوادر مدربة عاملة في نطاق الجبهة الإسلامية للإنقاذ. يحتلون اليوم فيها مناصب قيادية مؤثرة، وقد توجت الحملة الداخلية بنجاح كامل لأنها صادفت هوى لدى السلطات الجديدة كانت تحلم بأن تقيم شرعيتها ومشروعيتها على أنقاض السلطة القديمة وعلى النقيض من اختياراتها. هكذا تم انتزاع المكاتب والمحلات التي كان «التقدميون» يملكون مفاتيحها وكانوا يستخدمونها في الاجتماعات، وكذلك تم انتزاع المراكز التي كانوا ينظمون منها الرحلات أو «السهرات» أو اللقاءات المختلطة، وجرى تحويلها إلى أماكن للعبادات أو إلى مكتبات لعرض الكتب الإسلامية، أو نشر الدعاية للإسلام. خلال تلك المدة أيضا حقق السلفيون أيضا سيطرتهم على الأداة اللغوية في كافة مراحل التعليم : الابتدائي والمتوسط والجامعي، وحولوا تلك الأماكن إلى مواقع لممارسة السلطة الفعلية بأسلوب أعطى للمجتمع صورة مسبقة عما ينتظره في الدولة الإسلامية المرتقبة. وبدأت تلك السيطرة بالحملة الشاملة التي أُطلقت مباشرة بعد وفاة هواري بومدين من أجل تحقيق التعريب الكامل. وكان ذلك التعريب يستهدف السلك الثانوي من التعليم والسنوات الأولى لدراسات العلوم الاجتماعية (السوسيولوجيا وعلم النفس وعلم الاقتصاد والفلسفة)، في مستوى الجامعة والإدارة. وعلى الرغم من أن اللغة العربية اعْتُبرت رسميا أداة علمية يُفترض فيها أن تُستخدم أساسا لاكتساب المعارف العلمية والخبرات العملية على طريق تقدم البلاد ورقيها العصري، فقد عمل السلفيون والسلفيون الجدد على إبرازها كمرجعية مقدسة أصلا، بما هي لغة للقرآن. وقد تأصلت هذه المرجعية وتعززت بتقاليد وممارسات تعبيرية تكاد تكون من طراز الأفعال المستعملة في التحايا والخطابات والمواقف المختلفة سواء تعلق الأمر بالشفوي أو المكتوب. ومما أثار انتباهنا خلال رحلتنا للجزائر أن عبارة «باسم الله الرحمان الرحيم» تستخدم بمناسبة أو من دون مناسبة. لقد تعودنا مثلا على سماعها بالمغرب في مجال الشعوذة أو التطير أو التبرك أو اليمن وافتتاح الدروس الدينية والصلوات بطبيعة الحال، ولكنهم في الجزائر حولوها إلى لازمة من لوازم الخطاب السياسي، إلى درجة أن المتحدثين الذين لا يحسنون العربية يفتتحون كلامهم بها، ثم ينتقلون مباشرة للحديث بلغة معجم لاروس، وكثيرا ما سمعنا مثل هذا الاستهلال : باسم الله الرحمان الرحيم، شير فرير شير سير (إخواني أخواتي). حتى الدراسات الاجتماعية تأثرت بهذا الأسلوب الذي يسمونه خطأ بالمنهج القرآني، تأثرت في طرائق التحري والصياغة وأصبح الطلاب الجامعيون يستهلون عروضهم المقروءة والمكتوبة بالبسملة، وصار التخلي بسبب القصد أو الإهمال أو النسيان عن «البسملة»، في تقديم الملفات أو النسخ الموجهة للأساتذة من أجل تصحيحها يعتبر خروجا عن التقاليد الجامعية الجديدة أما الطلاب الذين يجأرون بعدم رغبتهم في إدخال البسملة على دروسهم، فكثيرا ما يعاقبهم أساتذتهم على هذا الفعل السيئ. الجزائر في مفترق الطرق مشاهدات ومسموعات 6 - (الحلقة الثانية) غياب بومدين كان مناسبة لخروج السلفيين من السرية للعلنية وفي الجزائر يطلقون كلمة التعليم الأصلي على مراحل التعليم الثلاث ما قبل الجامعة أي الإبتدائي ثم المتوسط فالثانوي، وهي مراحل استكمل تعريبها تماما في سنة 1987، بحيث لم يعد هناك وجود لفصول مزدوجة اللغة. والفرنسية لا تدخل إلا في التاسعة (أي السنة السابقة لقسم الباكالوريا الأول في النظام القديم). وقد بدأ التعريب كما قلنا في مستهل حقبة السبعينيات، في السنتين الأولى والثانية إبتدائي، مع إبقاء اللغة الأجنبية، وكانت السنتان الخامسة والسادسة تتضمن ثلثي الفصول أو الأقسام المعربة، ومع بقاء الفرنسية والحفاظ على ثلث الأقسام مزدوج اللغة (تدرس فيها المواد الأدبية بالعربية والمواد العلمية بالفرنسية). وكانت هذه اللغة تدرس أيضا في المتوسط، وكانت السنوات : الأولى والثانية والثالثة من هذا السلك تملك ثلثا من الأقسام معربا كليا وثلثين مزدوجي اللغة. أما السنة الرابعة، فكان التعليم فيها باللغتين، واليوم عُربت هذه الأقسام جميعها وابتداءا من السنة الدراسية 1986-1987، صار التعليم الثانوي كله بالعربية. هكذا تراجعت الفرنسية تدريجيا من الإبتدائي إلى المتوسط فالثانوي لتنحصر أخيرا في السلك الجامعي حيث ما تزال بعض المواد تفرضها أو تتطلبها. ولا جدال في أن الطلاب الذين تركوا مقاعد الدراسة خلال هذه السنوات تعرضوا لضغوط نفسية وعملية متعددة بسبب المرحلة الإنتقالية التي عاشوها وبسبب المزايدات الدينية التي اتسمت بها تلك الفترة، ثم لاريب في أن ذلك كله أسفر عن تعزيز ما يسمى بالظاهرة الأصولية أو الإسلامية أو السلفية الجديدة. كما أن الذين لم يلتحقوا بالمساجد وأوسعوا صفوف شبكات التهريب أو أصبحوا مدمنين على المخدرات أو من الذين يتعاطون مختلف الجرائم الصغيرة والكبيرة ويطلق عليهم المختصون لفظتي «الشباب الجانح». إن التعريب الشامل -الذي أسماه أمامنا عبد السلام بلعيد التخريب الشامل- والتوجه أو التوجيه الإسلامي أو بالأحرى الديماغوجي الذي رافقه في تلك السنوات التالية لوفاة هرواري بومدين. مضافا إليه النسبة العالية من الإخفاقات. إن ذلك كله من جملة الأسباب التي جعلت وماتزال تجعل الشباب الضائع، التلفان يُقبل على المساجد ويستمع بآذان صاغية إلى المشعوذين السياسيين المتحدثين بإسم الدين. وحين نراجع الإحصائيات الرسمية المنشورة عن فترة السنوات العشرين الماضية حول نتائج هذا التعريب أو التخريب الشامل -وفقا لتعبير السيد عبد السلام بلعيد- نلاحظ وجود رابطة سببية بين إخفاق المنظومة التربوية ونجاح التيار السلفي الجديد، في استقطاب الشباب. ففي دورة عام 1983 مثلا بلغ عدد المترشحين لنيل شهادة الباكالوريا حوالي 177.000 (مئة وسبعة وسبعون ألفا ). لم ينجح منهم سوى ثمانية عشر (18.000) ألفا أي أن نسبة النجاح لم تتجاوز ستة عشر (16) في المئة. وفي السنة التالية (1984) انخفض عدد المرشحين إلى 104.038 (مئة وأربعة ألاف وثمانية وثلاثون) نجح من بينهم 21.500 (إحدى وعشرون ألفا وخمسمائة) أي ما يناهز %20 (عشرون بالمئة). وإجمالا فإن عدد الشبان الذين كانوا يلفظهم التعليم من مراحله المختلفة. أي الإبتدائي والمتوسط والثانوي. وبفروعه المتنوعة، العامة والتقنية، يبلغ كل سنة حوالي ثلاثمائة وستين (360.000) ألفا وسوف يصل هذا العدد السنوي قريبا إلى حوالي نصف مليون : (المصدر مجلة ألجيري أكتيالتي عدد 4-10 يوليو 1985). وتُجمع كافة المصادر أن إخفاق سياسة التعريب جاء من أن العربية فَرضت نفسها أو فُرضت بالأحرى في المواد الأدبية ولم تدخل إلى المستويات العلمية والتقنية. كما تُجمع كل هذه المصادر على أن تعريب الأقسام المختلفة بتلك الصورة الفوضوية والمتسرعة، هو الذي أخرج للسلفيين والسلفيين الجدد، تلك الجيوش العرمرمية من الشباب والمراهقين لإغراق غيرهم من الأحزاب السياسية بما فيها حزب جبهة التحرير الوطني. وعلى الرغم من حملات التعريب الواسعة التي لم تنقطع منذ عشرين سنة فإن اللغة الفرنسية ماتزال تحتل المواقع القيادية في القطاعات الإقتصادية ذات العلاقة المباشرة بحقل الإنتاجية، والتقنية والتكنولوجيا والأسواق العالمية. لقد حُصر أصحاب الشهادات العربية في القطاعات الثانية غير المنتجة مثل التربية الوطنية والقضاء والإدارة وأُغلقت بوجههم الصناعات التي تتطلب خبرات ومعارف تقنية. لنأخذ مثلا واحدا من أمثلة كثيرة تثبت إخفاق المنظومة التربوية، بالمفهوم العصري،في إنجاز ما يُفترض أنها خلقت من أجله، ألا وهو تكوين أطر وكفاءات لقيادة الإقتصاد العصري أو على الأقل المشاركة في تسيير دواليب المجتمع العصري. وليكن هذا المثال من مجمع أو مركب السيارات الصناعية بمدينة الرويبة. إن هذا المجمع الذي يمتد على مساحة أربعة آلاف هكتار، من الأراضي الخصبة بالقرب من العاصمة، الذي يُعتبر بلا جدال مفخرة الصناعة الجزائرية، يشتغل فيه عشرة آلاف (10.000) عامل بالإضافة إلى ألف من الأطر العليا. ويعود توظيف بعض المعربين فيه والمتخرجين من مراكز التكوين المهني للبالغين في كل من الأربعاء وبرج منايل، يعود إلى حقبة السبعينات، أي إلى أيام الرئيس الراحل هواري بومدين. ولقد حُوِّل هؤلاء المعربون إلى أقسام ميكانيكا السيارات، وأقسام الادامة Maintenance والنقل أو أقسام سلاسل الصناعة. والملاحظ أن هذه الأقسام لا توجد بها أعمال ولا علاقات تستلزم استعمال الوثائق المكتوبة. يصطدم هؤلاء المعربون، كما يشير إلى ذلك مسؤول قسم التوظيف بالمجمَّع (في حديث مع مجلة ألجيري أكتياليتي الأسبوعية عدد 3-9 يناير 1985) بمشاكل عويصة ومعقدة كلما تعلق الأمر بحسابات وتقديرات دقيقة تتصل بالرسوم الصناعية وبالميكانيكا. وهم يجدون متاعب كبرى في استعمال كل ما هو أساسي في مواقعهم، أي إجمالا كل ما له صلة بمراحل التحويل التي تصف بدقة متناهية مسلسل التصنيع، ويصطدمون بعقبات مماثلة لمعرفة الوثائق التقنية الضرورية المتوفرة بمكتب المناهج أو المنهجيات والمحررة حتى الآن بالفرنسية. ثم إن هؤلاء المعربين يجدون صعوبات قوية في التكيف مع الوسط المهني الأمر الذي يؤخر ترقيتهم وصعودهم في مراتب السلم الإداري. ونحن -كما يقول مسؤول التوظيف- نملك هنا مراكز للتأهيل المستمر من أجل ترقية وتطوير الكفاءات والأيدي العاملة. والأشخاص الذين تابعوا تأهيلهم أو تكوينهم في اللغة الفرنسية يجدون بعض السهولة في تلقي وإستيعاب تأهيل متقدم. أما الذين تلقوا تكوينهم باللغة الوطنيةفإن ترقيتهم تتم كيفما اتفق وتستغرق مدة زمنية أطول وكل القطاعات التقنية تعمل باللغة الفرنسية. ولو أننا استقبلنا غدا إطارا إلكترونيكيا مؤهلا باللغة الوطنية، فإنه ولا شك سيصطدم بالكثير من الصعوبات، قبل أن يتكيف مع وسطه المهني الجديد. وقد وجهت طلبات توظيف كثيرة عام 1985 من المتعلمين باللغة العربية، لكن لم تتم الإستجابة لها. لأنه لا يمكن للمجمع استخدام الكفاءات القانونية والنفسية إنما احتفظنا فقط بالأطر التي تحُسِنُ اللغتين، وبتعبير آخر فإن المعربين، حتى الذين يملكون من بينهم شهادات عليا، لا يجدون لهم مكانا في الصناعة الحديثة، لذلك نجد أن أغلبهم يعودون إلى المساجد وينضمون إلى الناقمين والغاضبين والساخطين على جبهة التحرير الوطني. ويقومون من ثم بتعزيز الجبهة الإسلامية للإنقاذ. ويرى السيد مولود قاسم نايت بلقاسم، وزير الأوقاف والشؤون الدينية سابقا، وعضو اللجنة المركزية لجبهة التحرير الوطني حاليا، وهو من المتحمسين للتعريب، ومن الذين قاموا ربما من حيث لا يريد أو لا يشعر، من خلال سياسة «ندوات الفكر الإسلامي» بالتمهيد لإنتصار الجبهة الإسلامية للإنقاذ. يرى أن الصعوبات الموضوعية التي يصطدم بها استعمال اللغة العربية تعود فقط إلى عوامل «الحصر النفسي». ويقول : «إن المغاربيين والجزائريين عموما، أو فلنقل عدد كبير من بينهم. رغم معرفتهم الجيدة بالعربية، لا يتحدثون في كثير من الأحيان إلا بالفرنسية، وذلك حتى عندما يتعلق الأمر بأشياء وأمور بسيطة لا تستلزم مصطلحات تقنية أو تكنولوجية متطورة. لماذا؟ إنه أحد المظاهر الصارخة لإفتقاد الشخصية. وإذا كانت هناك صعوبة ما، فإنها تكمن في الممارسة العملية، أي في هذا المظهر النفسي أو هذه التلقائية أو رد الفعل الآلي الذي يكاد أن يصبع عادة : (المصدر مجلة ألجيري أكتيالتي عدد 3-9 أبريل 1985). وطوال العشرين سنة الماضية نظم حزب جبهة التحرير الوطني، كما نظمت الحكومات المتوالية، عدة ندوات ومؤتمرات ولقاءات وطنية وجهوية، دارت كلها حول إشكالية التعريب. وكان آخر هذه المؤتمرات تلك الندوة العامة التي عُقدت في شهر يوليو 1989 بالعاصمة حول تعميم اللغة الوطنية، والتي انتهت بتقديم محصلة سلبية مريرة ومثيرة للخيبة عن منجزات السنوات الماضية. لقد أبرز المتدخلون وهم في جلهم من الأساتذة وكبار الموظفين وكبار المسؤولين في الحزب والدولة، أبرزوا في هذه المناسبة ذلك التناقض الصارخ، بين التقدم الكمي الهائل الذي حققته المدرسة الجزائرية وبين الإهتمام الضئيل الذي توليه المؤسسات والشركات والإدارات الرسمية للغة الوطنية. وندد كثير من الخطباء، من بينهم السادة مولود قاسم، الوزير السابق للأوقاف والشؤون الدينية، وعبد الحميد أبركان وزير التعليم العالي في حكومة السيد قاصدي مرباح. و صلاح بو الأكحل ممثل رئيس الجمهورية، نددوا بما أسمته جريدة المجاهد الرسمية : «الحواجز النفسية والعقليات غير المهيئة» (جريدة المجاهد عدد 6 يونيو 1989). إخفاق التعريب إذا، مضافا إليه فشل المنظومة التربوية حرر آلاف الشباب وألقى بهم في الشارع، وجعل عدد الذين يتوجهون إلى المساجد من بينهم. يتزايد بانتظام. إن العلاقة واضحة تمام الوضوح بين تعميم العربية التي تقدم آفاقا مسدودة للذين تعلموا وبين الإختلالات المدرسية من جهة والإقبال المتزايد على المساجد من جهة أخرى. وهناك أرقام ناطقة تعطينا فكرة واحدة عن الإخفاقات المدرسية وعن النجاح الباهر للمساجد والتجمعات الدينية ذات الطابع السياسي. وكذلك عن اتساع ظاهرة جنوح الشباب. إن نسبة النجاح في شهادة الباكالوريا منذ سنة 1980، ظلت ولا تزال، في انخفاض، بل في إنحدار متواصل. والتعليم الثانوي هو الجسر الفاصل-الواصل بين الإبتدائي والعالي، لا يمكن تحليله وإدراك تطوره الحقيقي من دون الوقوف عند السلكين الآخرين، أي سلك التعليم الإبتدائي وسلك التعليم العالي. التعليم الأصلي مثلا ذو طابع جماهيري يصل إلى حد 90 في المئة من الأطفال الذين هم في سن التمدرس، لكن نسبة تتراوح ما بين 40 و30 بالمئة فقط من هؤلاء تصل إلى المستوى الثانوي. والإخفاق الذي نلاحظه في هذا المستوى له مبرراته المعقولة والواقعية مثل انعدام المعلمين والمدرسين الأكفاء، اكتظاظ الأقسام، انعدام مراكز التأهيل، الإنتقاء الطبيعي القاسي وضعف التجهيزات الخ... وليست الحالة في السلك الثانوي مختلفة في كثير عن الإبتدائي. ونسبة اجتياز شهادة الباكالوريا تعتبر مؤشرا هاما لأنها تسمح لنا بقياس درجة الإخفاق أو درجة النجاح. في هذا المجال. وهذه بعض الأرقام الناطقة : عام 1983 : بلغ عدد المترشحين لشهادة الباكالوريا حوالي مئة ألف وسبعة وسبعين ألف. نجح من بينهم ثمانية عشر ألفا أي حوالي (16) في المئة لا غير. عام 1984 : بلغ عدد المترشحين لنفس الشهادة 104.038 (مئة وأربعة ألاف وثمانية وثلاثون) نجح منهم حوالي 21.500 (إحدى وعشرون ألفا وخمسمائة) أي %20 (عشرون) بالمئة. عام 1985 : كان عدد المتقدمين لنيل شهادة الباكالوريا زها مئة وأربعين شخصا ألفا (104.000) نجح منهم خمسة وعشرون بالمئة. والإرتفاع الذي نلاحظه في هذا الرقم الأخير، يعود إلى إرتفاع نسبة الذين كرروا في السنتين السابقتين، كما يرجع أيضا إلى افتتاح أقسام إضافية تكميلية.ومعنى هذا أن بقية تلاميذ الثانويات، عام 1985، وجدوا أنفسهم في الشارع أو في أحسن الأحوال وجدوا أنفسهم يبحثون عن تأهيل مهني أو عمل غير مضمون. إنها نسبة تتجاوز %60 (ستين بالمئة) من مجموع تلاميذ السنة الثالثة من السلك الثانوي. وبالإجمال فإن ما بين أربعمئة ألف ونصف مليون شاب تشملهم ظاهرة الإخفاق المدرسي كل سنة وتضعهم فريسة لكل هواجس المستقبل المسدود، المجهول، ووساوسه وحيرته. وهناك أرقام أخرى تبين خطورة هذه الإشكالية واتساع ظاهرة الإخفاق والضياع المدرسيان، وهي ظاهرة تشكل بطبيعة الحال مصدر قلق دائم للشبان وموضوع انشغال، وهم دائمين بالنسبة لنظام لا يعرف ماذا يفعل بمئات المراهقين الذين لفظتهم منظومته التربوية. والمفارقة تكمن هنا بالضبط، إنها تكمن في هذا الرقم الجاف : إن ميزانية التربية الوطنية والتأهيل المهني تستحوذ على عشرة بالمئة من الناتج الداخلي الخام لسنة 1987، مثلا، لكن عدد الفاشلين في السلك الأول والثاني من التعليم الأصلي بلغ حوالي 117 ألفا، وارتفع في السلك الثالث إلى مئتين وثلاثة وخمسين ألفا، في حين أن عدد الراسبين في شهادة الباكالوريا بلغ زهاء تسعين ألفا ونسبة الناجحين وصلت بالكاد إلى تسعة عشر (19) بالمئة. كل الذين تحدثنا معهم من الأساتذة والمربين والمسؤولين السياسيين بالجزائر، يفسرون هذه الإخفاقات بالعجز الملحوظ في القدرة الإستقبالية والإستيعابية للمؤسسات التمدرسية والتربوية، وينسبونها إلى النقص الواضح في مراكز التأهيل التي يُفترض أن تعوض ثغرات التعليم الثانوي، ثم يضيفون إلى كل ذلك تدني مستولى التأهيل لدى المعلمين والمدرسين وأخيرا النمو الديمغرافي المجنون (أكثر من ثلاثة بالمئة في السنة). ولاشك في أن هذه العوامل تضافرت في مجموعها لتضع حدا لسياسة «دمقرطة» و«تعميم» التعليم التي انتهجتها الدولة منذ الإستقلال بطواعية وطواعية إرادية، وبحماس وطني لا حدود له. ولكن هذه «الدمقرطة» تمت وما تزال تجري حتى الآن على حساب النوعية، ومع إهمال كامل للتخطيط الديموغرافي، وكانت نتيجتها الأولى أنها أنتجت أجيالا من «الأميين باللغتين» «analphabètes bilingues» وفقا لتعبير أستاذ جامعي جزائري. وأغلب الظن أن هذه «الدمقرطة» وصلت اليوم حدودها القصوى، أي حدود إشباع المنشآت المدرسية وحدود إشباع الشوارع نفسها بأعداد غفيرة من الشباب لا تعرف ماذا تفعل؟ وعدد المنكوبين والغرقى من ضحايا المنظومة التربوية يرتفع كل سنة. وقد كانت السنة الأخيرة، سنة 1989 لحظة حداد ومأتم بالنسبة لعشرات الآلاف من المراهقين وذويهم. في ذلك العام، بلغ عدد المترشحين لشهادة الباكالوريا حوالي ربع مليون تلميذا (250.000) أما الذين أسعدهم الحظ بالحصول على «الباك» فلم يتجاوز عددهم أربعة وخمسين ألفا (54.000). ومن بين هؤلاء حصل أربعمئة فقط على ميزة «حسن» و«حسن جدا» وهذا يعني أنهم يستطيعون أسمائهم بالجامعات لمتابعة دراساتهم العليا. أما الآخرون، فإنهم بحكم سياسة الإنتقاء الصارمة، سوف يواجهون حتما شروطا مسبقة لأي تسجيل جديد، وذلك أمر يعتمد على الترتيب استنادا إلى حصة الأماكن المتوفرة، أو عن طريق اجتياز مسابقات جديدة. وبتعبير آخر فإن حملة شهادات الباكالوريا. مع ميزة «مقبول» أو بدون «ميزة» ليس لهم الحق في الدخول مباشرة وتلقائيا إلى الأقسام الجامعية، كان يحدث في السابق. وقد أكدت جريدة المجاهد الرسمية في عددها الصادر يوم 2 أكتوبر 1989 «أن طاقات الإستقبال والإستيعاب محدودة في الجامعة الجزائرية، ولذلك فلا مفر من انتهاج سياسة الإنتقاء حتى بعد شهادة الباكالوريا...». والواقع أن نسبة الإخفاق لم تصل قط إلى المستوى الذي وصلت إليه اليوم في الجزائر المستقلة. كما أن نسبة الإقبال على المساجد وعلى التجمعات الدينية ذات الطابع السياسي المناهض للنظام، لم ترتفع قط إلى المستوى الذي ارتفعت إليه هذه الأيام. بموازاة ذلك، لم تكن الآفاق قط، قائمة، مسدودة وسخيفة بقدر ما هي عليه الآن بالنسبة للشباب الجزائري. الجزائر في مفترق الطرق مشاهدات ومسموعات 7 - (الحلقة الأولى) ثلاثة آراء لتفسير هزيمة واحدة عاشت الجزائر، طوال الفترة السابقة للإنتخابات البلدية والولائية الأخيرة وأثناء الأسابيع اللاحقة لها على توقيت أشعة اللازر. وخيل إلينا أكثر من مرة، ونحن نشاهد بعضا من آثار دخول هذه الأشعة إلى الحياة السياسية، أو نسمع عنها، أننا أمام فيلم من الخيال العلمي أو العلم الخيالي، يتبادل فيه المتنافسون المتحاربون الضربات بواسطة تلك (الأشعة الضوئية)، شاهدنا ذات مرة السيد عباسي مدني، زعيم الجبهة الإسلامية، يرفع بصره إلى السماء، وسط ملعب الخامس من يوليو بضواحي العاصمة أمام حوالي مائة ألف شخص وسمعنا بعد ذلك وسط الهرج والمرج، من يقول إنه رأى سحابة رافقته من العاصمة إلى مدينة سيدي بلعباس في غرب الجزائر. شاهدنا ذلك كله وسمعناه، وتذكرنا قصة السحابة التي تقول إحدى أساطير السيرة النبوية إنها كانت لا تفارق الرسول العربي عليه الصلاة والسلام، وكانت إحدى تجليات معجزاته الكثيرة. وكنا نقول في سريرتنا أن زعيم الجبهة الإسلامية للإنقاذ، الذي درس الفلسفة وعلم النفس في لندن، والذي لا شك أنه اكتسب من دراساته خبرة عميقة بالأساليب الناجعة للتلاعب بآليات اللاشعور الجمعي، قد يكون قصد من وراء تلك الحكاية إضفاء طابع خارق على قوة حركته السياسية. كذلك أتيحت لنا فرصة أخرى شاهدنا فيها جماهير المصلين بمسجد القبة يتزاحمون بالمناكب، يتساقطون على الأرض، ويدخل عشرات منهم في حالة غيبوبة كاملة ثم تأتي سيارات الإسعاف لنقلهم إلى المستشفيات، لأنهم، كما تقول شائعة جماعية قوية رأوا بأعينهم سحابة كتب عليها اسم الله ورسوله. الحادث الأول، أي التي كتب فيها اسم الله، وقع في الثاني والعشرين من شهر مايو الماضي، أي قبل عشرين يوما من حلول موعد الانتخابات البلدية والولائية التي جرت في الثاني عشر من يونيو، والحادث الثاني حصل يوم الجمعة 15 يونيو، أي بعد مضي يومين فقط على تلك الانتخابات. بعد الحادث الأول، وزعت بمختلف مناطق الجزائر، وخاصة بالعاصمة صور على أوراق بيض، بالآلاف، تحمل ما يقال إنه صورة لتلك السحابة الأولى. اشترى الناس تلك الصور في السوق السوداء بأسعار وصلت أحيانا إلى خمسمئة دينار للنسخة الواحدة، ويقال إن المبالغ التي جُمعت من المبيعات صرفت لتمويل نفقات الحملة الانتخابية للجبهة الإسلامية للإنقاذ. في نفس الوقت وُزعت صورة أخرى يقال أنها أخذت لمريض أجريت له عملية جراحية بأحد المستشفيات بالعربية السعودية. وفي تلك الصورة التي رأيناها عند الأصدقاء الجزائريين، تبدو كلمات الشهادة، لا إله إلا الله محمد رسول الله، أي الركن الأول من أركان الإسلام واضحة، وقد رافقت توزيع هذه الصورة شائعة تقول : إن صاحبها كان مريضا بالقلب وأن الطبيب الذي عالجه، فوجئ وهو يجري له العملية الجراحية بأنه وجد الشهادة مكتوبة على قلبه. طبيب جزائري صديق يعمل بمستشفى عين النعجة العسكري بالضاحية الشرقية للعاصمة قال لنا ضاحكا وهو يتفحص الصورتين : صورة السحابة وصورة القلب المزعوم : «هراء، كذب وهراء. حكاية القلب هذه مستحيلة إلا إذا تصورنا إجراء عملية جراحية تقوم بتعطيل شرايين ضخ الدم لفترة طويلة، يتمكن خلالها فنان عبقري ماهر، يستعمل أدوات رقيقة، دقيقة متطورة، لم تخترع بعد، من كتابة الحروف بواسطة الوشم على غلاف القلب وسطحه. والكتابة بالوشم ممكنة إنما على سطح الجسد لا داخل شبكة الأعصاب والشرايين الحية، إلا إذا تصورنا أن الملاك جبريل أصبح يشتغل وشاما وأن الله منحه قدرة خارقة على تطويع الأنسجة الدموية وجعلها أقل لزوجة ورطوبة وأكثر سماكة. أما حكاية السحابة والحروف التي قرأت عليها فإنما هي مسألة طبيعية اعتيادية تمت بواسطة أشعة اللازر، إن هناك أخبارا تقول بأن جبهة الإنقاذ الإسلامية قد حققت تلك المعجزة التي تحدث عنها زعيمها، حققتها بواسطة تجهيزات متطورة جلبتها من لندن، وأدخلتها إلى الجزائر في حقيبة دبلوماسية لسفارة من سفارات إحدى الدول الإسلامية وقد كلفتها العملية 200 مليون سنتيما». ولا شك أن العالم الفيزيائي الأمريكي، مايمان Maiman، الذي شرع في حقبة الستينات بتطبيق تجاربه الأولى الرامية إلى توسيع مجال الضوء بطريق البث المقنع للأشعة، كان يفكر في شيء آخر، ربما في أشياء أخرى كثيرة أغلب الظن أن توسيع القاعدة الانتخابية لجبهة الإنقاذ الإسلامية في الجزائر، لم تكن من بينها. لقد عرفت تلك الطريقة باسم اللازر أو اللايزر تبعا لأسلوب النطق الفرنسي أو الإنجليزي. إنها طريقة تجعل الضوء يتدفق بكثافة على الأطراف القصوى للشريط المخصص لذلك، وهي تستعمل اليوم في مجالات متعددة. إن أشعة اللازر تستخدم اليوم كناقلات للطاقة أو كحاملات للمعلومات. الأشعة المذكورة بما هي ناقلات للطاقة، تحرق، تخرق، تخترق، تجزئ، تقطع، تنجم، تقيس، وتستخدم ضمن مجالات متنوعة مثل الصناعة والتفصيل والخياطة، والجراحة والتشريح الجمالي، والعلاج والأشغال العامة إلخ... وهي كحاملة للمعلومات، أصبحت تحل محل الإبرة التقليدية في المسجلات والأسطوانات، أما عندما تدمج مع الأنسجة البصرية، فإنها تضاعف بصورة لا نهائية من تدفق الصور والأصوات والمعطيات والمعلومات الأخرى، أما حين تستخدمها العقول الإلكترونية أو الحواسيب فإنها تسمح باختزال أطنان من الملفات والوثائق في أسطوانات صغيرة تتيح للإنسان مراجعة أوسع قدر من المعلومات في رمشة عين. وقد أحدثت أشعة اللازر ثورة كبرى في مجال تخزين المعلومات وتوزيعها والإستفادة منها، وأغلب الظن أنها استخدمت لأول مرة في بلد عربي، لذلك الغرض الذي استخدمتها لتحقيقه جبهة الإنقاذ الإسلامية. جبهة التحرير الوطني انتبهت هي الأخرى، فيما يبدو لفعالية أشعة اللازر في الحرب النفسية التي تخوضها مع الجبهة الإسلامية للإنقاذ، ولكن هذا الإنتباه حصل متأخرا بعض الشيء. صحوة جبهة التحرير الوطني، أو بالأحرى صحوة الحكومة الجزائرية ظهرت علاماتها بمناسبة الأعياد الأخيرة المصادفة للذكرى الثامنة والعشرين لإعلان الاستقلال. بمناسبة تلك الأعياد التي تحل يوم الخميس من يوليو في كل سنة، شاهد سكان العاصمة كلمات تؤكد أن الجزائر أرض الحرية، وأن الله ربهم الواحد وأن محمد آخر الأنبياء وأن الجنة تحت أقدام الأمهات والدستور هو ضامن الديمقراطية، كما تذكروا أنه يوجد في هذه البلاد آلاف الطلاب وآلاف المهندسين والأطباء. وتضمنت تلك الشعارات الضوئية التي استعملت فيها أشعة اللازر لأول مرة إشارات واضحة إلى الأفكار الظلامية التي تحاول جبهة الإنقاذ بثها بواسطة التكنولوجيا العصرية المتطورة، وتلميحات للقيم الديمقراطية الوليدة بأرض المغرب العربي الأوسط، كما تضمنت إشادة تسترعي الإنتباه بدور القوات المسلحة التي مارست سلطة القرار السياسي والتنظيمي طوال ربع قرن الأخير، وانسحبت رسميا من مجال الفعل المباشر، بعد خريف الغضب الجزائري، وظلت مع ذلك ولا تزال القوة الكبرى الصامتة التي تحسب لها كل الأطراف حسابا يصل أحيانا إلى اعتبارها الحكم الحاسم في ساحة الصراع السياسي. الحديث عن «الخوارق» و«المعجزات» و«المفاجآت» انتهى، وانسحب ليترك مكان الصدارة للإجتهادات والتساؤلات والتفسيرات المختلفة. حاليا أي في منتصف شهر يوليو، ولحظة كتابة هذا الجزء من التحقيق الصحفي، هناك مجموعة من النظريات والآراء والتصورات والإجتهادات التي يحاول أصحابها تفسير الأحداث، كل واحد وفقا لوعيه وتجربته وموقعه ونمط تفكيره. أولا : التفسير السوسيولوجي وأبرز ممثليه الأستاذ الهواري عدي أستاذ السوسيولوجيا بجامعة وهران، وقد نشر مقالات عديدة في كل من لوموند ديبلوماتيك الشهرية الفرنسية وليبراسيون اليومية الباريسية، شرح فيها رأيه بالنسبة لهذا الأستاذ الجامعي الجزائري : «جاءت انتخابات الثاني عشر من يونيو التي أعطت لجبهة الإنقاذ الإسلامية نسبة 54,25 بالمئة من الأصوات المعبر عنها، لتكرسها كأكبر تشكيلة سياسية ذات تأثير انتخابي، ويقول الأستاذ الهواري عدي، بعد هذه الملاحظة الأولى، إن الخطب التي يلقيها بعض الأئمة المناضلين، ويصفون فيها الديمقراطية بأنها كافرة تطرح السؤال حول ما إن كانت الديمقراطية تشكل انشغالا حقيقيا بالنسبة للمجتمع الجزائري، يتساءل ويضيف : إذا ما تمكنت الجبهة الإسلامية للإنقاذ خلال الانتخابات القائمة من تحقيق انتصار مماثل، فإنها تستطيع أن تلغي بالقانون مكتسبات أكتوبر بعد تنظيم استفتاء حول الأحزاب السياسية وحول حرية التعبير، بما هي مناقضة للشخصية الجزائرية العربية الإسلامية. ويكفي لتحقيق هذا الهدف شن حملة داخل المساجد يقدم فيها وجود الأحزاب السياسية على أنه لا يستقيم إطلاقا مع الإسلام. وإذا تحقق مثل هذا الأمر، فإن دولة جبهة التحرير القائمة على الحزب الواحد، ستحل محلها دولة الجبهة الإسلامية للإنقاذ المستندة إلى الحزب المهيمن. ومعنى هذا أن الجزائر لن تتغير كثيرا لأنها سوف تنتقل من الوحدانية السياسية إلى الهيمنة الإيديولوجية». ويرى الأستاذ الهواري عدي : «أن هذه الحالة تعبر عن التناقضات الإيديولوجية للمجتمع الجزائري، الذي يطمح من جهة لقيام سلطة المؤسسات، سلطة تحترم مصالح الجماعة الوطنية وتكون قريبة من انشغالات السكان، ولكنه، أي المجتمع الجزائري يبدو مترددا في اختياره لمؤسسات تشكل قطيعة حقيقية مع الشعبوية. ومن البديهي أن تصويت الثاني عشر من يونيو، أتى لمعاقبة دولة جبهة التحرير الوطني على انفصالها عن السكان. لكن هذا العقاب، لا يبدو في نفس الوقت وكأنه يحمل مشروعا لإدارة المدينة وتسييرها وفقا لوجود آليات سلطات مضادة. إن اللائحة السادسة، أي لائحة الجبهة الإسلامية للإنقاذ والتي دعت ملصقاتها ومنشوراتها للتصويت ضد «إبليس»، ركزت دعايتها على القيم الخلقية والدينية بما هي العاصم الوحيد من الإنحراف والفساد والخطأ الذي غرقت فيه جبهة التحرير الوطني». ويتساءل السوسيولوجي الجزائري أيضا : «هل إن انتصار الجبهة الإسلامية للإنقاذ يعبر عن وجود إرادة تطمح إلى إضفاء طابع أخلاقي على الحياة العامة، من خلال وضع أشخاص أتقياء، فضلاء، ورعين، في مناصب المسؤولية؟»، يتساءل ويقول : «إن هذه المسألة توجد في صلب وقلب الإشكالية السياسية. وحين قامت الحداثة بالفصل بين السلطات، وبإقرار مبدأ التناوب في تسيير الشؤون العامة، وبوضع ميكانيكا للسلطات المضادة، حين قامت الحداثة بذلك كله، حسمت المشكلة، بل إن الحداثة السياسية وحدها، مفهومة هنا بمحدداتها الإيديولوجية، تسمح بتجنب خوصصة أو تخصيص السلطات العامة، وتحول دون القطيعة بين السلطة والمواطنين. ومن خصائص الحداثة السياسية في تاريخ البشر أنها وضعت حدا لتصور أو مفهوم السلطة، بما هي غاية في ذاتها أياما كانت الذريعة المستخدمة (الرسالة التاريخية أو الألفية الدينية). «بالطبع -يواصل الأستاذ الهواري عدي- فإن المعارضة المعلنة ضد الحداثة السياسية الموصوفة بانها غربية خالصة، إنما هي ضرب من الصراع الإيديولوجي، ولا بد أن نعترف بأنها جزء من حرب معقولة. والسلطة، بما هي غاية في ذاتها، حين تضع نفسها فوق حق الإقتراع الكوني ولا تخضع للتناوب تثير شهيات ومصالح قوية تكون جاهزة لتفجير أسوأ أشكال العنف وأبشع أنواع الحقد. وهذه حقيقية أنتروبولوجية دامغة، حاضرة، ماثلة للعيان، سواء في المجتمع الغربي أو داخل المجتمعات العربية الإسلامية. والواقع أن الحداثة السياسية متأصلة ومتجذرة في هذا المعطى الأنتروبولوجي الذي يمنحها على الفور بُعدا كونيا. أما أن تكون الحداثة السياسية قد عبرت عن نفسها للمرة الأولى في الثقافة الغربية، فهذا لا يعني في الإطلاق أنها خاصة بهذه الثقافة وحدها. والقول بأن الحداثة السياسية خصوصية غربية خالصة، يفترض ضمنا أن المجتمع الجزائري ليس مؤلفا من بشر حقيقيين بحسناتهم وسيئاتهم، وإنما هو مكون من ملائكة وقديسين، محرضين للفساد أو الإفساد من طرف عناصر توصي الأخلاق بتصفيتهم إن لم يكن جسديا فبالأقل سياسيا. إن الحداثة تناهض مثل هذا المفهوم الأخلاقي للسياسة، تناهضه بسبب ما أثبته التاريخ من كونه أسوأ شكل من أشكال التعبير عما هو سياسي، وتناهضه لكونه أكثر أشكال التعبير عن السياسة عنفا وحقدا ووضاعة أخلاقية. فباسم هذا النوع من الأخلاق عُذِّب الرجال وأُبيد السكان، وأُطلق العنان لأكثر الغرائز الإنسانية وحشية لتطفئ ظمأها في الإنتقام، ترجمة لحب الذات والحقد على الآخر، وما دام التصور الأخلاقي للسياسة مهيمنا، فإننا ما نزال فيما «قبل السياسة prépolitique» مع كل ما يستتبعه من توجهات لا عقلانية يحركها منطق الإستحواذ على السلطة والإحتفاظ بها. وما دام المجال السياسي واقعا تحت هيمنة المقاولات الأخلاقية ومفاهيم الخبيث والطيب، الصادق والكاذب، الوطني والخائن، فإن الجزائر تبقى في طور ما «دون السياسي» أو «ما قبل السياسي». ولا شك أن ميثولوجيا جبهة التحرير الحقيقية وجبهة التحرير المزيفة، هذه الميثولوجيا الرائجة أو المروجة في بعض الأوساط، تنم عن رفض الحداثة السياسية وعن رفض اتساع الإختلافات القائمة داخل الهيئة الاجتماعية لتأخذ كافة أبعادها السياسية». ويلاحظ أستاذ السوسيولوجيا بجامعة وهران : «بعض التعليقات التي انتشرت غداة الانتخابات البلدية والولائية الأخيرة، لاحظت بأن الجبهة الإسلامية للإنقاذ، لم تهزم جبهة التحرير خلال هذه الانتخابات لأن جبهة التحرير لم تكن أبدا في السلطة. وفي هذا القول نصيب من الحق، غير أن جبهة التحرير الوطني المقصودة هنا لم توجد لا من الناحية الإيديولوجية ولا من الناحية التنظيمية ولا من الناحية السياسية، إلا إذا كان وجودها محصورا في أذهان هؤلاء المناضلين الذين يعتبرون أنه كان ينبغي أن تبقى كما كانت أثناء حرب التحرير. أما بعد حصول البلاد على استقلالها فإن جبهة التحرير الوطني محصورة فيما يوظفه كل واحد فيها ولهذا فإن كل واحد من الناس يرى نفسه اليوم جديرا بأن يتحدث باسم جبهة التحرير الحقيقية بما هي مجمعة للثروات الوطنية. وهكذا فإن خطوط الفرز داخل المجتمع السياسي لا تتطابق مع تنوع القناعات السياسية للجزائريين وإنما تتطابق مع خط فرز متخيل بين جبهة التحرير الحقيقية وجبهة التحرير المزيفة. ومن البديهي أن السلطة كانت تقدم نفسها لفظيا بما هي تجسيد لجبهة التحرير الوطني وكان من مصلحتها أن تعيد إنتاج هذه الميثولوجيا السياسية. ومن المعروف أن المنازعات لم تتوقف داخل جبهة التحرير الوطني. لكن الحزب لم ينفجر مع ذلك، لكون الإعتبارات الموحدة بين مختلف الأطراف أقوى من العناصر التي تقسمها. وما يوحد بين الجميع هو إيديولوجية جبهة التحرير الحقيقية الراسخة، المتأصلة في النفسية والأخلاق. ويبدو أن جبهة التحرير الوطني لا توجد إلا في مخيال كل مناضل وبما يتلاءم مع قناعاته الحميمية. وبالنسبة للسوسيولوجيا السياسية، فإن هذه الجبهة مخبوءة في أعماق نفوس المناضلين إلى حد يصبح معه من المستحيل أن تصبح مجالا لتحليلات موضوعية. ومن ثم فإننا لا يمكن أن نأخذ في الإعتبار سوى «جبهة التحرير الوطني المزيفة» لأنها الوحيدة المالكة لوجود فعلي. ومع ذلك فمن غير المجدي أن نلصق بها صفة «المزيفة». ويمضي الأستاذ الهواري عدي، في تحليله السوسيولوجي لنتائج الإنتخابات البلدية والولائية، قائلا : «جبهة التحرير الوطني، بما هي حزب سياسي، لم توجد قط في الجزائر المستقلة، لأن منظومة السلطات التي أقيمت بالبلاد كانت تتناقض مع فكرة حزب يشكل بنية يفترض فيها أن تجمع مواطنين يملكون نفس الحساسيات السياسية من إدراك موحد أو واحد للمهمات الموكولة إليهم من أجل الخروج من التخلف. وهذه البنية التي يفترض فيها أن تتكفل بالشأن العام، بعد مناقشة اختيارات سياسية مرشحة للإنجاز من طرف سلطة تنفيذية عبر تناوب في المسؤوليات داخل هذه السلطة التنفيذية مثل هذه البنية تتناقض كليا مع منظومة السلطة القائمة على الإدارة والجيش. وابتداء من عام 1962 حتى أيامنا هذه، اشتغلت المنظومة المؤسسية من دون وجود حزب سياسي، الأمر الذي «جفف» الإدارة وجعلها تشبه آلة مقطوعة، ومفصولة عن محيطها الاجتماعي تعمل لذاتها ولنفسها فقط. ولأن السلطة أبعدت الحزب عن الحياة السياسية والمؤسسية فقد انفصلت عن السكان. لقد كان استقطاب القيادات السياسية-الإدارية، أي إعادة إنتاج الطبقة القيادية، بدلا من أن يتم ضمن الممكنات أو الإمكانيات المعبرة عن نفسها أو المعبر عنها داخل الحزب، يجري في كواليس الإدارة على أساس الزبونية التي لا تجذب دائما أفضل العناصر وأكثرها كفاءة. وهكذا فإن الإدارة الجزائرية برغم الوسائل التي تملكها عديمة الفعالية، ضعيفة الأداء، لأنها قد حوصرت من قبل الإنتهازيين وتسلل إليها مستفيدون أعلنوا ولاءهم للشبكة الزبونية واستفادوا من حماية سياسية وضعتهم فوق القوانين والأنظمة. ومن الإستقلال حتى الآن شيدت الجزائر إدارة دولة لا دولة سياسية تدعمها إدارة. وبدلا من أن تبني دولة سياسية، بنت دولة إدارية. كانت الشرطة سياسية ولم تكن الدولة كذلك، وكان الجيش سياسيا وكذا الجامعة والاقتصاد والدين إلخ... غير أن الدولة لم تكن سياسية». ويرى الأستاذ الهواري عدي : «أن نتائج انتخابات يوم 12 من يونيو تعبر أساسا عن رفض هذه المنظومة، وتأتي عقابا لإدارة منفصلة عن السكان. ومن الواضح أن وقوع هذه الانتخابات من دون حصول حوادث خطيرة، في مجموع التراب الوطني يشكل في حد ذاته عنصرا إيجابيا للمسار الديمقراطي. لكن بنية النتائج لا تبعث على الرضا أو الإطمئنان مهما كان الحزب الذي يأتي في المقدمة. حقا إن حزب التجمع من أجل الثقافة والديمقراطية فاز بعدة مجالس في منطقة القبائل أساسا، بينما حافظت السلطة على ثلاثين بالمئة بفضل عدد من الولاءات المحلية الثابتة، فيما استولت الجبهة الإسلامية للإنقاذ على الأغلبية. لكن الجبهة الإسلامية للإنقاذ ليست حزبا سياسيا، إنما هي حركة احتجاج عام، ونقمة عارمة تأتي نتيجة لإنفصال السلطة عن السكان، وهي سلطة مضادة تُنَصِّب نفسها سلطة أخرى، في انتظار الإستيلاء على السلطة كلها. بالطبع هذا الرأي لا يُنفي أن الجبهة الإسلامية للإنقاذ حققت انتصارا كاسحا، لكنه ليس ظفرا لحزب سياسي ضد أحزاب سياسية أخرى. إنما هو ظفر لحركة احتجاج كبرى ضد إدارة أصبح الناس ينظرون إليها على أنها فاسدة وعديمة الجدوى. لقد صوت العديد من مناضلي جبهة التحرير الوطني لفائدة الجبهة الإسلامية للإنقاذ، وليس ذلك أمرا مدهشا لكون الجبهة الإسلامية للإنقاذ تمثل جبهة التحرير الوطني الحقيقية، في أذهان عدد كبير من الجزائريين. ومع قيام الجبهة الإسلامية للإنقاذ، لا تخرج الجزائر من الميثولوجيا السياسية لثنائية الحق والباطل. ومن هذه الزاوية تعتبر الجبهة الإسلامية للإنقاذ استمرارا أو استئنافا لجبهة التحرير الوطني التي تشوهت أو شوهت صورتها بفعل أولئك الذين مارسوا السلطة باسمها. وهكذا فإن الفراغ السياسي الذي شُيدت على أساسه دولة جبهة التحرير الوطني خلق معارضة بُنيت هي نفسها على فراغ سياسي». إن الجبهة الإسلامية للإنقاذ لا تدرك كحزب سياسي، إذ أنها تطرح نفسها كتشكيلة لكل الجزائريين وترفض أن تقسمهم أو تقتسمهم الأحزاب السياسية. إن الجبهة الإسلامية للإنقاذ تطمح وتعمل لتوحيد كافة الجزائريين، مثل ما فعلته جبهة التحرير الوطني إبان حرب التحرير، ومن ثم فإنها، أي الجبهة الإسلامية للإنقاذ، تبحث عن إطالة فترة «ما دون السياسي» أو «ما قبل السياسي» قدر الإمكان، وعبر الجبهة الإسلامية للإنقاذ، يستعمل المجتمع الجزائري آخر موارده الإيديولوجية من أجل أن يبقى في الطور «ما قبل السياسي» أو «ما دون السياسي». بجانب وجهة النظر السوسيولوجية هذه (المصدر جريدة ليبراسيون اليومية الفرنسية عدد الخميس 12 يوليوز 1990)، توجد وجهة نظر تاريخية، أبرز ممثليها صديقنا محمد حربي، وقد عبر عنها في العدد الأخير من المجلة النصف شهرية «منبر أكتوبر» التي يصدرها أنصار الرئيس السابق أحمد بن بلة، من باريس. محمد حربي مؤلف كتاب «جبهة التحرير الوطني بين السراب والواقع FLN entre mirage et réalité» وأستاذ التاريخ بجامعة السوربون، والعضو السابق في اللجنة المركزية لجبهة التحرير الوطني، يعطي في هذا الحديث إنارة مختلفة، ولكنها مكملة لتلك التي قدمها الأستاذ الهواري عدي. حصلت الجبهة الإسلامية للإنقاذ على الانتصار في الانتخابات. فكيف تفسرون ذلك؟ سبق لي أن قدمت رأيي بالموضوع في جريدة لوموند بتاريخ 21 يونيو. وسأحاول الآن أن أذهب أبعد من ذلك، في عمق الأشياء، إذا أردنا أن نفهم ما يجري تحت أعيننا لا بد لنا أولا من أن نتخلص من الفرضيات الأوروبية المركزية بشأن الحداثة. لقد أصبح الغرب بعيدا عن ماضيه. وإذا كان الوعي التاريخي في قطاعات عديدة قد امتد ليشمل العالم أجمع، فإن الإتجاه العامل على جعل التاريخ والتجربة الغربية مرجعين لازمين، يقاس بهما كل شيء، ما يزال قويا للغاية. إن قراءة الصحف والإستماع إلى الإذاعات ومشاهدة محطات التلفزة، أمور مفيدة في هذا المجال. والإسلام في الجزائر عنصر تكويني في كل ما هو سياسي والثقافة لم تتخلص بعد من الدين، بل ما زالت تستحم فيه، ومشاريع ومطامح الجماعات الإجتماعية المتصارعة تتوظف وتوظف في الإسلام وبالإسلام، تستعير منه لغتها وطريقتها إما لإضفاء المشروعية على السلطة أو التشكيك بهذه المشروعية. وما نراه اليوم إنما هو دخول جماهير المحرومين والشباب بقوة إلى ساحة المسرح السياسي. وحدة هذه المجموعات، على عكس ما يحدث للبرجوازية والطبقة العاملة، تأتيها من الخارج. زعماء هذه الكتل يبدون وكأنما هم سحرة أو من صانعي المعجزات. والإلتزام يتم من دون اهتمام بنتائجه أو عواقبه. إن إرادة الإيمان برغم كل شيء وضد كافة العقبات تسمح بالتلاعب بالمطامح وإسلام المحرومين والمهمشين ليست له سوى علاقة ضئيلة جدا بالنصوص المقدسة. وسمعة شخص مثل السيد علي بلحاج ليست سمعة فقيه أو عالم لاهوتي، وإنما هي نابعة من كونه يعبر بلغة الحياة اليومية وفيها عن أزمات وآمال «المعذبين في الأرض». ومن هنا ذلك الحذر الذي نلاحظه لدى رجل مثل الشيخ سحنون وهو إنسان أكثر حساسية لمخاوف الأغنياء ومصالحهم. الحركة التي دفعت الجبهة الإسلامية للإنقاذ، هي حركة ذات ملامح «ألفية millénaristes»، وقوتها آتية أو متأتية من إيمان الفقراء والمعوزين والمحذوفين، بوجود عصر ذهبي، والسؤال المطروح هو : أية جماعة يا ترى، من الجبهة الإسلامية للإنقاذ، ستتمكن من التقاط، واقتناص وتوجيه هذه القوة الأولية؟ حسب المعطيات المتوفرة لدينا، يمكننا بقدر كثير من التبسيط أن نحدد ثلاث مجموعات داخل الجبهة الإسلامية للإنقاذ. الجماعة الأولى الأكثر نشاطا وحركية مؤلفة من شباب يكنون ضغائن اجتماعية قوية دفينة ضد الملاكين ورجال السلطة. وفي نظر هؤلاء فإن البرجوازيين، ومن ضمنهم مقاومو الأمس، الذين يتظاهرون بالكبرياء والغطرسة والتفوق ويتركون مواطنيهم يعيشون في البؤس، لا بد أن يقدموا الحساب. على يمين هذه الجماعة نجد التجار بالقطعة والتقسيط. وكبار المزارعين، بل وكبار التجار الذين ترتبط نشاطاتهم بالعربية السعودية. ولا شك أن هذه المجموعات ترغب أو تحلم بإقامة اقتصاد ليبرالي من دون أن تكون لديها أفكار واضحة عن كيفية تسيير هذا الاقتصاد. وفي الوسط، مع عباسي مدني، يتجمع ذوو الياقات البيض الذين أنتجتهم عملية التعريب وهم يتأملون لكونهم محرومون من ولوج «الشبكات النبيلة» في الإدارة والجيش، والحاصلون على الشهادات الجامعية الذين سدت بوجوههم تماما كافة أبواب الصعود الاجتماعي، وبين هذه المجموعة وإطارات جبهة التحرير الوطني تقوم جسور واتصالات عديدة بواسطة بعض الأشخاص. ومثلا خلال المؤتمر الأخير لجبهة التحرير الوطني صوتت فروع بليدة وتيارت وباتنة لفائدة أطروحات الجبهة الإسلامية للإنقاذ. وكل هذه المجموعات يربط بينها عامل مشترك هو عدم اكتراثها الكلي بالمسألة الديمقراطية ومعاداتها البدائية للمرأة. إن الخوف من المرأة يصل عندهم إلى ذروته وأسباب هذه الحالة عديدة من أبرزها التمسك بمفهوم آبائي من الأسرة، والحرمانات الجنسية، والإيمان الساذج بإمكانية التغلب على البطالة من خلال إبعاد المرأة عن عالم العمل. ولابد أن نتذكر أنه قبل ثورة أول نوفمبر 1954، كانت الحركة الوطنية وضمن معارضتها لعمل النساء الأوروبيات، قد أطلقت شعارا يقضي بتخصيص وظيفة واحدة للأسرة. في الأخير، بدلا من دراسة الجبهة الإسلامية للإنقاذ انطلاقا من الدين، يجب أن ننظر إليها في ظرفيتها الإجتماعية وفي ضوء الأزمة المجتمعية، من دون إهمال المسيرة العامة للتاريخ الجزائري. وحتى هذه الساعة فإن عناصر الطبقات المتوسطة ما تزال تهيمن على الجبهة الإسلامية للإنقاذ. هل يمكن أن يعلمنا تاريخنا شيئا ما عن «الألفية Le millénarisme»؟ بلا شك، هناك ثورة الأهالي في إفريقيا الرومانية والتي استقطبتها الحركة الدوناتية ثم هناك ثورة العمال الزراعيين البربر في القرن الرابع وقد تم سحقها ولكن المشاركين فيها غَذَّوْا مذهب دونات ضد أسقف قرطاج. على أن هناك ما هو أقرب من ذلك كله إلينا، أقصد ذلك الإنتصار الكاسح الذي حققته الحركة من أجل انتصار الحريات الديمقراطية في الانتخابات البلدية التي جرت في شهر أكتوبر 1947 وفي انتخابات المجلس الجزائري التي تمت في شهر أبريل عام 1948 ودفعت الحاكم العام إلى أن يقول : «كنا أمام اختيارين : فإما انتخابات تزورها الحركة من أجل انتصار الحريات الديمقراطية وإما انتخابات تزورها الإدارة». وذلك تبرير سخيف أمام مثل هذا الإندفاع الشعبي العارم والحاسم. وبخصوص الحالتين الأخيرتين، فإن انتقال الجزائريين من المقاومة السلبية إلى المقاومة النشيطة، وطموحهم إلى التغيير قد التقطتهما الوطنية التي أعطت للمسألة الجزائرية جوابا سياسيا قاد إلى استقلال البلاد. والرجال الذين ينتمون إلى جيلي يتذكرون الحماس والحركات الإنخطافية التي رافقت الإنتخابات سنتي 1947 و1948 وأعقبتها. لقد كان الشعب ينتظر المعجزة ويؤمن بأنه سينتزع الضغوط النفسية وظواهر التعصب والتطيرات والرؤى. وفي بلدة الحروش أكد الفلاحون أنهم رأوا فوق جبل «أصحاب الكهف» سيدنا الإمام علي راكبا جواده الأبيض. وقال بعض الفلاحين أنهم سمعوه يدعو الناس إلى الثورة ضد فرنسا ويؤكد أنه سيقودها. وفي أماكن عديدة، تجمع العاطلون ووزعوا فيما بينهم أملاك الأوروبيين. وقد أثارت هذه التوزيعات منازعات تمت تصفيتها في المهد. ففي سان شارل (جمال رمضان اليوم) قدم أحد الأثرياء ضيعة برتقال للبيع وحرص على أن لا يتعامل مع الراغبين في شرائها من المسلمين لوجود نية لديه باستعادتها بعد ذهاب الأوروبيين. ولماذا تظنون أنني أروي لكم مثل هذه الحكايات؟ لسبب بسيط هو أنه من العبث أن تحكم حركة ألفية تشبه المهدية مثلا، على أساس أنها حزب سياسي. الجزائر في مفترق الطرق مشاهدات ومسموعات 7 - (الحلقة الثانية) جريدة المجاهد تشرح التزوير ودور السلطة في هزيمة جبهة التحرير الوطني هناك توضيحا لابد منه. إن الإختيار المطروح حاليا ليس بين الحداثة والتقليد، الجزائر مندرجة في عالمية العلاقات الإجتماعية والحداثة فيها مسألة عميقة. ولذلك يبدو لي أنه من الأفضل مقارنة الحركة الإسلامية، بحركات سنوات 1930 في ألمانيا وإيطاليا. ومن تضييع الوقت أن نطالب الإسلاميين ببرنامج، لأنهم يحتاجون لأسطورة ولا يمكن لهم أن يوسعوا قاعدتهم إلا إذا تجنبوا طرح المطالب الدقيقة والمحددة. كما أنه من باب تضييع الوقت أن نخاطر «بتشريح سريري (إكلينيكي) Un diagnostique clinique» لزعمائهم. وعندما يطالب السيد علي بلحاج من المؤمنين أن يُصَلّوا من أجله حتى يعطيه الله ذقنا وهو الرجل الأمرد، فإن هذا الطلب لا ينقص من قيمته أبدا. إن وظيفة الغدد الإفرازية ما تزال سرا كبيرا، ثم إنه من تضييع الوقت أن نحاول العثور في أوساطهم على رجال فاسدين، «ترابانديين» أو مهربين. ذلك كله عبث في عبث لكون إيمان الشعب يخلق أجساما مضادة للشك. ضد التشكيك وضد حجج أولئك الذين يعتبرون في نظره، من طينة أخرى. المشكلة الوحيدة التي يجب علينا معالجتها هي كيف نرد على الأزمة، ثم كيف نعيد ترتيب وتركيب مجتمع مفكك، وقطع الأوصال، في جميع المستويات. ألا تعتقدون أن هذا التفكك كان أقل قبل عام 1979؟ يمكن عند التدقيق في الوضع وفحصه في تمعن، أن نعتقد بأن نظام الرئيس الشاذلي بن جديد خول لنفسه مهمة وحيدة، هي التعجيل بتفكيك المجتمع. لقد دفع بومدين بمنطق الإتجاهات التي دشنها الإستعمار، إلى حدوده القصوى، فكانت ظاهرة النزوح القروي والهجرة، ولكن مع وجود إرادة بناء مجتمع صناعي. لكن بومدين أخفق. وقد حاول عبد السلام بلعيد في كتابين صدرا له مؤخرا، أن يفسر أسباب هذا الإخفاق، والعمل الذي قام به يستحق المناقشة، وسأساهم في ذلك. حقا إن بومدين ترك ميراثا لم يكن سهل التسيير أبدا، لكن وسائل تسييره كانت متوفرة وقد بُدِّدت وبُذِّرت. والإنفتاح الديمقراطي الذي حصل تحت ضغط أحداث خارجة عن سيطرة الحكم يخفي في طياته نزعة سلطوية، ولا ينبغي أن نخلط بين الديمقراطية وبين التعددية. إن تحليل الدستور وظروف الإعتراف بالأحزاب وقانون الإعلام وقانون الإنتخابات وإبقاء المجلس الوطني لكل نوابه من جبهة التحرير الوطني، كلها مؤشرات ذات دلالات عميقة. ولا أتوقف كثيرا عند العراقيل المتعددة التي وُضعت في وجه أحمد بن بلة، ولا الحدث الذي منعه من العودة إلى بلاده. لنقل في كلمة واحدة إن السلطة تركزت في القمة في الوقت الذي بدأ السوس ينخرها من الأساس. وقد ساعدت الرشوة على ذلك كثيرا. ونحن نلاحظ أن الفريق القيادي عوض مشروع مجتمع كان في حالة عطب كامل بتقنيات التلاعب، لكنه بدلا من أن يتواءم مع المصالح المتناقضة الموجودة في كل مجتمع حاول أن يلعب الأطراف المختلفة بعضها ضد بعض، حفاظا على وجوده. وقد تمكن بواسطة هذه اللعبة من تثبيت القوى السياسية. وهكذا نشأ الفراغ وأصبح العامل الديني والتضامنات الجهوية والروح العصرية، أصبح ذلك كله يكتسب أهمية خاصة، وهو أمر يترك انطباعا غير مريح، انطباعا بأن الجزائر عاجزة عن أن تعيش تطورا سياسيا يستند إلى نظام تمثيلي قائم على الإقتراع الكوني. ولا شك في أن التقليد المنطوي له وجود أو حظ من الوجود ضمن كافة الحركات القائمة، لكن مهمة أية قيادة تعتبر نفسها ديمقراطية هي أن تطبع قواعد قانونية تساهم بتغيير العقليات. إن الديمقراطية الشاذلية تتراوح بين العنف والإستقالة وتخلط أو تمزج العنصرين في بعض الأحيان. والناس في غالبيتهم لم يكونوا أعداء الشاذلي بن جديد ولكن الذين خاب أملهم، أو خيبوا فيه، يحاكمونه على أفعاله. إن الجزائريين يحتاجون إلى مشروع مجتمع يمكنهم في المدى المتوسط من تلبية مطالب الناس المعوزين. كان للجزائر مشروع اشتراكي لكنه لم يسفر عن أية نتيجة. إنكم تطلقون اسم الإشتراكية على عملية انتزاع الملكية السياسية من الطبقة العاملة في الإتحاد السوفياتي، والنموذج الذي أورثته تلك العملية للبلدان المتخلفة. وما حدث في شرق أوربا خلصنا من هذا التضليل، ولا تنسوا أنني لم أتوقف عن التنديد بهذا النمط من الإشتراكية، إلا أن الذي حصل لا يزعزع قناعاتي، ولا ينبغي لكم أن تنتظروا من أن أشيد بالليبرالية. أما في المدى المباشر، فمن الواضح أن النضال ضد النزعة الإسلامية السياسية، لا يتطابق على الفور مع النضال في سبيل أهداف اشتراكية. لقد أسفرت الإشتراكية على الطريقة البومدينية عن توحيد كافة الشرائح السكانية ضد الفكر الإشتراكي، ومنحت معنى لكل المطالب الليبرالية والمطالب البورجوازية الصغيرة، وولدت معارضة توشك الطبقة العاملة أن تندثر وتذوب فيها لأنها افتقرت طوال عشرات السنين إلى تمثيل حقيقي ينطق باسمها. والعامل لا يستطيع اليوم أن يمثل بما هو عضو في طبقة متميزة، ولذلك فهو معرض لتأثير نداءات التيار الإسلامي، كما لاحظنا ذلك في قسنطينة والحجار. والإشتراكيون يعرفون أنهم أقلية ويعرفون أنهم لا يملكون تأثيرا قويا، ويدركون أن أهدافهم عزيزة المنال بل غير قابلة للإنجاز. وهم يسيرون ضد التيار، لكن انشغالهم الأساسي ينصرف إلى خلق وضع يسمح للقوى الإجتماعية بأن تحدد كل واحدة منها مواقفها وتلزم مواقعها تجاه القوى الأخرى. لعلكم قسوتم كثيرا، في هذا الحديث على الإسلاميين.. أستطيع أن أسمح لنفسي بمثل هذه القساوة. فأنا بعكس الديمقراطيين الجدد، دافعت عن الإسلاميين حين كانوا ملاحَقين. ففي سنتي 1986-1987، وخلال محاكمة مصطفى بويطي، قام «صديقاي» الأستاذان حسين زهوان ويوسف فتح الله، بالدفاع عنهم باتفاق معي، لقد رافعنا، مع محامين آخرين عن 206 متهما. لذلك، فأنا ليست لدي أي عقدة في هذا المجال. بعد التفسير السوسيولوجي الذي جادت به قريحة الأستاذ الهواري عدي من جامعة وهران، وإثر التفسير الوارد على لسان المؤرخ الجزائري محمد حربي والمنشور بالعدد الذي يحمل تاريخ 25 يونيو - 15 يوليو 1990 من مجلة «منبر أكتوبر» النصف شهرية، الناطقة بلسان الرئيس أحمد بن بلة، نأتي إلى تفسير ثالث مختلف تماما، لكنه يلتقي مع التفسيرين الآخرين، كما سيلمس القارئ ذلك في أكثر من نقطة، ويلقي أضواء جديدة على العملية الإنتخابية الأخيرة. قيمة هذا التفسير تأتي من أنه صادر في جريدة المجاهد اليومية (عدد يوم الخميس 12 يوليو 1990)، أي في نفس اليوم الذي صدر فيه تحليل الأستاذ الهواري عدي بجريدة ليبراسيون، وبعد أسبوع من توزيع مجلة منبر أكتوبر المتضمن لموقف الأستاذ محمد حربي. مقال جريدة المجاهد، التابعة لحزب جبهة التحرير الوطني، صدر في نطاق الصفحات الداخلية المخصصة للآراء والمناقشات الحرة، ونشر تحت عنوان «أشياء لم تقل في الإنتخابات» بتوقيع السيد أحمد قادة، أحد مسؤولي جبهة التحرير في العاصمة. «لا شك في أنه كان من المتوقع أن تسجل الجبهة الإسلامية للإنقاذ تقدما كبيرا قد يصل إلى ما بين 25 و30 في المائة من مجمل أصوات الناخبين لتحتل بذلك المرتبة الثانية بعد الحزب الحاكم، الأمر الذي يعتبر نتيجة باهرة بالنسبة لتشكيلة سياسية ناشئة. كما أنه كان من المتوقع أن يهتز الموقع المهيمن لجبهة التحرير الوطني، بعد إقرار مبدأ التعددية المتجسد في تكوين حوالي عشرين حزبا، وهو توقع أكدته نتيجة الإنتخابات الأخيرة. أما الأمر الذي لم يكن متوقعا على الإطلاق فهو عملية التخريب الإعلامي الواسعة التي ذهب ضحيتها مناضلو جبهة التحرير الوطني، والتي استهدفت تنويمهم وجعلتهم يعتقدون بانتصار مؤكد». «وفي هذا الصدد فإن المزايدات التي قام بها زعيم الجبهة الإسلامية للإنقاذ حين أعلن أن حزبه لن يحصل على أقل من 75 بالمائة من الأصوات، كان ينبغي لها أن تشكل ضربا من الإنذار بالنسبة لمناضلي جبهة التحرير. والواقع أن هذا اليقين لا يمكن أن يكون سوى نتيجة لوعود وضمانات مؤكدة لابد أن نبحث عن أصلها، وهو أصل لا يختلف بدون شك عن المصدر الذي قادنا إلى أحداث أكتوبر 1988. والحق أن قادة الجبهة الإسلامية للإنقاذ يدركون جيدا أنهم إنما وصلوا إلى تلك النتيجة التي سجلوها بفضل المكر والتزوير وبفضل «حياد» الإدارة». «ونحن لا نتردد في القول بوجود جهات في السلطة لها حساب قديم تريد تصفيته مع جبهة التحرير الوطني وأن الإستراتيجية التي اتبعوها كانت تفرض بل تحتم عليهم العثور على أداة صالحة لتحقيق هذا الغرض. وقد وجدوا هذه الأداة بسرعة فائقة في الجبهة الإسلامية للإنقاذ. أما المكان والزمان، وتحديدا انتخابات الثاني عشر من يونيو، فقد تم اختيارهما بعد إخفاق كافة المحاولات الأخرى التي استهدفت إثارة مواجهة بين جبهة التحرير الوطني والجبهة الإسلامية للإنقاذ. ومن أجل إنجاز هذه المهمة كان لابد من تضليل الناخبين وتشتيت أصواتهم بين مختلف الأحزاب النكرات، وهي عملية من طبيعتها حتما أن تضعف جبهة التحرير الوطني أمام الجبهة الإسلامية للإنقاذ. لقد كانت هذه الأخيرة تتمتع بأصوات مضمونة لابد أن تحقق بها اندفاعة هائلة». وتمضي جريدة المجاهد الناطقة بلسان جبهة التحرير، في تحليلها لأسباب الهزيمة الإنتخابية الأخيرة، قائلة : «يضاف إلى ذلك أن لوائح المستقلين التي فسرت خطأ بأنها وليدة تكتيك خاص بجبهة التحرير الوطني قد ضاعفت من انقسام الناخبين لفائدة المناضلين المنشقين الذين لم يتمردوا ضد حزبهم وبرنامجه أو عمله وإنما انتفضوا ضد قاعدة وجهت إليهم تهما باطلة. لكن هذه الهزيمة التي وضعت جبهة التحرير الوطني في المرتبة الثانية يجب أن يتم تحليلها في ضوء النسبة التي حصلت عليها، وفي ضوء نجاح المستقلين ثم في ضوء نسبة المستنكفين عن المشاركة، وهي عامل يحمل في طياته بذور عواقب وخيمة، إذا ما تأكد استمراره في المستقبل. ولو كانت الجبهة الإسلامية للإنقاذ حصلت بنزاهة على الأغلبية في الإنتخابات الأخيرة لَكُنَّا شعرنا بارتياح كبير لأننا قد نكون بهذه التجربة، غرسنا شجرة الديمقراطية في البلاد، لكن ذلك لم يحصل مع الأسف، بفضل سلسلة من التجاوزات والتعديات المختلفة المسجلة هنا وهناك والتي ترهن مستقبل الديمقراطية». «هكذا نلاحظ أن هذه التجاوزات ظهرت بعدة أماكن وكان من الصعب توجيه طعون ضدها. ويمكن لنا أن نستشهد بعدة وقائع أبرزها الإحتلال غير القانوني لمكتب التصويت وممرات المدارس من طرف مناضلي الجبهة الإسلامية للإنقاذ الذين لم يترددوا في ممارسة ضغوط مباشرة على الناخبين، وضياع أوراق التصويت الخاصة بلوائح بعض الأحزاب وخاصة حزب جبهة التحرير الوطني، وهي أوراق اختفت من المكاتب، فيما حولت كميات أخرى إلى بلديات غير معنية، وسمح لأطفال يحملون عدة بطاقات بالتصويت من دون أن تكون لديهم أية وكالة تخولهم بذلك من طرف البالغين، كما شوهدت تجمعات من الأطفال والمراهقين كانوا يقومون باعتراض المواطنين ويحرضونهم على التصويت للجبهة الإسلامية للإنقاذ. ولابد من الإشارة إلى أن بطاقة الناخب لم تُطلب أبدا من المصوتين، كما أن هناك مواطنين يملكون بطاقاتهم كناخبين لم يستطيعوا أن يقوموا بواجبهم لأنهم لم يكونوا مسجَلين على القوائم الإنتخابية، في حين أن مبدأ الوكالات المقررة في حالة العجز قد تم تعميمه بصورة منهجية. وإذا كان التزوير قد بقي محدودا نوعا ما في لحظة فرز الأصوات بسبب تعزيز حضور ممثلي الأحزاب المتنافسة، فإن تلك الممارسة لم يكن لها أثر يذكر في النهاية، لكون النتائج قد تقررت أثناء عملية التصويت. على أن هذه التجاوزات التي حصلت في كافة المدن الكبرى لم تدفع الإدارة للتدخل من أجل فرض احترام القانون». «هكذا تم تسهيل العمل للجبهة الإسلامية للإنقاذ التي نجحت في فرض سيطرة مطلقة على عمليات التصويت بدءا من سير الإقتراع وحتى إعلان النتائج. وفي هذا الإطار لوحظ أنه تم نقل عدة صناديق للإقتراع من المكاتب إلى مراكز البلديات من طرف أشخاص ليست لديهم أية صلاحية. وهكذا فإن الأحزاب التي كانت تنتظر النتائج من أجل توجيه تُهَم بالتزوير إلى جبهة التحرير، حتى تبرر بهذا الموقف مقاطعتها للإنتخابات وهي مرتاحة الضمير، لابد أن تشعر بشيء من الندم، لأنها ربما لم تتصور قط أن يأتي التزوير من الجهة التي جاء منها. على أن ما أثار فضول الناخبين الذين شاهدوا بأعينهم هذه التعديات والتجاوزات، هو موقف الإدارة. ويتساءل الناس : لماذا لم تقم البلديات بوضع القوائم الإنتخابية بصورة نهائية بعد مراجعتها؟ ولماذا لم ترسل بطاقات الناخبين في الآجال المحددة؟ ثم لماذا أعطيت البطاقات التي لم يقم أصحابها بسحبها مباشرة، لأشخاص آخرين؟ ولماذا لم يتم التدقيق مع هؤلاء الأشخاص الذين صوتوا بهذه البطاقات من دون حضور أصحابها ومن دون إبراز وكالة رسمية بذلك؟ إنها أسئلة كثيرة تبقى معلقة من دون جواب. ثم إن عددا كبيرا من الموظفين الذين عُينوا للإشراف على سير عمليات الإقتراع، لم يتلقوا وثائق التكليف والإنتقال الضرورية في الوقت المناسب، الأمر الذي ترك فراغا كبيرا سارع مناضلو الجبهة الإسلامية للإنقاذ وملأوه بطريقة غير قانونية. ومن الواضح أن اللجان الإنتخابية لم تكن تستطيع أن تؤدي عملها بطريقة مرضية من دون أن تستفيد من مساعدة المراقبين الإداريين ومساعدة رجال الأمن الذين يبدو أنهم تلقوا أوامر واضحة بالتزام الحياد، بل التزام عدم الإكتراث وعدم التدخل. ومع ذلك، فنحن نلاحظ أنه حين كانت الإنتخابات تجرى في عهد الحزب الواحد، كانت عناصر الإدارة والأمن تبالغ في نزعتها التدخلية». «وإذا كانت الطعون المسجلة قد بلغت أربعمئة، فلابد لنا أن نسجل بارتياح أن هذه الإنتخابات جرت في هدوء كامل رغم أنها ألحقت ضررا فادحا بالتجربة الديمقراطية. كل هذا يقودنا مرة أخرى للعودة إلى تصريحات زعيم الجبهة الإسلامية للإنقاذ والذي كان قد رأى حزبه سوف يحصل على نسبة 75 بالمائة. فهل كان الأمر يتعلق كما سبق لنا أن تصورنا ذلك يومها، بتهديد يهيئ الأجواء لعمل مثير وصاخب أم أن زعيم الجبهة الإسلامية للإنقاذ، كان فيما يظهر، على معرفة سابقة بسيناريو معين، ربما كان هو نفسه، بطبيعة الحال من المشاركين في وضعه؟». لا يكتفي السيد أحمد قادة، أحد مسؤولي الحزب الحاكم بالجزائر العاصمة، في هذا المقال الذي نشرته له جريدة المجاهد بإلقاء المسؤولية على الإدارة، والأمن وأجهزة الدولة الأخرى، ولكنه يلقي نصيبا من المسؤولية فيما حدث على أعضاء جبهة التحرير الوطني أنفسهم. «هل ينبغي لنا رغم ذلك كله أن نعفي قيادة جبهة التحرير الوطني وقياداتها المحلية والإقليمية وحتى مناضليها من مسؤولية ما وقع؟ لا نعتقد أن ذلك ممكن. حقا إنه حصل نوع من المراهنة على الإدارة وحصل ضرب من الثقة فيها بعد أن التزمت بالسهر على نزاهة الإنتخابات وبالحياد. لذلك كان من الصعب اقتحام مكاتب التصويت، على غرار ما فعلت الجبهة الإسلامية للإنقاذ. خاصة وأننا كنا متهمين بوجود نية لدينا في التزوير، كما كان يردد ذلك بدون توقف ولا انقطاع، أولئك الذين دعوا إلى مقاطعة الإنتخابات. لكن حضور المناضلين كان ضروريا ويقظتهم تشكل عامل ردع للتجاوزات الحاصلة. والواقع أن المناضلين تصرفوا وكأن جبهة التحرير الوطني، ما تزال الحزب الوحيد في البلاد. وقد سبق لنا أن لاحظنا وجود مثل هذه العقلية لدى اختيار المرشحين. صحيح أن الإختيار قد ترك القاعدة من أجل أن تتصرف وفقا لاجتهاداتها، لكن لوحظ أن الأعضاء المحليين في اللجنة المركزية سمحوا لأنفسهم أحيانا بالتدخل للتأثير في هذا الإختيار. وهكذا فإن توصيات اللجنة المركزية المتعلقة باستراتيجية العمل في الإنتخابات، لم يتم احترامها بما فيه الكفاية. لذلك رأينا أن اختيار المرشحين تم على أساس عشائري أو فئوي وليس في ضوء معايير الكفاءة والتمثيلية. وفي هذا المجال، لم يتم اللجوء لمواطنين غير مناضلين في الحزب، ولكنهم معروفون بسمعتهم الجيدة، وبعلاقاتهم الطيبة مع الآخرين، كما أوصت بذلك اللجنة المركزية. يضاف إلى هذا الخطأ أنه لم يجر أي تقييم موضوعي لعمل المنتخبين السابقين للإحتفاظ بالعناصر التي أدت واجبها على أكمل وجه وترشيحها من جديد لثقة المواطنين، وإنما وقع إتباع أسلوب آخر، هو إبعاد المسؤولين السابقين بطريقة منهجية. كان ذلك هو الأسلوب السائد فيما عدا بعض الإستثناءات القليلة». «وإذن، فإن تفصيل أو تشكيل القوائم كان له نصيبه السلبي في التصويت الذي حصل، كما أن المناضلين لم يتم إعدادهم نفسيا وتقنيا إذا جاز مثل هذا التعبير لكي يواجهوا بنجاح هذه الإستشارة التعددية الأولى. وبعبارة أخرى فإن السلوك المتسيب للمناضلين خلال اختيار المرشحين والذي حصلت أثناءه مواجهات سلبية فيما بينهم، كانت له عواقب وخيمة في المحصلة الختامية. من هنا ذلك الغياب الكامل في الحملة الإنتخابية، غيابا استمر حتى بعد الإغلاق الرسمي للحملة المذكورة، ثم استمر خلال عمليات الإقتراع». ويعود كاتب المقال، بعد فقرة النقد الذاتي هذه، ليلح من جديد على دور بعض المسؤولين : «من جهة أخرى، لابد لنا -يقول السيد أحمد قادة- من أن نشير إلى الضربات التي تلقتها جبهة التحرير الوطني من طرف عدد من المسؤولين الذين أدلوا بتصريحات متسرعة مثل الوزير الأول السابق [يقصد الكاتب بهذا التعبير السيد عبد الحميد الابراهيمي] والذين زعزعوا هيئة الناخبين الموالين لجبهة التحرير الوطني. وفي هذا المجال، يبدو أن صاحب قنبلة الستة والعشرين مليار دولارا نسي أن جبهة التحرير الوطني والبلاد كلها، مازالا يدفعان ثمن سياسته الإقتصادية اللامجدية التي اتبعت منذ سنة 1980، كما أنه نسي أن التطهير الذي طالبت به جبهة التحرير الوطني قد تعطل في عهد حكومته. هكذا برزت بلا حياء وبلا خجل انتهازية بعض مناضلي جبهة التحرير الوطني الذين لم يحترموا الإنضباط الداخلي وانساقوا وراء مصالحهم، ولم يعبأوا بضوابط الإلتزام السياسي، متصورين أنهم سيكسبون فوائد جديدة من مواقفهم الجديدة». ويعتبر كاتب جريدة المجاهد : «أن جبهة التحرير الوطني، التي شكلت درعا واقية، أو واقية صدمات بالنسبة لجميع السلطات التنفيذية التي تعاقبت على السلطة منذ الإستقلال، قد دفعت الثمن عن الجميع». ويرى «أن إدارة الحكومات المختلفة وطريقة تسييرها للشؤون العامة، لم تحاكم ولم يجر تقديرها بما يلزم من حزم وموضوعية. وهكذا، فباسم ضرورة بناء دولة القانون، أفسحت جبهة التحرير الوطني المجال لنمو إدارة أخطبوطية بيروقراطية، كانت بعيدة كل البعد عن أن تلتزم بجانب الشعب. كانت هذه الإدارة تقوم على المحسوبية، والجهوية والزبونية، تلك الأمراض التي ما فتئت جبهة التحرير الوطني توجه إليها النقد دون أن تقدم لها علاجا كافيا شافيا أثناء فترة زمنية يفترض أن يكون فيها الهجوم الكاسح لاقتلاع هذه الأوبئة هو القاعدة وليس مجرد الإنتقاد اللفظي. خلال هذه الفترة انتهى وهم إدارة جبهة التحرير الوطني مع إقرار نظام التعددية السياسية والتحاق عدد كبير من أعضائها بالأحزاب الجديدة». هناك عامل سلبي، آخر، أثر في الإستراتيجية الإنتخابية لجبهة التحرير، ألا وهو دخولها متأخرة بأسبوع كامل في الحملة الدعائية. وقد كان عدد المناضلين قليلا، وأظهروا عدم حماسة كبيرة في تعليق الملصقات على الجدران وفي توزيع المنشورات والمطبوعات وفي رفع اليافطات، وفي نشر أفكار الحزب وبرامجه بالمساجد والمؤسسات والشركات والأحياء، وإجمالا غابوا عن أماكن التجمعات الكبرى. كذلك سجل قصور كبير في تنظيم المهرجانات ببعض الولايات التي لم تتم فيها تعبئة كافة المناضلين والعاطفين. بعض هذه المهرجانات انقلبت أو تحولت إلى مجرد لقاءات بين المناضلين كما أن العقبات التي اعترضت نشاطات الجبهة في عدد من الجهات، مثل توقيف معلقي الملصقات بالعاصمة، ومنع تنظيم مهرجان بالساحة العامة في البليدة من طرف رجال الأمن، كل ذلك لم يثر انتباه أي شخص، ولم تتحرك السواكن أمام التسهيلات التي كانت تقدم للجبهة الإسلامية للإنقاذ، لتقود حملتها بالطريقة التي ترتئيها. كذلك فإن عدم حضور مناضلي جبهة التحرير الوطني في الميدان بجانب مناضلي وأعضاء الأحزاب الأخرى من أجل السهر على نزاهة الإنتخابات سهل عمل مناضلي الجبهة الإسلامية للإنقاذ وضاعف من تأثيرهم على الناخبين في وقت كانت فيه اليقظة والتعبئة أمرَيْن ضروريَيْن. ثم إن اللجنة الإنتخابية الوطنية، بدلا من أن تتصرف كهيئة أركان عامة، حقيقية، تتدخل ميدانيا، كلما دعت الحالة لتعويض مظاهر الخلل والنقص، اكتفت بالتملص من مسؤولياتها الوطنية بإسنادها إلى لجان محلية أو جهوية أو إقليمية تفتقر إلى التجربة. تلك إذن، هي العوامل الداخلية والخارجية التي تضافرت لإضعاف جبهة التحرير وللإسراع بتآكل نفوذها. يتناول السيد أحمد قادة في فقرة أخرى من مقاله الطويل الذي استغرق صفحة وربع صفحة من جريدة المجاهد، يتناول مرة أخرى موقف الإدارة وتواطُؤَها مع الجبهة الإسلامية للإنقاذ في هذه المناسبة فيقول : «إن الطريقة الخاطئة التي تمت بها عملية فرز الأصوات تكشف عن اتساع ظاهرة التزوير في المدن الكبرى بصورة خاصة. والغريب أن الإدارة التي تعودت على تنظيم عمليات الإقتراع والمجهزة بالوسائل التقنية الضرورية لم تستطع أن تتابع سير اقتراع الثاني عشر من يونيو 1990 وتتحكم فيه تحكما كاملا، ثم إنها لم تستطع أن تقدم نسبة المشاركة بصورة منتظمة، بل إنها انتظرت مضي ثمان وأربعين ساعة لتنشر النتائج النهائية. فهل معنى ذلك أن اتساع ظاهرة التزوير كان كبيرا إلى درجة يصعب معها استعمال الحسابات والتقديرات الواقعية لتقديم أرقام معقولة؟ لقد كان الهدف أو الهم الوحيد للإدارة هو التأكيد على حصول هذه الإنتخابات في هدوء كامل. ولابد أن نضيف -يقول السيد أحمد قادة- بأن تعدد اللوائح عقَّد المسألة أكثر من اللازم، علما بأنها معقدة أصلا لكونها انتخابات بلدية وولائية، عقدها وسهل عمل مناضلي الجبهة الإسلامية للإنقاذ لاسيما في أوساط الأميين وتحديدا في أوساط النساء. كانوا يقولون للنساء صوتن على الرقم السادس للدفاع عن الإسلام ، ضد اللائكيين، الذين وُصفوا بأنهم ملحدون». ويستأنف الكاتب في هجومه لا على الإدارة هذه المرة، وإنما على الدولة، ملمحا بصورة غير مباشرة إلى الدور الذي قامت به بعض الدوائر الرسمية في محاربة الحزب الذي كان يوصف بأنه حاكم : «لا يستطيع أحد أن ينكر بأن عددا من أجهزة الإعلام الوطنية، وبقيادة وتوجيه أوساط عليا في السلطة لم تتوقف طوال سنتين عن مهاجمة جبهة التحرير الوطني ولم تتوقف عن تحميلها كل أنواع الخلل والتقصير في إدارة الشؤون العامة. وقد أدى ذلك الهجوم الإعلامي إلى تعبئة الرأي العام ضد جبهة التحرير الوطني وأسفر عن آثار وتأثيرات سلبية في أوساط الشباب. أما المجلس الوطني الشعبي فإنه، حين سمح لشخص واحد بالتصويت باسم ثلاثة أشخاص على أساس الوكالة، قد ارتكب مسا خطيرا بحرية التعبير، خاصة بالنسبة للمرأة. وسمح للجبهة الإسلامية للإنقاذ أن تنظم نفسها باسم التقاليد الرجعية. وهكذا رأينا المكاتب المخصصة لتصويت النساء يتم اجتياحها من طرف الرجال والأطفال». ويقول الكاتب في فقرة أخرى : «نستطيع أن نؤكد بأنه قد يكون من الضروري أن تعرف جبهة التحرير الوطني مثل هذه الهزيمة المبرمجة من طرف بعض الأوساط، وقد تكون هذه الهزيمة مخلصة منقذة، إذا عرف الحزب كيف يستخلص منها كل الدروس، لأننا واثقون من أن الشعب العميق ما يزال في غالبيته مخلصا للجبهة ثم إن انتصار الجبهة الإسلامية للإنقاذ، رغم كونه حقيقة مؤكدة لا رجوع فيها، فإنه قد حصل بتلك الطريقة المعروفة التي رأيناها مع ذلك الموقف الحيادي الذي اتخذته الإدارة التي بادر زعيم الجبهة الإسلامية إلى توجيه الشكر إليها، بعد أن كان يهددها بالويل والثبور وعظائم الأمور. ومع ذلك، فنحن نعرف أن الإسلام ضد كل ألوان الغش، اللهم إلا إذا كانت الجبهة الإسلامية تعتبر الغش خديعة حربية ووسيلة تستعمل من أجل نصرة الإسلام». الجزائر في مفترق الطرق مشاهدات ومسموعات 8 - (الحلقة الأولى) صيف إسلامي ساخن وكئيب هما وجهان مختصران على ما بينهما من اختلاف وتناقض، أحوال البلد وهمومه، مخاوفه وهواجسه في صيف 1990. الأول محند آيت واكلي صاحب فندق، مقهى ومطعم الشاليه نورمان لعين طاية في الضاحية الشمالية للجزائر العاصمة. الثاني الدكتور مسعود، المختص في زراعة الكلي بمستشفى مصطفى الجامعي والرئيس الجديد لبلدية هذه القرية الإصطيافية الشاطئية الجميلة. الأول بدأ يدق أبواب العقد السابع، دون أن يفقد حيويته ونشاطه ورغبته العارمة في إنجاح مشروعه السياحي، والثاني يقف على عتبة عقده الرابع، ويبدد حياته العامة باستلام رئاسة مجلس بلدي، سيكون العمل الذي يمارسه فيه مرآة لهذه السلطة المحلية التي تعتبرها الجبهة الإسلامية للإنقاذ نواة للدولة الإسلامية في الجزائر. عاد محند واكلي إلى الجزائر، سنة 1986، بعد غربة في فرنسا دامت أكثر من ثلاثين سنة. وعاد إليها الدكتور مسعود في نفس العام بعد أن أمضى بضع سنوات في العاصمة الفرنسية أكمل فيها اختصاصه الطبي بمستشفى فيل جويف. الأول من الجيل الذي صنع الإستقلال. الثاني من الجيل الذي صنعه الإستقلال. الأكبر سنا يقول إنه لا يمارس السياسة، ولكن الأصدقاء الذين قدموه لنا قالوا لنا إنه قد يكون من أنصار حزب جبهة القوى الإشتراكية الذي يتزعمه السيد حسين آيت أحمد. الأصغر سنا، قال أمامنا بحضور عدد من الزملاء الجزائريين إنه من أسرة متدينة وكانت له قناعات سياسية منذ سن المراهقة. يتحدث الدكتور مسعود عن والدته بتلقائية وعفوية توحيان بوجود مكانة قوية لها في تربيته وصياغة وعيه، ويفهم السامع من كلامه أن الوالدة كانت مقاتلة في صفوف جبهة التحرير الوطني، وبقيت عضوا في الحزب الحاكم ولكنها كانت تبكي عند عودتها من اجتماعات القسمة (الفرع) وتكرر : «أراهم خانوا الشهداء». هذه المرة صوتت تلك المقاتلة لحزب ابنها واختارته بدلا من الحزب الذي كافحت في صفوفه طيلة حياتها، لأنه «يدافع عن القرآن والشريعة» على حد تعبيره. أما الدكتور مسعود فإنه لم يطلب أبدا، أن يصبح رئيسا لبلدية عين طاية، وإنما اختاره «مجلس شورى المدينة» وكلفه بهذه المهمة.. اختاروه أو عينوه وقالوا له : «راهي الأمة تزكيك» وقبل الدكتور المهمة انطلاقا من مبدأ : «المسؤولية تكليف لا تشريف». مجلس الشورى لعين طاية اختار أيضا نواب الرئيس، رغم كون القانون ينص على أن هذا الإختيار هو من صلاحية الرئيس. لكن القانون، إنما خُلق ليُخرق، حسب تعبير فرنسي معروف، والدولة المركزية في الجزائر، لا تريد أو لعلها لا تستطيع أن تدخل في صراع مع السلفيين والسلفيين الجدد، حول تطبيق القانون. بل هناك من يقول : «إن صمت الدولة ناجم عن اتفاق بين الطرفين». الدكتور مسعود ونوابه، وهم في غالبيتهم من أعضاء الجبهة الإسلامية للإنقاذ عينوا إذن، من طرف مجلس الشورى المحلي. ومجلس الشورى هو ندوة الحكماء وتمثل فيه مختلف أحياء المدينة ويجتمع في أحد المساجد، وعادة ما يكون إمام المسجد عضوا فيه سيما إذا كان مناضلا في الجبهة الإسلامية للإنقاذ أو رجل دين فاضل لا غبار ولا عجاج صحراوي على سلوكه. ومجالس الشورى موجودة بجميع المدن والبلديات والمراكز الحضرية، وتقوم بدور السلطة الموازية، وتتولى بصورة خاصة مهمة التعبئة الإيديولوجية. أما الجهاز المحلي للجبهة الإسلامية للإنقاذ فيتولى الشؤون السياسية، بينما ينحصر دور البلديات في التنفيذ. الجهاز التنفيذي لبلدية عين طاية، يعطي عن الجبهة الإسلامية للإنقاذ صورة مختلفة كليا عن الفكرة الشائعة. الدكتور مسعود رئيس هذا المجلس هو كما رأينا، طبيب مختص في زراعة الكلي، أي في واحد من أكثر فروع الطب تطورا، وأدقها تقنية، ونوابه يوجد بينهم المهندس المختص في الروبوتيك، أي في أحدث مخترعات التكنولوجيا الجديدة، كما يوجد بينهم الخبير الإقتصادي والمحاسب. قال لنا الصديق الذي رافقنا في تلك الجولة إلى عين طاية، ونحن نغادر مبنى بلديتها : «كثير من المحللين يخطئون في حكمهم على طبيعة التشكيلة الإجتماعية للجبهة الإسلامية للإنقاذ، حين يركزون على أنها تمثل جماهير المحرومين والمهمشين. هذا صحيح إذا شئت بالنسبة للقاعدة الشعبية العريضة، لكن لا تنس أن الجبهة الإسلامية هي كذلك مناخ عام يخترق كافة طبقات المجتمع، وقد اختارت لنفسها تأطيراً من نوعية متقدمة، ودعنا من المسألة الإيديولوجية، فهي إشكالية أخرى...». ولم يكن في حياة الدكتور مسعود ما يرشحه لأن يصبح رئيسا للبلدية. كان هذا الطبيب الشاب، قبل وقوع اختيار مجلس الشورى المحلي عليه، وجها رياضيا معروفا بصفته لاعبا ماهرا للكرة، وكان معروفا كذلك كواحد من أفضل لاعبي فريق مولودية الجزائر، ومولودية الجزائر، واحدة من الفرق الرياضية الوطنية ذات الشعبية الواسعة. إنها تشبه من بعض الوجوه فريقي الرجاء والوداد البيضاويين في المغرب، وفريقي الأهلي والزمالك المصريين. وأصدقاء الدكتور مسعود القدامى، الذين ما يزالون يقيمون مثله بعين طاية يذكرون أنه كان في مرحلة المد اليسراوي واليساري، قبل عشرين سنة، يرسل شعره على طريقة طلاب الحي اللاتيني ويدافع عن أفكار متطرفة. على أن ذلك أصبح ماضيا بعيدا يكاد يكون منسيا. اليوم، ما يهم الدكتور مسعود هو أن يدير بلدية عين طاية باسم الإسلام، وهو يقول في هذا الصدد : «علينا نحن اليوم أن نهتم بشؤون البلدية وأن نديرها على أكمل وجه، لأن عمل مجلس الشورى يتوقف وينتهي عند حدود معينة. طبعا سوف تأتينا التعليمات من الحزب، لأنه مهما كانت معارفنا بالإسلام متقدمة فنحن بحاجة للحزب وبحاجة إلى مناضليه. نحن لا نملك وسائل كثيرة ولا يمكن أن ننتظر وحين توجد بناية على وشك الإنهيار فلابد أن يتحرك السكان. والميزة الكبرى لمناضلينا هي أنهم يعملون جميعا بالمجان، وفي سبيل الله. والحزب أي الجبهة الإسلامية للإنقاذ أكثر من حاضر، بل إنه ينشر شبكته الأخطبوطية في سائر مستويات الحياة اليومية. وحين يحصل خلاف أو ينشب نزاع بين سلطات البلدية الجديدة، واختصاصات الوالي التابع لوزارة الداخلية، لا يأتي الحسم مباشرة من رئيس المجلس البلدي، وإنما يجيء من الحزب. والحزب قرر في الوقت الراهن بالأقل (لنقل حتى بداية الأسبوع الأخير من شهر يوليو، لحظة كتابة هذا المقال) عدم الدخول في امتحان قوة مع الدولة، أو فلنقل إن الدولة نفسها ما تزال متوارية عن الأنظار. ثم إن لكل مقام مقال. وهناك ولاة وولاة». حين زرنا بلدة عين طاية في بداية شهر يوليو، كان النقاش الدائر بالعاصمة مركزا كله حول السياسة العملية التي ستطبقها الجبهة الإسلامية للإنقاذ في البلديات التي فازت فيها؟ هل سيمنع الإختلاط في الشواطئ؟ ماهو شكل «المايوه الإسلامي»؟ هل سيمنع الإختلاط في وسائل النقل؟ هل سيمنع في الأقسام المدرسية؟ هل ستخصص شواطئ للرجال وشواطئ للنساء؟ هل ستمنع تجارة الخمور والمشروبات الكحولية؟ هل ستغلق المطاعم التي تقدمها؟ وماذا سيكون أثر مثل هذه التصرفات على الحياة اليومية؟ وهل ستكتفي الدولة بالتفرج على السلفيين والسلفيين الجدد، وهم يفرضون مفاهيمهم على الحياة اليومية للناس، أم أنها ستلزمهم حدودهم؟ وما هي هذه الحدود؟ وهل الدولة ما زالت موجودة وقادرة على ممارسة اختصاصاتها ومسؤولياتها؟ وأسئلة كثيرة أخرى، يمسك بعضها برقاب البعض الآخر، وتأتي الأجوبة عنها كل يوم في شكل يوحي بوجود استراتيجية زاحفة تريد أن تُخْضِعَ البلد كله عبر سلطة البلديات، وأمام غياب الدولة،لضرب من الإسلام غريب يحمل معه نبرات التطهرية الوهابية الآتية من شبه الجزيرة العربية، أكثر مما يحمل ملامح ذلك الإسلام المتوسطي، الإفريقي المألوف والمعروف بتسامحه وتفتحه على جوانب معينة من الحياة اليومية الحديثة. في تلك الفترة التي زرنا فيها عين طاية لم تكن لدى المجلس البلدي أية تعليمات بشأن الطريقة التي يفترض به أن يدير بها شاطئ بلديته، وهو إحدى الرئات الطبيعية التي تتنفس منها العاصمة في فصل الصيف. «لا تعليمات لدينا حتى هذه اللحظة»، لكن لابد أن تصدر أوامر وطنية تشرح لنا كيف تكون الشواطئ الإسلامية الجزائرية. بالطبع من حق كل الناس أن يستحموا في البحر وأن يستريحوا إنما بشرط أن يحترموا الشريعة الإسلامية. أما المرأة فالقرآن فرض عليها الحجاب ومعنى ذلك أنه لا يجوز لها أن تستحم. أما الإختلاط، فالدكتور مسعود يظن أنه يجب الفصل أو التفريق بين الرجال والنساء في الحافلات. الواقع متقدم دائما على النظرية، وأكبر دليل على ذلك، هو ما تقدمه التجربة الجزائرية الجديدة. ففي الوقت الذي كنا نبحث فيه عن مؤشرات بداية تطبيق السياسة الإسلامية، الجديدة، شاهدنا في عين طاية مخزنا كان مخصصا لبيع المشروبات الكحولية يتحول لدكان بيع الأحذية. أما ذلك المهاجر العجوز محند آيت واكلي، صاحب فندق ومقهى ومطعم الشاليه نورمان، فإنه ما يزال صامدا رافضا كل ما يجري حوله. المكان، مكان الشاليه نورمان، قطعة من الجنة المتوسطية، كأنه خارج من رباعية الإسكندرية أو من إحدى روايات ألبير كامو أو إيمانويل روبليس. إنه مبني على الطراز الفرنسي، تنمو وراء جدرانه العالية أشجار الليمون والبرتقال والورود المختلفة ذات الألوان الزاهية الفاقعة، حين يدخل الزائر على هذا المكان يشعر بأنه خرج من الجزائر الإسلامية إلى جزائر أخرى ما تزال تقاوم، باحثة عن وسيلة تمكنها من الإفلات من تلك القبضة الحديدية الحريرية التي تمد شباكها بالتدريج على مختلف مظاهر الحياة. الطيور، تزقزق تحت الظلال، بين الأغصان وحتى فوق الموائد، والأسماك التي يقدمها محند آيت واكلي لزبنائه طرية ما تزال تحمل نكهة البحر والنبيذ جزائري وجيد، ونوافذ الغرف مشرعة على البحر، والغرف مملوءة برائحة النسيم المالح. وفي الممرات يشاهد الزائر، نساء عاملات ببلوزاتهن البيضاء، يحملن أكواما من القماش المكوي النظيف. النظافة هنا شيء ملفت، يخطف البصر. الأجانب يشعرون بأنهم في مكان مختلف تماما عن الأمكنة المماثلة، حتى داخل العاصمة. والمكان يبعد مسافة عشرين كيلومترا فقط عن قلب المدينة. هذا المكان يكاد يكون في الأجواء السائدة، نقطة خارج نطاق الجاذبية الأرضية. محند آيت واكلي الذي عاد إلى الجزائر في سنة 1986، مجذوبا إليها بإغراء الليبرالية الشاذلية وظف كل ما كان قد اقتصده طيلة سنوات الغربة في هذا المشروع. يتحدث الرجل بنبرة مسعورة، ناقمة عن تجربته، ويتكلم بمرارة وتشاؤم عن الآفاق المظلمة، المسدودة التي تنتظره. كان محند آيت واكلي عضوا في جبهة التحرير، وقد صدر عليه الحكم بالإعدام أثناء الحرب، كما صدر على زوجته الفرنسية بتهمة التواطؤ مع الإرهابيين. لقد كلفه مشروعه مليارين من السنتيمات ولكنه لا يملك حتى الآن الأوراق الضرورية. حكاية محند آيت واكلي مليئة بالتعقيدات والمتاعب الإدارية، وهي تعطي صورة صارخة عن سوء التصرف والإستهانة بالمسؤولية الذي ميز عمل بعض الأشخاص النافذين في ظل حكم الحزب الواحد. «كلهم يحبو ياكلو» ولكن محند آيت واكلي، الذي رجع من فرنسا بعقلية تحترم القانون، وخرج من تجربته كمناضل دفع الثمن غاليا لاستقلال وطنه، يصر على أن يتم كل شيء وفقا للحق. لذلك كان يدفع كل الضرائب والغرامات والإتاوات الكثيرة المفروضة عليه من طرف الإدارة الوصية رغم اقتناعه بأنها غير شرعية. كان يدفع كل الفواتير ويكرر : «والله مانعطيهم والو... شماتة وسراقين ينعل دين باباهم الكلاب». ويروي صاحب الفندق حكاية مدير في أملاك الدولة قال له ذات مرة : «انظر سيارتي العتيقة، إنها ميتة. أما فندقك إنه جميل»، يرويها ويضيف أنه رد عليه : «نعم، إنه جميل»، ويعطي الإنطباع بأن ذلك المسؤول الإداري كان يريد أن يحصل منه على رشوة لترتيب أموره. أربع سنوات مرت على رجوع ذلك الشيخ القبائلي المناضل العتيد، وهو ما يزال يدير مشروعه السياحي مع زوجته الفرنسية، من دون أن يتوفر على الوثائق القانونية. هذا الرجل خائف، خائف جدا من البلدية الإسلامية، لأنه لن يستطيع، عما قريب، بيع الكحول. «وإلا حَرْمُوا علينا بيع الشراب نْغَلْقُ»، يعلن الرجل ذلك ويضيف «ماعليهش، أراني كبرت وعشت وماراني نحوس على الدراهم، بالصح راني خايف على البلاد، الدراهم عندي كفاية، نقدر نعيش بلا خدمة حتى ليوم القيامة. ولكن بلادي تستحق خير من هذا الهم... بلادي تستحق حاجة مليحة. كيجيوا ليزيثرانجي عندي نحبهم يشوفوا ناس فاهمين ويعرفوا كيفاش يعيشوا». فندق ومطعم ومقهى الشاليه نورمان يدفع لبلدية عين طاية خمسين مليون سنتيم في العام، لكن رقم أعماله انخفض انخفاضا مروعا في هذا الصيف، وقد بدأت البلدية تمارس عليه ضغوطا قوية مباشرة وغير مباشرة لإقناعه بعدم بيع الكحول «والله ما نسمع لربهم واش يحبو؟ ماكافحناش باش نجيب عيدي أمين وآيات الله يحكموا فينا». هناك حرب غير معلنة بين الدكتور مسعود والسيد محند آيت واكلي، أو فلنقل إنها حرب بين صاحب الشاليه نورمان والجبهة الإسلامية للإنقاذ. وقد بدأت تلك الحرب بمناسبة الذكرى الأولى لحوادث أكتوبر. ففي تلك المناسبة (أكتوبر 1989)، وبينما كانت الجزائر كلها تحبس أنفاسها في انتظار مواجهة محتملة بين الجبهة الإسلامية للإنقاذ وقوات الجيش والدرك والشرطة، هجمت عصابة مجهولة على الفندق وحطمت أثاثه وتجهيزاته وألقت بأجهزة التلفزة الموجودة بالغرف، من النوافذ إلى الشارع. لم يكن محند آيت واكلي حاضرا عندما حصل ذلك الهجوم وهو يتساءل في مرارة : «ولكن ماذا فعلت لهم، لقد بدأت أعمل وعمري لا يتجاوز ست سنوات ولم أتوقف عن العمل حتى اليوم». لقد أصيب الرجل بأزمة قلبية حين شاهد الخسائر والإتلافات التي لحقت بمشروعه وأكد أنه لو كان موجودا في ذلك اليوم لأطلق النار على المهاجمين ولقاتلهم حتى الموت. لم يثبط ذلك الهجوم من عزيمة السيد محند آيت واكلي الذي أصلح ورمم ما خربه الآخرون. ما تزال العزيمة هي هي وما تزال إرادة الصمود والبقاء متوفرة. لكن الخوف أصبح طاغيا. لقد أرسل الشيخ العنيد أطفاله إلى فرنسا خوفا من أن يأخذوهم كرهائن ليضغطوا عليه بواسطتهم، وبقي مع والدتهم، زوجته الفرنسية، التي اختارت أن تظل بجانبه. والغريب في الأمر أن محند آيت واكلي، العضو السابق في جبهة التحرير، البالغ من العمر ستين عاما، يوجه للحزب الحاكم وللدولة نفس التهم التي يوجهها إليهما الشبان الذين انتفضوا في خريف الغضب، ويأخذ عليهما مآخذ مماثلة لتلك التي تصدر عن أعضاء الجبهة الإسلامية للإنقاذ. إنه لا يفتأ يندد بعدم الكفاءة، وبالجشع والطمع والسعي المحموم وراء الكسب السريع والفساد. يقول ذلك كله ولكنه مختلف مع الأطراف الأخرى في العلاج : «لو أن الديمقراطيين تمكنوا من استلام السلطة، لكانت الجزائر أروع بلد في العالم». وفي انتظار حصول تلك المعجزة، يهيء العجوز القبائلي الأمازيغي العنيد نفسه لأسوأ الإحتمالات : «راني نحترم الناس لكل بالصح لازم هوما ثاني يحترموني». ورغم أنه يقف بثبات على عتبة العقد السابع، فهو يفكر بأنه لابد له من أن يتسلح من جديد : «إلا جا واحد يحب يديرانجيني انتيري فيه بالك نموت بالصح ما نخرج من هنا. أراني من البلاد وضحيت عليها ومارانيش من الخارج... وحتى قواد ما ينجم يقلع لي حق ولا يقلعني من هنا». تُرى، ما الذي يمكن أن يجمع بين الدكتور مسعود رئيس بلدية عين طاية ومواطنه محند آيت واكلي، صاحب فندق ومقهى ومطعم الشاليه نورمان؟ شيء واحد : هو حبهما للجزائر. لكن لكل واحد من الرجلين طريقته الخاصة في إظهار هذا الحب. الحب، حب البلد عند ذلك الشيخ العنيد يتجسد في تمسكه بحقه في بيع الخمر الجزائري الجيد، وتصريف شؤون فندقه ومعاملة زبنائه بأسلوب عصري وبذوق رفيع، وتقديم خدمات الإستقبال والإيواء والإطعام لهم بالطريقة التي تعود عليها. لقد جاء إلى هنا، مثل مئات إن لم نقل آلاف المهاجرين الآخرين بكل ما اقتصده من ثمرات جهده وعمله بعد أن سمع أن الحكومة تشجع المواطنين على استثمار أموالهم في مشاريع مربحة مقدمة لهم التسهيلات الضرورية لذلك. وكانت خيبته الأولى كبيرة حين أدرك الفجوة العميقة الفاصلة بين الخطاب النظري والممارسة الفعلية. وها هو يفكر في اقتناء سلاح ناري مرة أخرى ليدافع عن حقه بالبقاء، وحقه في أن يحيا فوق أرض بلده، تحت سمائها الصافية، كما يحلو له. أما الدكتور مسعود، فهمه الوحيد هو أن تصبح عين طاية بلدية إسلامية قائمة على الحق والعدل ليس فقط بالنسبة للذين يذهبون إلى المساجد ولكن بالنسبة لجميع المواطنين. وإذا كان محند آيت واكلي لا يكف عن رواية ذكرياته الفرنسية، ولا يتوقف عن الإشادة بحرية الأفراد والجماعات هناك، مع آهات وتنهدات يتحسر فيها على الماضي مكررا من حين لآخر : «يا أخي ماراني شي يهودي ولا نصراني»، فإن رئيس المجلس البلدي لا يكف هو الآخر عن التنويه بالعربية السعودية، ومع أنه لا يعرفها معرفة جيدة، فهو يستشهد بها في كل شيء بمناسبة ومن دون مناسبة، وخاصة في مجال زرع الكلي، ويقول إن المشكلة الأخلاقية قد حلت فيها تماما. وحين سأله بعض الزملاء الصحفيين الجزائريين، عما إذا كان مستعدا لقطع يد السارق لم يتردد في القول بأن «قطع اليد وبتر الرجل وجذع الأنف هي من باب إقامة حدود الله. وإذا وفرتم لكل إنسان ما يحتاج إليه في مجتمع إسلامي ثم ارتكب بعد ذلك معصية مخالفة الشرائع الدينية فلابد من قطع يديه». إنه مفهوم صارم للدين الإسلامي، جديد تمام الجدة على الجزائر وعلى المغرب العربي كله، والأكثر منه جدة وطرافة وغرابة، هو أن تصبح العربية السعودية المثل الأعلى والقدوة المنشودة في بلاد ثورة المليون شهيد، ذلك انقلاب كبير في الأدوار والموازين ومؤشر فاجع على درجة التردي والتدني الذي وصل إليه مخيال جماعات واسعة من الشباب الجزائري. لست أدري ما هي البلدية الإسلامية؟ وما هي السلطة الإسلامية؟ ولكن الذي لمسته ورأيته رأي العين، طوال الأيام التي أمضيتها بالجزائر بعد الإنتخابات البلدية والولائية الأخيرة، أن الحياة اليومية سوف تكون كئيبة، حزينة، متجهمة قاسية جدا. وكانت الحياة اليومية كئيبة، حزينة، متجهمة في الجزائر خلال السنوات الماضية بسبب عوامل كثيرة. أما بعد أن أتى الذين يسمونهم بالإسلاميين إلى السلطة البلدية، وأخذوا يستعدون للصعود إلى السلطة الوطنية المركزية، فإن هذه الحياة بدأت تضيف إلى الكآبة والحزن والتجهم، بوادر التقطيب والعبوس والجفاف. ولعل حلول مواعيد استلام الإسلاميين للسلطة مع موسم الصيف، وهو في كل المجتمعات الحديثة فصل الإسترخاء وعدم الإكتراث والتخلص من القيود، والإستسلام لتناوب الأمواج والأشعة، أو الذهاب إلى الجبال، لعل ذلك كله أن يكون في خلفية ذلك الإنطباع الثقيل الذي تتركه في النفس المظاهر الأولى للتحول الجديد. مدينة الكيفان (فور دولو Fort de l'eau أي برج الماء سابقا) الواقعة على مسافة عشرين كيلومترا شمال العاصمة، كانت معروفة في عهد الإستعمار، وفي السنوات الأولى للإستقلال، بأنها المكان المفضل لإمضاء أوقات ممتعة بعيدا عن صخب العاصمة واكتظاظها وهمومها. كان برج الكيفان أو برج الماء إسما رومنسيا يرتبط بهذه الحياة السهلة، الحرة المتحررة من كل القيود والإعتبارات. وقد اشتهرت هذه البلدة الشاطئية الجميلة التي أطلقوا عليها اسم باريس الصغيرة، بجودة صحون الأسماك وطراوتها ورخصها، وأيضا بجودة المركاز (النقانق). وكان الرجال والنساء، وخاصة المنتمين من بينهم إلى الطبقات المتوسطة يأتون إليها، لاسيما في العصريات والأماسي الصيفية وفي أيام العطل والأعياد فرادى وجماعات، يتزاحمون داخل مطاعمها ومقاهيها ويملأون الموائد المتناثرة على أرصفتها الواسعة، يأكلون الأسماك والمركاز، ويحتسون كؤوس البيرة والنبيذ الجزائري الجيد، يضحكون ويتندرون، يتبادلون النكات والقفشات في مناخ من اللامبالاة الكاملة. الأطفال يأكلون البوظة بأنواعها المختلفة، والرجال والنساء يلتهمون ثمار البحر بكل أشكالها وألوانها. مدينة برج الكيفان أو برج الماء، كانت من البلديات التي ضربت الرقم القياسي في ولائها الإنتخابي للجبهة الإسلامية للإنقاذ. لقد حصل حزب السيد عباسي مدني هنا على نسبة أربعة وسبعين بالمئة (%74) من الأصوات وفاز بأحد عشر مقعدا من خمسة عشر، تاركا لجبهة التحرير أربعة مقاعد. وهذا الموج القوي الذي استفاد منه السلفيون ضد الجبهة يعود إلى عوامل محلية ووطنية متعددة يأتي في مقدمتها أن المرافق السياحية المتطورة، والتجهيزات الفندقية والمقاهي والمطاعم والفيلات والبنايات التي تركها الأوروبيون غداة الإستقلال، حولت أو تحولت إلى أملاك خاصة. استحوذ عليها قدماء المجاهدين وأعضاء الحزب وضباط الجيش، الأمر الذي فجر نقمة عميقة في أوساط الشباب، ضد أثرياء عهد الإستقلال. كانت النقمة قوية وشاملة إلى درجة أنها عصفت بالتنظيم المحلي لحزب جبهة التحرير الوطني بمدينة برج الكيفان. والسيد محمد سعيد حداد الرئيس الحالي لبلدية برج الكيفان، كان في السابق، أحد مسؤولي حزب جبهة التحرير الوطني بنفس البلدة. وهو لا يرى أي فرق بين برنامج جبهة التحرير الوطني والجبهة الإسلامية للإنقاذ. ومشكلة البلدية الإسلامية في برج الكيفان. هي نفس مشكلة البلدية الإسلامية المجاورة لها شمالا في عين طاية. هل تحافظ بلدية برج الكيفان أو برج الماء على مرقصي سانتامونيكا، ولي سوليتير، أم تقوم بإغلاقهما؟ في الوقت الراهن، أي في منتصف يوليو 1990، لم تكن هذه المشكلة على رأس أولويات اهتمام المجلس البلدي الإسلامي في تلك البلدة الشاطئية الجميلة، التي كانت كما قلنا تسمى باريس الصغيرة. إنها ليست مطروحة بتلك الحدة التي تطرح بها مسألة فندق الشاليه نورمان في بلدية عين طاية. ويقول بعض العارفين الذين تداولنا معهم حول هذه النقطة أن السبب في تكتم المجلس البلدي الجديد بشأن هذه المشكلة الحساسة يعود إلى عاملين : الأول أن تلك الأماكن تدر مداخيل هامة على المؤسسة البلدية والثاني يرجع إلى أن سانتامونيكا ولي سوليتير، يملكها أشخاص يتمتعون بحمايات قوية في بعض أجهزة الدولة النافذة. زيارة خاطفة إلى مدينة دلس الشاطئية التي تبعد عن العاصمة بمسافة ستين كيلومترا إلى الشرق، تعطي صورة أخرى عن الهموم البحرية للبلديات الإسلامية خلال فصل الصيف الأول في عهد السلطة الجديدة. في هذه المدينة الواقعة بالساحل المتوسطي القبائلي، والتي يقال إنها أُسست من طرف عائلات أندلسية بعد سقوط الأندلس، حصلت مشادات عنيفة خلال السنة الماضية بين رجال السلطة والمسؤولين المحليين عن حزب الجبهة الإسلامية للإنقاذ. لقد بادر قادة التنظيم السلفي في صيف ذلك العام بتوزيع منشورات مطبوعة وملصقات جدارية تحرم ارتداء الشورت بالشاطئ وفي المدينة. وأثار هذا التدخل في شؤون الحياة الخاصة للناس غضب عدد من المصطافين. خاصة القادمين من فرنسا أو من المدن الداخلية. وحين حاولت الشرطة أن تقوم باعتقال أعداء الأزياء الصيفية الشاطئية القصيرة، بادر أصحاب المنشورات والملصقات الإسلامية بالإعتصام في مسجد المدينة، وكاد الأمر أن يتطور إلى مواجهة عنيفة. كاد الدم أن يسيل بسبب إصرار السلفيين المحليين على الإعتصام بالمسجد وإصرار السلطة على إخراجهم منه ولو بالقوة. ثم حلت الخصومة الصيفية في النهاية بتدخل مباشر من السيد عباسي مدني، زعيم الجبهة الإسلامية للإنقاذ. هكذا خرج المعتصمون من المسجد، وألقت الشرطة القبض في وقت لاحق على زعيمهم أحمد خيضر، وقدمته للقضاء بتهمة الإخلال بالأمن العام، ومخالفة بنود الدستور، فصدر عليه الحكم بشهرين سجنا مع وقف التنفيذ. هذا الرجل البالغ من العمر أربعين سنة والذي يعمل مديرا لمدرسة ابتدائية هو الرئيس الجديد لبلدية دلس. وقد كان أحمد خيضر مثله مثل الدكتور مسعود رئيس بلدية عين طاية، والسيد محمد سعيد حداد رئيس بلدية برج الكيفان، مناضلا في حزب جبهة التحرير الوطني. ولا حاجة بعد اليوم إلى تحريم ارتداء الشورت أو فرض عدم الإختلاط بين الجنسين على الشاطئ. لقد كف الرجال عن ارتداء الشورت منذ شهور، وكفوا، ربما منذ سنوات عن مرافقة نسائهن إلى الشاطئ. وأما الأشخاص الراغبون في الإستمرار على نمط العيش الصيفي القديم، فما عليهم إلا أن يتوجهوا إلى شواطئ تيفزيرت أو شواطئ بجاية. وإجمالا، فما فهمناه من جولاتنا السريعة بالشواطئ القريبة من العاصمة، والواقعة كلها تحت إشراف مناضلين سابقين في جبهة التحرير الوطني، أو تحت إشراف شبان ينحدرون من أسر جبهوية انضموا جميعهم إلى الجبهة الإسلامية للإنقاذ، يوحي بأن الشواطئ سوف تنظم على طريق الحمامات الموجودة بالمدن. سوف تكون هناك حمامات للرجال وحمامات للنساء. يأتي الجميع، أي أفراد الأسرة في سيارة واحدة، ويقوم رب البيت بإنزال النساء والأطفال غير البالغين فوق الرمال المخصصة لهم ويذهب هو والأبناء الراشدون إلى الأماكن الخاصة بالذكور البالغين، ثم يعود قبل العصر لنقل العائلة. الجزائر في مفترق الطرق مشاهدات ومسموعات 8 - (الحلقة الثانية) صيف إسلامي ساخن وكئيب ولابد أن نشير هنا إلى أن كل الذين ترشحوا في الانتخابات البلدية والولائية الأخيرة، وقعوا على تعهد يلتزمون فيه بمنع الاختلاط بين الجنسين بالمدارس وعلى الشواطئ، وتحريم الدعارة وألعاب القمار ومنع بيع الكحول واستهلاكها. وقع أعضاء الجبهة الإسلامية للإنقاذ هذا التعهد ولم تتدخل الدولة أو تحرك ساكنا، علما بأن كثيرا من هذه المجالات، تدخل في نطاق اختصاصاتها القانونية. وكل رؤساء وأعضاء المجالس البلدية الذين تحدثنا إليهم، خلال النصف الأول من شهر يوليو حول هذه المواضيع، كانوا يردون عن أجوبتنا بأنهم ما زالوا ينتظرون القرارات التطبيقية أو النصوص التوجيهية التي سيرسلها إليهم المكتب الوطني، أي القيادة العليا للجبهة الإسلامية للإنقاذ. وكانوا يبررون «التأخير» بغياب السيد عباسي مدني إلى العربية السعودية. ولسنا ندري إن كانت التعليمات بتطبيق الشريعة الإسلامية بحذافيرها قد صدرت إلى البلديات الجديدة. كما أننا لم نستطع أن نفهم حقيقة ودوافع صمت السلطات الوطنية. إن الحديث عن تطبيق الشريعة، بل مجرد التلويح بذلك، أمر يضع مشروعية الدولة، محط تساؤل وتشكيك، والمراقبون في العاصمة الجزائرية يتساءلون عما إذا كان هناك اتفاق ضمني، تترك الدولة بموجبه السلطات البلدية الإسلامية، تتصرف وفقا لما تعتقده «شريعتها الإسلامية»، مقابل السكوت عن مطلبها القديم بضرورة التعجيل بحل المجلس الوطني الشعبي وإجراء انتخابات نيابية مسبقة. ومنهم من يرى أن الدولة تراهن مرة أخرى على ردود فعل السكان، وتفضل أن تترك الإسلاميين يرتكبون الخطأ تلو الخطأ، لإثارة الرأي العام الشعبي ضدهم، ثم قطف ثمار هذا السخط في الانتخابات النيابية الآتية. وهناك طائفة من المراقبين، ترى أن موازين القوى اختلت لصالح الإسلاميين، وأن الدولة لا تملك قدرا معقولا من المصداقية، ولا حتى مقدارا ضئيلا من المسؤولية يسمحان لها بمنافسة الإسلاميين. فبالأحرى ردعهم أو وقفهم عند حدهم. في ضوء هذا التصور يجب أن نحاول فهم سلسلة من الوقائع التي عاشتها الجزائر، بعد الانتخابات الأخيرة،وهي معطيات تترك انطباعا قويا بأن الجبهة الإسلامية للإنقاذ بدأت بالفعل تمارس عملها كما لو كانت بالفعل المرجعية الوحيدة للسلطة. مقابل غياب ملحوظ للدولة. هناك مثلا ذلك القرار الغريب الذي اتخذه مجلس بلدية تيبازا الشاطئية، بمنع المصطافين من ارتداء الشورت بالمدينة، مع تحديد مقاييس حتى للمايوهات التي يجب أن يرتديها الرجال والنساء في الشواطئ. هذا الخبر نشرته وكالة رويترز البريطانية ووكالة الأنباء الفرنسية، ونشرته أيضا الصحف الغربية، وربما العربية. وبعد ذلك نشرت الوكالات خبرا آخر يقول بأن والي مدينة تيبازا، أصدر بيانا ينكر فيه على البلدية حقها في تحديد مقاييس اللباس الصيفي، ويبيح للمواطنين الراغبين في ذلك، حق ارتداء الشورت داخل شوارع المدينة.لكن ما لم تقله الوكالات، أو ما لم تنتبه إليه لتقوله، أو لعلها لم تكن تعرفه حتى تربط بينه وبين هذا الصراع حول الأزياء الصيفية، هو أن والي مدينة تيبازا، السيد بوركبة شقيق السيدة حليمة بوركبة حرم الرئيس الشاذلي بن جديد، يعد في نظر المراقبين العارفين بمجريات الشؤون الجزائرية واحدا من الولاة المنفتحين على الجبهة الإسلامية للإنقاذ. وفي ولاية تيبازا يوجد القصر الرئاسي الصيفي للشاذلي بن جديد، وفيها توجد منتجعات ومصايف خاصة بكبار الرسميين، فهل هي مجرد مصادفة، أن يتم الاحتكاك الأول بين ممثلي السلطة الإسلامية الصاعدة، في ذلك الموقع بالذات؟ لقد أصبحت وسائل الإعلام الرسمية نفسها تتحدث عن خطورة الحالة السائدة في الجزائر، بعد الانتخابات الأخيرة، بنبرة قاتمة متشائمة. وأظن أن أهم تعليق صدر في الأسابيع الماضية، أي السابقة لنشر هذا المقال، هو ذلك النص الذي أذاعته وكالة الأنباء الرسمية الجزائرية على شبكة خطوطها الداخلية يوم الأحد (15 يوليو 1990)، ونشرته جريدة المجاهد اليومية الصادرة باللغة الفرنسية والتابعة لحزب جبهة التحرير، بعددها الصادر يوم الاثنين (16 يوليو) تحث عنوان : ماذا يفعل الديمقراطيون؟ يقول السيد أ مخلف، كاتب المقال. وهو من معلقي الوكالة : «ها هي موسيقى الراي تمنع بوهران، وها هي الشرطة الإسلامية تظهر بمستغانم، وها هي سيارة خاصة للنساء وواحدة مخصصة للرجال بمطار عنابة، وها هي امرأة تشكو زوجها أو تشتكي منه لمحكمة الجبهة الإسلامية للإنقاذ في الشلف، وها هي بلدية تيبازا تمنع ارتداء الشورت على المصطافين... إن هذه الأخبار المتفرقة المأخوذة من الصحافة اليومية الصادرة خلال الأيام الأخيرة، تبرهن لنا أن نظاما جديدا أخذ يستقر بموازاة النظام الدستوري، حتى لا نقول إنه بدأ يترسخ بإلغاء النظام الشرعي القانوني نفسه. ومن مدينة بريان، قدمت لنا التلفزة مشاهد مخازن منهوبة، محطمة تحترق، مرسلة دخانا أسود يمتد فوق السطوح المهدمة، وهي مشاهد صارت مألوفة لدينا منذ خمسة عشر عاما، وتذكرنا بصور بيروت الشهيدة التي تقتحم يوميا بيوت الجزائريين ولقد سقط قتيلان وعشرات الجرحى لأن إماما غير مسؤول دعا فوق منبر المسجد جزائريين إلى خوض الجهاد ضد جزائريين آخرين. إنها نتيجة رهيبة تماما، لا تتناسب إطلاقا مع القضية المطروحة، وهي مجرد نزاع حول نتائج الانتخابات المحلية. كان يمكن أن تحل هذه المشكلة بالطعن في النتيجة الرسمية، لكن هناك تيارا إسلاميا فضل اللجوء إلى الإلغاء والإقصاء والعنف، مستغلا فكرة مسبقة سخيفة بشعة، كان الاستعمار يروج لها قبل فترة قصيرة مفادها أن الطقوس الإباضية ليست طقوسا إسلامية». ويمضي معلق وكالة الأنباء الجزائرية الرسمية، يقول في ذلك النص الذي نشرته جريدة المجاهد : «عام 1975 أدى الهجوم بالرشاشات من طرف المليشيات المارونية، على حافلة فلسطينية في بيروت، إلى تفجير التراجيديا التي يتخبط فيها لبنان اليوم. وربما قلنا غدا، إن الاشتباكات التي حصلت بمدينة بريان، هي بداية تاريخ التراجيديا الجزائرية. وأمام هذه الصور التي تتلبد بها السماء والتي تنسف التراضي الاجتماعي الوطني، أمام هذا التحول الزاحف الذي يدخل تحولا جذريا على الحقل الاجتماعي، ويعرض الحريات الفردية لتهديدات خطيرة، ماذا يفعل الديمقراطيون ثم ماذا تفعل الدولة؟» يجيب معلق وكالة الأنباء الجزائرية الرسمية على هذا التساؤل قائلا : «الديمقراطيون يتشتتون، وهم حين يتكتلون يتجاهلون بعضهم بعضا، وهذا التناقض في التعبير يلخص الوضعية الميدانية، ويجعل تشكيلة الديمقراطيين سديمية غائمة، قاتمة ملتبسة الحدود». فما هي وضعية الديمقراطيين؟ هناك «فوروم» الديمقراطيين الذي يقوده السيد بن ونيش ويقول إنه يضم المثقفين، ثم إن هناك «فوروم» ثانيا يدعو إليه الدكتور سعيد سعدي والأحزاب المنظمة لمسيرة العاشر من مايو، وثالثا ينادي به السيد حسين آيت أحمد. وقد دعا إثنان من هذه التجمعات إلى عقد لقاء في يوم التاسع عشر من يوليو. فهل يتعلق الأمر بنفس التكتل الذي يطالب به كل أنصار الحرية وحقوق الإنسان، أم أن الأمر يتعلق بمسيرتين متوازيتين وتقسيميتين كما يأمل ذلك أعداء الديمقراطية هنا وخارج الحدود؟ثم هناك التحالف الوطني للديمقراطيين المستقلين بقيادة مصطفى التومي، وهو تنظيم يطمح لتكتيل كافة المواطنين المؤمنين بالديمقراطية، بصرف النظر عن معتقداتهم الإيديولوجية أو المذهبية، وهدفه الأول هو تحقيق انتصار روح التسامح والتضامن المميزة للمجتمعات العصرية المتطورة. «أخيرا، هناك الأحزاب الأخرى، وخاصة جبهة التحرير الوطني التي إذا تجددت وتطهرت من الدساسين و«الغطاسين» الذين تغلغلوا في صفوفها أثناء السنوات الأخيرة، إ، تجددت كما يوحي بذلك البيان الصادر عن اللجنة المركزية في دورتها الأخيرة، فإنها سوف تشكل سدا منيعا أمام القوى الرجعية، ولكن هل تستطيع الجبهة أن تتجدد؟» «إنها تساؤلات كثيرة لا تسمح في الوقت الراهن بالحكم على أداء وفعالية القوى الديمقراطية الوطنية، ولا توحي بأنها قادرة على الفوز بمعركة الانتخابات النيابية الآتية، سيما وأن مؤسسات الدولة تصرفت حتى الآن بكثير من الحذر الملحوظ تجاه التحديات والتجاوزات التي أشرنا إليها سابقا. لكن هذا الحياد المتفهم، بدأ يتطور نحو تدخل أكثر تطابقا مع روح الدستور الذي ينيط بالدولة مسؤولية الدفاع عن حريات الأفراد وحقوقهم. هكذا رأينا والي تيبازا يتخذ قرارا يلغي به قرار المجلس البلدي الذي يحرم ارتداء الشورت على المواطنين، وقد اتخذ الوالي مبادرته انطلاقا من أن تصرف المجلس البلدي كان غير دستوري، فيما أعلنت بلدية تيزي وزو استعدادها لاستقبال مهرجان موسيقى الراي بعد أن منعته بلدية وهران». أهم القرارات التي اتخذتها المجالس البلدية الإسلامية حتى منتصف شهر يوليو، كانت ذات طابع ثقافي واقتصادي. فقد صوت مجلس بلدية قسنطينة في اجتماعه الأول على قرار يقضي بمنع الاختلاط في المدارس، ابتداء من حلول العام الدراسي المقبل. ويبدو أن هذا التصويت مرشح بأن يكون بمثابة اختبار أو جس نبض في لعبة القط والفأر الجارية بين السلطة المركزية والبلديات الإسلامية. ويتساءل المراقبون بالجزائر العاصمة، عن السر الكامن وراء اختيار مدينة قسنطينة مسرحا لهذه المناوشة، كما يتساءلون عن سبب الصمت الذي التزمته وزارة التربية الوطنية أمام هذا التحدي. وزير جزائري سابق، كان عضوا في حكومة السيد قاصدي مرباح علق أمامنا على مبادرة المجلس البلدي قائلا : «لا تنسوا بأن مدينة قسنطينة، مدينة عبد الحميد بن باديس وعاصمة جمعية العلماء، كانت منذ بداية عهد الاستقلال وحتى اليوم القلعة الأولى للتيار السلفي السياسي. وقد حقق أنصار الجبهة الإسلامية للإنقاذ فيها هيمنتهم الإيديولوجية، من قبل أن يظهروا سيطرتهم السياسية الكاملة بمناسبة الانتخابات البلدية والولائية الأخيرة. لكن مشكلة الاختلاط قضية ذات طابع وطني يفترض أن لا تحسم إلا بواسطة قانون مركزي، يتم اتخاذه على مستوى البلد كله. بل إن هذه المشكلة هي بامتياز من نمط المشاكل المزيفة التي جاءتنا من الشرق. لقد كنا نحسب أننا تجاوزنا مثل هذه القضايا، وأنه صار من البديهيات العصرية أن يختلط الصبيان والصبايا فوق مقاعد الدراسة بالابتدائي والثانوي، تمهيدا لاختلاطهم في الجامعات». وأضاف الوزير السابق، في حديثه إلينا، وهو يهز رأسه استغرابا وحسرة على مستوى التدني الذي وصلت إليه الأوضاع في الجزائر : «لو طلب رأيي في الأمر، لاقترحت أن تبادر الدولة على الفور، ومن خلال وزارة التربية الوطنية بإصدار بيان تعلن فيه إبطال قرار المجلس البلدي وتعتبره لاغيا وغير قانوني. لكنني ألاحظ أن الدولة بقيت صامتة، ولم ترد حتى الآن، على موقف يعتبر خرقا سافرا لصلاحياتها. الدولة تبدو مشلولة أو متواطئة، بل هناك إشاعات تقول بأن صديقنا الأستاذ محمد الميلي وزير التربية الوطنية، قد يذهب ضحية اختبار القوة الأول هذا بين الدولة الوطنية المركزية وبين حزب عباسي مدني. إنه، كما سمعت، معتكف في بيته منذ أيام، وقد يخرج من الحكومة بمناسبة التعديل الوزاري المنتظر». ويستطرد الوزير السابق : إذا لم تبادر الحكومة بإلغاء هذا القرار الصادر في قسنطينة، فإن تطبيقه في السنة الدراسية الآتية، سوف يعني أشياء كثيرة، في مقدمتها أن السلطة المركزية تخلت تماما عن الدور الذي يجب أن تنهض به وفقا لأحكام الدستور. وماذا يبقى للدولة إذا كانت المجالس البلدية تستطيع أن تسن قوانين خطيرة، مثل قانون تحريم الاختلاط الذي يمس حياة ومستقبل الأجيال الصاعدة؟ هل مشكلة ارتداء الشورت في الصيف أخطر من قضية الاختلاط هذه؟ لماذا أصدر والي تيبازا على الفور قرارا إداريا يبطل به موقف المجلس البلدي، ولم يصدر والي قسنطينة أي شيء في هذا الموضوع؟ أخشى أن يدخلنا الإخوان المسلمون، عبر قضية الاختلاط هذه، في معركة الحجاب والسفور التي عرفتها مصر في حقبة العشرينات. سيكون ذلك ارتدادا كبيرا إلى الوراء، وسيدخلنا هذا الوضع في متاهات فكرية وسياسية ربما تكون لها عواقب وخيمة على تطورنا.ثم إنه ليس من المؤكد أن كل البلديات الإسلامية ستحذو حذو مدينة قسنطينة، ولكن من غير المستبعد أن يستنفد النقاش حول هذه المسألة طاقات يمكن لنا أن نصرفها في مجالات أكثر عقلانية وأقرب إلى هموم العصر الذي نعيش فيه. «إنني -يقول الوزير السابق- ما زلت في الواقع مدهوشا أمام عجز الدولة المركزية وسكوتها وتواطئها أمام هذا التطاول الغريب على ما هو من صميم مسؤولياتها. أليست التربية الوطنية، وبالتالي المؤسسات المدرسية التابعة لها حكرا على الدولة؟ ليس لدينا حتى الآن قطاع للتعليم الحر أو التعليم الخاص، كما هو الأمر عندكم في المغرب، وليس لدينا تعليم ديني مؤسسي، مثل ماهو الشأن في فرنسا، حتى نقول إن الدولة تسمح بنوع من الحرية في هذا الحقل الاستراتيجي. إن ميزانية التربية الوطنية تستحوذ على عشرة بالمئة من الدخل الوطني الخام، والتعليم بمراحله المختلفة قطاع عام، بل هو القطاع العام بامتياز. وليس من حق أية سلطة محلية، حتى ولو رفعت لواء الإسلام أن تتخذ قرارا يغير من طبيعة العلاقات والمناهج التربوية والمعاملات في حقل استراتيجي مثل التربية الوطنية». أول حزب صدر عنه رد فعل مناهض لقرار المجلس البلدي في قسنطينة، كان حزب التجمع من أجل الثقافة والديمقراطية بزعامة الدكتور سعيد سعدي، لقد أصدر هذا الحزب بيانا يعلن فيه : «من واجب الديمقراطيين أن يؤكدوا إصرارهم على حماية دولة القانون. إننا نلاحظ أن سلطة الدولة يجري قضمها بانتظام من طرف أطماع لا ينتظر أصحابها الوصول إلى السلطة الوطنية لإظهار ادعاءاتهم الحقيقية. ونحن -يقول حزب التجمع في بيانه- نلاحظ أن الحريات العامة تداس في أكثر من مكان في البلاد. وبصرف النظر عن استقالة الدولة، فإن التجاوزات الحاصلة تعني المجتمع كله». أعضاء النخبة الجزائرية منقسمون بطبيعة الحال، بشأن هذه الظاهرة الجديدة، ظاهرة زحف الإسلام السلفي على السلطة. يقول الروائي الطاهر جاعوط، في مقال له بعنوان : السماء تسقط فوق رؤوسنا، نشره بعدد مجلة ألجيري أكتياليتي المؤرخ ب18 يوليو 1990. «علامات هذا الزمن رهيبة، تثير الاكتئاب والقرف. الفظاعات التي ارتكبت في بريان، وجاءت تصدع الإيقاع الألفي لحياة وادي ميزاب المنتجة والهادئة، تعطينا برهانا عن ما يمكن أن يقود إليه التعصب والإقصاء حين يصبحان فضائل مركزية. ومع الأسف، نلاحظ أن هذه التظاهرات ليست معزولة، وإنما هي حلقات، ربما أكثر الحلقات خشونة من نسيج اجتماعي متداخل متحرك، من الصعب أن نمسك به، تختلط فيه أكثر أنواع القلق مشروعية، بالتساؤلات المحيرة ويرتبط ذلك كله بانبعاث أشكال من الشعوذة والممارسات المضللة التي كنا نظنها انتهت إلى الأبد. فنحن نجد بالقرب من بعض المساجد باعة متجولين محصنين من كل رقابة، يعرضون التمائم والطلاسم والأيقونات ومساويك (جمع مسواك) من نوع خاص وصورا خارقة وأفاويه وتوابل وأعشاب وكثيرا من الوصفات السحرية. ولكن الشرطة التي نظفت آخر جيب من جيوب السوق الموازية في الأيام الأخيرة، تتراجع دائما أمام هذه الجزر الخارجة عن سلطة القانون، وهو قانون يعطي الانطباع في الفترة الأخيرة بأنه يشك في مشروعيته. إن القانون ينسحب، يتراجع طاويا ذنبه بين رجليه، كلما أظهر الدين والمقدس ومخلفاتهما أنيابهما كوحوش مفترسة». ويمضي الطاهر جاعوط في استعراضه لمظاهر الانتكاسة المقبلة التي تعيشها الجزائر : من بين الحروز المعروضة للبيع بطاقات بريدية، تمثل كائنا له ساقا امرأة وصدور ورأس سمك مكتوب عليه : «هذا خلق الله»، ثم صور للسماء تصور خوارق ومعجزات مكتوبة أو مخطوطة في الفضاء. لعلها من النوع الذي تحدثنا عنه في مقال سابق وبينا أنه مصنوع من أشعة اللازر». «هكذا في زمن المكوك الفضائي، نرى الجزائريين يدخلون في حالة انخطاف أو يسقطون في أوضاع محبطة، وهم ينظرون إلى السماء. إنهم يعيشون عصر انفعالات الإنسان البدائي المرعوب من ظواهر الطبيعة الكبرى. وقد كان الغوليون les gaulois القدامى (يقصد أجداد الفرنسيين الحاليين)، يعيشون تحت هلع سقوط السماء فوق رؤوسهم، كانوا كذلك قبل ألفي سنة. أما نحن فقد سقطت السماء على رؤوسنا ونحن على مشارف القرن الواحد والعشرين». ويتساءل الطاهر جاعوط : «كيف وصلنا إلى هذه الحالة؟ ومن ذا الذي كان يتصور قبل عشر سنوات فقط، أن أراذل تافهين، هستيريين يبشرون بالقيامة والانتقام والحقد، يصبحون الرموز المحببة للشباب الجزائري أو من ذا الذي كان يعتقد بأن هذا الشعب، وهو ليس أكثر حماقة من غيره، يشكل تربة خصبة، مستعدة لاستقبال أكثر اللاعقلانيات استعصاءً، وأكثر الضلالات والتضليلات وقاحة، لتزرع وتنمو وتخصب عندنا؟ والحقيقة أن هناك مؤسسات كبرى، مؤسسات عملياتية مؤثرة جدا كانت تعمل في هذا الاتجاه، ومن بينها المدرسة التي سيطرت فيها الشعوذة والانطواء على الذات وإلغاء الآخر واستبعاد الإنسية والعقلانية والتفتح. وهناك التلفزة، تلك الوسيلة الإعلامية السحرية، حيث تنتشر الخطب الرجعية والبرامج شبه العلمية، مع هدف واحد هو محو التساؤل وخلق الروح النقدية من خلال إرجاع كل شيء إلى حقيقة عليا واحدة. ومن بين المواعظ التي قدمت على شاشاتنا الصغيرة في شهر رمضان الأخير، واحدة كانت تشكل هجوما صريحا ضد الديمقراطية وأخرى تهاجم الحداثة بعنف لا مثيل له. ومع ذلك، فالتلفزة خدمة عامة في دولة تدعي أنها ديمقراطية ولا يوجد في أي نص من نصوصها أي التزام بالعودة إلى العصور الوسطى أو العصر الحجري». ثم ينتقل الكاتب من وصف هذه الظاهرة المرضية إلى علاجها ليقول : «إن الشعب الضائع والذي تعرض للسحق مدة سبع وعشرين عاما، يخضع اليوم لخطاب رجعي فات أوانه، ولابد له من أن يكتشف البديهيات مرة أخرى، وأولى هذه البديهيات أنه لا يوجد حل في الماضي لمشاكل الحاضر. ولو أن هذا الحل موجود، لكان يكفي المصريين واليونانيين أن يضغطوا على جرس الماضي ليعود إليهم الازدهار وليصبحوا من جديد في طليعة الأمم. لقد تطورت كل حضارة في نطاق ظرفية تاريخية دقيقة معروفة، غذتها قرون طويلة من الأعمال التمهيدية. ولا يمكن أن تنبعث الحضارة المصرية ولا الحضارة اليونانية ولا الحضارة اللاتينية، وتسترجع الشكل والجوهر اللذين ميزاها منذ قرون. ولا يمكن أبدا كذلك بعث الحضارة الإسلامية في شكلها الأموي أو العباسي، فبالأحرى في شكل حضارة عهد الخلفاء الراشدين». «وفي هذا الوقت الذي بدأت فيه التعددية تستقر في الأفكار وتغزو حقل التعبير، نجد أن حقولا أخرى تبقى مغلقة بإحكام، بعيدة أو مبعدة عن أي تنازل تجديدي أو أية مقاربة موضوعية. ومن بين هذه الحقول المحصنة ضد الجدة، حقل المقدس. هناك خطباء ووعاظ يتناوبون على شاشتنا الصغيرة بخطابات تنتمي إلى القرون الوسطى، بينهم من يخبروننا بأن أبواب الجنة تبقى مفتوحة يومين في الأسبوع (يومي الإثنين والخميس لمن يهمه ذلك)، كما أن الجنة هي سوق الفلاح : (سوق الفلاح اسم يطلق في الجزائر على المخازن التجارية الكبرى المؤممة أي تلك التي تملكها الدولة). والحق أننا نود أن نسمع في بعض الأحيان مفكرين أو خطباء يملكون آراء عصرية أو رؤية إنسانية. وفي هذا الصدد، فإن حضور السيد المهدي المنجرة وظهوره على التلفزة في الآونة الأخيرة، يشكل حدثا كبيرا ويبشرنا بأيام قادمة تستحق أن نعيشها. إن مثل هذا الحضور يمزق الحجاب السميك الذي يثقل كواهلنا بجموده. إن خطاب المنجرة يندرج في المعرفة المعاصرة، ويشكل قطيعة مع التظاهرات المخيفة لفكر ظل جامدا متحجرا منذ قرون، يرفض الجدل والحوار ويميل إلى الإلغاء والإقصاء وإصدار الأحكام القطعية». [على الطريق، نشير إلى أن تنويه الكاتب بالأثر الطيب الذي تركه الدكتور المهدي المنجرة في الجزائر، يترجم شعورا عاما لمسناه عند قطاعات واسعة من المشاهدين الجزائريين. ويتعلق الأمر هنا بمداخلات ومحاضرات قدمها الأستاذ المهدي المنجرة، في نطاق الندوة التي نظمها معهد دراسات المستقبل الإسلامي الذي يوجد مقره بلندن، بالتعاون مع معهد دراسات الاستراتيجيا الشاملة الجزائرية في النصف الأول من شهر يوليو الماضي]. يختتم الروائي الطاهر جاعوط مقالته النقدية ضد السلفية الجديدة بقوله : «لقد رأينا ما حصل لنجيب محفوظ وما حصل لمحمد عبد الوهاب وآخرين من قبلهم ومن بعدهم. ومن النادر أن تولد ظاهرة جميلة، أو يهب نسيم الحرية أو تنشأ فكرة لها صلة بالتقدم، من دون أن يرفع الأزهر أو المؤسسات المماثلة له عقيرتهم بالاحتجاج. فما هو الطريق الأسلم لإنقاذنا من هذا الوضع الذي نعيشه وهو ليس على كل حال غرقا كاملا، لكن يخشى أن يصبح كذلك؟ إن خلاصنا يكمن في تطوير النظرة النقدية، وإعادة الاعتبار للعقلانية وزرع التساؤل في قلب الدوغمائيات والأيقان» (المصدر أسبوعية ألجيري أكتياليتي، عدد 12-18 يوليو 1990). أما الروائي رشيد ميموني، فله نظرة مختلفة عبر عنها في مقال نشرته له مجلة جون أفريك تحت عنوان : «الإسلاميون والتلامذة السيؤون» (عدد 18-24 يوليو 1990) بدأ بقوله : «لقد أثار انتصار الإسلاميين في الانتخابات البلدية الأخيرة بالجزائر، حالة من الذعر الحقيقي داخل فرنسا، سببها النبرة التشاؤمية التي عالجت بها وسائل الإعلام الفرنسية هذا الحدث، فوراء الصورة المثيرة للملتحين بملامحهم المتجهمة، كانت تتراءى أشباح بحر أبيض متوسط مكتظ ببواخر نقل اللاجئين. وعلى العكس من ذلك، فقد استقبل كثير من الناس نتائج الانتخابات بفرح بالغ في الجزائر. وأنا لا أتحدث هنا بطبيعة الحال عن المناضلين الأصوليين، ولكنها أول مرة يخرج فيها المواطن الصغير إلى الشارع، مع وجود إحساس لديه بالعزة المستعادة. ويتذوق بالتذاذ طعم الصفعة التي وجهها لنظام كان يضطهده منذ فترة طويلة ويسلط عليه المنغصات والإزعاجات والإهانات». ويأخذ رشيد ميموني نمادج من الحياة اليومية ليدعم بها رأيه : «إنني أجهل تماما اسم صديقي «طاكسي ألفين»، ولكنني أتذكر رقم تسجيل رخصته، فقد التقيته يوم جمعة بالحانة المألوفة على مسافة بضعة أمتار من مسجد كان مكتظا بالمصلين، كان صديقي يتذوق بيرته. إنه يملك في كلامه تلك الدقة الشرسة للعصاميين. وقد رد بدون أدنى تلكؤ على سؤالي واعترف لي بأنه صوت للجبهة الإسلامية للإنقاذ. وحين أفهمته أنه قد لا يستطيع في هدوء واطمئنان الاستمرار في تناول شرابه المُزْبِد، اكتفى بهز كتفيه. إنه لا يؤمن بأنهم سيقدمون على ذلك القرار. وهو يرى في الحزب الإسلامي المعارضة الحقيقية الوحيدة للنظام، وقد احتج أمامي بمثل شعبي يقول : «لو كان الصوف ينْبتْ على كتف السَبعْ يقلالو مْوَالينْ البْرَانيس». وهو يعتبر أن جبهة التحرير الوطني استعبدت الشعب مدة طويلة وجزت صوفه وأن الإسلاميين كشفوا ذلك». «أما الطاهر، صاحب الحانة فما يزال متفائلا، ويعتقد أن البلدية الجديدة لن تجبره على تغيير تجارته. ولهذا الرجل فكرة واضحة عن الطريقة الفعالة لإثارة الخلاف في صفوف المستشارين البلديين الملتحين، ثم لإثارة الناس ضدهم. يكفي في رأيه أن تقدم الدولة عشرين شقة لكل بلدية تترك للمستشارين حرية اختيار المستفيدين السعداء، وسط ألف واحد سبق لهم أن وجهوا طلبات للسكن». ويرى رشيد ميموني : «أن الخوف الهائل الذي تتحدث الصحافة الأجنبية عن وجوده في أوساط النساء، إنما هو من فعل بضع نساء يرتدن فندق الجزائر، ذلك المقر المتميز للصحفيين الغربيين. والغريب في الأمر أن النساء غير المحجبات اللائي يمكن أن يشاهدهن المرء بشوارع العاصمة يظهرن أكثر اطمئنانا، وهن يعتقدن أن نجاح الجبهة الإسلامية للإنقاذ سوف يجعل قادتها أعمق شعورا بمسؤولياتهم وسوف يعرفون كيف يطوقون تحديات وتجاوزات أتباعهم المعتصمين. أما في البلديات الصغيرة داخل البلاد، فإن انتصار الإسلاميين يمثل أملا حقيقيا. ويرى السكان في هذا الانتصار بداية لنهاية عهد الفوضى والتسيُّب والرشوة والمحسوبية الذي ميز أغلب البلديات. وقد تأثر الناس كثيرا بالنداءات الداعية إلى إضفاء صبغة أخلاقية أكثر على المجتمع، وهم ينتظرون من المناضلين الدينيين أن يتكفلوا جديا بالشؤون البلدية. والناس مقتنعون بأن الإداريين الجدد، سوف ينشغلون باحتياجات السكان ويعرفون كيف يقومون بنقل الأزبال وتصليح الطرقات وترميم الإنارة الكهربائية وتوزيع انقاطاعات الماء بعدالة. كما أنهم سوف يفرضون على العاملين في البلديات تصرفا جديا واحتراما لائقا في تعاملهم مع المواطنين. ويدرك الناس بشكل جيد أن الجزائريين ظامؤون جدا للاحترام. لقد خرجوا من عهد الإهانة والاستغلال أيام الاستعمار، إلى زمن مماثل في ظل السلطة الوطنية، وما تزال ذاكرتهم الجماعية تحتفظ بالإحساس بهذا الجرح العميق. وسوف أستشهد بماوتسي تونغ، لأقول إن السلطة في الجزائر كانت تلميذا سيئا. فهي لم تأخذ أي درس من أكتوبر 1988، ولم تفقد مثقال ذرة من غطرستها. ومن أجل مكافحة البضائع المستوردة تهريبا، وصل إلى نسب عالية جدا، لم تجد وسيلة أفضل لذلك من أن يقوم رجال الجمارك بإهانة الجزائريين العائدين من الخارج ببعض الهدايا الصغيرة للأطفال أو ببضع قطع غيار لسياراتهم، والحال أن مصالح الجمارك، تعرف المهربين معرفة جيدة فلماذا لم تتوجه إليهم مباشرة؟» يتابع رشيد ميموني تحليله للوضع الجزائري فيقول : «لقد كانت مظاهرات أكتوبر سنة 1988 الضربة الإنذارية الأولى، وكانت الأصوات التي أعطيت للجبهة الإسلامية للإنقاذ في شهر يونيو 1990، بمثابة الضربة الإنذارية الثانية، وفي الضربة الثالثة للمدفع، سوف تنهار جدران قلعة جبهة التحرير الوطني ويدخل الأصوليون حقيقة إلى الساحة. حينئذ، تسقط الأقنعة المترنحة». إن وجود سلطة تتسم بعجز وعقم لا حدود لهما يبدو أنه يقودنا ببطء، ولكن بشكل حتمي ولا رجوع فيه، إلى هذا الاستحقاق. والمثقفون وحدهم هم الذين يظهرون قدرا من عدم الارتياح. ومن أجل تعزية أنفسهم أو تسليتها، نجدهم ينسبون للشاذلي بن جديد عقلية ميكيافيللية ومهارة في المناورة، تخرجان عن حدود المألوف. ويقول هؤلاء المثقفون إن الرئيس أراد عن قصد تشجيع صعود الجبهة الإسلامية للإنقاذ، بهدف تفكيك جبهة التحرير الوطني التي ظهر «باروناتها»، وغالبيتهم من فريق بومدين، أنهم أعداء له (أي الشاذلي بن جديد). هكذا يجري تفسير الإجراءات اللاشعبية التي اتخذت ضد التراباندو (حركة التهريب)، قبيل الانتخابات ببضعة أسابيع، ووفقا لهذه الرؤية، سوف تبدأ المرحلة الثانية بإنشاء حزب خاص بالرئيس، حزب قادر على كسب الانتخابات التشريعية. أما الإسلاميون، فليس في نيتهم أن يبقوا مكتوفي الأيدي. لذلك، فإن البلاد تعيش في حالة من الانتظار، وعباسي مدني والشاذلي بن جديد ينظر كل واحد منهما للآخر، وينتظر الهفوة التي قد يرتكبها. الجزائر في مفترق الطرق - مشاهدات ومسموعات 9 - (الحلقة الأولى) الفتنة في وادي ميزاب... خيل إلينا ونحن نتابع لقطات من شريط مصور أنجزه قسم التحقيقات في التلفزة الوطنية الجزائرية عن الصدامات الدامية التي حصلت في مدينة بريان بولاية غرداية. في وادي ميزاب بالجنوب الجزائري، أننا نرى مشاهد من الحرب الأهلية اللبنانية، أو مناظر من المواجهات الجارية بين القوات الإسرائيلية وأهالي قطاع غزة. كانت شوارع المدينة فارغة من المارة وأبواب المحلات التجارية مغلقة والواجهات والجدران محطمة وسحب كثيفة من الدخان مختلطة بالغبار، تجوب الفضاء في انتظار هبوب رياح قوية تبددها في الفراغ، إنها آثار تلك الإنفجارات والحرائق التي عرفتها مدينة بريان ليلة يوم السبت 22 يونيو 1990، بسبب خلافات نشبت بين الجبهة الإسلامية للإنقاذ ولائحة المستقلين الفائزة في الإنتخابات البلدية والولائية. في لقطة أخرى شاهدنا سطوح المنازل المزابية القديمة، مغطاة بنساء صامتات يغزلن الآفاق بنظراتهن وحولهن أطفال صامتون أيضا نستطيع أن نقرأ في عيونهم ما خلفته تلك المعركة في نفوسهم الغضة من مشاعر الخوف والحيرة. قال لنا أحد الزملاء الذين أنجزوا ذلك التحقيق المصور أن الأطفال لم يعودوا يخرجون إلى الشارع لأن آباءهم يخافون من أن تتجدد المعارك وتفلت من سيطرتهم، ولذلك فهم يلعبون داخل تلك البيوت المفتوحة على السماء، ويتركون طرقات المدينة خاوية. وفي أسفل المدينة تقوم المقبرة الإباضية التي امتلأت تلك اللحظة بأعداد غفيرة من الرجال بأزيائهم البيض النظيفة، وهناك خط أزرق يمثل قوى الأمن التي تجمعت في هذه المناسبة بموازاة الطريق الوطني المُعَبَّد المتجه إلى العاصمة. أما إذا امتد النظر باتجاه الشرق، فإنه يشاهد سطوح شرفات حي كاف حمودة، وأغلب سكانه من العرب المالكيين السنيين. سطوح وشرفات المنازل هنا أيضا مكتظة بالمتفرجين والمتفرجات الذين يحاولون متابعة وقائع ما يجري في الطرف الآخر. ولم يكن أحد يتحدث عن هذه الأشياء قبل الآن. لم يكن أحد يقول هؤلاء عرب سنيون، مالكيون، وهؤلاء بربر أو أمازيغ إباضيون. لكن هذه التفرقة المذهبية والعرقية، برزت إلى السطح في الجزائر، خلال الإنتخابات الأخيرة، وأخذت تهددها في صميم وجودها كدولة وككيان. الإدارة المركزية أو الدولة، لم تعالج الوضع بما يستحقه من الجدية، ولم تنتبه على ما يبدو إلى خطورته. حقا إن والي مدينة غرداية عاصمة ولاية وادي ميزاب ورئيس دائرة مدينة بريان قد حضرا مراسيم دفن السيد يحيى دادون وابنه صالح البالغ من العمر ستة وعشرين عاما واللذين قُتِلا صباح يوم الأحد 23 يونيو بطلقات نارية، من طرف جار عربي سني مالكي. تمت عملية الدفن في صمت، وتفرق المشيعون من دون وقوع أي صدام بينهم وبين جيرانهم، وتفرق الشباب المزابيون الذين قاموا بدور الحراسة أثناء تشييع الجنازة. القتيلان، الأب البالغ من العمر أربعة وسبعين عاما والإبن البالغ ستة وعشرين عاما كانا مزارعين. وقد ألقيت في هذه المناسبة خطبة ذَكَّرت بأن الوالد حفر بيديه بئرين وغرس عشرات الأشجار، ليكون قدوة لأبناء الجيل الصاعد ويُفْهمهم بأنه لابد من الاستمرار في فلاحة الأرض والاعتناء بها. تاريخيا كانت الأرض، ثم التجارة، ثم الصناعة، الأرباح المستخلصة من الأرض تستثمر في التجارة، والفوائد المتأتية من هذه الأخيرة، تُستغل لإنشاء الصناعات، والفوائض المترتبة عن هذه وتلك تُبنى منها المدارس والمساجد. يحصل ذلك كله للحفاظ على الحياة في بيئة وادي ميزاب ولتحقيق استمرارية تنظيم اجتماعي عمره أكثر من ألف عام... إنها ألف عام من العزلة أنشأت مجتمعا متميزا متماسكا في جنوب الجزائر، وخلقت شبكة واسعة لها امتداداتها في مجموع أنحاء القطر الجزائري. وبفضل هذا الجهد أصبح المزابيون يسيطرون على التجارة الصغيرة داخل كبريات المدن الجزائرية، مثلما يسيطر أهل الجنوب في المغرب، وتحديدا سكان منطقة سوس منهم على نفس القطاع داخل الحدود المغربية من الكويرة إلى طنجة، ومن العبارات المألوفة في لغة الحياة اليومية أن المرأة إذا أرادت أن ترسل ولدها أو ابنتها لشراء بعض الإحتياجات المنزلية تقول له: «روح عند المزابي»، تماما مثلما تقول صُنُوُّهَا المغربية «سير لعند الشلح» ومثلما، أن أهل سوس هم سادة التجارة الصغيرة يمارسونها في العيون والدار البيضاءوالرباط ومكناس وفاس وطنجة، فإن أهل وادي ميزاب يكادون يكونون نسخة طبقة الأصل من أبناء عمومتهم المغاربة، إذ أنهم يمارسون نفس الدور بالجزائر العاصمة ووهران وقسنطينة وعنابة وسكيكدة. واللهجة الميزابية أو المزابية، واحدة من اللهجات الأمازيغية، لا تختلف كثيرا عن اللهجات الحية المستعملة عند أمازيغ المغرب. وهي قريبة أيضا من اللهجة الجربية أو الجرباوية (نسبة لجزيرة جربة التونسية). وأهل جربة في تونس، أمازيغ مثل أهل سوس وأهل وادي ميزاب. نقصد من هذه الإشارة السريعة لبعض المعطيات الخاصة بوادي ميزاب، التنبيه إلى أهمية وخطورة أحداث مدينة بريان. إن هذه المدينة التي يبلغ عدد سكانها اثني وعشرين ألفا هي أصغر مدن وادي ميزاب السبع، سنا، إذا جاز مثل هذا التعبير، وأسرة دادون الأمازيغية الإباضية، تؤكد في الأحاديث التي نشرتها لها الصحافة الجزائرية، بعد وقوع تلك التراجيديا أنه لا توجد، ولم توجد قط أية خلافات أو منازعات شخصية بينها وبين جيرانها السنيين المالكيين العرب. ولعل مشاعر الحقد أو الخوف هي وحدها التي تفسر تلك الطلقات النارية الطائشة التي أودت بحياة الرجلين. ولكن تطور الحقد والخوف،حتى انفجرا في تلك الصورة الدامية؟ المعلومات التي نشرتها الصحف الجزائرية تشير إلى أن المتهم، حين مَثُلَ أمام قاضي التحقيق، برر تصرفه بحجة الدفاع المشروع وادَّعَى أن زوجته قد أهينت داخل منزله. ولكن لماذا حدث ما حدث بمدينة بريان حيث تتساكن وتتعايش الأسر العربية السنية المالكية جنبا إلى جنب مع الأغلبية الأمازيغية المزابية الإباضية من دون مشاكل ولا صدامات، منذ سنوات طويلة؟ في تلك الأثناء اتصل ممثلو الجماعة المزابية بالقيادة الوطنية للجبهة الإسلامية وقدموا لها وجهة نظرهم وهي تتلخص في أن الفتنة خرجت من المسجد ويجب أن تتوقف انطلاقا من المسجد. ونقلت أوساط مطلعة عن المزابيين قولهم إن استقبال السيد عباسي مدني لهم، كان فاترا. وحسب هذه الرواية التي سمعناها من مصادر إعلامية وسياسية بالعاصمة، فقد قال زعيم الجبهة الإسلامية للإنقاذ لزواره القادمين من الجنوب : «إن تكوين لائحة المستقلين يعتبر طعنة غادرة موجهة ضد الجبهة الإسلامية للإنقاذ. فلماذا لا تلتحقون بصفوفنا، ما دمتم مسلمين؟ لا تخافوا ولا تقلقوا فإننا سوف نعوض لكم الخسائر». وكان جواب المزابيين «إن الأحزاب والمنافسات الجارية بينها من صميم طبيعة العمل السياسي، ومن حق كل واحد أن يبحث عن الأداة المناسبة في هذا الصراع الديمقراطي. ثم إن الجبهة الإسلامية للإنقاذ لا تساوي الإسلام بالضرورة. وكيف يمكن تعويض الموت؟». بعد هذه المقابلة بين وفد المزابيين وزعيم الجبهة الإسلامية للإنقاذ عباسي مدني، اتُّخِذَ قرار بإرسال وفد إلى عين المكان. وجاء الوفد إلى مدينة بريان وكان مؤلفا من مختلف تيارات الحركة الإسلامية، إذ نجد فيه مندوبين عن الجبهة الإسلامية للإنقاذ، ومندوبين عن جمعية الإصلاح والإرشاد التي يتزعمها الأستاذ محفوظ نحناح، وممثلين عن حزب الأمة الذي يقوده الدكتور يوسف بن خدة الرئيس السابق للحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية. جاء هذا الوفد من العاصمة وقابل الوالي، والقادة المحليين للجبهة الإسلامية للإنقاذ وشيوخ القبائل العربية ووجهاء الجماعة المزابية، وانتهت هذه اللقاءات الأولى بنتيجة إيجابية تمثلت بالموافقة على اقتراح تقدمت به الإدارة، يقضي بتكوين لجنة مصالحة تتألف بالتساوي من شخصيات تنتمي للجماعتين. كما تألفت لجان فرعية بنفس الطريقة، تعتبر امتدادا للجنة الكبرى في مستوى الأحياء. وكانت أحداث مدينة بريان، قد انفجرت بعد إعلان فوز لائحة المستقلين المؤلفة أساسا من المزابيين الأمر الذي أثار نقمة الجماعات العربية التي تناضل في غالبيتها ضمن صفوف الجبهتين (جبهة التحرير الوطني والجبهة الإسلامية للإنقاذ). ولأن هذه المواجهة حصلت غداة وقوع أول تجربة انتخابية تعددية في تاريخ الجزائر المستقلة، ثم اتخذت طابعا عرقيا وطائفيا (عرب ضد أمازيغ وسنة ضد إباضية) فقد خشي الجميع أن تكون إنذارا باندلاع حرب طائفية على الطريقة اللبنانية. لقد كانت جبهة التحرير الوطني، وهي الحزب الوحيد الذي حكم البلاد منذ الاستقلال حتى اليوم تعد لوائحها الانتخابية وفقا لتوازنات طائفية وعرقية مدروسة، وكان انعدام حرية التعبير والتنظيم، يترك لدى المراقب انطباعا قويا بأن المسألة الإثنية والطائفية لم تعد قائمة في هذا البلد، ثم جاءت أحداث مدينة بريان بمثابة كاشف، ألقى الضوء فجأة على هذه التناقضات النائمة. في الماضي كانت جبهة التحرير الوطني تحرص ضمن سياسة التوازن، على تقديم عدد مضاعف، أي ثمانية وخمسين من المرشحين لملء التسع وعشرين مقعدا ببلدية المدينة، من بينها ستة عشر مقعدا مخصصا للمزابيين. كان رئيس البلدية إذن، من هذه الطائفة وكان بطبيعة الحال مناضلا بالجبهة، لكن جهاز الحزب المحلي ومراكز منح القرار فيه، كان بيد العناصر العربية المالكية السنية. واليوم وبعد إقرار مبدأ التعددية الديمقراطية، أصبح ممثلو الجماعتين المزابية الإباضية الأمازيغية، والمالكية السنية العربية ينددون بنفس اللهجة العنيفة بما يسمونه هيمنة حزب جبهة التحرير. والآراء هنا متباينة. فهناك القائلون بضرورة إنهاء السيطرة الإباضية، والداعون إلى ضرورة إنهاء النزعة التعصبية لجبهة التحرير الوطني. ويقول المعارضون إن جبهة التحرير الوطني حين قامت بتشكيل لائحتها «لعبت» لعبة الوحدة الوطنية وأنها ذهبت ضحية هذه اللعبة. لقد شكلت لائحة مؤلفة من الإباضيين والمالكيين بهدف تجنب الإنقسام العرقي والطائفي. هذا ما يقوله أنصار حزب السيد عبد الحميد المهري. أما أنصار السيد عباسي مدني المحليون، والذين استمعنا إلى عدد منهم في العاصمة فَيَرَوْنَ أن الهدف من تكوين تلك اللائحة الموحدة، كان تقسيم العرب وإضعاف الجبهة الإسلامية للإنقاذ. أما في الأحياء المزابية، كما ذكرت مجلة «ألجيري أكتياليتي» الأسبوعية، فإن جبهة التحرير الوطني تجاوزت كل الحدود في بحثها عن الأصوات. لقد استعملت هي الأخرى المساجد وذلك أمر لا يقبله الإباضيون. لهذا تدخل شيخ الجماعة من أجل وضع حد للأمر. وقد انطلقت الدعاية في المساجد لفائدة رئيس البلدية السابق الذي كان أيضا عضوا في مجلس القسمة (فرع الجبهة المحلي). وذكر لنا صحفي جزائري، أن تعيين رئيس البلدية السابق ضمن المرشحين الجدد، أفقد الجبهة ما تبقى لديها من مصداقية، وأنه عمق بالخصوص مشاعر النقمة لدى العرب القاطنين بالمدينة. ويقول هؤلاء، وفقا لتلك الرواية، إن رئيس البلدية منح قطعا أرضية للبناء كان عدد من أهل السنة المالكيين قد دفعوا أموالا للحصول عليها منذ سنة 1983. وهناك رواية تقول بأن زوجة رئيس البلدية، أجهضت ليلة الثالث والعشرين من يونيو تحت تأثير الرعب الناجم عن مظاهرة صاخبة شارك فيها عشرات الشبان المزابيين كانوا يهتفون فرحا واحتفالا بنجاح القائمة الحرة. لقد تجمع الشبان المزابيون المتظاهرون أمام منزل رئيس البلدية وأخذوا يهتفون : «خلاص، مليون في الحيط ومليون في الجيب». وسمعنا رواية أخرى تشير إلى أن هؤلاء الشبان انطلقوا عبر الأحياء العربية المالكية وأطلقوا بعض الهتافات الإستفزازية العنصرية وأعلنوا أنهم أحرار وطالبوا برحيل العرب من المدينة. كل هذه الحكايات سمعناها بالعاصمة دون أن نستطيع التدقيق في نصيبها من الصحة أو الخطأ. قال لنا أحد الأساتذة الجامعيين المحايدين العارفين بشؤون المنطقة : «كل شيء ممكن». الطريقة التي يتم بها استغلال الإسلام في المجال السياسي أججت كل النعرات والانتماءات والولاءات العرقية والجهوية والطائفية. والنزعة المتطرفة، الإباضية، الأمازيغية أو البربرية موجودة وتعبر عن نفسها بهذه الطريقة أو تلك. وقد وزعت منشورات تتضمن أفكارا معادية للعرب. ولا ينبغي أن ننسى أن مدينة غرداية عاصمة ولاية وادي ميزاب، رغم موقعها الجغرافي في الجنوب، تتوفر على تجهيزات طباعية من أرقى ما هو موجود في البلاد كلها. ويقال إن إعلان النتائج بمدينة بريان أدى إلى حصول تقارب وصل حد التحالف بين جبهة التحرير الوطني والجبهة الإسلامية للإنقاذ، الأمر الذي خلق ضربا من الإنقسام العمودي داخل المجتمع. هكذا ظهر العرب وكأنهم يؤلفون تكتلا واحدا وظهر البربر وكأنهم في صف مقابل. وهناك شهود عيان ذكروا أن أحد مناضلي الجبهة الإسلامية للإنقاذ تلا يوم الثالث عشر من يونيو، أي غداة الإنتخابات البلدية والولائية نصا باسم «الجبهتين» يتضمن مطالبة أو بالأحرى عريضة تطالب بإلغاء النتائج المعلنة. تمت تلاوة ذلك النص أمام مئات من الأشخاص كانوا يستعدون لتنظيم مسيرة منعتها الإدارة. وكان النص قد حرر باسم الجبهتين وباسم سكان بريان «المؤمنين بالديمقراطية». لكن مندوب جبهة التحرير الوطني أكد أنه لا صلة لحزبه بالأمر. لنعد إلى الوقائع. توجد بمدينة بريان ثلاثة مساجد مالكية من بينها مسجد واحد مازال قيد الانجاز، وفقا لتكتيك بناء «المساجد الحرة» الذي سبق لنا أن شرحناه بالتفصيل في حلقة ماضية من هذه المقالات. ولنقل في اختصار شديد هنا إن «تكتيك بناء المساجد الحرة» يقوم على مبدأ التسويف والمماطلة في إكمال صرح المسجد، حتى لا تقوم الدولة بضمه إلى وزارة الأوقاف والشؤون الدينية. ومادام المسجد، غير مكتمل، فإن الدولة لا تهتم به، وهذا ما يسمح للسلفيين والسلفيين الجدد باستغلاله في خطة التحريض السياسية التي يمارسونها ضد الحكومة وضد الأحزاب الأخرى. والمعروف في مدينة بريان، أن ذلك المسجد غير المكتمل واقع تحت سيطرة الجبهة الإسلامية للإنقاذ. والخطب والمواعظ التي تُلقى داخله ذات طابع سياسي واضح، والسؤال هو : من الذي كان يخطب في ذلك المساء، داخل ذلك الفضاء الديني الذي يفترض أنه يُخصص للعبادات والعبادات وحدها؟ زيد أم عمرو؟ الروايات المتوفرة هنا متناقضة، متضاربة ولكنها تُجمع على القول بأن خطباء المسجد معروفون بتطرفهم. وهناك رواية تقول إن بعض المصلين اختصموا وتعاركوا بشأن الميكروفون ومكبر الصوت. أستاذ جامعي من وادي ميزاب، يقيم بالعاصمة، قال لنا ضمن نقاش أجريناه معه حول أحداث مدينة بريان : «لاشك أن «عبارات الجهاد في سبيل الله» انطلقت من أحد المساجد ضد الجماعة أو الطائفة الإباضية، تلك واقعة لا يجادل أحد في صحتها. وأظن أن الذي أضفى على هذه الكلمات طابعا دراميا هو أن السيد عباسي مدني وعلي بلحاج، زعيمي الجبهة الإسلامية للإنقاذ، كانا قبل وقوع الإنتخابات البلدية والولائية، قد هددا بإعلان الجهاد إذا لم يحصل حزبهما على الأغلبية، أو إذا تدخلت الدولة لتزوير الانتخابات. وكانت النفوس مهيأة في جميع أنحاء البلاد لمثل هذه المواجهات. وما حصل بمدينة بريان، كان يمكن أن يحدث بأية جهة أخرى من البلاد. وقع الصدام الأول مع منتصف الليل بمقهى «عربي» بين عدد من الشبان العرب السنيين المالكيين ومجموعة من الشبان الأمازيغ الإباضيين. وكان ذلك الصدام البسيط أمرا عاديا لا يخرج عن نطاق المشاحنات والمناوشات المتقطعة التي وقعت بين شباب الطرفين طوال الحملة الانتخابية وطوال الفترة التالية للطعن، الذي تقدمت به كل من جبهة التحرير الوطني والجبهة الإسلامية للإنقاذ. ونحن نعرفُ أن جبهة عباسي مدني وجبهة عبد الحميد المهري، تقدمتا بالطعن ضد «القائمة الحرة» التي فازت في المسابقة باسم «الفجر الجديد». كما نعرف أن هذه القائمة الحرة مؤلفة مائة بالمائة من الأمازيغ الإباضيين. بينما قائمة الجبهة الإسلامية للإنقاذ مكونة مائة بالمائة من العرب السنيين المالكيين. أما جبهة التحرير الوطني، فقد شكلت قائمة مختلطة من الطائفتين. وفي النهاية انتصرت القائمة الحرة وانهزم الحزب الحاكم كما انهزم منافسه القوي الذي يريد أن يحل محله في جميع المجالات». ويمضي محدثنا في تحليله وروايته للوقائع قائلا : «حصلت المواجهة الأولى بمقهى يملكه رجل مزابي يقع بالمنطقة الفاصلة بين المجموعة العربية والمجموعة المزابية. في تلك المنطقة تختلط أنواع التجارة على مسافة بضعة أمتار من مقر الولاية ومقر البلدية ومقر الدرك. وبمعنى آخر فإن وجود كل هذه المؤسسات الرسمية بالقرب من المكان الذي انطلقت منه الشرارة، لم يردع المهاجمين عن ارتكاب حماقاتهم. ومما يؤكد أن العملية مخططة ومبيتة، هو اختيار الوقت، لقد قامت جماعات من العرب السنيين المالكيين في الساعة الواحدة والنصف صباحا، بالهجوم على مقهى السيد شلات. كان المهاجمون مسلحين بالهراوات والمناجل وقنابل مولوتوف وقد تدفقوا على المكان وهم يهتفون : «الجهاد في سبيل الله». ويجب أن نؤكد أن المقهى الذي تعرض للهجوم لا يبيع المشروبات الكحولية التي لا أثر لها بهذه المدينة. ولو أن صاحب المقهى كان يبيعها لكان هناك ما يبرر نسبيا هذه الهبة «الجهادية» بعد منتصف الليل. لا، المقهى لا يبيع سوى المشروبات الحلال، والكحول لا وجود لها أصلا بمدينة بريان كلها، والمهاجمون اختاروا ذلك الوقت المتقدم من الليل لعلمهم بأن السلطات نائمة وغائبة عن الساحة. ويقول السيد شلات صاحب المقهى إنه نجا من موت محقق بأعجوبة يعود الفضل فيها إلى جيرانه العرب السنيين المالكيين الذين فتحوا له باب منزلهم وأدخلوه إليها وأحكموا إغلاقه وراءه حماية له من عدوانية بعض العرب. نجا صاحب المقهى من الهلاك، لكن المعتدين أحرقوا محله». يأخذ الأستاذ الجامعي نفسا عميقا من سيجارته ويستأنف حديثه : «نشوب الحريق في المقهى دفع عشرات من الشباب الأمازيغ المزابيين إلى التدفق من المدينة القديمة لصد المهاجمين، وقد استمرت المعركة بين الطرفين حتى الساعة الثالثة صباحا وانتهت بإطلاق الرصاص. هذه في الأقل هي الرواية المتداولة في الأوساط الشعبية. والسلطات لا تؤكدها ولا تنفيها. أما «الوقائع الأخرى فتؤكد أن الهجوم المزابي المضاد حصل يوم الأحد وطُبق فيه المبدأ القرآني : «العين بالعين والسن بالسن». فقد أُحرقت محلات تجارية يملكها العرب، ومحلات تجارية يملكها المزابيون ومصنع للحبال، كما نهبت منازل وأحرقت من قبل الفريقين، هكذا أُحرق منزل مهندس الأشغال العامة حجاج با أحمد، رئيس «القائمة الحرة، الفائزة في الانتخابات». الصحفية الجزائرية مليكة عبد العزيز، التي زارت المدينة في أعقاب هذه المصادمات لإنجاز تحقيق صحفي عنها، نشر بمجلة «ألجيري أكتيالتي» الأسبوعية (عدد 5-11 يوليو 1990) تقول من جهتها : «وصلت قوات الشرطة في أمواج متتالية يوم الأحد 24 يونيو وأكملت انتشارها صباح ذلك اليوم. الأطراف المشاركة في النزاع تتهم قوات الأمن بالميوعة والتواطؤ، وتقول إنها تركت الناس يمارسون أعمال النهب والتخريب ولم تتدخل إلا من أجل تفريق التجمعات الحاصلة على طرفي الطريق الوطني أو من أجل الفصل بين المتظاهرين أو لمنع حصول مواجهات جديدة. وهذه التهم موجهة أساسا لقوى الدرك والشرطة المحلية في الدائرة، لأنها لم تبادر بالتدخل الوقائي بدءا من يوم الخميس حين بدأ الناس يخزنون غالونات البنزين ويكدسونها بصورة غير مألوفة. أما بعد وقوع الأحداث فقد انصبت الإنتقادات على الاعتقالات التعسفية، وعلى المداهمات والمطاردات التي جرت من دون تحريات دقيقة وشكلت خرقا صريحا للقانون. وينكر السيد والي غرداية، عاصمة وادي ميزاب أن يكون حصل شيء من هذا القبيل، ولا ينفي أن يكون بعض الأشخاص الملاحقين والمتابعين، حوكموا في غياب المحامين. لكن مسؤولية الدفاع عن النفس أمام المحاكم قضية فردية. وفي الوقت الراهن (الأسبوع الأخير من شهر يونيو) صدرت أحكام تتراوح بين ستة أشهر وستة عشر شهرا ضد أربعة أشخاص فقط من جملة أحد عشر شخصا اعتُقلوا في هذه المناسبة». ويبدو أنه قد حصل خلاف،في المستوى المحلي بين مسؤولي الحزب الحاكم الذين انقسموا إلى فريقين : فريق يدعو إلى التحالف مع الجبهة الإسلامية للإنقاذ وفريق يرفض هذا التحالف، وكان عدة آلاف من المزابيين الإباضيين الأمازيغيين (البربر) قد انخرطوا في جبهة التحرير الوطني بعد خريف الغضب الجزائري (أكتوبر 1988) يراودهم الأمل بخلق جبهة ديمقراطية حقيقية تقوم بردم الهوة بين الأغلبية السكانية والأقلية السياسية. وبتعبير آخر كان البربر الذين يشكلون الأغلبية العددية بوادي ميزاب قد انضموا أفواجا أفواجا إلى الحزب الحاكم، وفي تصورهم أنهم سيتمكنون من ترجمة التفوق الديمغرافي إلى تفوق سياسي، ولكنهم خرجوا بسرعة من الجبهة وانتهزوا الفرصة الأولى السانحة، فرصة الإنتخابات البلدية والولائية لإعطاء أصواتهم لتلك القائمة الحرة. ويبدو من المعلومات التي نشرتها الصحافة الجزائرية أن القيادة الروحية للطائفة الإباضية، التي تمثلها هيئة عليا يطلقون عليها اسم : «مجلس عمي سعيد»، حاولت في وقت سابق للإنتخابات، أن تتلافى سقوط الجماعة في متاهات التقسيم على أساس طائفي، فأصدرت توصيات تدعو فيها نخبة المدن الميزابية السبع، إلى تشكيل لائحة مستقلة عن الأحزاب السياسية تتمثل فيها كافة الحساسيات، لكن عددا من العناصر الإباضية تمرد على الشيوخ وفضل أن يرشح نفسه في إطار جبهة التحرير الوطني. ثم حصل إخفاق آخر للمساعي الوحدوية حين رفض العرب أن يرشحوا أنفسهم على القائمة المستقلة للميزابيين. لقد تم تكوين قائمة مختلطة بمدينة كرارة التي تبعد عن بريان بمسافة مائة كيلومتر. هكذا أخفقت الوحدة بمدينة بريان لكون العناصر العربية القيادية في الجبهة الإسلامية للإنقاذ إعترضت عليها بسبب وجود مرشح مستقل في القائمة الحرة ينتمي إلى حزب التجمع من أجل الثقافة والديمقراطية. وحزب التجمع من أجل الثقافة والديمقراطية، الذي يقوده الدكتور سعيد سعدي يرفع راية اللائكية، أي فصل الدين عن الدولة، وهو أمر لا يقبله السلفيون ولا السلفيون الجدد، بعد أن جعلوا من الإسلام مطية لتحقيق برنامجهم السياسي، والدولة الإسلامية، كما يراها السيد علي بلحاج، الرجل الثاني في الجبهة الإسلامية للإنقاذ، تستند إلى ثلاثة أركان هي القرآن والسنة والمذاهب الأربعة، ولا تعترف بالمذهب الإباضي، لا تعترف به رغم أنه أقدم المذاهب من الوجهة التاريخية، استقرارا ورسوخا في الجزائر وهذا التجاهل للمذهب الإباضي، من طرف القوة السياسية الكبرى الجديدة، خلق رد فعل قوي في صفوف شباب الطائفة الاباضية، وجعلهم يرفضون بدورهم توجهات الجبهة الإسلامية للإنقاذ. وقد تشكلت قائمة الجبهة الإسلامية للإنقاذ من العناصر العربية السنية المالكية وحدها وبدت في أذهان غالبية سكان المدينة وكأنها مؤلفة من عناصر دخيلة على المنطقة. ومنذ سنتين تقريبا والسكان ذوو الأصول العربية، الموزعون بين انتماءاتهم وولاءاتهم القبلية إلى عشائر قديمة وحديثة، يركزون مطالبهم حول الحصول على قطع أرضية لبناء المساكن. والمعروف أن بعض قادة الجبهة الإسلامية للإنقاذ ينتمون لعشيرة الغزلية. والمعروف كذلك أن بطنا كاملا من هذه العشيرة أو «عرشا» منها، وفقا للتعبير الجزائري، غادر حاسي الدلعة بولاية الأغواط، الواقعة في الهضاب العليا، في بداية حقبة الثمانينيات. عرب الغزلية غادروا موطنهم الأصلي بسبب الجفاف والبؤس وندرة الكلأ والماء، وجاءوا ليستقروا بضواحي مدينة بريان الأمازيغية. وهناك عرب آخرون قدموا من مناطق الجلفة، وحاسي بهباه وبوسعادة والمسيلة بحثا عن العمل في حقول النفط بحاسي الرمل، أو حاسي مسعود أو في ورشات العمل بوادي ميزاب، سواء كانت هذه الورشات تابعة للخواص الميزابيين أو تابعة للدولة. وقد دخل أبناء العرب البدو إلى المدارس وتخرج منهم المئات وأصبحوا يشكلون كوادر فعالة في التعليم وأيضا في الجبهة الإسلامية للإنقاذ. تلك وقائع مادية ملموسة يمكن التأكد من صحتها بسهولة، لكنها مع ذلك مرفوضة من قبل أصحابها، أي العرب السنيين المالكيين. تقول الصحفية الجزائرية مليكة عبد العزيز في التحقيق الذي نشرته لها أسبوعية «ألجيري أكتياليتي» (الجزائر-الأحداث) : «هناك شخص يدعى حَرْمَة، وهو مجاهد سابق كان رئيسا للبلدية خلال السنوات الأولى للإستقلال يقدمه رفاقه على أنه من «الشرفاء»، يؤكد أن جده هو ولي مدينة بريان. ويعتبر هذا الشيخ، في اعتقاد أصحابه بمثابة الذاكرة الجماعية للتاريخ، وهو يؤكد أن العرب كانوا موجودين ومقيمين في مدينة بريان من قبل أن يستقر فيها المزابيون الإباضيون. ولكن من المستحيل أن نعرف الأصل العشائري للشيخ حَرْمَة هذا. والواقع أن مدينة بريان تضم أفخاذا وبطونا (أعراش بالدرجة الجزائرية) من عشائر أولاد يحيى، وأولاد سيدي الشيخ وأولاد نايل وأولاد زيدو الغزلية... فكيف يمكن، في هذه الحالة إعلان مشروعية تنبع من أصل مشترك؟ لقد وجد الباحثون عن هوية لهم طريقة للتسامي الإيديولوجي، ووجد الطامعون في السلطة أداة لتحقيق غرضهم عند الإسلام المالكي والجبهة الإسلامية للإنقاذ، بل إن المتطرفين من هؤلاء العرب السنيين المالكيين يرددون «أشياء-معارف» ومعلومات مزعومة عن الإباضيين تصفهم بأنهم «خونة ومتعاونون مع الإستعمار الفرنسي». وهناك شخص قدمته الصحفية بالحرفين الأوليين من اسمه (ب.ل) وقالت إنه ذهب إلى درجة إخراج بقايا مصحف زعم أنهم أحرقوه فكيف يصدق أحد أن الإباضيين المعروفين بتشددهم واحترامهم الحرفي لتعاليم الدين، يُقْبِلُون على ارتكاب مثل هذه الحماقة؟ وحدهم الشبان الأميون الذين لا يملكون ثقافة تاريخية أو دينية يمكن لهم أن يصدقوا مثل هذه الأكاذيب : (المصدر : (مجلة «ألجيري أكتاليتي» -الجزائر الأحداث- عدد 5-12 يوليو 1990). الجزائر في مفترق الطرق - مشاهدات ومسموعات 9 - (الحلقة الثانية) الفتنة في وادي ميزاب ... أحداث مدينة بريان كانت طوال شهر ونصف، أي ابتداء من وقوعها في النصف الأخير من شهر يونيو، إلى نهاية شهر يوليو 1990، الموضوع الطاغي في مناقشات السياسيين والمثقفين الجزائريين الذين رأوا فيها مؤشرا خطيرا ينبئ بدخول عنصر الطائفية الدينية المضاعفة بالنعرة العرقية والعنصرية إلى فضاء الرهانات السياسية. وقد أفردت الصحافة الجزائرية خلال هذه المدة عدة تعليقات وتحقيقات للصراع الجديد، الطارئ على المغرب الأوسط، والذي يبدو أنه يشكل في وجه من وجوهه امتدادا لبعض الرؤى والإجتهادات السائدة ببعض أقطار المشرق العربي. يقول الشيخ عدون، وهو أكبر مرجع روحي في الطائفة الإباضية : «في الأصل» كانت توجد بمدينة بريان قبيلتان عربيتان مالكيتان تعيشان جنبا إلى جنب مع الإباضيين، كنا جيرانا، وكنا نتعايش من دون مشكلة، ثم جاءت عشائر عربية أخرى من وادي دلعة والأغواط واستقرت بالمنطقة، ومن هنا بدأت المشاكل ونحن نلاحظ أن كثيرا من المالكيين، وليس جميع المالكيين، يستمدون معارفهم عن الإباضية من كتب الفن في عصر الفتنة والإباضيون متميزون عن حركة الخوارج وليسوا من الكافرين، لكن الفهم الذي يخلط بين الإباضيين وغير المسلمين، لعب ببعض النفوس وأثر فيها. وهكذا رأينا مفتي المملكة العربية السعودية، يقول أن الصلاة غير جائزة وراء إمام إباضي. كما أن الجامعة الإسلامية بالمدينة، تعتبر الإباضيين طائفة لابد من محاربتها. وقد أدت هذه المواقف إلى إثارة مشاعر الحقد والضغينة بين أنصار المذهب الإباضي وأتباع المذهب المالكي. ولابد أن نستثني من هذا الكلام نسبة كبيرة من المالكيين العارفين بالحقيقة والذين يتعاملون مع الإباضيين كإخوة على كل حال هناك عقد متبادل بين أنصار المذاهب المختلفة، وصل إلى درجة أن بعض الناس أقدموا على إحراق منازل المسلمين وهم يعتقدون أنهم يحسنون صنعا. الشيخ عدون صاحب هذا الكلام ولد مع مطالع هذا القرن أي أنه يبلغ اليوم تسعين سنة، ويمثل أعلى سلطة معنوية وسياسية في وادي ميزاب، إنه شيخ مشايخ قبائل وادي ميزاب، يتولى الإشراف على رابطة الحياة التي تدير عدة مؤسسات ومنشئات ونوادي مدرسية وثقافية، يتابع الدراسة فيها حوالي خمسة آلاف طفلة وطفل، وهذه البنيات المدرسية تعيش من التبرعات والهيئات التي يقدمها لها المحسنون الإباضيون، ويتولى الشيخ عدون رئاسة قدماء المدارس ورئاسة مجلس «العشيرة» ورئاسة رابطة التراث التي أُنشئت منذ ثلاث سنوات من أجل جمع كل الآثار والوثائق المطبوعة والمخطوطة ذات العلاقة بالفكر والتاريخ والإباضيين في وادي ميزاب ويقول الشيخ عدون برئاسة الهيئة المسماة «مجلس عمي سعيد» وهي عبارة عن هيئة تمثل فيها الحركة الإباضية بوادي ميزاب وورقنة، عبر مندوبين من المجالس القبلية المحلية، ومجلس عمي سعيد هو بمثابة برلمان وحكومة وادي ميزاب. إذ يجتمع أعضاؤه مرة في الشهر لدراسة كل القضايا الإجتماعية والسياسية التي تهم الجماعة. وقد سمى التنظيم المركزي للإباضيين «مجلس عمي سعيد»، تيمنا ببركة ولي يدعى سعيد، عاش بوادي ميزاب قبل ثلاثة قرون وبالإضافة لسلطته السياسية والمعنوية، فإن مجلس «عمي سعيد» له أيضا سلطة قضائية، تجعله بمثابة محكمة استئناف في الجهاز القضائي الاباضي، كما أن الشيخ عدون، يعطي دروسا بمعهد «الحياة» منذ تأسيسه عام 1925 بمدينة كرارة، إنه يعلم في هذا المعهد اللغة العربية وتاريخ الحضارة العربية الإسلامية. يقول الشيخ عدون : «توقفت عن التدريس منذ ثلاث سنوات من أجل التفرغ لإدارة المعهد، هذا المعهد الذي يضم ثلاث مستويات: المستوى المتوسط والثانوي والعالي، ونحن نملك خمسا وثلاثين مؤسسة مدرسية مفتوحة للمسلمين المالكيين إذا أرادوا أن يدخلوا إليها». ثم يعود إلى الأحداث الأخيرة الحاصلة بمدينة بريان ويعلق عليها قائلا : «وقف شخص داخل مسجد مالكي بمدينة بريان ونادى بالجهاد، وغدا سوف تنظم مسيرة ضد الاباضيين ولم ينهض أحد ليقول كلاما مناقضا. هناك إذا إجماع واتفاق : لم نسمع من قال أن هذا الموقف خاطئ، حدث ذلك في بيت الله، والحقيقة أننا أمام نزاع سياسي يتأثر بالمنافسة القائمة بين الأحزاب، إنه صراع بين لائحة المستقلين واللوائح الأخرى، لكن المؤسف أن هذا الصراع أخذ شكل مواجهة بين المذاهب ونحن نوجه اعتذارنا لحكماء بريان وغيرهم ممن يعرفون حقيقة الإباضية ويحترمونها وهناك علماء كثيرون من بينهم عباسي مدني الذي قال في خطاب له أمام الملأ أن وادي ميزاب في مستوى الإسلام ثم الشيخ محفوظ نحناح الذي يعتبر أن الإسلام الأصلي موجود بوادي ميزاب ...إننا نجد هذه القناعة عند علماء مسلمين أخرين مثل الشيخ عبد الحميد ابن باديس والشيخ البشير الابراهيمي وهم أصدقاء الشيخ بيوض مؤسسو جمعية العلماء أمثال الشيخ العقبي والشيخ العربي التيمني والشيخ مبارك السيتي. في ذلك الحديث الصحفي الذي نشرته أسبوعية ألجيري أكتياليتي : عدد 12-18 يوليو 1990) يكشف المرجع الروحي الأعلى للطائفة الإباضية النقاب عن مواجهات أخرى لم تكن معروفة : «لقد دعوا أيضا إلى الجهاد من فوق منابر ومنارات مساجد غرادية عام 1985، دعوا إلى الجهاد ضد الإباضية وأحرقوا المصانع والمخازن والمستودعات والمنازل، وكانوا وراء قتل الناس. أهدروا دم المسلمين، قتلوا رجلا في رمضان من ذلك العام واعتبروا ذلك ضربا من الجهاد، وقد أصدرت محاكم غرادية والأغواط الحكم بالإعدام على هؤلاء القتلة، لكن محكمة البليدة برأت ذمتهم وأطلقت سراحهم ونحن نعتبر هذا التصرف نوعا من العنصرية والفساد». «نحن نؤاخذ على إخواننا المالكيين أنهم ينكرون مذهبنا وينددون به، ويقولون أن الجزائر يجب أن تَحْكُمَ وفقا للمذهب المالكي وحده ولا يعترفون بالمذاهب الأربعة الأخرى حقا أن المذهب الحنفي يشكل أقلية في بلادنا، لكن المذهب الإباضي موجود في جميع أنحاء البلاد، غير أن الإباضية تُعتبر وكأنها شيء تافه لا وجود له أصلا. إنها تعتبر كذلك في رأي السلطة المركزية ولست أتحدث هنا عن الرئاسة، وإنما عن بعض الوزراء. ونحن نعتبر هذا الموقف بمثابة ظلم مطلق، وأنتم تعرفون أن الإباضية مشهورة بثقتها واحترامها وحرصها على العلاقات الطبية ومساهمتها في حرب التحرير الوطنية، ولقد قامت الإباضية بأعمال جيدة ينكرونها اليوم عليها، إننا نؤاخذ بعض إخواننا المالكيين على مثل هذه المواقف». ويضيف الشيخ عدون في نفس الحديث : «نحن نؤكد أن المالكيين والإباضيين استقروا بالمنطقة في وقت واحد ونعرف أن المالكيين القدامى شديدو الأسف على وقوع الأحداث وهم يناهضون حصول أي نزاع أخوي، وقد استطعنا في كرارة، بعد مواجهات سبتمبر 1989 أن نؤلف لجنة سِلْمٍ ونصائح تضم أعيان المالكيين والاباضيين، وتمكنا بفضل الجهود المكثفة من التوصل إلى التفاهم. وفي الانتخابات وضعنا أنجح لائحة في الجزائر كلها لأنها لائحة موحدة، مستقلة، وُضعت باتفاق الجميع أي الإباضيين والمالكيين الذين عملوا معنا كإخوة في الإسلام. أما الشيخ محمد بن الشيخ، مساعد الشيخ عدون فيعالج نفس الوقائع قائلا : «إن الإباضيين والمالكيين يتعايشون كجيران منذ ألف سنة، ويتعاونون في التجارة والصناعة والمراعي، وحين حضر إلينا في الأيام الأخيرة أحد أعضاء المكتب الوطني للجبهة الإسلامية للإنقاذ، حدثناه عن واحد من شيوخنا عمره سبع وتسعون سنة يؤكد أنه لم يشاهد قط في حياته الطويلة مثل هذه الأحداث، صحيح أن عمر مدينة بريان لا يتجاوز ثلاثمائة وخمسين سنة ولكننا لم نعرف قط في الماضي شيئا من قبيل الذي حصل هذه الأيام. صحيح أننا أيضا شاهدنا واقعة ولا سابقة لها ألا وهي قيام إباضي بالهجوم على مالكي. أما أن تشن حملة واسعة بهذه الصورة وأن نوشك على الدخول في حرب أهلية فذلك أمر جديد كل الجدة على تاريخنا. والواقع أنها ليست حربا بين المذاهب وإنما هي حركة أملتها الغيرة والمنافسة بين الأحزاب. ونحن نتأسف في زمن الديمقراطية والشفافية أن لا يكون ممثلوا الجبهة الإسلامية من المسلمين الحقيقيين. إنهم لا يطبقون مبادئ الجبهة الإسلامية كما تفهمها القيادة، أي عباسي مدني وعلي بلحاج ومحفوظ نحناح، والحقيقة أن هؤلاء الناس هم من جبهة التحرير الوطني ولكنهم غادروها عندما اقتنعوا بأنها آيلة للسقوط والغرق، غادروها والتحقوا بالجبهة الإسلامية للإنقاذ للاحتفاظ بمواقعهم الاستراتيجية. وكان رد فعلهم العنيف ناجما عن نجاح القائمة المستقلة. ذلك هو السبب وهو فيما ترون سياسي وإذا فإنه لا تناقض لا بين المذاهب ولا بين الأشخاص، ثم إن مثل هذا الوضع لا يمكن أن يرضي جبهة التحرير الوطني ولا الجبهة الإسلامية للإنقاذ ولا أي حزب من الأحزاب السياسية الأخرى. إن أحدا لايرغب في الفوضى أو العنف أو الاضطرابات أو استعمال السيف». أحداث وادي ميزاب، وتحديدا المواجهة الدامية التي تمت في مدينة بريان، أثارت مخاوف عميقة في الأوساط السياسية في الجزائر ودفعت الروابط المختلفة ووجوه المجتمع المدني إلى رفع عقيرتها بالإحتجاج ضد غياب الدولة هكذا نجد الرابطة الجزائرية للدفاع عن حقوق الإنسان، التي يتولى رئاستها الشرفية الأستاذ ميلود الإبراهيمي، تبعث لجنة تحقيق إلى عين المكان وتعقد اجتماعا (يوم 12 يوليو 1990) تصدر بعده بيانا «تعبر فيه عن قلقها الكبير والعميق أمام الأحداث الخطيرة التي ارتكبت في مدينة بريان والجزائر كلها». وتقول الرابطة الجزائرية للدفاع عن حقوق الإنسان «إن انتقاد نتائج الانتخابات أو غيرها لا يمكن أن يتم بواسطة العنف أو الإقصاء و الإلغاء، وإنما فقط باستعمال كافة الوسائل المنصوص عليها في القانون وباللجوء إلى الطعون الشرعية. وحين قررت الرابطة إرسال ثلاثة من أعضائها إلى عين المكان، فإنما أرادت أن تساهم في تجاوز النزاع الذي قد يستمر ويتسع ويقودنا نحو انحراف خطير يشجعه الموقف المتذبذب والمتناقض والمتسبب الذي تنهجه السلطات الرسمية وتهدد به استقرار البلاد. إننا نريد تجاوز هذا النزاع بواسطة الحوار بين الأطراف المختلفة.ضمن احترام الكرامة الإنسانية وعن طريق تضامن لا يعتريه الوهن لا في سيرورته الزمنية ولا في كثافته، حماية وترسيخا للوحدة الوطنية ولابد أن يتم تقديم الذين ارتكبوا الجريمة والذين أوحوا بها، لابد من تقديمهم إلى القضاء.كما يجب على الدولة أن تعوض الخسائر المعنوية والمادية التي لحقت بالضحايا». الحزب الوطني من أجل التضامن والتنمية الذي يقوده المهندس رباح بن الشريف أصدر هو الأخر بيانا أعلن فيه : «أنه يسجل بكامل الأسف الأحداث المؤلمة التي عرفتها مدينة بريان ويرى أن قوى خفية تلاعبت بدون شك ببعض العقول البسيطة ويؤكد الحزب الوطني للتضامن والتنمية، إن الديمقراطية ليست مجرد اختيار ولكنها مصدر عالمي يستند التنافس السلمي بين الأفكار وإلى الصراع الإيديولوجي والاعتراف بحق المغايرة، وأمام المشاكل الجماعية والعرقية، يوجه الحزب نداء إلى كافة القوى الديمقراطية من أجل العمل على إيجاد تسوية سلمية للنزاع تستند إلى الحوار والتشاور في نطاق احترام القانون، كل الأحزاب والهيئات والروابط اتخذت مواقف مماثلة أجمعت فيها على ضرورة التعجيل بإطفاء جذوة الفتنة الوليدة في وادي ميزاب. وما فعلته التنظيمات السياسية والمدنية فعله المثقفون أيضا، ومن النادر، منذ وقوع تلك المأساة في الأيام العشرة الأخيرة من شهر يونيو، وحتى نهاية شهر يوليو أن يصدر مقال أو تعليق في صحيفة من الصحف الجزائرية دون أن يتضمن إشارة إلى أحداث بريان بما هي مؤشر إلى ما يسميه البعض طلائع الحرب الأهلية اللبنانية. الأستاذ الجيلالي ساري، من جامعة الجزائر يرى : أن أحداث مدينة بريان ليست على الإطلاق ثمرة لظروف اعتباطية، بل إن تغطيتها من طرف أجهزة الإعلام، إضافة لتصريحات بعض السلطات لم تكن أبدا في مستوى المسؤوليات، إن ما جرى في مدينة بريان، يُعتبر سابقة خطيرة ونظرا لبعض العوامل المحددة والمعروفة جدا فهي ذات أبعاد تفاقم من خطورتها في المستويات المحلية والجهوية والإقليمية، كان ينبغي استباق الأحداث وتوفير الشروط اللازمة للتحكم في مسارها والسيطرة عليه. لا أبدا إن الأمر لا يتعلق إطلاقا بوقائع معزولة من صنع «متطرفين» أو «هامشيين» إننا أمام مؤامرة حقيقية، وبإزاء ضربة قوية موجهة ضد الديمقراطية تستهدف إحداث زعزعة شاملة وبلبلة عميقة. وحين قرر الجناة أن يستهينوا بنتائج الاقتراع فإنما أرادوا أن يوجهوا طعنة مباشرة إلى الشرعية القائمة، لذلك فإن أحداث مدينة بريان تخصنا جميعا وتخص سائر المؤمنين، لماذا بادر إِمَامٌ يقال إنه غير مسؤول بإشعال الحريق ويزرع الحقد وبتقسيم إخوانه؟ فهل تستمر في إطلاق مثل هذه الأوصاف على جميع أولئك الذين لا يترددون في خرق قوانين الجمهورية؟ إن دستور الثالث والعشرين في فبراير 1989 هو تتويج لمسيرة طويلة تخللتها تضحيات لا نهاية لها وهو ملك لجميع الجزائريين». ويمضي الأستاذ الجيلالي ساري في تحليله لأبعاد أحداث وادي ميزاب : «وهكذا فإن أحداث مدينة بريان هي أخطر. إن هذه المدينة مثل كافة المدن الميزابية إنما هي تجسيد طامح وصاخب للجهاد الأصيل، أي الجهاد الذي يفوق حدود الطاقة البشرية، الجهد المبذول منذ قرون ضد طبيعة شحيحة وهذا الجهاد، أي هذا الجهد هو سبب معجزة وادي ميزاب، ذلك الوادي الذي صار خصبا بفضل ألف تضحية وتضحية ونشأت فيه حضارة عمرانية أدهشت المهندسين المعماريين والمعاصرين حتى أنهم اعتبروها نمطا حضاريا في الحياة والسلوك يثير الإعجاب والتحريض على التقليد. إنها واحدة من أغنى وأروع مناطقنا، بل هي واحدة من أكثر مقومات تراثنا ثراء. والإباضية جزءا لا يتجزأ من التراث الجزائري ولا يمكن أن نواجه ما يحصل بعدم الاكتراث، لذلك فإن أي مساس بمدينة بريان إنما هو اعتداء مباشر علينا، وتهديد فعلي للسلم المدني. وحين بادرت القوى المرجعية، قوى التعصب والظلامية بمهاجمة بريان، فإنما كانت توجه ضرباتها لدستورنا. ويذهب الأستاذ الجلالي ساري على أبدع من ذلك فيقول : «إنهم الأعداء الألداء لإسلامنا ولهويتنا الجزائرية والمغاربية. ألا فلتتحمل الأغلبيات الجديدة في البلديات مسؤولياتنا الكاملة مع احترام قوانين الجمهورية. ألا فلتبذل جهودها أولا وقبل كل شيء لمواجهة مشاكل الحياة اليومية الحيوية، مثل توفير الماء الصالح للشرب، وتنظيف الشوارع، وحل مشاكل الصحة، ومكافحة الأمراض المعدية... أما الاختلاط في المدارس والحق في الترفيه عن النفس والحق في الاختلاف، فهي مكتسبات غير قابلة للتفويت وقد دافع عنها بحزم مؤسس للتجديد في الجزائر، الإمام ابن باديس» (المصدر جريدة المجاهد عدد 19 يوليو 1990). ومما لا جدال فيه أن الأجواء التي تمت فيها أحداث مدينة بريان، وأضفت عليها طابعا دراميا لعله يتجاوز دلالتها الحقيقية، بل إن ما حدث بالجزائر، في هذا الصيف، سواء قبل الانتخابات البلدية والولائية أو بعدها، يثير من التساؤلات وعلامات التعجب أكثر مما يقدم من الأجوبة وحتى تبقى في سياق الوقائع ذات الطابع الإنفجاري، نورد هنا معطيات ومعلومات عن سرقات متعددة انصبت على مادة الدنياميت ولابد لنا أن نسجل هنا بأن الروايات المتصلة بسرقة المواد الإنفجارية والأسلحة، ومحاولات الإغتيال ضد الرئيس الشاذلي بنجديد تكاثرت بشكل يسترعي الانتباه خلال شهري يونيو ويوليو الماضيين، وكانت المادة المفضلة لإذاعة الرصيف، والتلفون العربي، بل إن الصحف الجزائرية والأوساط السياسية الرسمية تناولت هذه الموضوعات بصورة علنية إما لتكذبها أو لتقدم عنها معلومات تزيد من البلبلة السائدة في الشارع، هكذا سمعنا مثلا في شهر مايو، أي قبل حلول موعد الانتخابات عن حدوث سلسلة من الهجومات الليلية الغامضة على عدد من مستودعات الأسلحة والذخائر والمتفجرات، بأماكن مختلفة من البلاد. ومرة أخرى، كانت مجلة «ألجيري أكتياليتي» (الجزائر الأحداث) عدد 5-11 يوليو 1990) سَبَّاقَة في الكشف عن بعض الإختلاسات المحيرة، إذا نقلت عن مدير مشروع بناء سد في منطقة جيجل بوسط الجزائر قوله : «وقع حادث السرقة يوم الخميس 17 مايو 1990 في الساعة الثالثة صباحا، علما بأن ورشة البارود هنا من أقوى الأوراش حراسة ومن أكثرها استجابة لمتطلبات الأمن، وأننا استقبلنا لجنتين للرقابة واحدة من إدارة المناجم والثانية من الولاية، وإن الإنارة والمراقبة وطريقة التحكم في المداخل والمخارج دقيقة للغاية، ولكن السرقة حصلت فعلا وأثارت مخاوف عميقة من أن تتعرض أوراش البارود المماثلة لعمليات سطو مشابهة، لقد سرق المهاجمون حوالي أربعمائة وخمسين كيلوغراما من مادة «ألجيرانيت» التي تعتبر من أقوى أنواع المتفجرات وأكثرها تدميرا، سرقوا تلك الكمية وسرقوا معها كل اللوازم الأخرى من صواعق وفتائل وأسلاك وغيرها»، وحسب رواية مدير المشروع «كان عدد المهاجمين ستة أو سبعة أشخاص، قاموا بتكبيل الحراس ثم شحنوا ثمانية عشر كرتونا يتضمن كل واحد منها خمسة وعشرين كلغ من المتفجرات، إضافة إلى التجهيزات والأعتدة الأخرى الضرورية لاستعمالها»، وفي رأي ذلك الموظف السامي أن عملية السطو هذه قد تكون من فعل صيادين يريدون استخدام هذه المتفجرات لاصطياد الأسماك في عرض البحر الأبيض المتوسط، أو ربما تكون من عمل لصوص يريدون بيع المواد الانفجارية في السوق، حتى تستعملها المقالع الخاصة. تجدر الإشارة إلى أن تلك الورشة التي تعرضت لعملية السطو الليلية تلقت بالإضافة للجنتي المراقبة، بانتظام عدة زيارات تفتيشية أو تفقدية من قبل إدارة الدرك الوطني المكلفة بمراقبة تسجيلات حركات البضائع والمخزونات وحتى نظام الرقابة والتحكم، ويقول المسؤولون عن إدارة ذلك السد الذي يتم إنجازه الآن، إنهم سجلوا قبل حادث السطو سرقات بسيطة اقتصرت على قطع غيار، وأنهم قدموا شكوى بذلك إلى إدارة الدرك لكن هذه الأخيرة لم تعزز نظام الحراسة والمراقبة. كان المسؤولين الذين نقلت المجلة تصريحاتهم مجمعون على القول بأن موقع السد وورشة الرصاص التي تضم المواد المتفجرة، موجود في منطقة شديدة الوعورة. إن الورشة تقع في خانق-مأزق مسافته أربعة كيلومترات ويكفي أن يتم إغلاق المخرج الوحيد المؤدي إليها لمنع أي شخص من مغادرتها، وهناك أوراش مجاورة لها تخضع لحراسة أقل لم تتعرض لأي سطو معنى هذا أن الإقدام على اقتحام هذا المكان يتضمن الكثير من المخاطرة، وهذا ما جعلنا نميل إلى الاعتقاد بأن الذين نظموا عملية السطو لم يكونوا يبحثون عن متفجرات فقط إنما هو تعبئة الرأي العام، والشيء المؤكد، هو أن الفاعلين يعرفون المنطقة معرفة جيدة، ويعرفون الورشة ويعرفون مكان المتفجرات، وعادات الناس ونظام المراقبة، أو فلنقل أن لديهم معلومات دقيقة عن هذه الأشياء ولا ينبغي أن ننسى أن ثلاثمائة عامل يشتغلون بانتظام في المشروع، إضافة إلى ألف عامل آخرين سبق لهم أن ساهموا فيه، ثم غادروا الأوراش للبحث عن أعمال أخرى. حين وجه الصحفي الذي قام بالتحقيق سؤالا لضابط الدرك بمدينة جيجل، اكتفى في رده عليه بتأكيد حادث السطو، من دون الإفاضة في شرح التفاصيل، وقال له : «إذا كان الأمر يهمك، فأنا أستطيع أن أقول لك بأن أربعة أشخاص ماتوا اليوم في حوادث السير، يمكن لي أن أكلمك في هذا الموضوع»، تحاشى ضابط الدرك الإجابة على تساؤلات الصحفي بحجة ضرورة المحافظة على سرية التحقيق ثم أضاف «أنتم تنتقدوننا لكوننا لم نتوصل بعد إلى نتيجة، والسبب هو الديمقراطية في الماضي كان يكفينا أن نلقي القبض على أول مشبوه ثم ندفعه للإعتراف في ظرف بضع دقائق». أما اليوم فلا حق لنا في «أن نضرب أحدا»، ينقل الصحفي عن الحراس العمال قولهم أنهم «وجدوا في اليوم التالي لحادث السطو حارسا عسكريا مهملا، منسيا وسط الأعشاب» ويقول أنه نَقَل بسيارته في طريق عودته إلى مدينة جيجل شخصا كان ينتظر على قارعة الطريق، وكان ذلك الشخص أحد المسؤولون الكبار عن بناء السد وخلال الدردشة التي تمت بينهما، ربط الرجل بين عملية شباب مدينة جيجل، أمام دار الولاية تعبير عن احتجاجهم على سياسة الشركة الوطنية للنقل بواسطة السكة الحديدية التي تجلب اليد العاملة من خارج المنطقة بدلا من أن تأخذها منها مباشرة وتساهم بالتالي في محاربة البطالة، وقد هدد الشباب بتخريب السكة الحديدية. الحادث الثاني متصل أيضا بالسكة الحديدية، وبالخط الجديد الذي كان يفترض أن يدشنه الرئيس الشاذلي بنجديد يوم 19 مايو، أي بعد مرور يومين فقط على حصول عملية السطو والمعروف أن زيارة الرئيس الشاذلي بنجديد لمدينة جيجل قد ألغيت وألغيت معها مراسيم الاحتفال بالخط الجديد الذي أخرج المدينة من عزلتها التاريخية وربطها بالشبكة الوطنية وفتح أمامها آفاقا واعدة سوف تحولها إلى واحد من الموانئ النشيطة في وسط الجزائر، وقد كان أمرا ملفتا للنظر فعلا أن يصل القطار لأول مرة إلى مدينة جيجل الجبلية الشاطئية، وأن لا يحضر الرئيس هذه المناسبة التاريخية. لنذكر أن عملية سطو مماثلة على المتفجرات حصلت ليلة عيد الفطر الماضي على بعد ستة كيلومترات من مدينة تلمسان، وأن المهاجمين اختلسوا هذه المرة ثلاثمائة وخمسين كيلوغراما من المواد الإنفجارية القوية، ولنشر إلى أن السلطات لم تتمكن حتى كتابة هذا المقال (يوم 25 يوليو) لا من اعتقال الذين سرقوا الديناميت من ولاية جيجل في الوسط الشمالي للبلاد، ولا العثور على الذين ارتكبوا نفس العمل بولاية تلمسان قرب الحدود المغربية، وبغض النظر عن المشاكل التي تطرحها أمثال هذه السرقات، فالناس في الجزائر مصابون بحالة من الذعر الشديد ويتساؤلون عن مصير الأوراش الأخرى التي قد تتعرض لأعمال سطو مشابهة لتلك التي وقعت بولاية جيجل وتلمسان. إن وجود تلك الكمية من المتفجرات، في أيد مجهولة أصبح يقلق راحة المواطنين، بل إنه وضعهم في حالة نفسية تجعلهم جاهزين لتصديق أي شيء وقد عززت هذه الإختلاسات الإعتقاد السائد بوجود تنظيمات شبه عسكرية سرية، تعمل في الخلاء وربما تهيئ لأعمال عنف منافية للقانون وما يثير انتباه الناس هو الطابع الإحترافي المتطور الذي يتسم به عمل سارقي الديناميت إنهم يشبهون فرقا صدامية، وفي الوسائل التي يستعملونها وفي أساليب الإقتراب من الهدف وفي اختيار الغاية من الهجوم تم حتى في ترك بصماتهم (الحزام العسكري) في عين المكان. هل هذه التنظيمات شبه العسكرية السرية موجودة فعلا؟ أم أن هناك جهة أو جهات تريد تسليط الأضواء على الجيش أو استشاراته في تحريضه؟ وما هي الجهة التي من مصلحتها أن تخلق مثل هذه التصورات التي تتثير مشاعر الخوف عند الرأي العام، وتقلل من مصداقية الدولة؟ أسئلة تبقى معلقة من دون جواب، لكنها أي الأسئلة أو بالأحرى الوقائع التي أثارتها توسيع الآفاق أمامنا لرؤية أحداث وادي ميزاب في إطار أعم وأشمل، وإذا كان المهاجمون المجهولون قد سطوا على المتفجرات في ولايتي جيجل وتلمسان وخلقوا بعملهم هذا حالة مدمرة من الرعب داخل الرأي العام الجزائري، فإن الذين دعوا إلى الجهاد في ذلك المسجد المالكي غير المكتمل بمدينة بريان قد وضعوا عبوات من «الديناميت النفسي والفكري»، أغلب الظن أن مفعولها سيبقى ساريا لفترة غير قصيرة في جسم الديمقراطية الجزائرية الوليدة وقد لا تكون هناك أي صلة بين جميع هذه الوقائع، ولكن حصولها في فترة زمنية واحدة، هو الذي يمنح اللحظة الراهنة من تاريح المغرب الأوسط شحنتها المبهمة وديناميتها الملتبسة. الجزائر في مفترق الطرق - مشاهدات ومسموعات 10 - (الحلقة الأولى) الشاذلي بنجديد أو الرجل الثالث «أنظر جيدا إلى هذه الصور الثلاث، عساها تعطيك فكرة عن طريقة الرئيس الشاذلي بنجديد في معالجة المشاكل» : هكذا خاطبني زميل جزائري وهو يضع أمامي، فوق مكتبه، ألبوما من اللقطات المختلفة للرئيس الجزائري. أخذت أقلب الصور من دون أن أدرك على الفور مغزى الملاحظة الصادرة عن محدثي، وهو مسؤول سابق في الإعلام، أتيحت له فرصة الاحتكاك المباشر بقادة الدولة والحزب على مدى العشرين سنة الماضية، وصار من العارفين بخفايا الأحداث وبخلفياتها. تصورت في البداية أنها مجرد نكتة، وحين أدرك الصديق الحيرة التي أوقعني فيها، ابتسم واستعاد الصور الثلاث وأخذ يشرح لي في جدية ساخرة : «هذه الصورة الأولى، تمثل الشاذلي بنجديد في سنته الرئاسية التالية لوفاة هواري بومدين. إنه كما ترى ما يزال بشواربه الغليظة التي جاء بها من وهران، وهذه الصورة الثانية تختلف عن الأولى، ولعلها ترجع إلى بداية ولايته الثانية، وهي كما تلاحظ تتميز برقة الشوارب، لقد أصبحت الشوارب خيطا رقيقا يكاد يكون غير مرئي. أما الصورة الثالثة، فلا نجد فيها أثرا للشوارب على الإطلاق. وفي استطاعتك أن تؤرخ للمراحل المختلفة، في حياة رئيسنا بالأطوار والتقلبات الطارئة على شنباته أو «شلاغمه»، كما نقول في دارجتنا الجزائرية. إن الطريقة التي عالج بها خليفة هواري بومدين مشكلة شواربه الكثة، بدءا من تشذيبها وترقيقها إلى حلقها في النهاية، هو نفس الأسلوب الذي اتبعه في تجاوز العقبات التي اصطدم بها خلال السنوات العشر الماضية» قد يكون من المبالغة أن نفسر شخصية رجل مثل الشاذلي بنجديد، بمثل هذه الخاطرة العابرة التي توحي إلينا بها تلك الصور الثلاث، ومع ذلك، فإن هذه المقارنة، رغم طابعها الساخر، ربما سهلت علينا مقاربة أسلوب الرئيس الجزائري في التعامل مع الأشياء. ولنبدأ من البداية. والبداية كانت في شتاء عام 1978. في شهر نوفمبر من ذلك العام، عرف الجزائريون أن العقيد هواري بومدين، الذي انتخبوه رئيسا لهم قبل سنتين (10 دسمبر 1976)، مصاب بمرض خطير يستعصي على العلاج. وعرفوا أنه سيذهب إلى موسكو للمعالجة، وأدرك المسؤولون أن عهد ما بعد بومدين، أخذ يلوح في الأفق القريب. ولابد من إعادة هيكلة الحزب والدولة والجيش، تحسبا للطوارئ، وقد اجتمع مجلس الثورة، وهو السلطة العليا آنذاك، اجتمع في الثلاثين من هذا الشهر، وقرر تعيين العقيد الشاذلي بنجديد «منسقا للشؤون العسكرية»، وكلفه بالإشراف على الاتصالات مع قادة المناطق العسكرية، ومع جهاز الأمن العسكري، وأيضا بإدارة وزارة الدفاع. والتفسير الذي قدم يومها لتبرير هذا الاختيار، يتلخص في أن الشاذلي بنجديد هو أقدم الضباط السامين وأعلاهم رتبة، لكن هناك عاملا إضافيا يتمثل في أن هذا الضابط كان يشغل منذ شهر سبتمبر 1964، قيادة المنطقة الغربية الجنوبية المتاخمة للمغرب، وكانت هذه المنطقة، منذ انفجار النزاع المسلح حول الصحراء المغربية، تمثل ثقلا خاصا بالنسبة للجيش والدولة. وكان الشاذلي بنجديد، بصفته القائد العسكري لناحية وهران، يشرف فعليا على وحدات الجيش المختلفة المرابطة بتلك الجهات الإستراتيجية من الحدود المغربية الجزائرية، أثناء سنوات المعارك العنيفة ما بين الجيش المغربي وجماعات جبهة البوليساريو المتمركزين داخل التراب الجزائري. ثم توفي العقيد هواري بومدين يوم 27 دسمبر 1978، وحين انعقد المؤتمر الاستثنائي لجبهة التحرير الوطني (يوم 29 يناير 1979) من أجل اختيار خلف له، كان جهاز الأمن العسكري، وعلى رأسه العقيد قاصدي مرباح، قد اختار الشاذلي بنجديد لخلافة الرئيس الراحل. أثناء أحد اللقاءات التي أجريناها مع العقيد قاصدي مرباح، في شهر يونيو الماضي بمنزله في حي حيدرا بأعالي الجزائر، سألناه عن الدور الذي قام به في انتقاء الشاذلي بن جديد لرئاسة الجمهورية، فكان جوابه : «لابد أن نتذكر ظروف تلك المرحلة. والأمر المهم في نظري، وما شرحته للجيش، هو ضرورة احترام المشروعية وضرورة احترام الدستور. كان يبدو لي مهما أن يبقى الشعب موحدا وأن يظل الجيش موحدا كذلك، في هذا الإطار العام، قمت بالعمل الذي قمت به مع شخصيات أخرى كانت موجودة. وليس صحيحا ما يقال من أنني كنت أملك سلطات واسعة، وإنما كانت لدي سلطات أوسع لأن بومدين عينني منسقا لجميع مصالح الأمن. اختارني لهذه المهمة أثناء مرضه. وبهذه الصفة قمت بالدور الذي استطعت أن أقوم به، ربما لأنني كنت أثناء تلك الفترة واحدا من أقدم إطارات الجيش في المستوى المركزي، والواقع أن الظروف جعلتني أحتل موقعا مارست انطلاقا منه عملا يحركني فيه هدف واحد، هو الدفاع عن المصالح الوطنية. كان يبدو لي من الأهمية بما كان في ذلك الوقت أن تسوى مشكلة الخلافة في نطاق الهدوء والأمن، وأن لا تحصل انحرافات أو تجاوزات، لأننا كدولة نملك مصالح لابد لنا من أن ندافع عنها، كما لابد لنا من ترسيخ بعض التقاليد. ولا ينبغي، كلما طرحت مسألة السلطة، أن تصل الأمور لحد إراقة الدماء، أو أن تحصل مواجهات تؤدي إلى إضعاف البلاد. هذا هو المفهوم الذي كان يحركني كمسؤول، وأعتقد أن النتيجة التي توصلنا إليها في تلك المرحلة، جعلت الأجانب يؤخذون إعجابا بالصورة التي سارت عليها الأمور عندنا، وكنت على اقتناع عميق بأن الطريقة التي ستنظم بها مسألة الخلافة، سوف يكون لها انعكاس كبير على سمعة الجزائر ومكانتها الدولية. وكان مجلس الثورة قد عين الشاذلي بنجديد منسقا للجيش، وقام الجيش من جهته بمساندته، حتى أصبح مرشح مجلس الثورة لرئاسة الجمهورية». هناك عدة شهادات تتصل بلحظة خلافة بومدين، تؤكد هذا الكلام الذي سمعناه من السيد قاصدي مرباح، حول الموقف الحاسم للجيش في اختيار الشاذلي بنجديد رئيسا للجمهورية. يقول السيد عبد السلام بلعيد في كتاب، المصادفة والتاريخ Le hasard et l'histoire»» : «بالنسبة لي وبالنسبة لعدد من المناضلين، كان هناك خطر من وقوع تجربة ساداتية في البلاد، وكان هناك رجل يمثل هذا الخطر، هو السيد عبد العزيز بوتفليقة. لقد كان بوتفليقة يطرح آراء واختيارات في المجال الاقتصادي وفي مجال التنمية الداخلية ثم في الميدان الدبلوماسي، توحي بأنه سيفرض اتجاها مخالفا لبومدين. ثم إنه خلال الشهور التي سبقت وفاة الرئيس، حاول أن يحصل على بعض التعاطف مع جهات أجنبية، وتحرك كثيرا لهذا الغرض. الأمر الذي يوحي بأنه كان يتوقع أن تفتح مسألة الخلافة قريبا، لقد سعى بالخصوص سعيا حثيثا للحصول على تأييد قصر الإليزيه. فبمناسبة عيد الرابع عشر من يوليو، أرسل برقية تهنئة باسم بومدين إلى جيسكار دستان، ولكنه عمل في نفس الوقت على إشعار باريس بأنه صاحب فكرة البرقية ومحرر نصها. وكانت تلك البرقية تتضمن عبارات غير مقبولة. وحين قدمت ملاحظة حول هذا الأمر إلى هواري بومدين، وجد أنها بالفعل تشتمل على «كلمات زائدة عن اللزوم» حسب تعبيره. ويضيف عبد السلام بلعيد في وصفه لظروف الصراع حول خلافة بومدين : «صيف عام 1978، تميز عندنا بسقوط نظام المختار ولد داداه في موريتانيا، وبالمعطى الجديد يمكن أن يدخله هذا الحدث على تطور مشكلة الصحراء الغربية. وقد تمت مشاورات في هذا الخصوص بين باريس والجزائر. هكذا انتهز عبد العزيز بوتفليقة الفرصة، ليقوم بزيارة جيسكار ديستان بقصر الإليزيه، مرتين في شهر واحد. وحين استقبله بومدين بجزيرة بريوني، حيث كان يمضي فترة استراحة، بدعوة من تيتو، بعد مؤتمر منظمة الوحدة الإفريقية بالخرطوم، خاطبه بهذه العبارات : «لابد أن تقول لي هل أنت وزير خارجية جيسكار ديستان أم وزير خارجيتي أنا؟ لقد أديت له زيارة أولى للتشاور، وكان عليه هو في المرة الثانية أن يرسل لي وزير خارجيته، ولم يكن مطلوبا منك أن تسارع مرة ثانية لزيارته في مكتبه». يورد عبد السلام بلعيد هذه الرواية التي تدل على انزعاج بومدين من تصرفات وزير خارجيته ويعلق عليها قائلا : «لم يهتم عبد العزيز بوتفليقة للأمر. وخلال عودة بومدين من موسكو، قبل بضعة أيام من دخوله في الغيبوبة التي ستؤدي إلى وفاته، رتب عبد العزيز بوتفليقة الأمور بطريقة جعلت الطائرة العائدة من الاتحاد السوفياتي تحلق في الأجواء الفرنسية. وكان بومدين قد قام بعدة رحلات إلى الاتحاد السوفياتي من دون أن يحلق في الأجواء الفرنسية أو يوصي بسلوك خط يجبره على المرور من الفضاء الجوي الفرنسي، لكن عبد العزيز بوتفليقة، في اللحظة التي كان يستعد فيها لمرافقة بومدين، في رحلة لاشك أن كثيرا من الاعتبارات تجعله يعتقد بأنها الأخيرة، حرص على توفير فرصة جديدة، تتيح له توجيه رسالة أخرى، وربما إشارة إلى جيسكار دستان. وفي الملابسات المميزة لعلاقات الجزائر وفرنسا في تلك الفترة، بدا محتوى تلك الرسالة غريبا لدى كثير من الناس، بمن فيهم الذي وجهت إليه تلك الرسالة، أي الرئيس الفرنسي جيسكار دستان، ومن المحتمل أن عبد العزيز بوتفليقة في تلك اللحظة التي بدأت التخمينات فيها تغزو عقله وتجعله يحلم بالقيام بدور وطني. في هذه اللحظة، شعر بلا شك بضرورة تقديم عربون إلى قصر الإليزيه، مع توقيع بومدين، تعبيرا عن استعداداته الجيدة للمستقبل. ويأتي وزير الصناعة والطاقة إلى بيت القصيد، في حرب الخلافة التي سوف تنتهي بتعيين الشاذلي بنجديد رئيسا للدولة : «بعد وفاة بومدين، شعر الكثيرون وأنا من بينهم بالتهديدات المحيقة باستمرارية السياسة المتبعة في عهده، وتجندوا من أجل سد طريق الخلافة في وجه عبد العزيز بوتفليقة الذي كانوا يرون فيه تجسيدا لكل ما هو ضد بومدين. ومن أجل تبديد هذه السمعة، أجبر بوتفليقة زملاءه أعضاء مجلس الثورة، على السماح له بإلقاء الخطاب التأبيني للرئيس الراحل، لكنه لم يقنع أحدا بتحوله المفاجئ إلى تبني خط سياسي سبق له أن ندد به في فترة ماضية قريبة. يعدل عبد السلام بلعيد عن حكمه الصارم ضد بوتفليقة، ويكشف أيضا عن تناقضات موقفه، من إشكالية الخلافة، في فقرة أخرى حين يقول : «خلال مناقشة أجريتها معه، عرضت عليه كل الأسباب التي تجعلني أقتنع بأنه الرجل المؤهل لخلافة بومدين. والواقع أنه لم يكن هناك شخص لديه أي أوهام حول المشاعر الشخصية لنواة مجلس الثورة تجاه سياسة بومدين. لكن عبد العزيز بوتفليقة، بسبب مواقفه السابقة، كان يستقطب معارضة جميع المتخوفين من استمرارية الخط السياسي الذي يمثله. وكانت هناك أطراف أخرى تعمل في الظل، وتنتظر انتهاء فترة الحراسة المشددة، لتعلن بعنف متصاعد ومتزايد، عداءها لخط سياسي كانت اضطرت للموافقة عليه وأنفها راغم، وسوف يظهر أحمد طالب الإبراهيمي، الذي كان يصطف آنذاك وراء اليحياوي. سوف يظهر مواقف وميولا موالية للغرب أكثر من تلك التي تلصق عادة ببوتفليقة، والمعروف أن أحمد طالب الإبراهيمي لم يدخر جهدا في توجيه الانتقادات لرئيس الدبلوماسية الجزائرية، في عهد هواري بومدين، على أن الهم الأول للجميع، كان يتركز في ضرورة تجنب نشوب أزمة في تلك الظروف الدرامية الناجمة عن مرض بومدين ووفاته. وهذا الهم، أصل ذلك التنويم والتخدير اللذين حالا دون كشف ثورة مضادة، كانت خيوطها تنسج في الخفاء تحت واجهة الوحدة الوطنية». ويوضح عبد السلام بلعيد، في ذلك القسم من كتابه المعنون «وفاة بومدين وعواقبها السياسية»، كيف أن الصراع حول الخلافة، برز حتى في لحظة تشييع الجنازة، فيقول جوابا على سؤال وجهه إليه الأستاذان الجامعيان، علي الكنز ومحفوظ بلون، بشأن رد فعل الطبقة السياسية الجزائرية على الحدث : «شكلت الوفاة تشجيعا بالنسبة للبعض وأحرجت آخرين، كل الذين كانوا يستعدون لتغيير الأشياء وقلبها أحرجوا. وكان الناس مصابين برعب شديد. وهناك أشياء غير معروفة. هناك وزير عضو في مجلس الثورة، اقترح نقل جثمان بومدين، مباشرة من قصر الشعب في طائرة سمتية (حوامة-هليكوبتر) إلى مدينة قالمة، موطنه الأصلي. وذلك في رأيه، تجنبا لقيام مظاهرات شعبية بالعاصمة. كان ذلك الوزير مرعوبا ولا يريد أن يجد نفسه وجها لوجه أمام الجماهير. بعض الرسميين قالوا : «لا ينبغي أن نقيم تشييعا رسميا، وإنما نكتفي بتشييع بسيط في قصر الشعب، ثم تنقل الحوامة الجثمان للمطار ومنه تحمله الطائرة إلى المدينة قالمة. ثم حاولوا بعد ذلك أن ينقلوه من قصر الشعب بالطائرة السمتية إلى مقبرة العالية». يروي عبد السلام بلعيد وقائع تلك اللحظة الدرامية التي تبين أن المسؤولين الرسميين كانوا مختلفين، حتى من قبل أن يدفنوا الرجل، وكانت فرائصهم ترتعد خوفا من الفراغ الذي خلفه غيابه، يروي كيف أن العسكر حسموا الأمر : «في النهاية، كان رجال الأمن والجيش هم الذين قرروا ما ينبغي عمله ورسموا الطريق للانطلاق من قصر الشعب نحو المسجد الكبير ومنه إلى مقبرة العالية. لكن عند الخروج من المسجد، كان عدد الجماهير الغفيرة كبيرا وغير قابل للمراقبة أو السيطرة. وكان هناك شبان يهتفون بالرسميين : «سوف تخونونه». وعند ملتقى الطرقات، حوصرنا وتكاثرت الجماهير، حتى أصبح من المستحيل الاستمرار في التحرك. وهنا بدأ بعض الناس يرتعدون واقترحوا الاتجاه نحو الميناء والمرور من هناك هربا من حصار الجماهير. لكن وجد أشخاص أكثر ذكاء لاحظوا أن الناس ينتظرون منذ الصباح الباكر لمشاهدة جثمان الرئيس وقالوا : «إذا فعلنا ما تنصحوننا به، فسوف تحدث مظاهرة بالجزائر العاصمة». ويجب أن نعرف بأن التقاليد الإسلامية تقتضي حمل الميت إلى قبره، وأن محاولة الاستيلاء على التابوت ليست تعبيرا عن التعصب كما تصور ذلك الأوروبيون، وإنما هي ضرب من التعبير عن احترام بعض الطقوس المقدسة عند المسلمين. ولدى الخروج من المسجد، بدأت بعض السيارات تتجه نحو الطريق الشاطئي، لكن رجال الأمن أعادوها من حيث ذهبت، واعترضوا على تغيير اتجاه الجنازة، وأحضروا سيارات مجهزة بخراطيم ضخ المياه لفتح الطريق للموكب الجنائزي وسط الجماهير الحاشدة. وهكذا اخترق الموكب العاصمة حتى مخرج مدينة الحراش، وهكذا قام عدد من الشبان الذين لم يتمكنوا من رؤية الجنازة بالهجوم على السيارات الرسمية لدى عودتها. ويعود عبد السلام بلعيد ليروي مرة أخرى، كيف تدخل الجيش لوضع حد للنقاش الدائر بشأن ما بعد بومدين، وكيف اختار الشاذلي بنجديد خليفة له على أساس ضمان الاستمرارية، قائلا : «كنت مترددا في ما يجب أن أعمله، ولكنني قلت في النهاية لنفسي إن الاستمرار أمر ممكن، لقد مات بومدين، لكننا من حسن الحظ نملك ميثاقا يرسم لنا خطا سياسيا واضحا ونملك دستورا. ونحن نستطيع أن نستمر في نهج نفس السياسة. وهذا الاستمرار، لا ينفي إدخال بعض التحسينات. ولقد بدأ بومدين، وهذا أمر من النادر أن يتم التطرق إليه بالتفكير في تقديم المحصلة عام 1977. وكان بومدين قد دعاني إلى لجنة إعداد المخطط لمؤتمر الحزب. وكان من المفروض أن تعالج الأمور من هذا المنظور، وقد دافعت عن مثل هذا الاتجاه، لكنني شعرت بأن الأمور لن تكون مثلما كانت في السابق. وحين مرض بومدين، بدأ أعضاء مجلس الثورة يجتمعون فيما بينهم ويتحدثون عن تغيير كل شيء وعن قلب كل شيء، عن تصفية مسألة الصحراء وعن قلب السياسة الاقتصادية، إلخ... ولم تظهر أية صعوبة فيما بينهم. وجاء تدخل الجيش واتخاذه موقفا واضحا، جاء يضع حدا على الفور لمطامح دعاة الخيانة. وهكذا قدم تعيين الشاذلي بنجديد لخلافة بومدين، باعتباره عربونا على الإخلاص للخط الثوري الذي رسمه هذا الأخير. وقد وجدت نفسي في المكتب السياسي المنبثق عن المؤتمر الرابع لحزب جبهة التحرير الوطني، وكنت عضوا في اللجنة المكلفة بتنظيم حملة شرح حول انتخاب الرئيس الجديد للجمهورية. وحدث أنني تحدثت شخصيا في مهرجانات علنية بولايتي سطيف وبجاية، وركزت خطابي على معاني الوفاء والاستمرارية في اختيار الشاذلي بنجديد خليفة لبومدين. كما أن جميع أعضاء المكتب السياسي الذين شاركوا بهذه الحملة، قالوا كلاما مماثلا في تعيين الشاذلي بنجديد : المصدر كتاب : «المصادفة والتاريخ» (صفحات 296 حتى 299). بجانب الشهادة التي نقلناها مباشرة عن العقيد قاصدي مرباح، مدير الأمن العسكري، والفقرات الطويلة التي استشهدنا بها من كتاب عبد السلام بلعيد، توجد شهادات أخرى استمعنا إليها من أعضاء سابقين في مجلس الثورة، ومن ضباط كبار في الجيش، ومن مسؤولين سابقين في الحزب، تصب في نفس الاتجاه، أي تؤكد أن اختيار الشاذلي بنجديد لخلافة بومدين، جاء من الناحية النظرية ترجمة لرغبة التيارات المهيمنة داخل الطبقة السياسية الجزائرية الحاكمة، في الاستمرار على خط الرئيس الراحل، وكان من الزاوية العملية قرارا فرضته الأجهزة النافذة في الجيش. وقد كان الانطباع السائد لدى الرأي العام الخارجي، سواء منه العربي أو الأجنبي، غداة غياب هواري بومدين، أن معركة الخلافة سوف تدور بين رجلين هما العقيد محمد الصالح اليحياوي، مسؤول حزب جبهة التحرير آنذاك، والسيد عبد العزيز بوتفليقة، وزير الخارجية. كان ذلك هو الاعتقاد الراسخ عند الجميع. وقد روى لنا السيد محمد الصالح اليحياوي، «أن مجلس الثورة انتهى من المداولات التي أجراها بعد وفاة الرئيس، إلى ضرورة احترام بنود الدستور الذي ينص على أن يقوم رئيس المجلس الوطني الشعبي بتولي رئاسة الدولة وكالة، إلى أن يتم اختيار مرشح جديد لمنصب الرئاسة خلال المدة الزمنية المنصوص عليها في الدستور». ويضيف محمد الصالح اليحياوي في شهادته : «بالفعل كلفت شخصيا، مع الأخ الشاذلي بنجديد الذي كنا قد اخترناه لتنسيق الشؤون العسكرية، كلفنا من طرف مجلس الثورة بمقابلة الأخ رابح بيطاط، رئيس المجلس الوطني ومفاتحته في الأمر. ووافق السيد رابح بيطاط على الفكرة، وأعطانا تعهدا شفويا باستعداده لتحمل مسؤولياته. كانت أمامنا قضية شكلية، فالدستور ينص على قيام رئيس المجلس بالنهوض بمهام رئيس الدولة في الفترة الانتقالية»، لكن صيغة تقديم المرشح لمنصب الرئيس بعد انتهاء تلك المدة، لم تكن قد حسمت بعد، لأن مؤتمر الحزب لم يكن قد انعقد ليبت فيها ويحسمها نهائيا. السابقة الوحيدة التي كانت لدينا هي عملية ترشيح هواري بومدين عام 1976، من قبل مؤتمر الإطارات. وكانت الأفكار الرائجة يومها في أفق تحضير المؤتمر الرابع للحزب، تتلخص في مشروعين، واحد يرى أن الرئيس، الذي هو الأمين العام للحزب، ينبغي أن يتم ترشيحه لمنصب الرئاسة من طرف المؤتمر العام الذي ينتخبه أمينا عاما أيضا، ومشروع آخر يرى أن اختيار الرئيس، يجب أن يكون من اختصاص اللجنة المركزية. كان أصحاب الفكرة الأولى يرون أن اختيار المرشح الرئاسي من طرف المؤتمر، يعطي الفرصة للمناضلين من أجل الاختيار بين عدة مرشحين عن طريق الاقتراع السري والديمقراطي، وهو أسلوب يجعل مؤتمر الجبهة، الذي يخصص لمثل هذا الاختيار، يشبه إلى حد ما ما يحصل في الانتخابات الأولية داخل بعض الأحزاب الغربية، خاصة الحزبَيْن الأمريكيين الديمقراطي والجمهوري. أي أن المرشح يجب أن يفوز بالأغلبية داخل الحزب قبل أن يتقدم إلى الناخبين. أما الفكرة الثانية، وهي أقرب إلى مفهوم المركزية الديمقراطية الذي كنا نتبناه كحزب ثوري اشتراكي، فكانت تحصر اختيار المرشح لموقع الرئاسة في اللجنة المركزية للحزب. وإذا لم تخني الذاكرة، فإن هذا المشروع الثاني هو الذي كان يحظى بتأييد أغلبية أعضاء اللجنة التحضيرية. لكن وفاة بومدين فاجأتنا ونحن لم نعقد المؤتمر بعد. ويضيف السيد محمد الصالح اليحياوي، في حديثه إلينا عن الملابسات المحيطة باختيار الشاذلي بنجديد رئيسا للجمهورية : «افترقت مع الأخ الشاذلي بنجديد، بعد لقائنا مع السيد رابح بيطاط، وفي تصوري أن مشكلة اختيار المرشح الجديد للرئاسة لم تحسم، إلا بعد أن نتوصل داخل مجلس الثورة إلى صيغة بشأنها، ولكنه كلمني هاتفيا بعد يوم أو يومين وقال لي بالحرف : يا أخي الله غالب، راهم الجماعة فرضوا علي نترشح للرئاسة». لم يرو لنا السيد محمد الصالح اليحياوي تلك النكتة أو الدعابة التي انطلقت من الجزائر، وطافت عالم السياسة والصحافة ورددتها وروجتها الدوائر الإعلامية والسياسية المهتمة بتطورات الجزائر. تقول تلك الدعابة : «إن المسؤولين الجزائريين وجدوا أنفسهم، بعد وفاة هواري بومدين، أمام مرشحين اثنين، أحدهما معرَّب هو محمد الصالح اليحياوي، والآخر مفرنس أو مزدوج اللغة والثقافة هو عبد العزيز بوتفليقة»، وأنهم، أي المسؤولون، قرروا أن يختاروا رجلا ثالثا محايدا». وهذه الدعابة على ما فيها من قساوة، تشكل حكما استباقيا أو مسبقا صائبا في كثير من الوجوه، على شخصية الرئيس الشاذلي بنجديد. ولكنها أيضا، كما سوف تثبت التبدلات اللاحقة، تكشف عن وجود ذكاء فطري عملي، مكن الرجل حتى الآن من اجتياز المراحل الصعبة التي مر بها حكمه، بحد أدنى من الخسارات. هذا «الرجل الثالث المحايد»، الذي تقدمه تلك الدعابة على أنه لا يتقن العربية مثل محمد الصالح اليحياوي ولا يحسن الفرنسية والعربية مثل عبد العزيز بوتفليقة، يجيد ما يمكن أن نسميه فن تحويل الهزائم إلى انتصارات، وهو شديد البراعة في الخروج من المأزق. والدعابة الأخرى التي بدأنا بها هذا المقال، رغم ما قد تثيره من ابتسامات ساخرة، تقدم لنا مع النكتة الخاصة بالحياد اللغوي مفاتيح هذه الشخصية العربية الإفريقية. نعم، وصل الشاذلي بنجديد فعلا إلى الجزائر العاصمة في الفصل الأخير من سنة 1978، أثناء احتضار هواري بومدين، وجاء إليها قادما من مدينة وهران (وهران الباهية... وهران الزاهية كما تقول الأغنية الشعبية)، وهو يحمل شوارب كثة غليظة كثيفة صلبة. وحين ارتقى إلى منصب الرئاسة في السنة التالية (1979)، شذبها دون أن يمس طولها، وفي سنة 1982، تحولت إلى خيط رقيق أبيض لا يكاد يدرك، ثم انقلبت إلى بقية من ظل في العام اللاحق، واختفت نهائيا سنة 1983. كل هذه التحولات الطارئة على الهندام، واضحة في تلك الصور التي قدمها لنا ذلك الزميل الجزائري في مكتبه بالعاصمة، ونصحنا بأن نقرأ من خلالها أسلوب خليفة هواري بومدين في التعامل مع الأشياء. والنكتة المتصلة بالحياد اللغوي، والدعابة المتعلقة بالصور، تكشفان لنا بعض أعماق الرجل. حقا، إن الشاذلي بنجديد لا يجيد فن الخطابة السياسية، ومن التحريات التي قمنا بها لإعداد مواد هذا المقال، خرجنا بخلاصة لعلها تفسر كثيرا مما يحدث الآن أمامنا في المغرب الأوسط : إن الشاذلي بنجديد يكره الخطابة، بل لعله لا يستطيع الخطابة المرتجلة في المهرجانات والاجتماعات الشعبية، وإنما يحرص على الحديث في نطاق ضيق أمام اللجان، والإطارات، وهو خطيب قصير النفس، يخيل إلى سامعه أنه يردد أسطوانة واحدة مسجلة، محفوظة تتردد فيها نفس التيمات والكلمات، وفقا للظروف المستجدة. وأريد أن أبادر هنا، قبل الاسترسال في استكمال رسم صورة الرجل، إلى أنني لا أستهدف ذمه أو التشهير به أو تجريح شخصيته، وإنما أسعى إلى تقديم ظاهرة سياسية تاريخية، عاينتها وسمعت عنها الكثير من الذين عاينوها وعايشوها. الجزائر في مفترق الطرق - مشاهدات ومسموعات 10 - (الحلقة الثانية) الشاذلي بن جديد.. أو الرجل الثالث الشاذلي بن جديد ليس خطيبا سياسيا، وهذا سر ضعفه وسر قوته. ولعله أن يكون سببا قويا من أسباب صعود التيار الأصولي الإسلامي أو التيار السلفي والسلفي الجديد في المغرب العربي الأوسط. والأمر كذلك، لأن الخطاب، أي الكلام بمعناه العام والمطلق والعادي جدا، كان ولا يزال منذ أن وجدت المجتمعات البشرية وانقسمت إلى حكام ومحكومين، مسيَّرين ومسيِّرين، قادة وتابعين، السلاح الأمضى في ممارسة السلطة. هذه قاعدة عالمية، تكاد تكون بمثابة القانون الفيزيائي أو الرياضي في صرامتها وكونيتها، القدرة على التبليغ والتوصيل والتواصل، ثم الإقناع فالتجنيد حاجة أصيلة مركبة في طبيعة العمل السياسي، سواء تعلق الأمر بأكثر المجتمعات الصناعية الراقية المتطورة, وفي عصر التلفزة والإذاعة ووسائط الإتصال الجماهيري والأقمار الصناعية والتطورات اليومية العاصفة، يصبح الخِطاب المقرون بالصورة المحروق الاستراتيجي اليومي الضروري لممارسة السلطة. ها هو فيديل كاسترو يحكم جزيرة كوبا الشيوعية منذ ثلاثين سنة بالكلام والكلام وحده، على مسافة تسعين ميلا من شواطئ فلوريدا الأمريكية. وقد كسب ممثل من الدرجة الثانية يدعى رونالد ريغان المعركة ضد خصومه الديمقراطيين، وكسب المنافسة ضد الاتحاد السوفياتي، لأنه عرف كيف يتحدث وكيف يوصل أفكاره وقناعاته البسيطة إلى أعداد واسعة من سكان الولايات المتحدة، حتى أنهم أطلق عليه صفة «المُبَلِّغ الكبير Le grand communicateur». وها هو ميخائيل غورباتشوف، يدشن عصرا جديدا في تاريخ الإنسانية كلها، لأنه تمكن بواسطة خطاب سياسي جديد، متجدد وجريء من وضع أصابعه على مكامن الداء الذي كان ينخر أجساد الدول والمجتمعات الشيوعية. الزعيم الصيني ماو تسي تونغ قاد هو الآخر المسيرة الكبرى لبلده ثم الثورة الثقافية بالخطاب وبالكلام اللذين كانا يحركان ملايين الناس ويدفعاها إلى السير على الدروب المرسومة لها من قبل الزعيم. والجنرال شارل ديغول، قلب أحوال فرنسا بسبب خطاب ألقاه من لندن يوم الثامن عشر من يونيو1940، وأصبح يُسمى رجل الثامن عشر من يونيو، ثم أخرجها من ورطة حرب الجزائر، وأنقذها من الفاشية العسكرية وأنشأ الجمهورية الخامسة، واستعاد نفوذ البورجوازية الرأسمالية المرعوبة بعد ثورة الطلاب والعمال في ربيع 1968... فعل ذلك كله بفضل عبقريته الخطابية.. والراحل عبد الناصر، أثار صحوة عربية شاملة بسبب الخطابات السياسية التي كان يلقيها في المناسبات المختلفة وتستمع إليها الجماهير العربية في المشرق والمغرب... بالطبع ليس الخطاب هو كل شيء في ممارسة السلطة، لكن من المستحيل تأسيس سلطة سياسية من دون خطاب. هناك أيضا الظروف وعلاقات القوى والقدرة الإقتصادية والتكنولوجية والتطور العلمي وما إلى ذلك من عوامل تدخل كلها في الحساب عند تقدير أداء أو فعالية شخصية قيادية، في مكان محدد وفي زمان معين. وهناك بالطبع ما قد يحصل من توافق بين الظرفية التاريخية والشخصية الكارزمية. ولعل أبرز التجارب التي نشأ فيها مثل هذا التوافق، هو ذلك التطابق الذي شهدناه في التجربة الإيرانية. لقد أسقط الخميني نظام الشاه محمد بهلوي بالكاستيلت. ثم قاد الشعب الإيراني بعد ذلك في حربه مع العراق بواسطة الوعود التي كان يقدمها لشبابه بالدخول إلى الجنة. وأنا هنا لست بصدد تقييم التجارب السياسية التاريخية أو إصدار أحكام عليها، وإنما أريد فقط أن أنبه إلى المكانة الاستراتيجية المركزية التي يحتلها الخطاب، بالمطلق في عملية صناعة القرار السياسي وتحريك المجتمع المدني. من هذه الزاوية، يخيل إلي أن الجزائر تشكو مما أسميه «العجز الكارزمي Le déficit charismatique». وهذا العجز الكارزمي عبارة جديدة وجدت نفسي أتلفظ بها تلقائيا، في اللغة الفرنسية أثناء نقاش طويل دار بيني وبين السفير رضا مالك بحضور الأستاذين الجامعيين، علي الكنز ومحفوظ بنون مؤلفي كتاب : المصادفة والتاريخ الذي استشهدت به في فقرات سابقة، إنها عبارة آتية من مخزون الذاكرة وعسى أن تكون قد ترسبت في الذهن من قراءتي لماكس فبير، إن العجز الكارزمي أو غياب هيبة الدولة إنما هو في الواقع ثمرة لانعدام الخطاب السياسي. وإذا كانت جميع الشعوب، تحتاج في إدراكها، وفي تحديد مواقفها من مختلف المشاريع التي تقدمها إليها نخبها السياسية، إلى رموز ملموسة تمارس عليها مختلف أصناف الإسقاطات، وذلك بغض النظر عن درجة نموها أو تخلفها. فإن هذه المسألة تأخذ في الجزائر طابعا دراسيا. لقد اكتسب أحمد بن بلة شعبيته بفضل خُطبه الشهيرة وبسبب قدرته على التحريض والتبليغ والتوصيل، واكتسب هواري بومدين هيبته بسبب منجزاته ومواقفه وبدرجة ثانية مقدرته الخطابية، ولأن هذا البلد كان مقطوع الجذور بتراثه الحضاري العربي الإسلامي، وكانت لغة التفاهم اليومي فيه مشكلة في حد ذاتها. وكانت لغة الخطاب السياسي فيه ولا تزال إشكالية مستعصية الحل فإنه كان وما يزال يحتاج إلى زعماء من طينة خاصة وفترة الشاذلي بن جديد تميزت بغياب الخطاب السياسي في مستوى المؤسسة الرئاسية، غياب نشأ منه وعنه فراغ عميق تدفق منه وملأه الخطاب السلفي وكان الجزائريون مثلهم في ذلك، مثل شعوب الأرض قاطبة، يحتاجون إلى من يكلمهم بلغة يفهمونها، أو على الأقل يتفهمونها فإذا بهم يجدون أنفسهم أمام الفراغ، وأمام الصمت. والطبيعة، كما يقول المثل، ضد الفراغ، وكان لابد أن تنتج المرحلة التاريخية خطابها التاريخي المناسب، أي كان لا بد أن يؤدي الفراغ القائم الجاثم إن صح التعبير على المخيال الجماعي، إلى فرز خطاب سياسي فارغ، رغم صخبه وغزارته. صمت الشاذلي بن جديد أو عدم إتقانه لفن الخطابة، هو الذي يفسر تلك الشعبية الخارقة التي يتمتع بها اليوم أشخاص من أمثال عباسي مدني الناطق الرسمي باسم الجبهة الإسلامية للإنقاذ وصديقه ومساعده علي بلحاج. لا بد أن يشاهد الإنسان مهرجانا للجبهة الإسلامية للإنقاذ، ويحضر ندوة من الندوات الضيقة التي يتكلم فيها الرئيس الجزائري ليدرك عمق البون الشاسع بين الشاذلي بن جديد والنجمين الصاعدين في سماء السياسة الجزائرية. ولا شك أن طريقة خليفة هواري بومدين في الخطابة وأسلوبه في معالجة المشاكل السياسية، يعودان إلى كونه إنسانا عصاميا بالدرجة الأولى اكتسب منهجه في العمل من الخبرة والممارسة أكثر مما اكتسبه من المطالعات والمظاهرات والاجتماعات مثل منافسيه. يكاد الشاذلي بن جديد يكون نسيجا وحده بين الرؤساء العرب الحاليين. لقد جاء إلى السلطة العليا ربما بمحض المصادفة، ولعله أصبح رئيسا للجزائر بالرغم منه. هذا الرجل الذي ولد في منتصف شهر أبريل 1929 في قرية زراعية قريبة من مدينة القالة على مسافة بضع أميال من الحدود التونسية الجزائرية، وفي ظل برج عتيق بناه القراصنة والتجار الأوروبيين، قبل ثلاث قرون، بتلك المنطقة من شواطئ البحر الأبيض المتوسط يميل بالفكر وبالسلوك وبالمزاج، إلى الانفتاح والحوار وتسوية الأمور بالمفاوضات والمناقشات والأخذ والعطاء، أكثر من ميله إلى المواقف الصارمة. ولا شك أن المحللين والنقاد الذين يربطون بين الطبع والطبيعة، بين البيئة التي ينشأ فيها الإنسان، ويترعرع فيها، وبين خصاله السلوكية، وسمات مزاجه، لا بد أن يجدوا في الفرق بين شواطئ البحر الأبيض المتوسط وكثبان الرمال المحيطة بوادي سوف ومدينة بسكرة، ما يساعدهم على تفسير الإختلاف القائم بين زعماء الجبهة الإسلامية للإنقاذ وأغلبهم من الصحراء، وبين الشاذلي بن جديد. إن هذا الرجل يمكن أن يكون وجيها من وجهاء طنجة أو تطوان أو تونس أو أية مدينة شاطئية متوسطية حتى على الضفة الإيطالية أو الإسبانبة أو الفرنسية لهذا البحر. الرجل يحب الحياة بأنبل ما في كلمة الحب من معنى، ويهتم بهندامه ومظهره، وحتى الأصدقاء الذين تعرفوا عليه وعايشوه أثناء حرب التحرير، سواء حين كان جنديا ثم ضابطا في الولاية الثانية مع العقيد علي كافي أو العقيد صوت العرب (صالح بوبنيدر).وبعد أن انتقل إلى الحدود التونسية ليتولى قيادة وحدة عسكرية تابعة لهيئة الأركان العامة التي كان يقودها العقيد هواري بومدين. هؤلاء الذين تحدثنا إليهم خلال هذا الصيف، وحاولنا أن نلتقط ذكرياتهم عنه، يجمعون على القول بأنه رجل مضياف، يحب الصيد والأكل الجيد ولا يرى وجود أي تناقض بين أن يستمتع الإنسان بملذات الحياة ، ويقتنص لحظات سعيدة، وأن يمارس في نفس الوقت مسؤولياته السياسية. واحد من هؤلاء ذكر لنا أن الشاذلي بن جديد كان مشهورا لدى أصدقائه، بأنه حين يعود من رحلة القنص بصيد وفير، كان يدعوهم إلى وليمة، ولم يغير الشاذلي هذه العادات حينما انتقل بعد الاستقلال لقيادة ناحية قسنطينة العسكرية ثم ناحية وهران، لم يغيرها وإنما طورها، وذلك أمر طبيعي تماما، ومع تطور وضعه المادي قد أصبح يدخن سجاير الهافانا المعطرة، ويرتدي بدلا أنيقة من تفصيل الخياط الفرنسي ذي الأصل الإيطالي فرانشسكو سمالتو، وصار يضع نظارات ذات إطار رقيق عند القراءة، إنه يشبه في بعض صوره، ممثلا إيطاليا متوسطيا أصيلا، بطلا من أبطال أفلام الواقعية الإيطالية في حقبة الخمسينات. حب البحر وحب رياضة الغوص في الأعماق من الهوايات المعروفة عن الرئيس الجزائري. وفي السنوات السابقة لخريف الغضب الجزائري، وبينما تكون الإشاعات القوية تتحدث عن غيابه أو مرضه أو عن وجود أزمة في قمة السلطة، تعرف أجهزة المخابرات الغربية ولاسيما الإسبانية والفرنسية أن الرجل موجود على ظهر يخته يمارس رياضته المفضلة في عرض شواطئ وهران. وقد تعرض الرئيس الشاذلي بن جديد أثناء ممارسته لرياضة التزحلق على الماء إلى حادث أدى إلى انزلاق غضروفي قوي، أرغمه على الذهاب إلى الخارج للعلاج. قال لنا أحد الوزراء السابقين الذين اقتربوا منه في تلك الفترة : «أوشك الانزلاق الغضروفي أن يؤدي إلى شلل كامل للرئيس. ولم نكن واثقين من أن المستشفيات الجزائرية، بما فيها المستشفى العسكري تتوفر على التجهيزات الضرورية لعلاجه. هكذا فكرنا بالطبع في الإتحاد السوفياتي الذي جرت العادة بحكم علاقاتنا الطيبة معه أن يذهب إليه كبار لإجراء العمليات الدقيقة. لكن أسرة الرئيس رفضت إرساله إلى موسكو ربما بفعل تأثير التطير من مصير الرئيس السابق. وقد جرى التفكير أيضا في نقله على جناح السرعة إلى فرنسا أو أمريكا، إنما تم العدول في الأخير عن اللجوء إلى هاتين الدولتين، تجنبا للقيل والقال السياسي. وفي النهاية تقرر أن يتم علاج الرئيس في بلجيكا. وفي أثناء تلك الوعكة، انتشرت شائعات قوية تؤكد أن الشاذلي بن جديد لن يستطيع ممارسة مسؤولياته في فترة قريبة وأنه ربما يخرج من سقطته البحرية تلك عاجزا تماما عن التصدي لمهام قيادة الدولة. كانت الإشاعة قوية إلى درجة أن السيد رابح بيطاط، رئيس مجلي النواب، دعا المجلس لعقد جلسة مغلقة، يقال أنه ألقى فيها خطابا كان يفترض أن تبثه الإذاعة، لإطلاع الرأي العام على خطورة الحالة الصحية للرئيس. غير أن كل تلك التنبؤات لم تتحقق، إذ أن الشاذلي، عاد بعد فترة من النقاهة، بالتدريج إلى النهوض بأعبائه كرئيس للجمهورية». عالم مزارع الكروم، والأخاديد العميقة، والأرخبيلات المرجانية، المميزة للبحر الأبيض المتوسط، وللجهات المجاورة لمدينة القالة، له نظمه، عاداته، تقاليده وتابوهاته. ومن هذه التابوهات المرعبة، الصمت والكتمان والاحتفاظ بالسر. إن هذه الأشياء تكاد تكون طبيعة ثانية في المجتمع الجزائري المتوسطي، وقد عززتها الأنماط التنظيمية الانضباطية الحديدية التي فرضتها جبهة التحرير الوطني خلال فترة الكفاح المسلح, وإذ كان الشاذلي بن جديد، كما سبقنا أن لاحظنا، قليل الكلام، فإنه كثيرا ما فاجأ خصومه وأصدقاءه بأعمال يحارون في تفسيرها ثم تأتي الأيام والتطورات لتثبت أنها تنم عن ذكاء سياسي استطاع حتى اليوم، أن يقود صاحبه للخروج من مأزق توقع الكثيرون أن تعصف به. إنه ذكاء الظروف أو الفرص. وعندما يتخذ القرار الرئاسي، عادة يأتي من دون مقدمات ويشغل الناس بالتفكير في دلالاته ومقاصده. من الذي أوحى به؟ من المستفيد منه؟ ماذا ستكون عواقبه؟ ليس للشاذلي بن جديد، أو على الأقل لم يكن له حين بدأ صعوده السياسي، قاعدة وطنية أو جهوية بأتم معنى الكلمة. وعندما اجتمعت كلمة الجيش لاختياره خليفة لبومدين في شتاء عام 1978، كانت تجربته الوحيدة محصورة في قيادته للمنطقة العسكرية بناحية وهران. ولعل العناصر المؤثرة يومها في الأجهزة كانت تفكر في أن تجعل منه «رئيسا ظلا» أو رئيسا شكليا، يسمح لها بأن تستمر في ممارسة سلطاتها تحت حمايته. وما فهمناه من أحاديثنا ولقاءاتنا المختلفة مع عدد من صناع قرار تلك المرحلة هو أن التجربة المصرية، غداة غياب عبد الناصر، كانت واردة في الأذهان وفي الحسابات لدى مختلف الأطراف، لقد تصور الذين كانوا يملكون مفاتيح الحكم أنهم سيضعون الشاذلي بن جديد في القمة لفترة زمنية قصيرة يتمكنون خلالها من ترتيب أمورهم ليفرضوا عليه السياسة التي يريدونها أو ليعوضوه بمن هو أقرب إليهم. لقد فعلوا ما الناصريون وأخطأوا مثل ما أخطأ أولئك أيضا. بالطبع، المقارنة هنا مجازية محضة، والقياس مع الفارق، كما يقول الفقهاء، لأن الجزائر ليست هي مصر ولا الشاذلي بن جديد أنور السادات. لذلك لن تنجح استراتيجية «تنصير» الجزائر أي جعلها ناصرية، كما لن تنجم استراتيجية «تسييدها» أي جعلها ساداتية، سوف تصيب استراتيجية الشاذلي بن جديد، إذا صح اصطلاحا، أن نصف عمل الرجل بأنه يترجم خطا استراتيجيا فعليا. إن قراءة متأنية لأداء خليفة هواري بومدين، توحي على الأقل بوجود طبع قوي ومزاج سلطوي لديه. لقد بدأ ممارسة مسؤولياته بإلغاء تأشيرة الخروج التي كانت مفروضة على المواطنين، وبإطلاق سراح الرئيس أحمد بن بلة، وبالدخول في مفاوضات مع الزعماء المغتربين (حسين آيت أحمد، بسير بومعزة، الطاهر الزبيري، والحاج الهاجي اسماعيل) لإقناعهم بالعودة. مقابل هذا الانفتاح على المعارضين بادر الرئيس بفتح ملفات عن العهد القديم انتهت بإخراج عدد من «البارونات» أمثال عبد العزيز بوتفليقة وزير الخارجية والعقيد أحمد دراية مدير الأمن ثم وزير الداخلية، والعقيد أحمد بن الشريف مدير الدرك الوطني، من دائرة الفعل السياسي الرسمي. وكل هذه الشخصيات لا تشكل، إذا ما أُخذت على انفراد، تيارا سياسيا بالمعنى الدقيق للكلمة، بل إن كل واحد من هؤلاء الأعضاء في مجلس الثورة، لديه من الحزازات والمآخذ ضد الآخر، أكثر مما قد يكنه من معارضة للرئيس الجديد، ولكنهم جميعا كانوا يملكون مراكز نفوذ قوية قد تهدد الشاذلي فيما لو تحالفوا ضده. سوف يتخلص بن جديد إذا من هؤلاء، وبعدهم يأتي دور السيد محمد الصالح اليحياوي مسؤول الحزب. لم يقم الشاذلي بتلك الحركة المسرحية التي قام بها السادات، بعد عام واحد من وفاة عبد الناصر، ضد مجموعة علي صبري وشعراوي جمعة ومحمد فوزي. وإنما سلك طريقا آخر أدى بعد سنوات إلى نفس النتيجة. تخلص أنور السادات من منافسيه الناصريين دفعة واحدة، وحاكمهم وسجنهم، أما الشاذلي بن جديد فقد صفاهم على مراحل، ثم التفت إلى الجيش وأجرى داخله تعديلات ومناقلات وترقيات أسفرت في نهاية عام 1984، عن إبعاد العناصر «المشبوهة» فيه عن مراكز القرار. تم ذلك كله بكثير من الحذر والحيطة والتحسب للنتائج. ولعل الطريقة التي اتبعها الشاذلي بن جديد في تصفية جهاز الأمن العسكري أبلغ دليل على منهجه الخاص في العمل السياسي، وهو شبيه بأسلوبه في قص شواربه أو تشذيبها. وكان الأمن العسكري يشكل دولة داخل الدولة، وقد استغرق تفكيكه خمس سنوات على الأقل. بدأ التفكيك بإبعاد مدير الجهاز العقيد قاصدي مرباح الذي عُين أمينا عاما لوزارة الدفاع الوطني، ثم وزيرا للصناعات الحربية. ويقول قاصدي مرباح إنه لم يكن يملك أية سلطة في تلك الفترة : «كان لدي مكتب وأجهزة تلفونات بوزارة الدفاع الوطني ولكنني لم أكن أملك أية صلاحية لاتخاذ القرار». سوف ينتقل قاصدي مرباح من الدفاع إلى الصناعات الثقيلة، فوزارة الزراعة فوزارة الصيد البحري ثم الصحة قبل أن يعين وزيرا أول غداة انفجار خريف الغضب الجزائري. ولن يمكث سنة كاملة في وظيفته الجديدة التي سيخلفه فيها مولود حمروش. لن يبقى قاصدي مرباح وزيرا أول أكثر من عشرة أشهر وسوف يسمع بإقالته وإقالة حكومته من الإذاعة. أما الأمن العسكري، فقد تولى قيادته مباشرة الرائد يزيد الزرهوني الذي كان في عهد بومدين معاونا للعقيد قاصدي مرباح ومسؤولا عن شعبة الاستخبارات الخارجية. لكنه هو الآخر سوف يُعفى من منصبه ويعين سفيرا في المكسيك، مثلما عين العقيد أحمد دراية مدير الأمن ووزير الداخلية السابق سفيرا في البرتغال، وسوف يلحق الأمن العسكري بالرئاسة ويوضع على رأسه العميد مجدوب الأكحل عيات. وإجمالا لن تنتهي الولاية الأولى من عهد الشاذلي بن جديد حتى يكون قد استكمل امتلاك الأجهزة التي تساعده على صنع القرار وتنفيذه. قراءة وقائع الولاية الأولى (1979-1984) من عهد الشاذلي بن جديد، مقارنة مع حكم الرئيسين السابقين أي أحمد بن بلة وهواري بومدين، تسمح بملاحظة وجود فرق كبير في طرق الرجال الثلاثة لمعالجة قضايا السلطة. والواقع أن المقارنة مع عهد أحمد بن بلة لا تفي بالغرض المطلوب لأن الرئيس الأول للجمهورية الجزائرية لم يمارس السلطة عمليا وحده، وإنما كان عليه أن يقتسمها مع الجيش. أما في عهد هواري بومدين، فقد صار الجيش هو المصدر الوحيد للسلطة، واستتب التوازن داخل مؤسسات الدولة، وأصبح الرئيس عمليا كل شيء وباتت المقارنة ممكنة، سيما وأن الفترة الزمنية تكاد تكون متشابهة. لقد حكم بومدين حوالي أربعة عشر سنة وحكم الشاذلي بن جديد اثنتي عشر عاما. وإذا كان هواري بومدين، لم يبادر قط باتخاذ موقف يرمي إلى تصفية منافسيه في السلطة، بعد قيام انقلاب التاسع عشر من يونيو 1965، فإن أسلوب الشاذلي بن جديد تميز باستباق منافسيه وإزاحتهم عن طريقه من قبل أن تتاح لهم الوسائل والإمكانيات التي قد تشجعهم على التحرك. كان هواري بومدين يترك لزملائه ومشاركيه في المسؤولية مبادرة الانفصال عنه، والذهاب في معارضتهم له إلى نهاياتها القصوى، ثم يقوم بمواجهتهم وإبعادهم عن مراكز التأثير، هكذا فعل مثلا مع العقيد الطاهر الزبيري رئيس الأركان العامة. وهكذا تصرف مع كل من عبد العزيز بوتفليقة والشريف بلقاسم وغيرهم. أما الشاذلي بن جديد، فإنه كان يسبق من يتوسم فيهم وجود طموح لمنافسته، ويبادر بتجريدهم من كل إمكانية للعمل. إلى جانب هذا الفرق بين الرجلين، أي بين هواري بومدين والشاذلي بن جديد. هناك ميزة أخرى تجعل هذا الأخير مختلفا كل الاختلاف عن سابقيه، وربما عن كافة رؤساء البلدان العربية والإفريقية. وتتجلى هذه الميزة في أن خليفة هواري بومدين ليست له عصبية في السلطة بالمعنى الخلدوني، كان هواري بومدين مثلا محاطا بجماعة وجدة، أي بأولئك الأصدقاء الذين عمل معهم في قيادة الجيش حين كان مقرها يوجد بتلك المدينة المغربية، أيام حرب التحرير. أما الشاذلي بن جديد فلم تكن لديه مثل هذه النواة، لذلك نجد أنه في إدارته لشؤون الدولة يفوض كثيرا من سلطاته للوزراء والمسؤولين، سيما حين يتعلق الأمر بتسيير الشؤون الاقتصادية وحتى السياسية. لهذا رأيناه يحتفظ بالعقيد محمد أحمد عبد الغني وزيرا أول، ثم يبدله ويعينه مستشارا له برئاسة الجمهورية، ليرسله من حين لآخر في مهمات عاجلة إلى بعض البلدان، ثم رأيناه بعد ذلك يختار السيد عبد الحميد الابراهيمي للوزارة الأولى ويترك له حرية التصرف في الشؤون الاقتصادية. وخلال المدة الفاصلة بين المؤتمر الخامس لجبهة التحرير الوطني (نهاية 1983) وخريف الغضب (أكتوبر 1988) مرورا بالنقاش الذي دار بشأن الميثاق الوطني (1986)، خيل إلى بعض المراقبين أن الشاذلي بن جديد بدأ يؤلف حول شخصه «عصبة جديدة». بدأ هذا الاعتقاد يسود أثناء سنوات الولاية الأولى حين لاحظ المتتبعون لتطورات الأوضاع وجود نواة شبه مستقرة في الدولة مؤلفة من الوزير الأول عبد الحميد الابراهيمي، ومن وزير الداخلية الحاج محمد يعلا ومن وزير الخارجية الدكتور أحمد طالب الابراهيمي ووزير الطاقة نايه بلقاسم ووزير التجارة عبد العزيز خلاف. وعلى عكس الصورة التي كانت شائعة في الخارج، في تلك الفترة، والتي ما تزال سائدة حتى اليوم، فإن انعدام وجود نواة متماسكة أو جماعة قوية حول الرجل، لم يكن يعني في يوم من الأيام أن طبخة القرار السياسي كانت تتم بشكل فردي أو تأتي ثمرة لتأملات يمارسها بن جديد في برجه الرئاسي العادي. لقد كان الشاذلي بن جديد يترك المنافسة تجري بين وزرائه ويتابع عملهم من بعيد ولا يتدخل فيه إلا عندما تتجاوز الصراعات حدودا معينة. هناك على الأقل خمسة دوائر تشارك في صنع القرار وفي اختيار الأدوات الصالحة لتنفيذه. كانت هذه الدوائر، في المدة الزمنية السابقة لأحداث 1988 على الشكل التالي : الدائرة الأولى : الحكومة، وخاصة الوزارة الأولى التي أشرفت على تسيير الشؤون الاقتصادية، تأتي بعدها وزارة الخارجية، التي كان الدكتور أحمد الطالب الابراهيمي قد تولاها بعد وفاة محمد الصديق بن يحيى في حادث الطائرة الشهير بين إيران والعراق. وهناك حادثة رواها لنا السيد محمد الشريف مساعدية عن مراحل تطبيع العلاقات المغربية الجزائرية تكشف عن أسلوب الرئيس الشاذلي بن جديد في التدخل لنقل ملف معين من يدي وزير أو مسؤول لغيره. لقد كان ملف العلاقات المغربية-الجزائرية من اختصاص الدكتور أحمد الطالب الابراهيمي، وكان من المفروض بعد لقاء الحدود الأول الذي جرى بقرية العقيد لطفي استجابة لوساطة الملك فهد بن عبد العزيز أن يتجه البلدان نحو تطبيع علاقاتهما الثنائية بصرف النظر عن استمرار خلافهما بشأن الصحراء. إلا أن القطيعة استمرت بعد ذلك اللقاء الأول، واستمر معها نفس النهج القديم ثم جاءت فكرة عقد مؤتمر القمة العربي الطارئ المخصص للانتفاضة الفلسطينية بالعاصمة الجزائرية. وفي نطاق الإعداد لتلك القمة أرسل الشاذلي بن جديد عددا من الوفود تجوب العواصم العربية لإقناع رؤساء الدول العربية بالمشاركة. وكان المغرب من نصيب محمد الشريف مساعدية والعميد العربي بلخير، الأمين العام للرئاسة. وهكذا ذهب مسؤول حزب جبهة التحرير الوطني رفقة الأمين العام للرئاسة إلى فاس لمقابلة جلالة الملك الحسن الثاني وتوجيه الدعوة إليه. وقبل العاهل المغربي الحضور مبدئيا، لكنه لاحظ أمام محدثه الجزائري أن الذهاب لعاصمة لا توجد فيها سفارة مغربية، مسألة لا تخلو من بعض الحرج بالنسبة إليه. عاد محمد الشريف مساعدية إلى الجزائر ونقل فحوى مباحثاته المغربية إلى الرئيس الشاذلي بن جديد، الذي كلفه على الفور بالعودة إلى المغرب من أجل التفاهم مع الملك على استئناف العلاقات الدبلوماسية المقطوعة. وكانت نتيجة تلك الملاحظة الملكية البسيطة، وذلك النقل الوفي والبسيط لها أن اتفق الجانبان بسرعة على أن يذهب وفد رسمي مغربي مؤلف من المستشار الملكي أحمد رضا غديرة ووزير الداخلية والإعلام ادريس البصري إلى الجزائر وأن يصدر بيان مشترك في العاصمتين يعلن عن تطبيع العلاقات الدبلوماسية بينهما. روى لنا السيد محمد الشريف مساعدية الذي كان حاضرا في لقاء قرية العقيد لطفي هذه الوقائع ليفهمنا بطريقة لبقة أن وجود ملف العلاقات الثنائية بين يدي الدكتور أحمد الطالب الابراهيمي تسبب في تأخير عملية التطبيع ربما لأن رئيس الدبلوماسية الجزائرية كان ميالا إلى إخضاع كل شيء للإشكالية الصحراوية. أما عندما نقل الملف من بين يديه إلى شخص آخر، فقد سارت الأمور بسرعة. الدائرة الثانية : بعد الدائرة الحكومية، هناك الدائرة العسكرية، وهي الأسرة الطبيعية للرجل. والشاذلي بن جديد عسكري قبل كل شيء، جاء به الجيش إلى السلطة، وظل ولا يزال مصدر قوته ومشروعيته التاريخية. هنا أيضا، ونحن نعالج أسلوب الرجل في التعامل مع الأشياء نجد نفس الظاهرة، ظاهرة تفويض الصلاحيات الكاملة للمسؤول وانتزاعها منه عند اقتضاء الضرورة. وفي الفترة السابقة لأحداث أكتوبر، شكل الرئيس الجزائري حوله مجموعة من الضباط كان من أبرزهم العميد مصطفى بلوصيف زميله السابق في الولاية الثانية وقد أسند إليه منصب الأمين العام لوزارة الدفاع الوطني ثم رئاسة الأركان، أي أهم وظيفة في الجيش، والعميد الأكحل عيات، وهو من مدينة وادي الزناتي التي ينتمي إليها أيضا الأستاذ عبد الحميد المهري الأمين العام لحزب جبهة التحرير الوطني، كان يتولى إدارة الأمن العسكري، والعميد عبد الله بلهوشات الذي كان قائدا للناحية العسكرية الأولى في البليدة والعميد مصطفى الشلوفي الذي كان مديرا عاما للدرك الوطني ثم مفتشا عاما للقوات المسلحة قبل أن يصبح أمينا عاما لوزارة الدفاع الوطني والعميد علي بوحجة قائد موقع العاصمة (قائد القوات البرية اليوم). مرة أخرى، خيل إلى المراقبين، قبل أحداث أكتوبر 1988 أن الشاذلي بن جديد بدأ يؤلف حول شخصه نواة عسكرية متماسكة، لكن هذه التشكيلة لم تصمد طويلا أمام محك التجربة. فقد أبعد العميد مصطفى بلوصيف من منصبه بعد أحداث قسنطينة في خريف 1986، وأبعد العميد الأكحل عيات من وظيفته في أعقاب خريف الغضب (أكتوبر 1988). وأحيل العميد عبد الله بلهوشات إلى التقاعد مع بداية عام 1989، لم يبق من هذه المجموعة العسكرية-النواة، والتي كان يعد أعضاؤها أصدقاء قريبين من الرئيس، سوى العقيد علي بوحجة القائد الجديد للقوات البرية. وآخر نجوم هذه الدائرة العسكرية الأولى هو العميد مصطفى الشلوفي الذي كان حتى منتصف شهر يوليوز 1990 أمينا عاما ثم دعي لمهمات أخرى، وفقا للتعبير الرسمي وذلك بعد تعيين الجنرال ماجور خالد نزار وزيرا للدفاع الوطني. الدائرة الثالثة : حزب جبهة التحرير الوطني : وخلال مرحلة ولايتيه، الأولى (1979-1984) والثانية (1984-1988)، كان الشاذلي بن جديد يتولى إلى جانب منصب رئيس الجمهورية، وظيفة الأمين العام لحزب جبهة التحرير الوطني. كانت للحزب قيادة مكونة من مكتب سياسي مؤلف من ثمانية أعضاء كاملي العضوية ومن خمسة أعضاء إضافيين، هنا أيضا نلاحظ أن الشاذلي بن جديد تتبع نفس الأسلوب الذي اتبعه في الدائرتين الأخريين، أي الدائرة الحكومية والدائرة العسكرية، أي أنه ترك المؤسسة الحزبية تقوم بالمهام والمسؤوليات الموكولة إليها. كان المكتب السياسي يجتمع مرة في الأسبوع تحت رئاسة الرئيس الشاذلي بن جديد لرسم الخطط والبرامج والتوجيهات. أما حياة الحزب العادية فقد كانت تجري تحت إشراف الأمانة الدائمة للجنة المركزية، دون تدخل كبير من الأمين العام. حقا إن الشاذلي بن جديد، كان من حين إلى آخر، ينتقد أو يقترح أو يلاحظ وربما عبر عن غضبه واستيائه من الطريقة التي تدار بها الأشياء. ومثلا حدث أن زار الرئيس، في إحدى المرات، المقر المركزي للحزب على حين غفلة من المسؤولين المركزيين ومن دون أي إشعار سابق. فعل ذلك بعد أن قدم له أحد مستشاريه في الشؤون الداخلية تقريرا مفصلا تضمن انتقادا عنيفا لحالة الحزب. دخل الشاذلي بن جديد مقر الحزب، فسارع أعضاء اللجنة المركزية الحاضرين باستقباله وأحضروا القهوة لتقديمها له، فضرب الطاولة برجليه وقلب فناجين القهوة على الحاضرين. وسوف تكون ذروة الغضب الرئاسي على قيادة حزب جبهة التحرير الوطني، هي ذلك الخطاب الذي ألقاه خليفة هواري بومدين أمام إطارات الدولة والأمة يوم 19 سبتمبر 1988، ووجه نقدا جارحا لكل المسؤولين في الإدارة وفي الحزب، وهو كلام اعتبر تمهيدا لخريف الغضب الجزائري. الدائرة الرابعة : المساعدون المباشرون وفي مقدمتهم العربي بلخير الأمين العام للرئاسة والعميد محمد بتشين مدير جهاز الأمن العسكري. وكان هذان الضابطان الساميان بحكم صداقتهما القوية مع الرئيس، وبفعل حساسية الموقعين اللذين يحتلانهما، كانا حتى نهاية شهر يوليو 1990، ركنين أساسيين من أركان السلطة الرئاسية. وكان العميد العربي بلخير الأمين العام لرئاسة الجمهورية يجمع تحت مسؤوليته الملفات الاستراتيجية المتصلة بالجيش وشؤون الدفاع، ويتولى بعض المهمات والاتصالات الدقيقة، خاصة مع المغرب وفرنسا، وهو يستمد نفوذه من كونه الموظف السامي الوحيد الذي لا يمكن أن يدخل أحد عند الرئيس من دون المرور عليه، كما أنه بالإضافة إلى ذلك على صلة دائمة معه سواء كان بالعاصمة أو خارجها، داخل البلد أو في رحلة رسمية خارجه. وقد اكتسب العميد بلخير، في الفترة السابقة للتعيينات والتغييرات الأخيرة أهمية استثنائية، بعد أن خلت الرئاسة من المستشارين الذين كانوا قد أصبحوا في غالبيتهم أعضاء في حكومة مولود حمروش. أما العميد محمد بتشين مدير الاستخبارات العسكرية فقد لعب هو الآخر دورا نشيطا في السياسة الرسمية الموازية، سيما في الاتصالات غير المعلنة مع بعض التنظيمات السياسية الجديدة، إلا أنه من المتوقع أن تسفر الترقيات والمناقلات والإعفاءات الجديدة سواء في وسط الجيش والأمن أو على مستوى جهاز الولاة، وكذلك تعيين مستشارين اثنين جديدين بالرئاسة هما الأستاذ مسعود آيت شعلال للشؤون السياسية الداخلية والسفير محمد سحنون للشؤون الدبلوماسية، عن تقليص حجم دور هذين الضابطين الكبيرين. الدائرة الخامسة : الأسرة أي الزوجة والأولاد والأصهار والإخوة. وأسرة الرئيس الشاذلي بن جديد، قد لا تلعب دورا أساسيا مباشرا في صنع القرارات الإستراتيجية. ومع ذلك فإن الإشاعات المهموسة في الصالونات المخملية، والتي كثيرا ما تصل أصداؤها وشذراتها إلى الشارع غالبا ما تعطيها حجما أكثر من حجمها الحقيقي بالتأكيد. الجزائر في مفترق الطرق مشاهدات ومسموعات 11 - (الحلقة الأولى) كيف عاد القدماء إلى الحزب كان الاعتقاد السائد، داخل الجزائر وخارجها في أوساط المراقبين السياسيين المتتبعين لتطورات هذا البلد، غداة خريف الغضب (أكتوبر 1988)، أن الرئيس الشاذلي بنجديد، سوف يكون آخر ضحية لتلك الهزة العنيفة. وقد ساهم خليفة هواري بومدين نفسه في خلق هذا الانطباع، وجاءت موجات الإشاعات والأزمات والرجات السياسية التي توالت على البلاد في الفترة الفاصلة بين أكتوبر 1988 وصيف هذا العام (1990) لتؤكد أن الرئيس الجزائري قد لا يكمل فترته الدستورية. ولعل أول مؤشر استند إليه المراقبون في إصدار مثل هذا الحكم السريع، هو ذلك الخطاب الذي ألقاه الرجل يوم العاشر من أكتوبر 1988، وأعلن فيه بصوت يخنقه الانفعال والتأثر مسؤوليته المباشرة عن أعمال القمع التي مارسها الجيش وأجهزة الأمن لإعادة الأوضاع إلى مجراها الطبيعي. اعتبر ذلك الخطاب بمثابة نقطة بداية العد التنازلي لنهاية عهد الشاذلي بنجديد، مع أنه كما ستوضح ذلك التحولات التالية، سيكون منطلقا لميلاد شاذلي بنجديد جديد تماما ، بل إنني لا أتردد في القول بأن الشاذلي بنجديد الجديد قد وُلد في تلك المناسبة، ولكنه لن يبلغ سن الرشد السياسي إلا مع بداية صيف 1990. وبمناسبة الانتخابات البلدية والولائية الأخيرة التي أسفرت عن صعود الجبهة الإسلامية للإنقاذ كقوة أولى في الساحة السياسية الجزائرية، وهنا نجد أنفسنا أمام مفارقة قوية من مفارقة السياسة الجزائرية، أن خريف الغضب الذي كان يفترض أن يؤدي إلى ذهاب الشاذلي بنجديد، هو الذي أتاح له أن يمارس سلطته الرئاسية بدون منازع والانتخابات البلدية والولائية التي أسفرت عن تحويل الحزب الحاكم إلى أقلية، هي التي ستمكنه من أن يلعب دوره كاملا، كحكم في اللعبة السياسية الجزائرية. طوال الفترة الفاصلة بين الحدثين. حدث الخريف الدامي وحدث الصيف الديمقراطي، أي تقريبا على امتداد السنتين الماضيتين، لم يمر أسبوع واحد من دون أن تنشر في الجزائر من أقصاها إلى أقصاها شائعة تقول بأن عهد الشاذلي بنجديد على وشك الانتهاء.كان الرجل مرشحا حتى صيف هذا العام، لأن يكون كبش فداء لما حصل في عهده. ولكنه كان يفاجئ خصومه الكثيرين وأصدقاءه القليلين، بالخروج من المأزق. هناك عدة محطات لابد من الوقوف عندها للتعرف على ملامح الشاذلي بنجديد الجديد. المحطة الأولى : تشكيل حكومة برئاسة العقيد قاصدي مرباح وإجراء استفتاء حول الدستور الذي يقر مبدأ التعددية السياسية. المحطة الثانية : عقد مؤتمر الحزب وانتخاب الشاذلي للمرة الثالثة والاستفتاء على الدستور. المحطة الثالثة : خروج الجيش من الحزب. المحطة الرابعة : إقالة الحكومة. المحطة الخامسة : المؤتمر الاستثنائي للحزب. المحطة السادسة : الانتخابات. المحطة السابعة : تعيين وزير للدفاع. الوقوف عند هذه المحطات يجعلنا نكتشف أننا أمام رجل جديد اقترن ميلاده السياسي بأحداث كان يفترض أن تعصف بنظامه وبشخصه. بعد مضي أسبوع واحد فقط على الخطاب الذي أعلن فيه بشجاعة مسؤوليته عن القمع، أذاع الشاذلي بنجديد، بواسطة أجهزة الإعلام (مساء يوم 17 أكتوبر 1988) السلسلة الأولى من الإصلاحات الدستورية التي كان قد وعد بها في كلمته السابقة. وبموجب تلك التغيرات تم تعديل أربعة عشر مادة من جملة مائة وتسع وتسعين يتضمنها دستور 1976. أذاع الرئيس هذه التعديلات مباشرة بواسطة التلفزة الجزائرية، من دون أن يكلف نفسه مشقة العودة إلى أعضاء المكتب السياسي للحزب الحاكم، وأرفق إعلانها بمبادرة أخرى تقتضي أن تعرض على استفتاء شعبي يجري في الثالث من شهر نونبر 1988، ويتحدد فيه بالخصوص دور الوزير الأول. وبموجب هذا التعديل صار رئيس الحكومة مسؤولا مباشرة أمام المجلس الوطني وليس أمام رئيس الدولة، وأصبح لزاما عليه أن يقدم برنامجه إلى ممثلي الأمة ويطلب منهم منحه الثقة، وإذا رفضت الجمعية الوطنية أن تعطي ثقتها لحكومتين متتاليتين، يكون من حق الرئيس أن يقوم بحلها ويكون من صلاحيته أن يدعو الشعب إلى انتخاب مجلس جديد. ذلك هو الجانب الذي انتهت له ونوهت به أجهزة الإعلام في الداخل والخارج، على أن هناك نقطتين مهمتين لم تسترعيا انتباه المراقبين في تلك الفترة. النقطة الأولى هي أن الشاذلي بنجديد قام في هذه المناسبة بانقلاب دستوري حقيقي من دون أن يستشير زملاءه داخل المكتب السياسي، الذي يفترض أنه كان ما يزال يسير شؤون البلاد. والنقطة الثانية هي إلغاء بندين من الدستور ينص أحدهما على أن رئيس الجمهورية يجسد وحدة القيادة السياسية للحزب والدولة وينص الثاني على أنه يرأس الاجتماعات المشتركة لهيئات الحزب والدولة (المادة 111 من دستور 1976، البندان الثاني والتاسع). الشاذلي بنجديد الجديد، بدأ خطواته الأولى التي ستقوده إلى وضعه الحالي، بدأها مباشرة بعد مضي أسبوع واحد فقط على مظاهرات أكتوبر. لقد تضمن ذلك التعديل الدستوري المعلن في التلفزة بذور المعارك والتحولات اللاحقة التي وصلت إلى ذروتها في الانتخابات البلدية والولائية الأخيرة. بل إنه كان بمثابة ميلاد سياسي جديد للشاذلي بنجديد الجديد. لقد استطاع الرجل بواسطة ذلك الانقلاب الدستوري أن يفك ارتباطه مع الحزب الحاكم، وأن يضع الأسس الأولى للتعددية السياسية. ورافق هذا التعديل أو بالأحرى هذا الانقلاب الدستوري الصامت تعيين حكومة جديدة برئاسة العقيد قاصدي مرباح المدير السابق للأمن العسكري. المحطة الثانية : تعيين قيادة للحزب على رأسها الأستاذ عبد الحميد المهري وانتخاب الشاذلي بنجديد للمرة الثالثة رئيسا للجمهورية. وعقد مؤتمر عام للحزب، كل هذه الأحداث تلاحقت بسرعة متناهية وأعطت الانطباع بأن الرئيس لم يعد يسيطر على الأوضاع، رغم أنه انتخب بأغلبية ساحقة ورغم أن الدستور المعدل الذي قدمه للاستفتاء حظي بموافقة أكثرية واسعة. المحطة الثالثة : خروج الجيش رسميا من قيادة جبهة التحرير الوطني. ولعل هذا الخروج سيكون أهم حدث شهدته البلاد بعد انفجار خريف الغضب. إنه ثورة حقيقية داخل الثورة، وقد جاء مباشر بعد المصادقة على الدستور الجديد. جرى الاستفتاء يوم 23 فبراير 1989، وبعد ذلك التاريخ بأسبوع واحد اجتمعت الكوادر العليا للجيش الوطني الشعبي بوزارة الدفاع الوطني، وقررت خروج جميع الضباط من اللجنة المركزية للحزب الحاكم. وفي اليوم التالي لذلك الاجتماع أعلن أن الرئيس الشاذلي بنجديد استقبل وفدا عسكريا، نشر بعد لقائه بيانا يعلن فيه ضرورة وقوف الجيش خارج الجدل السياسي، تجنبا للدخول في صراع الاتجاهات الحزبية. جريدة المجاهد الرسمية علقت على هذه المبادرة بقولها (في عدد 5 مارس 1989)، إن الجيش الوطني الشعبي بتصرفه هذا إنما يستجيب لإرادة الشعب ومطامحه، وهذا القرار الإجماعي الذي اتخذه يعطي دلالة قاطعة على مساندته للمسيرة الديمقراطية ومشاركته فيها. ولهذا الخروج الصاخب أسبابه الظرفية وعواقبه السياسية. لقد نص الدستور الجديد في مادته الرابعة والعشرين على أن رسالة الجيش هي الدفاع عن حوزة البلاد وسيادتها ووحدتها الترابية، على خلاف الدستور السابق الذي كان يعطي للقوات المسلحة دور المشاركة في تنمية البلاد وبناء الاشتراكية والدفاع عن الثورة، ثم إن مشاركة الجيش في قمع انتفاضة أكتوبر، جعلت قادته يخشون من تشوه صورته لمدة طويلة ويشعرون بضرورة الابتعاد عن الإدارة السياسية للأزمة. كما أن تطبيع العلاقات الثنائية مع المغرب وابتعاد شبح المواجهة وانفتاح آفاق جديدة باتجاه تسوية سياسية ودبلوماسية للنزاع القائم بشأن الصحراء المغربية، كانت من العوامل المساعدة على فك ارتباط الجيش رسميا مع الحزب الحاكم. غير أن هذه العناصر الظرفية التي عجلت انتفاضة أكتوبر بإنضاجها لم تكن سوى مبررات للدفع بإستراتيجية الشاذلي بنجديد إلى نهاياتها القصوى والحتمية. لقد استولى الجيش على السلطة في التاسع عشر من يونيو 1965، وكان في عهد هواري بومدين (1965-1978)، أي طيلة ثلاثة عشر عاما العمود الفقري للدولة والحزب. والجيش هو الذي اختار الشاذلي بنجديد لخلافة بومدين. وكان من المفروض وفقا لتقديرات وحسابات العناصر النافذة فيه، أن يظل كذلك إلى أبد الآبدين. كانت للجيش في سنة 1965، قيادة ممثلها هواري بومدين. بادرت بقلب الرئيس أحمد بن بلة وأخذت السلطة واحتفظت بها. ومع غياب بومدين وجد الجيش نفسه أمام الفراغ فاختار واحدا من بين ضباطه هو الشاذلي بنجديد. حاول بنجديد في مطلع ولايته الثانية (1984) أن يُدخل تغييرات جديدة على هياكل المؤسسة العسكرية فأنشأ القيادة العامة أو هيئة الأركان المركزية التي كانت ألغيت في خريف 1967، بعد المحاولة الانقلابية للعقيد الطاهر الزبيري، وأنشأ رتبة ماجور جنرال وبدأ يحد من سلطات قادة المناطق العسكرية، بتكوين قيادات مستقلة مرتبطة مباشرة بوزارة الدفاع، كل هذه الإصلاحات، كلف الشاذلي بنجديد صديقه العميد مصطفى بلوصيف أمين عام وزارة الدفاع الوطني بالإشراف عليها وتنفيذها. غير أن انتقادات عديدة سوف توجه لهذا الأخير تنتهي بإبعاده من منصبه في شهر نونبر 1986، بعد الإصطدامات التي حصلت بين الطلاب وقوات الأمن بمدينة قسنطينة. سوف تتوقف محاولة إصلاح هياكل الجيش في فجر الولاية الثانية لتنطلق من جديد مع بداية الولاية الثالثة، وستكون أحداث أكتوبر وعواقبها السياسية مناسبة لإبعاد ضباط كثيرين من مواقع القرار السياسي والعسكري، هكذا نجد أن العميد مجدوب الأكحل عيات مدير المخابرات الخارجية أثناء خريف الغضب هو أول ضحية من ضحايا التطهير الجديد. لقد أحيل على التقاعد، فيما عين كل من العميد حسن العربي المدير السابق للمفوضية السياسية للجيش والعميد زين العابدين عشيسي سفيرين. أما العميد كمال عبد الرحيم القائد السابق لسلاح البحرية، القائد السابق أيضا لمنطقة وهران، ومساعد رئيس هيئة الأركان العامة، فقد أعلن رسميا أنه أحيل على التقاعد بطلب منه، ذلك ما قالته الصحف والوكالات. أما العميد كمال عبد الرحيم، فقد أكد لنا شخصيا، أثناء لقاء تم معه في شهر يونيو بالجزائر العاصمة، أنه فضل تقديم استقالته من الجيش. ولا بد أيضا من الإشارة إلى ضباط كبار آخرين من أمثال العميد الهاشمي هجرس المدير السابق لأكاديمية شرشال العسكرية المدير السابق للمفوضية السياسية والمفتش العام للجيش، والعميد محمد علاق قائد موقع العاصمة سابقا، والعميد عبد المالك قنائزية قائد الطيران، والعميد عباس غزيل، قائد الدرك الوطني، الذين فقدوا مناصبهم في عملية إعادة التنظيم الواسعة الأولى التي باشرها بنجديد في شهر دجنبر 1988. في ذلك الطور الأول من إستراتيجية الشاذلي بنجديد للسيطرة على الجيش، بقيت القيادة ممركزة في الرئاسة حول ستة عمداء يأتي في مقدمتهم العربي بلخير مدير ديوان الرئيس وأقدم مساعد له بقي في منصبه مدة طويلة. وللمناسبة، راجت في الآونة الأخيرة (نهاية شهر يوليوز وبداية شهر غشت) شائعات قوية، تشير إلى أن العميد العربي بلخير، قد يعين سفيرا بباريس أو الرباط أو في عاصمة عربية أو غربية مهمة أخرى وكان العميد العربي بلخير بحكم موقعه، رجلا مهما في الجهاز الرئاسي خلال السنتين الماضيتين. ثم هناك العميد خالد نزار (الذي عين مؤخرا وزيرا للدفاع الوطني)، وقد أسندت إليه رئاسة هيئة الأركان العامة، في الفترة التالية لأحداث أكتوبر، وهو الذي شكل مع بنجديد والعميد عبد الله بلهوشات قيادة الطوارئ أيام منع التجول. إن هذا الضابط الذي يبلغ عمره اثنين وخمسين سنة، والمنتمي إلى مدينة مراونة في منطقة جبال الأوراس، والذي أكمل دراساته العسكرية بالاتحاد السوفياتي وفرنسا، يعتبر من أكفأ الضباط السامين الجزائريين. وهناك أيضا العميد محمد بتشين المسؤول الجديد للمخابرات، والعميد حسين بالمعلم مستشار شؤون الأمن والعميد محمد عطايلية المفتش العام للجيش والقائد السابق للناحية العسكرية الأولى، وأخيرا عبد الله بلهوشات الذي تقلب بعدة مناصب وعينه بنجديد في وظيفة مستشاره لشؤون الدفاع. والواقع أو الوظائف التي أسندها بنجديد، بعد تلك المناقلات والإحالات على المعاش والتعيينات الدبلوماسية، إلى هؤلاء الضباط كانت رمزية، باستثناء منصب مدير ديوان الرئاسة ورئيس الأركان ومدير المخابرات، وقد دفعت هذه الوضعية ضابطا كبيرا مثل العميد عبد الله بلهوشات إلى تقديم استقالته بعد بضعة أشهر من تعيينه. هناك ضباط آخرون، حاولوا حتى من خلال منصبهم الإداري أن يؤثروا في الأحداث. تلك مثلا، كانت وضعية العميد مصطفى الشلوفي الأمين العام لوزارة الدفاع الوطني الذي أدلى بعدة تصريحات صحفية يهدد فيها بتدخل القوات المسلحة لحماية المسار الديمقراطي، وذلك أيضا كان موقف العميد محمد عطايلية المفتش العام للجيش والذي منع «الملتحين» من العمل بالمستشفى العسكري لعين النعجة، وأثار أزمة بين السلطة والجبهة الإسلامية للإنقاذ رفعت درجة حرارة التوتر السياسي قبل أيام الانتخابات الأخيرة. ولا تعني تلك المبادرة التي اتخذها الضباط في الأسبوع الأول من شهر مارس 1989، وأعلنوا فيها انسحابهم الجماعي من اللجنة المركزية لجبهة التحرير الوطني، فك ارتباط الجيش بالضرورة مع السياسة. إن البيان الذي تلاه العقيد يحيى رحال مدير المفوضية السياسية، في تلك المناسبة يعبر عن موقف في منتهى الوضوح : لقد انسحب الجيش من جبهة التحرير الوطني حتى لا يدخل في صراع الاتجاهات الذي أصبح أمرا مشروعا بعد دستور 23 فبراير 1989. ومعنى هذا بالعربي السياسي الفصيح أن الجيش أصبح يعتبر نفسه ملاذا وحكما في اللعبة الحالية وأن الرقابة التي كان يمارسها من داخل الحزب على الدولة ومن داخل الدولة على الحزب، تحولت إلى مراقبة غير مباشرة، تسمح له باختيار الأسلوب واللحظة المناسبين لإسماع صوته المتميز. والتغييرات الأخيرة، تؤكد هذا التوجه، وسوف نبين ذلك في فقرات أخرى من هذا التحقيق. المحطة الرابعة : إقالة حكومة العقيد قاصدي مرباح : لعل الطريقة التي تمت بها إقالة حكومة قاصدي بعد عشرة أشهر فقط على تعيينها، تعطينا فكرة عن الشاذلي بنجديد الجديد وعن التحول الطارئ على شخصه بعد خريف الغضب الدامي. لقد عينت تلك الحكومة بعد وقوع تلك الانتفاضة مباشرة بناء على ضغوط قوية من الجيش والحزب، وظهرت منذ البداية وكأنها سلطة حقيقية موازية لسلطة رئاسة الجمهورية. وعرفت الجزائر في صيف 1989، أي في عهد حكومة قاصدي مرباح، ارتفاعا صاروخيا للأسعار مع اختفاء عدة مواد من السوق مثل مسحوق الحليب والزبدة وحتى الخبز ثم السجائر. ووصل التوتر إلى ذروته، إلى درجة اقتنع الناس معها بأن حلول الذكرى الأولى لخريف الغضب سوف تشهد انفجارا شاملا يعيد البلد إلى تلك الأيام السوداء المشؤومة من شهر أكتوبر 1988. وفي إحدى المقالات السياسية ذات النكهة الفكاهية السوداء نشرت مجلة ألجيري-أكتياليتي المقربة من الرئاسة مقالا أشارت فيه إلى أن الحل الوحيد هو إلغاء أشهر الصيف من الرزنامة لتسوية مشاكل الجزائريين. والواقع أن الحملة ضد حكومة قاصدي مرباح بدأت في فصل الربيع وانطلقت من داخل النظام نفسه، وجاءت لتؤكد وجود صراعات حادة في مستوى الدوائر المحيطة بالرئيس. وكان ظهور تلك الخلافات على أعمدة الصحف علامة أخرى من علامات الديمقراطية والشفافية في الجزائر. وفي الحديث الذي أدلى به إلى مجلة ألجيري أكتياليتي الأسبوعية ونشرته في عددها المؤرخ ب19-25 يوليوز 1990، تناول العقيد قاصدي مرباح بالتفصيل الحملة الإعلامية التي قادتها ضده تلك المجلة في عهد مديرها السابق، كمال بلقاسم، والأصداء التي أثارتها، شارحا خلفيات النزاع الذي أسفر عن إقالة حكومته بقوله : «كتب السيد كمال بلقاسم [مدير مجلة ألجيري أكتياليتي السابق]، مقاله الأول في شهر أبريل، أي بعد مضي خمسة أشهر فقط على تشكيل الحكومة منتقدا إياها لكونها لم تتمكن من تسوية الأزمة الاقتصادية مدعيا أن حكومات أخرى، في عدة بلدان، استطاعت أن تحل أزمات أكثر خطورة في فترة زمنية أقصر. كان ذلك هو المقال الأول وقد أشار فيه إلى الإضرابات الاجتماعية الأردنية ملاحظا أنها أسفرت عن استقالة الوزير الأول. كان الهجوم إذن في منتهى الوضوح وقد نشر المقال بالرغم من افتقاره إلى الدقة، والسؤال المطروح هو الآتي : لماذا لم يكتب مقال مماثل عن الحكومة التي جاءت بعدي في ظرف خمسة أشهر من تجربتها؟ لم يحصل ذلك بالرغم من اعتقاد الجميع، واعتراف الصحف ومجلس الحكومة المنعقد في 24 أبريل 1990، بأن الوضع ازداد تدهورا وتفاقما. وأنا لا أتحدث عن الخطإ الفادح الذي يعتقد أصحابه بإمكان تجاوز الوضع الذي نعيشه في بضعة أشهر، وهو موقف يكشف عن عجز فاضح في ممارسة العمل الحكومي والسياسي. لقد تدخل وزير الإعلام وطلب من المحرر أن يتجنب في المستقبل كتابة مثل هذه المقالات. ومن السهل أن نتصور أن الكاتب ما كان ليغامر بالخوض في مثل هذه القضايا لو لم تكن لديه ضمانات قوية. «ثم بعد مضي أسبوعين إستأنف الرجل هجومه وكتب مقالا أشد عنفا من المقال الأول، وأنتم تعرفون الدعاية الواسعة التي استقبل بها ذلك المقال، خاصة في التلفزة وهو أمر لم يحدث قبل ذلك الوقت ولا بعده. والسبب في ذلك يعود إلى وجود صلات قوية بين مدير التلفزة، ومدير أسبوعية ألجيري والرئيس السابق لرابطة حقوق الإنسان الأستاذ ميلود الإبراهيمي، الذي يرتبط بوشائج القرابة العائلية مع مدير التلفزة. أما همزة الوصل بين هؤلاء فهي السيد محمد مقدم مسؤول قسم الإعلام والصحافة بالرئاسة. ولم يكن وزير الإعلام حاضرا بالعاصمة في ذلك اليوم، لذلك قام الأمين العام للوزارة بالتنسيق مع وزير الداخلية بتوجيه طلب إلى محرر المجلة يرجوان منه فيه أن يعيد صياغة النص مادام سينشره كافتتاحية، ومادامت الافتتاحية ملكا للدولة ومن حقها أن ترسم خطوطها وحدودها وقد طلب من السيد كمال بلقاسم أن ينشر مقاله في باب «الرأي الحر»، لكنه رفض هذا الاقتراح وصدرت المجلة بالافتتاحية المذكورة فحجزتها الوزارة». «وهناك أشخاص آخرون متورطون في هذه المناورة، بل هناك شخصيات كانت لها أطماع سياسية قبل أحداث أكتوبر، وجاءت هذه الأحداث تعاكس طموحاتها. وكانت هذه المجموعة تريد انتهاز مناسبة انعقاد المؤتمر السادس لجبهة التحرير الوطني للانتشار بعدة مواقع مهمة. وبعد تعيين حكومتي، عاشت هذه المجموعة فترة من الوقت مزعزعة، مضعضعة في حالة من الضياع لا تسمح لها بالقيام بأي رد فعل، ثم اعتقدت لاحقا أن اللحظة مواتية للانطلاق بمشروعها الرامي إلى خلخلة الحكومة وتغييرها من أجل العودة إلى الوراء، كما لو كانت أحداث الخامس من أكتوبر لم تحصل أصلا». وردا على سؤال وجهه إليه الصحفي حول الأشخاص الذين تتألف منهم هذه المجموعة، قال العقيد قاصدي مرباح : «من بين أفراد هذه المجموعة، السيد محمد مقدم مسؤول الإعلام والصحافة السابق في الرئاسة وكمال بلقاسم المدير السابق لأسبوعية ألجيري أكتياليتي، ثم عبد القادر الإبراهيمي المدير السابق للتلفزة، وقريبه الأستاذ ميلود الإبراهيمي الرئيس السابق لرابطة حقوق الإنسان، وعلى رأسهم شخصية لا أريد أن أذكرها بالإسم، رغم أنها أهم منهم جميعا. هؤلاء الأشخاص، هم الذين كانوا يقفون وراء العملية، وكانوا يأملون إثارة نزاع بين الرئيس ورئيس الحكومة لفرض إقالة هذا الأخير وتقديم مرشح فريقهم للوزارة الأولى. وقد لاحظنا أن بعض الصحفيين اتهموا عددا من هؤلاء الأشخاص بأنهم من حزب فرنسا. ولعل مغادرة محمد مقدم لإدارة الصحافة والإعلام في الرئاسة بعد ذهابي من الحكومة تؤشر إلى إدراك الدور السيئ الذي كان يقوم به وإلى تلاعبه بالصحافة لأسباب شخصية بدلا من القيام بدوره في خدمة الدولة. ثم إن الضجة التي أحاطت بمقال السيد كمال بلقاسم في مجلة ألجيري أكتياليتي والدعاية التي خصصت له من قبل التلفزة ثم من طرف رابطة حقوق الإنسان، ينبغي أن تقارن مع الصمت المطلق الذي صاحب اعتقال السيد راشدين مدير جريدة الجمهورية، وصحفيتَيْن عاملتين معه، وتقديمهم إلى المحاكمة. لم تتحدث التلفزة، بل لم تقل كلمة واحدة بشأن هذه القضية، مع أنها أكثر خطورة من الأخرى، ولم يصدر أي احتجاج في هذه المناسبة من رابطة الأستاذ ميلود الإبراهيمي للدفاع عن حقوق الإنسان». محاكمة السيد راشدين، مدير جريدة الجمهورية الصادرة بوهران، تمت في نفس الفترة، بعد نشر تحقيق صحفي يتصل بعائلة الرئيس الشاذلي بنجديد. وقد أُبعد مدير الجريدة من منصبه، وقدم إلى المحاكمة مع الصحفيتين اللتين كتبتا التحقيق. مجلة ألجيري-أكتياليتي (أحداث-الجزائر أو الجزائر-الأحداث Algérie-actualité) التي كانت في صلب هذا الصراع، عرفت في تلك الفترة بأنها مقربة من رئاسة الجمهورية، وتعبر عن خط الرئيس الشاذلي بنجديد، والشخصية السامية التي ألمح إليها العقيد قاصدي مرباح في حديثه واعتذر عن ذكرها بالاسم، لعلها أن تكون العميد العربي بلخير الأمين العام للرئاسة. وإجمالا، فإن هذه الوقائع توحي بأن الشاذلي بنجديد، قد يكون جاء بالعقيد قاصدي مرباح لاستهلاكه، وتمضية فترة من الوقت تسمح له بإبعاد الجيل القديم، للمجيء بفريق الإصلاحات المؤلف في غالبيته من الشبان التكنوقراطيين، وعلى رأسهم مولود حمروش. والسؤال هو : هل كان «استهلاك» العقيد قاصدي مرباح واردا منذ البداية، أم أنه برز كفكرة تالية لتعيينه في الوزارة الأولى؟ وبتعبير أقرب إلى الدقة : هل إن الشاذلي بنجديد، اختار العقيد قاصدي مرباح لحرقه والتخلص منه بسرعة، أم أنه بادر بإبعاده بعد أن اكتشف احتمال ظهوره كمحور منافس له على السلطة؟ في صيف ذلك العام ذهب الشاذلي بنجديد إلى بلغراد للمشاركة في مؤتمر عدم الانحياز بينما اختار وزيره الأول قاصدي مرباح، قضاء بضعة أسابيع للاستراحة في سويسرا. ولدى عودته من رحلته اليوغوسلافية، استقبل بنجديد وزيره الأول ودار بينهما حوار قصير وعاصف، نقلت لنا شخصية جزائرية مطلعة فحواه : لماذا ذهب عمال وموظفو الشركة الوطنية للتبغ والكبريت في إجازة؟ وكان جواب الوزير الأول على هذا السؤال الرئاسي : من أجل توفير الأجواء لإصلاح التجهيزات، خاصة وأن انطلاق الإنتاج لم يحصل في الوقت المحدد بسبب تأخر وصول التجهيزات. بتلك الجملة القصيرة كشف الوزير الأول عن واحدة من نقط الاختناق التي يعاني منها الاقتصاد الجزائري، وبذلك السؤال البسيط فجر الرئيس الشاذلي بنجديد الأزمة الوزارية الأولى في عهد الدستور الجديد، كانت الحالة الاجتماعية قد وصلت إلى درجة لا تطاق من التوتر، وكان الجزائريون المحرومون من أسباب الترفيه والراحة في الصيف بسبب غلاء المعيشة، وبسبب اكتظاظ الأماكن السياحية، وقلة التجهيزات، قد أصبحوا مُكرهين على اقتناء علبة السجائر المحلية، إن وجدت في السوق السوداء الموازية بثمن مائة دينار. وفي عز صيف الحرمان والحر والندرة، أمضى رئيس الحكومة وعدد من مساعديه ثلاثة أسابيع على ضفاف بحيرة ليمان، الأمر الذي اعتبره الرأي العام، إن لم نقل الرئيس الشاذلي بنجديد نفسه «تهاونا» خطيرا في تحمل المسؤولية. وفي تلك المقابلة العاصفة أخبر الشاذلي بنجديد وزيره الأول بأنه قرر الاستغناء عن خدماته. لكن قاصدي مرباح لم يأخذ المسألة مأخذ الجد، كما استنتجنا ذلك من حديثنا معه، بشأن هذه النقطة، ولعله تصور أن الرئيس غاضب عليه وما قاله له هفوة، وأن كلماته قد تكون تجاوزت فكره. وكان الانطباع الذي خرج به الوزير الأول من ذلك اللقاء، يدعوه إلى الميل للتفاؤل : «ربما فكر الرئيس في تعييني على رأس حكومة جديدة تقوم بترطيب الأجواء». - لكن قاصدي مرباح فوجئ بأن الشاذلي بنجديد لا يفكر في إسناد منصب الوزارة الأولى إليه، وإنما يريد أن يكلف بها مولود حمروش الأمين العام لرئاسة الجمهورية. وقد حاول الوزير الأول المبعد أن يستبق الأحداث فهتف إلى صحفي صديق يعرفه بدار الإذاعة والتلفزة وطلب منه أن يبعث إليه سيارة مجهزة للبث المباشر. وعلى الرغم من أن دار الإذاعة تقع على بعض خطوات من الوزارة الأولى، فقد انتظر قاصدي مرباح فترة وجدها طويلة، وفوجئ بمجيء صحفي عادي يحمل معه آلة تسجيل بسيطة. حصل ذلك لأن مدير التلفزة والإذاعة، كما ذكر لنا ذلك الزميل مهمة الوزير الأول. هكذا شهدت الجزائر لأول مرة في تاريخها أزمة مفتوحة بين الرئيس الشاذلي بنجديد وبين رئيس الحكومة. وقال هذا الأخير، في الخطاب الذي سجله إن الشاذلي بنجديد لم يبادر باختياره وإنما دفع إلى ذلك تحت ضغط الشعب. «حينما دعاني الشاذلي بنجديد بعد أحداث أكتوبر إلى رئاسة الحكومة تقبلت شروطه وأنا على علم كامل بأن مهمتي سوف تكون صعبة للغاية، كانت صناديق الدولة فارغة، وكان يتحتم علي أن أحصل على مبلغ ثمانمائة مليون دينار في ظرف شهر واحد... والذين قادوا البلاد إلى الخراب مازالوا في مواقعهم ولكنني أستطيع أن أقول إنه سيأتي يوم يدفعون فيه ثمن تصرفاتهم». في ذلك الخطاب انتقد الوزير الأول القرار الرئاسي وطعن في صبغته الدستورية، مشيرا إلى الطابع الغامض للمادة الرابعة والسبعين من الدستور، واستنجد بالبرلمان مؤكدا أن ملتمس رقابة أو حجب ثقة صادرة عنه هو وحده الذي يستطيع أن ينهي مهمة رئيس الحكومة». وحين قرر قاصدي مرباح مخاطبة الشعب ووصفه بأنه يعرف الذين يعملون بصدق لمصلحة الجميع، واللجوء إلى النواب والرأي العام لإنصافه من قرار يعتبره مجحفا، فإنه لم يكن يتصرف كرئيس للحكومة وإنما طرح نفسه بديلا للشاذلي بنجديد. إن هذا الرجل البالغ من العمر خمسين عاما، والذي جسد في عهد هواري بومدين سلطة الأمن العسكري الرهيب، تمكن خلال ممارسته لمسؤولياته الحكومية في الوزارات التقنية مثل الصناعة الثقيلة والصيد البحري والصحة والزراعة، من أن يعطي لنفسه صورة الرجل الكفء، العملي الفعال والدقيق في مواعيده. وكان قاصدي مرباح بحكم أقدميته في الجهاز الحكومي وبطبيعة المهمات التي أنيطت به يعرف دواليب الدولة معرفة جيدة، ولعله اعتقد لهذه الأسباب كلها وربما أيضا تحت تأثير كلام بعض أفراد حاشيته أن الدستور نفسه، مضافا إليه وجود برلمان تكون أغلبية أعضائه معارضة قوية للرئيس كل ذلك يسمح له بأن يطمح إلى خلافة الشاذلي بنجديد. وبديهي أن هذا الطموح المفترض، أو الحقيقي، لم يكن يتطابق تماما مع الصورة التي كان الشاذلي بنجديد الجديد، يريدها من وزيره الأول في تلك الفترة. وهذا ما فسره لنا أحد أعضاء اللجنة المركزية بقوله : «كان هناك سوء تفاهم منذ البداية. الشاذلي عين قاصدي مرباح بالوزارة الأولى لمرحلة انتقالية من أجل إنجاز ثلاث مهمات : الأولى الاستمرار في تطبيق الإصلاحات الهيكلية السياسية والاقتصادية والاجتماعية، والثانية معالجة الأزمة الظرفية بسرعة وفعالية والثالثة كسب ثقة الحرس القديم في الجيش والحزب. وجاء سوء التفاهم من كون الوزير الأول شرع منذ الأيام الأولى يتصرف وكأنه السلطة الوحيدة الحقيقية وربما شجعه على ذلك كون الرئيس، قَبِل التنازل منذ اليوم الأول الذي تشكلت فيه الحكومة عن وزارات إستراتيجية مثل الداخلية والخارجية والإعلام والتجارة. لم تكن حكومة قاصدي مرباح تتوفر على من يمكن أن نسميهم «رجال الرئيس»، وإنما كانت منسجمة كل الانسجام ومنبثقة في غالبيتها من أعضاء سابقين في أجهزة الأمن العسكري والاستخبارات. لكن سرعان ما تألفت «حكومة ظل» موازية لها في رئاسة الجمهورية، تحت إشراف مولود حمروش الأمين العام للرئاسة. وقد نشبت الصراعات منذ الأيام الأولى حول تعيين الولاة، والمدراء العامين وبعض السفراء وأيضا حول إعداد مؤتمر الحزب، وأصبح التوتر القائم بين الرئاسة والوزارة الأولى شيئا معروفا وملموسا لدى الدوائر المطلعة في الحزب والدولة». «ورافق هذا النزاع الغامض الذي كان يدور داخل الغرف الرسمية المغلقة ظهور عدة فضائح عقارية وتجارية لا علاقة لها بما يجري في القمة ولكن الرأي العام الشعبي كان يفسرها بأنها نتيجة لسياسة الدولة والحزب. لقد تظاهر المواطنون بمدينة سوق أهراس (قرب الحدود التونسية) واصطدموا مع قوات الأمن احتجاجا على الأسلوب الذي اتبعته الولاية والبلدية في توزيع المساكن. وكشفت الصحف النقاب عن فضائح كثيرة من جملتها فضيحة السكر المعروفة. وفي يوم من الأيام، تدخل الشاذلي بنجديد شخصيا خلال أحد الاجتماعات الحكومية ووجه إنذاراً قويا ضد الذين يتماطلون في تطبيق الاصلاحات. وكان الوزير الأول طوال هذه الفترة، يقوم بمراجعة الوضع السائد في كافة القطاعات ويقدم الأرقام والإحصائيات للرد على منتقديه. وفي أحد التحقيقات الصحفية التي بثتها التلفزة عن حركة «التراباندو» اختتم الصحفي تعليقة بجملة صار يضرب بها المثل : «الأرقام والإحصائيات لا تؤكل». وعندما بادر مجلس النواب بإدخال تعديلات على القانون الانتخابي وقانون الإعلام، رد الشاذلي بنجديد علنا بأنه عازم على متابعة الإصلاحات وقال إنه سوف يقدم القوانين إلى المجلس الدستوري ويؤجل الانتخابات البلدية لتتمكن كافة الأحزاب الجديدة من المشاركة فيها». وأضاف عضو اللجنة المركزية لجبهة التحرير الوطني، يقول في حديثه إلينا عن تلك الأزمة التي نشبت بين الرئيس ووزيره الأول : «تلك المقابلة العاصفة التي أبلغ فيها الرئيس الشاذلي بنجديد إلى السيد قاصدي مرباح استغناءه عنه كوزير أول، وحركة التمرد التي واجه بها هذا الأخير القرار الرئاسي، هي الأحداث المعروفة، ولكنها ليست سوى الجانب الظاهر من الأزمة». هل أراد قاصدي مرباح فعلا أن يرفض الخروج من الوزارة الأولى؟ يجيب الرجل نفسه على هذا السؤال بقوله : «أنا لم أرفض الذهاب، وإنما أثرت إشكالية سياسة تطرحها المادة الرابعة والسبعون من الدستور والتي كنت أعتقد ومازلت أعتقد بضرورة تدقيقها وتوضيحها. تشير هذه المادة إلى أن الرئيس يعين رئيس الحكومة ويضع حدا لمهماته، وهناك مواد أخرى تتحدث عن مثول الوزير الأول أمام مجلس النواب وتتحدث عن تشكيل الفريق الحكومي وتعيينه، كل هذه الأمور واضحة. أما فيما يتعلق بذهاب رئيس الحكومة فهناك المادة الرابعة والسبعون ولاشيء سواها. وفي فرنسا مثلا يوجد نفس الترتيب، وفي عهد الجنرال ديغول كلف الوزير الأول جورج بومبيدو بتنظيم انتخابات انبثقت عنها أغلبية موالية له. وكان من الممكن لو أن ديغول أصر على استقالة وزيره الأول أن يطالب هذا الأخير بحقه في المثول أمام مجلس النواب، وكان مجلس النواب كما قلنا مواليا لبومبيدو، الأمر الذي لابد أن يخلق مشكلة لديغول. وتلافيا لمثل هذه المشاكل طلب ديغول من وزيره الأول رسالة موقعة وغير مؤرخة تتضمن استقالته. أما أنا فقد اكتفيت بالمطالبة بتوضيح هذه النقطة في الدستور وأظن أنه وقع تفسير خاطئ لكلمة قلتها في هذه المناسبة. فقد سألني أحد الصحفيين حول ما أريد أن أفعله في المستقبل فكان جوابي له : «هنا يموت قاسي»، وكنت أقصد من هذا الجواب أنني سوف أبقى في بلدي وليس في نيتي أن أغادره، وأريد أن أعود إلى المادة الرابعة والسبعين لأضيف أن السيد بوعلام بن حمودة (وزير المالية السابق وعضو اللجنة المركزية لجبهة التحرير الوطني) اعتبر موقفي على صواب. كما أن الرئيس الشاذلي بنجديد في الندوة الصحفية التي عقدها بعد مضي ستة أشهر على هذا الحدث وافق ضمنا على موقفي حين ذكر أن الحكومة الحالية ّإذا كان عليها أن تترك المسؤولية فلابد أن تمر أمام البرلمان. ومن الطبيعي أن تبرز مثل هذه المشاكل مادمنا نعيش في ظل دستور جديد لم نتعود عليه تعودا كافيا - المصدر : (مجلة ألجيري-أكتياليتي عدد 19-25 يوليوز 1990). الجزائر في مفترق الطرق - مشاهدات ومسموعات 11 - (الحلقة الثانية والأخيرة) كيف عاد القدماء إلى الحزب هناك لحظات سياسية درامية عرفتها الجزائر خلال الشهور الأخيرة من العام الماضي وأثناء النصف الأول من هذا العام، خيل للمراقبين السياسيين وهم يتابعون مقدماتها ونتائجها أنها ستشكل بداية النهاية للرئيس الشاذلي بنجديد. وقد تعرضنا في المقال الأول من هذا القسم المخصص لرسم شخصية خليفة هواري بومدين، ثم في الحلقة الأولى الماضية من هذا المقال الثاني إلى المحطات الكبرى في مسيرة الرجل. اللحظة الدرامية الأولى التي جاءت بعد إقامة حكومة قاصدي مرباح كانت المؤتمر الإستثنائي لحزب جبهة التحرير الوطني، وقد تميز ذلك المؤتمر بعودة الرموز التي أطلقت عليها الصحافة صفة «العناصر البومدينية»، أو «الدناصير» حسب تعبير صحيفة جزائرية. ويتعلق الأمر هنا بمجموعة من الشخصيات التي سبق لها أن تحملت مسؤوليات داخل الدولة وفي قيادة الحزب، أثناء عهد الرئيس الراحل هواري بومدين أو في بداية وحتى نهاية المرحلة الأولى من تجربة الشاذلي بنجديد. ومن أبرز هذه الرموز التي سال حبر غزير بشأن عودتها إلى المسرح السياسي، السادة عبد العزيز بوتفليقة وزير الخارجية السابق، ومحمد الصالح اليحياوي مسؤول الحزب السابق والعقيد الطاهر الزبيري رئيس هيئة الأركان السابق، والعقيد أحمد بن الشريف مدير الدرك الوطني سابقا، ومحمد الشريف مساعدية مسؤول الحزب السابق والدكتور أحمد طالب الابراهيمي وزير الخارجية السابق والبشير بومعزة وزير الإقتصاد السابق، وعبد السلام بلعيد وزير الطاقة، وعبد الله بلهوشات رئيس الأركان السابق. إنها لائحة مثيرة من الأسماء والمناصب جعلت بعض المراقبين يستخلصون من عودتهم دفعة واحدة إلى اللجنة المركزية للحزب الحاكم، أن أيام الشاذلي بنجديد أصبحت معدودة. والحقيقة كما ستكشف الأيام والتطورات اللاحقة، أن هذه العودة، وسعت في النهاية مجال التناور، أمام خليفة هواري بومدين، ومنحته سلاحا استعمله بذكاء، لإعادة ترتيب خريطة القوى السياسية، فوق مجمل الساحة الجزائرية. أما الحقيقة الأخرى التي لم ينتبه إليها المراقبون فهي أن الحزازات والحساسيات الشخصية والعُقد والحسابات القائمة بين مختلف هذه الرموز، أقوى وأعمق وأكثر تعقيدا من القواسم أو الجوامع المشتركة بينها والتي تمكنت من أن تشكل معارضة حقيقية داخل الحزب الحاكم تهدد الشاذلي بنجديد أو تستطيع أن تقدم بديلا يملك بعض المصداقية لتغيير السلطة. والمعلومات والأحكام الواردة في كتاب عبد السلام بلعيد : «التاريخ والمصادفة» الذي استشهدنا به أكثر من مرة في هذه المقالات، ترسم عن هذه الشخصيات صورة تؤكد وجود طموحات وتصورات متضاربة فيما بين أفرادها. حقا إن أغلب هذه الشخصيات وقعت ما عرف ببيان الثمانية عشر، مباشرة بعد خريف الغضب الجزائري طالبت فيه الشاذلي بنجديد بتأجيل عقد مؤتمر الحزب، وبالدعوة إلى ندوة وطنية لكوادر الثورة وقياداتها من أجل معالجة الأزمة. وقد رفض بنجديد هذا المقترح، وكان لابد من وجود شخصية دبلوماسية من وزن السيد عبد الحميد المهري على رأس الحزب، وكان لابد بعد ذلك من بذل جهود مضنية لعقد ندوة الإطارات الوطنية تمهيدا للمؤتمر الإستثنائي. ولكن الشاذلي بنجديد أصر في هذه المناسبة على أن تكون «عودة» القادة القدامى من خلاله هو شخصيا. لقد جرى الإتفاق مبدئيا على أن تقوم القواعد بانتخاب المؤتمرين. وبالفعل بادرت عدة ولايات باختيار هؤلاء «العائدين» ليكونوا ضمن ممثليها إلى مؤتمر الحزب. وأثبت هذا الإختيار أن السيد محمد الصالح اليحياوي مسؤول الحزب في عهد هواري بومدين، والمدير السابق لأكاديمية شرشال العسكرية، كان في طليعة الرموز التاريخية التي حافظت على شعبية واسعة داخل قواعد الحزب، يأتي بعده العقيد الطاهر الزبيري والسيد عبد العزيز بوتفليقة. وكان من المفروض أن يأتي «البومدينيون» إلى المؤتمر باسم القاعدة، إلا أن الشاذلي بنجديدأصر على إدراجهم ضمن حصته، وكان هناك ترتيب متفق عليه يسمح للرئيس بأن يرشح عددا معينا من الأشخاص لعضوية اللجنة المركزية. وقد استعمل بنجديد هذه الصلاحية المخولة له، لإدخال من يُفترض أنهم خصومه السياسيون إلى قيادة الحزب الحاكم، كانت لعبة ذكية تركت الإنطباع لدى المناضلين القاعديين الذين لا يعرفون خلفيات الصراع، بأن الرئيس لا يريد أن يفرط في أحد أو يحرمه من حقوقه. مع عودة الذين أطلقت عليهم الصحافة الفرنسية صفة «المخضرمين» و«الدناصير» إلى عضوية اللجنة المركزية، بدأت التخمينات والتحليلات عن «الضربة» القادمة التي سيقومون بها لتغيير الوضع. وجاءت الخطابات التي أُلقيت في مؤتمر الحزب الإستثنائي تصب الماء في طاحونة المتشائمين حول مصير الشاذلي بنجديد. لقد تضمنت تلك الخطابات نقدا عنيفا للأوضاع، أعطى للمراقبين صورة خاطئة عن توازن القوى داخل السلطة. وشملت توجيه ملامات ومعاتبات قوية ضد الرئيس وحاشيته. وألقى الشاذلي بنجديد خطابا في المؤتمر ألح فيه على ضرورة تطبيق الإصلاحات وفتح أبواب الحزب على مصاريعها أمام الأجيال الصاعدة. لقد تم التمهيد للمؤتمر الإستثنائي بعقد ندوة إطارات الثورة في شهر ديسمبر 1989، وهي اجتماع استطاع الأستاذ عبد الحميد المهري بدبلوماسيته، وحنكته وبرودة أعصابه أن يقنع غالبية القادة القدامى بحضوره. القادة الوحيدون الذين لم توجه إليهم الدعوة إلى هذه المناسبة، هم السادة أحمد بن بلة وحسين آيت أحمد ومحمد بوضياف لسبب بسيط، وجيه، معقول، ومقبول، هو أنهم أصبحوا زعماء لأحزاب سياسية ذات برامج وأفكار محددة. أما الآخرون، أي الذين انسحبوا أو سحبوا، استقالوا أو أقيلوا من العمل السياسي، وبقوا على الهامش يمارسون السياسة أو الأعمال الحرة، أو لا يمارسونها، فقد وجهت إليهم الدعوة، ولم ترفض الحضور من بينهم إلا أقلية قليلة. لم تكن فكرة هذه الندوة لتنجح لولا مثابرة عبد الحميد المهري على متابعتها ولولا أنه وضع ثقله المعنوي واستخدم قدرته الإقناعية ليقبلها منه الرئيس والآخرون. وفي تلك الندوة الوطنية التمهيدية للمؤتمر الإستثنائي، تكلم المتدخلون بحرية وبدا أن عبد الحميد المهري قد نجح في إعادة الجميع إلى العمل في إطار الحزب الحاكم وأنه جنب جبهة التحرير الوطني انقسامات كان يمكن أن تنهي ما تبقى بها. وخلال المؤتمر الإستثنائي الذي انعقد في الأيام الثلاثة الأخيرة من شهر نوفمبر، كانت أبرز الظواهر التي سجلها المراقبون هي ظاهرة حرية التعبير المطلق الذي تميزت بها المداولات. لقد بدا لأول وهلة أن الشاذلي بنجديدفقد سيطرته الكاملة على الحزب الحاكم، وبرزت أصوات تطالب صراحة باستقالته،ولكنه أيضا اكتسب مصداقية أو صدقية ديمقراطية، كان يفتقر إليها. في الندوة الوطنية لإطارات الثورة وفي المؤتمر الإستثنائي لحزب جبهة التحرير الوطني الذي جاء بعدها، حقق الشاذلي بنجديد، عن طريق مهارة عبد الحميد المهري ودبلوماسيته أشياء كثيرة وبضربة واحدة، طغت عليها عودة الرموز التاريخية، وأعمت أبصار المراقبين عن رؤيتها. لقد ظهر بأنه الرجل الحريص على وحدة الحزب، المنفتح حتى لخصومه السياسيين، المتسامح معهم بلا حدود، كما ظهر أنه المدافع الأول عن الإصلاحات، وبرز الآخرون وكأنهم خصومها. حقا إن المعارضين شككوا في الأسلوب الديمقراطي الذي تم به تحضير المؤتمر الإستثنائي، وقالوا إن أعدادا كثيرة من الذين شاركوا فيه جاءوا عن طريق الأجهزة لخلق أغلبية مصطنعة للتصفيق والموافقة برفع الأيدي على كل ما يقدم من طرف قيادة الحزب. وسوف تحتل مسألة الديمقراطية هذه حيزا كبيرا من وقت الإجتماع الأول الذي عقدته اللجنة المركزية المنبثقة عن المؤتمر الإستثنائي لانتخاب أعضاء المكتب السياسي الجديد. سمعنا من أعضاء اللجنة المركزية الموالين والمعارضين روايات كثيرة عن الطبخة التي خرج منها المكتب السياسي الجديد. وقال لنا أكثر من واحد من الذين تحدثنا إليهم في هذا الموضوع، أن الرئيس الشاذلي بنجديد، كان جالسا في المنصة وأخرج من جيبه لائحة بأسماء أعضاء المكتب السياسي وطلب من السيد عبد الحميد المهري أن يقرأها وطلب الموافقة عليها، برفع الأيدي، دون أن يتيح الفرصة لانتخاب ديمقراطي حقيقي بواسطة الإقتراع السري. وسمعنا رواية أخرى تقول إن اللائحة التي قدمها الرئيس، كانت الوحيدة، أي أنه لم تتقدم لائحة مضادة ومنافسة لها، وأنها فازت بالأغلبية. وسمعنا رواية ثالثة تقول إن بعض أعضاء اللجنة المركزية طالبوا بحرية الترشيح ولم يُسمع رأيهم وأن الرئيس نهض مباشرة، بعد أن صفقت «الأغلبية لقائمته» وانسحب من القاعة. وسمعنا رواية رابعة تؤكد أنه لايوجد محضر جلسة للحظة التصويت يمكن أن يعرف منه عدد المصوتين مع وضد وأن العملية كلها طبخة مبيتة ولا علاقة لها بالديمقراطية.. وإجمالا سمعنا من يطعن في الأسلوب الذي التجأ إليه الشاذلي بنجديد لاختيار أعضاء المكتب السياسي، وسمعنا من يدافع عنه ويزكيه. وحين انعقدت اللجنة المركزية في دورتها الإستثنائية التالية -شهر مارس- طغت مشكلة الديمقراطية وطريقة اختيار المكتب السياسي في الإجتماع السابق على جانب كبير من مداولاتها. وقد تميز ذلك الإجتماع بحدث هام، هو غياب الرئيس الشاذلي بنجديد عن المداولات. وكان ذلك الغياب مؤشرا آخر إلى أن الرجل بدأ يبني لنفسه صورة مختلفة عن الصورة السابقة المألوفة. كان ذلك الغياب الذي لم يفهمه المناضلون ولا المسؤولون على حقيقته في تلك الفترة، بداية فعلية لفك الإرتباط بين الرئيس والحزب الحاكم. وكان الأمر الملفت للإنتباه أن الشاذلي بنجديد، قد مهد لذلك الغياب باستقبال عدد من الشخصيات والرموز المنتمية إلى حزب جبهة التحرير الوطني، وأيضا باستقبال زعماء الأحزاب السياسية الجديدة. لقد أجرى الرئيس مباحثات مع كل رموز المعارضة داخل اللجنة المركزية من أمثال عبد العزيز بوتفليقة، محمد الصالح اليحياوي، عبد السلام بلعيد، أحمد طالب الابراهيمي، محمد الشريف مساعدية والعقيد الطاهر الزبيري، وطلب منهم أن يقدموا إليه آراءهم حول جملة من القضايا تتعلق بوضع الحزب والإصلاحات، وسياسة الحكومة التي يقودها مولود حمروش ومشكلة الرئيس السابق أحمد بن بلة. ثم استقبل في نفس الفترة كلا من عباسي مدني زعيم الجبهة الإسلامية للإنقاذ وحسين آيت أحمد زعيم جبهة القوى الإشتراكية وسعيد سعدي زعيم حزب التجمع من أجل الثقافة والديمقراطية وآخرين. وكانت تلك الإستقبالات الرئاسية التي أعلنتها الصحافة الجزائرية في حينها ظاهرة جديدة في السياسة الجزائرية تلقي أضواء جديدة على جانب غير مألوف في سلوك بدأت ملامحه تتشكل ببطء وينم عن بداية مرحلة جديدة في حياة ذلك الرجل الذي وضعته الظروف والملابسات والأقدار على رأس الدولة الجزائرية. وكان ذلك الغياب الملحوظ عن الدورة الإستثنائية الأولى التي تعقدها اللجنة المركزية بعد المؤتمر الإستثنائي بداية لسلسلة من الغيابات التي أصبحت المادة المفضلة في أحاديث الدوائر السياسية والإعلامية، خلال هذا الصيف. فقد تغيب الشاذلي بنجديد عن الأنظار في في فترات كان يُفترض فيها منه أن يظهر وأن يتكلم وأن يحضر للتأثير على مجرى الأحداث. لقد غاب مثلا في فترة المسيرات التي شهدتها البلاد خلال شهري أبريل ومايو، وغاب عن الأنظار أثناء الحملة الإنتخابية وبعدها، واختار اليوم الذي بدأت فيه اللجنة المركزية أشغال دورتها الأخيرة، أي الأولى بعد هزيمة جبهة التحرير الوطني أمام الجبهة الإسلامية للإنقاذ، اختار ذلك اليوم بالضبط ليسافر إلى أديس أبابا من أجل المشاركة في مؤتمر عادي لمنظمة الوحدة الإفريقية. حقا إنه ظهر ثلاث مرات على الشاشة خلال تلك المدة الطويلة ظهورا له دلالة سياسية واضحة. في المرة الأولى، خلال شهر أبريل، استقبل مجموعة مختارة من الصحفيين الجزائريين أجاب على أسئلتهم، ولمح إلى إمكانية التعايش بينه وبين الجبهة الإسلامية للإنقاذ في نطاق وضع تكون فيه الأغلبية البرلمانية غير متطابقة مع الأغلبية الرئاسية. وظهر للمرة الثانية، حين ألقى خطابا قصيرا أمام ندوة عُقدت حول مستقبل الإسلام، وقال فيما قاله كلاما اعتبر ردا مباشرا على تصريح كان الرئيس السابق أحمد بن بلة أدلى به إلى مجلة فرنسية وعبر فيه عن تخوفه من وقوع تجربة رومانية في الجزائر، ثم ظهر للمرة الثالثة في نهاية شهر مايو حين قام برحلة مفاجئة إلى الشمال والشرق رافقه فيها عدد كبير من الضباط، واستعرض أثناءها فرقة مدرعة في الأوراس، وقال أثناءها كلاما رد فيه بصورة مباشرة على إشاعات قوية انتشرت آنذاك عن هجوم قام به عدد من الضباط على أحد مساكنه الصيفية بالقرب من العاصمة. وإجمالا كان الشاذلي بنجديد طوال النصف الأول من السنة الجارية الحاضر الغائب، وإن كان غيابه أكثر من حضوره، وكانت التصريحات النادرة التي تصدر عنه تفسر كدليل على ضعفه وهشاشة وضعه. وعندما انهزمت جبهة التحرير الوطني في الإنتخابات البلدية والولائية الأخيرة بدأ الناس يتساءلون عن انعكاسات هذه الهزيمة على مستقبل النظام، ثم أخذوا فيما بعد ذلك يتساءلون عن حقيقة العلاقة القائمة بين الشاذلي بنجديد وبين الجبهة الإسلامية للإنقاذ. وكان السؤال الأول الذي يرد على ألسنة المراقبين هو : متى تعقد اللجنة المركزية دورتها الجديدة وهل يحضرها الشاذلي بنجديد؟ ومن الناحية التنظيمية، لا يزال الشاذلي بنجديد رئيسا لجبهة التحرير الوطني لكن النظام الداخلي المعدِّل للحزب الحاكم، يفرض عليه فقط حضور الدورة الأولى التي تعقد مباشرة بعد المؤتمر ويترك له حرية التصرف، أي الحضور أو الغياب بالنسبة للدورات اللاحقة العادية أو الإستثنائية. كان جميع المراقبين يرون أن الشاذلي بنجديد سيشارك في الدورة التي ستعقد مباشرة بعد الإنتخابات الخاصة وأنه لابد أن يتحمل نصيبا من المسؤولية فيما حدث، ولابد أن يقدم بعض الحساب أمام أعضاء المرجع الأعلى في حزب تقدم باسمه للرئاسة وما يزال يحكم باسمه أيضا. وكانت هناك عدد من المؤشرات تؤكد أن هذه الدورة سوف تكون ساخنة، صاخبة، عاصفة وتجري فيها محاكمة الرئيس وحكومة مولود حمروش على الهزيمة الإنتخابية، التي لا يتردد عدد مهم من أعضاء اللجنة المركزية في القول بأنها كانت من صنع الإدارة. وظهرت مؤشرات أخرى تعطي لمثل هذا التفسير ضربا من المصداقية. هكذا بدأ الإمام الشاب علي بلحاج، النجم الثاني في قيادة الجبهة الإسلامية للإنقاذ، والذي سبق له أن قال ضمن خُطبه ومواعظه السياسية بمساجد العاصمة، ما لم يقله مالك بن أنس في الخمرة وشاربها، في نظام الشاذلي بنجديد، بدأ يشيد به ويمجده في مجالسه الخاصة، فيما توقف عباسي مدني زعيم الجبهة الإسلامية للإنقاذ عن الإنتقادات والمآخذ التي كان يوجهها للنظام ووجه الشكر والإمتنان علنا إلى وزير الداخلية على حياد الإدارة، وأخذ يتحدث عن الشاذلي بنجديد كرئيس لجميع الجزائريين. وأثناء مقابلة أجريناها معه قبيل الإنتخابات البلدية والولائية بأيام، أكد لنا عباسي مدني أن المجلس لابد أن يحل، لكننا لم نستطع أن نفهم منه ما إذا كان هذا اليقين الذي يعلن عنه حول هذه النقطة نتيجة لاتفاق والتزام قطعهما الشاذلي بنجديد على نفسه وتعهد بهما، أم أنه ثمرة لموقف سياسي خاص. وقد أكد لنا العميد العربي بلخير الأمين العام لرئاسة الجمهورية خلال لقاء حصل في الفترة إياها أيضا أن احتمال حل مجلس النواب وارد ولكنه لن يحصل في كل الأحوال مباشرة بعد الإنتخابات البلدية والولائية، وإنما لابد من مرور فترة من الوقت، تأخذ فيها الأمور مسارا جديدا. وقعت الانتخابات البلدية والولائية في الثاني عشر من يونيو، وازدادت لهفة الرأي العام إلى معرفة رأي رئيس الدولة بالنسبة لمصير المجلس الوطني الشعبي. وبقي الشاذلي بنجديد صامتا ثم أوحى إلى وزيره الأول بأن يقول في الندوة الصحفية الأولى التي عقدها بعد مضي ثلاثة أسابيع على تلك التجربة الديمقراطية الأولى، بأن المجلس لن يُحل مباشرة. هكذا استمر الشاذلي بنجديد في ممارسة لعبة التوازن والتأرجح، وفهم الناس كلام الوزير الأول بأنه نوع من إبقاء سيف الحل مرفوعا، ولو كان في الغمد فوق رؤوس النواب. لقد قال مولود حمروش بأن المجلس لن يحل مباشرة، ولكنه لم يقل بأن النواب الحاليين سوف يكملون ولايتهم التشريعية. وبموازاة هذا التهديد المبطن بالحل وتأجيله في نفس الوقت قامت الحكومة برفع مستوى التعويضات المخصصة لأعضاء مجلس النواب، وحصلت منهم على تصويت إيجابي بشأن القانون الخاص بالعملة والقرض، علما بأن هؤلاء النواب كانوا رفضوا قبل بضعة أشهر قانونا آخر حول الشركات المختلطة بحجة ضرورة التنصيص على أن تملك الجزائر فيها على الأقل نسبة 51 في المائة. وكان واضحا من أن الغرض المقصود من عملية الترغيب والترهيب هذه هو ترويض مجلس النواب وترويض أعضاء اللجنة المركزية لجبهة التحرير الوطني الذين كانوا يستعدون لإجراء مداولات صريحة حول كل هذه القضايا، وكانت توجد من بينهم أغلبية مناوئة لحل المجلس. وحين قام الرئيس بنجديد بهذه المبادرة عبر وزيره الأول، فإنما أراد أن يضع نفسه في موقع المهاجم ويؤكد للجميع أنه يشعر بقوة كافية تمكنه من اتخاذ القرارات الحاسمة من دون أن يتأثر بضغوط أعضاء اللجنة المركزية وحتى من دون أن يأخذها في الحساب. وكان اختيار مولود حمروش لكشف هذا الجانب من الخطة الرئاسية، يعني أن الوزير الأول لا يزال يتمتع بثقة الرئيس، وأنه هو الرجل الثاني في الدولة، وأن هذه الأخيرة لها الأولوية على الحزب. كان ذلك التفويض الرئاسي للوزير الأول، ضربا من نفي شائعات قوية راجت في العاصمة آنذاك حول اقتراب تعديل وزاري. ومن المنطقي أن يكون مصير حكومة مولود حمروش مرهونا بمستقبل مجلس النواب الذي وافق على برنامج الحكومة الحالية. ولو أن الشاذلي بنجديد قرر أن يستكمل النواب الحاليون فترتهم التشريعية لامتلكت الحكومة مجالا أوسع من حرية المناورة والتصرف والحركة. لكنه فضل في تلك الأيام السابقة لاجتماع اللجنة المركزية، أن يترك الإلتباس قائما حول تاريخ حل المجلس. وإذا كان بنجديد قد عزز موقع رئيس الحكومة في تلك الأيام السابقة لاجتماع اللجنة المركزية حين أوكل إليه مهمة الإعلان عن عدم الحل المباشر، فإنه قد أضعف بالمقابل موقف الحكومة التي بات واضحا أنها لن تستمر ثلاث سنوات، أي أنها لن تبقى في السلطة تلك المدة الكافية التي كان مولود حمروش يطالب بها لإتمام إصلاحاته. وحين انعقدت اللجنة المركزية في دورتها العادية الجديدة، كانت المفاجأة الكبرى هي غياب الشاذلي بنجديد الذي اختار أن يطير صباح ذلك اليوم إلى العاصمة الإثيوبية للمشاركة في اجتماع مؤتمر القمة السادس والعشرين لمنظمة الوحدة الإفريقية. وقد تباينت التفسيرات والتأويلات والمواقف من هذه المبادرة. وهكذا فإن المعارضين داخل اللجنة المركزية لا يترددون في استعمال كلمات «الخيانة والهروب أمام المسؤولية أو التهرب منها واحتقار المؤسسة الحزبية». أما الموالون للرئيس فقد حاولوا أن يفسروا رحلته بأهمية ذلك اللقاء الإفريقي. لكن هذا التفسير لم يُقنع أحدا، لأنه لا يصمد لحد أدنى من التحليل المنطقي البسيط. ولو أن الرئيس كان حريصا على المشاركة في اجتماع اللجنة المركزية، وفي مؤتمر القمة الإفريقي، لكان طلب تقديم اجتماع هذا الجهاز الحزبي، أو تأجيله ببضعة أيام ليتمكن من التوفيق بين الموعدين، ولا شك أنه لو أراد التأجيل أو التأخير، لتمكن منه بسهولة. ولكن لنفرض ان الشاذلي بنجديد، كان مضطرا لهذا السبب أو ذاك، إلى التضحية بموعد من الموعدين على حساب الآخر، فلابد أن يكون الإختيار العملي أتى نتيجة لخطة مسبقة. أما القول بأن اجتماع أديس أبابا كان مهما لهذه الدرجة، فهو أمر يحمل كثيرا من المبالغة والإسراف في التأويل. وبينما كان أعضاء اللجنة المركزية يضربون أخماسا في أسداس لمحاولة استكناه دلالات السلوك الرئاسي، جاءت الضربة المسرحية الثانية التي تمثلت في إعلان السيد مولود حمروش عن رغبته في أن تسمح له اللجنة المركزية بأن يخرج من المكتب السياسي هو والوزراء الآخرون الأعضاء في حكومته. وكانت الإجتماعات قد بدأت تتخذ منحى خطيراً ضد الرئيس الشاذلي بنجديد وضد الأمين العام للجبهة السيد عبد الحميد المهري. لقد انصبت مداخلات الأعضاء حول أسباب غياب الرئيس، وحول مسؤولية الأمين العام فيما حدث من تراجع للجبهة أثناء الإنتخابات البلدية والولائية، وكان الجميع يتوقعون أن يتولى رئيس الحكومة، مثل ما فعل خلال الدورة الإستثنائية السابقة، الدفاع عن سياسة الدولة في غياب الرئيس. لكن مولود حمروش ألقى قنبلة خروجه وخروج أعضاء الحكومة من المكتب السياسي في اليوم الثاني من الإجتماعات وغير المناخ الذي كان سائدا تغييرا كاملا. مبادرة الوزير الأول، في غياب الرئيس أثارت فضول أعضاء اللجنة المركزية وتساؤلاتهم لماذا لم يستقل رئيس الحكومة وحده من المكتب السياسي؟ ما هو الغرض الحقيقي من هذه الإستقالة الجماعية؟ لماذا اختار الوزير الأول الإنسحاب من المكتب السياسي بعد الإنتخابات وليس قبلها؟ ما علاقة هذه الإستقالة بإستراتيجية الشاذلي بنجديد؟ هل هي محاولة للتنصل من المسؤولية؟ هل هي محاولة لتجنب المحاسبة؟ هل هي مؤشر إلى وجود تفاهم غير معلن مع الجبهة الإسلامية للإنقاذ؟ وأسئلة أخرى يجيب عليها المتسائلون انطلاقا من مواقعهم واختياراتهم وتحالفاتهم فوق خريطة الصراعات الدائرة داخل حزب جبهة التحرير الوطني، وأحيانا انطلاقا من انعدام المعطيات والمعلومات التي تسمح بتقديم شرح معقول لهذا التصرف. ويلاحظ الموالون لرئيس الحكومة أن هذا الأخير، حاول في اجتماعات الدورة الإستثنائية للجنة المركزية التي انعقدت قبل الإنتخابات أن يرد التهم التي وُجهت إلى حكومته من طرف بعض الأعضاء حول عدم تمثيلها للجبهة، كما يلاحظون أنه «هُمِّشَ» من طرف الجهاز الحزبي، واتخذ مبادرة شخصية بتنظيم مهرجان انتخابي في عنابة، لشرح سياسة الحزب الحاكم. أما المعارضون فيرون أن الوزير الأول أراد من خلال مبادرته تلك أن يستبق المحاسبة العسيرة التي بدأت القواعد الحزبية تطالب بها بعد الهزيمة الأخيرة. التفسير الرسمي الذي قدمه مولود حمروش لاستقالته واستقالة وزرائه من المكتب السياسي، يتلخص في أن حكومته مقبلة على اتخاذ قرارات صعبة في الشهور المقبلة وسوف يكون عملها أكثر فعالية إذا ما شعرت بأنها حرة من كل قيد والتزام، خاصة وأنها في هذه الحالة لا تُحمل مسؤولية سياستها للحزب الذي يستطيع أن يعلن تميزه الواضح عنها. وهذا التفسير منطقي ومعقول في الظاهر، لكنه لا يغير شيئا كبيرا في وضع الحكومة والحزب، وفي نظر رجل الشارع. وإذا كانت أسباب هذا الانسحاب لا تزال مجهولة، فإن اختيار لحظة إعلانه قد سمح بنسيان غياب الرئيس أو ب«تغييب غياب الرئيس» إذا جاز مثل هذا التعبير. كما أنه أتاح للراغبين في ذلك من المسؤولين، عدم الخوض في مسؤوليات هزيمة الثاني عشر من يونيو، وسلط الأضواء على إشكالية تجديد المكتب السياسي. وإذا كان أثر التمويه قد حصل بالطريقة التي حصل بها وترك مفعوله القوي والمباشر في النفوس، فإنه لم يكن فيما يبدو الهدف الوحيد لتلك الضربة المسرحية السياسية الموفقة. والذي لا شك فيه هو أن غياب الرئيس وخروج الوزير الأول وأعضاء الحكومة من المكتب السياسي، يشكلان عنصرين جديدين ضمن استراتيجية جديدة مشتركة تتضح ملامحها تباعا وبالتدريج، مع وضع أدوات تنفيذها موضع الاختبار. وقد استطاع مولود حمروش، من خلال تلك المبادرة التي لا يشك أحد في أنها حظيت بالموافقة الرئاسية أن يحقق عدة أهداف فورية. لقد تمكن الوزير الأول من إطفاء نيران الحملة الموجهة ضد رئيس الدولة، وتمكن من تركيز الاهتمام حول شخصه وبالتالي تخفيف الضغط الموجه ضد الأستاذ عبد الحميد المهري الأمين العام للحزب، وتمكن من استصدار بيان مساندة لسياسته الإصلاحية من طرف اللجنة المركزية، وأخيرا تمكن من تعويض الأعضاء المستقيلين من المكتب السياسي بأعضاء جدد يؤيدونه ويؤيدون الرئيس الشاذلي بنجديد. وحين عاد هذا الأخير من رحلته الإفريقية اتخذ عدة قرارات مهمة مصحوبة بسلسلة من المبادرات المكملة لها، تلقي كلها أضواء جديدة على استراتيجيته السياسية، وتسمح قراءتها بإمكانية استشفاف مكوناتها فيما لاحظناه عنده من «صمت» و«غياب» في الفترات السابقة. أولى هذه القرارات، هو الإعلان عن انتخابات تشريعية مسبقة قد تجرى خلال فصل الربيع القادم، وثاني هذه القرارات هو تعيين وزير جديد للدفاع الوطني واختيار رئيس جديد لهيئة الأركان العامة. وثالث هذه القرارات هو إطلاق سراح المعتقلين السياسيين الإسلاميين. أما المبادرات المكملة أو المرافقة لهذه القرارات فتمثلت في إصدار العفو العام عن كافة المتابعين في حوادث أكتوبر وعن رفع آخر العقبات بوجه عودة الرئيس السابق أحمد بن بلة، وعن السماح للجنة الوطنية ضد التعذيب بممارسة نشاطها ممارسة قانونية وأخيرا إجراء تعديل وزاري واسع. كل هذه القرارات والمبادرات التي اتخذها الرئيس الشاذلي بنجديد في الأسبوع الأخير من شهر يوليو 1990 مترابطة ومتكاملة، وقد جاءت دفعة واحدة لتقدم جرعة قوية من الإصلاحات والتغييرات العملية تأتي استكمالا للخطوات الماضية على طريق دمقرطة شاملة ونهائية للمجتمع الجزائري ولمؤسسات الدولة. وهكذا فالجزائر، التي لم تعرف منذ ربع قرن وجود وزير للدفاع، أصبح لها وزير دفاع وطني في شخص واحد من أبرز ضباطها وأكثرهم كفاءة ألا وهو الجنرال ماجور خالد نزار. لقد ألغيت وظيفة وزير الدفاع صباح يوم التاسع عشر من يونيو 1965، حين هبطت دبابات العقيد هواري بومدين إلى الشوارع واحتلت المواقع الاستراتيجية وأعلنت إسقاط الرئيس أحمد بن بلة. ومنذ ذلك التاريخ ظل منصب وزير الدفاع من مسؤولية الرئيس. ولا شك أن تعيين وزير جديد للدفاع الوطني يشكل آخر مسمار يدقه الشاذلي بنجديد في نعش هواري بومدين وفي النظام العسكري المنبثق عن حركة التاسع عشر من يونيو 1965. إنه ليس مجرد تعديل تقني وإنما هو فعلا قرار تاريخي، يضع حدا لفترة تاريخية كاملة من حياة الجزائر السياسية. والوزير الجديد الذي اختاره الشاذلي بنجديد لاحتلال المنصب واحد من دعاة نظرية تحديث الجيش، وهو مطالب الآن بضبط المؤسسة العسكرية وإبعادها عن التورط في الخصومات السياسية والحزبية لإبقائها فوق الصراعات وخارجها، وربما أيضا لتثبيت دورها كحكم وملاذ تحسبا للطوارئ. ومما يسترعي الإنتباه أن الرئيس الشاذلي بنجديد اختار بالضبط جلسة الحكومة التي تم فيها تنصيب وزير الدفاع الجديد ليعلن عن حل البرلمان وإجراء الإنتخابات التشريعية المسبقة في فصل الربيع القادم، بشرط أن يكون الأمن مستتبا وأن تقبل كافة الأحزاب باللعبة الديمقراطية. وقد فهم الشيخ عباسي مدني هذه الرسالة على ما يبدو، إذ بادر بالإدلاء بتصريح صحفي يصف فيه تعيين وزير جديد للدفاع بأنه «قرار سياسي تاريخي». القرار السياسي التاريخي الآخر الذي أُعلن عنه بهذه المناسبة هو إطلاق سراح المعتقلين الإسلاميين الذين كانوا قد حكموا عام 1987 فيما عُرف بقضية مصطفى بويعلى. وبهذين القرارين، أي قرار إجراء الإنتخابات التشريعية في الربيع القادم، وقرار إطلاق سراح المعتقلين المنتمين إلى الحركة الإسلامية السياسية يكون الشاذلي بنجديد، قد استجاب لمطلبين من أهم المطالب التي كانت الجبهة الإسلامية للإنقاذ قد تقدمت بها في المظاهرة التي نظمتها أمام رئاسة الجمهورية يوم 20 أبريل الماضي. أما المبادرات المرافقة لهذه القرارات والتي جاءت بمثابة تأكيد لإرادة الرئيس في الاستمرار بالسير على طريق الإصلاحات الديمقراطية، فقد تمثلت في ذلك التعديل الوزاري الواسع، وفي إصدار العفو العام، وفي السماح للجنة الوطنية المناهضة للتعذيب بالعمل في إطار القانون. أما أهمية هذه المبادرات، فتأتي من أنها أزالت كثيرا من الشكوك المتصلة بما يريده الرئيس الشاذلي بنجديد. وإذا أخذنا التعديل الوزاري، والمناقلات التي رافقته في سلك الولاة، فإننا سوف نلاحظ بأن الشخصيات الرسمية التي أُبعدت عن المسؤولية في هذه المناسبة كانت معروفة بعدائها للجبهة الإسلامية للإنقاذ. وعلى سبيل المثال فقد كان أبرز ضحيتين في هذا التعديل، على مستوى جهاز الدولة المركزي، هما السيد الهادي الخضيري وزير الداخلية السابق الذي كان يحتل منصب وزير النقل في حكومة مولود حمروش الأولى، والعقيد مصطفى الشلوفي مدير الدرك السابق، الذي شغل حتى حصول التغيير الأخير منصب الأمين العام لوزارة الدفاع الوطني. وإذا تذكرنا أن هذين الرجلين، هما اللذان كانا مسؤولين عن المواجهة المسلحة مع التيار الإسلامي في المدة السابقة لأحداث أكتوبر، أدركنا بسهولة أن إبعادهما من منصبيهما لابد أن يُفسَّر بأنه التفاتة إيجابية في اتجاه الجبهة الإسلامية، التفاتة تأتي مواكبة لإطلاق سراح المعتقلين الإسلاميين، لتقول للمعنيين إنه لم يعد هناك من خلاف كبير بين الشاذلي بنجديد وعباسي مدني. ألم يكن هذا الأخير يطالب بمعاقبة المسؤولين عن قمع الشعب؟ وأخيرا فإن قانون «العفو العام» الذي صوت عليه البرلمان في هذه المناسبة ينص نصا صريحا على تبرئة ذمة الأشخاص والتنظيمات التي شاركت في أعمال خارجة عن القانون، قبل صدور دستور الثالث والعشرين من فبراير 1989. وتجدر الإشارة هنا إلى أن مجلس النواب أدخل تعديلات جوهرية على المشروع الأصلي الذي تقدمت به الحكومة، والذي اعتبره بعض الأعضاء غامضا وأصروا على أن يتضمن إعلاما صريحا يلغي مثلا أية متابعة ضد الرئيس السابق أحمد بن بلة وضد السيد حسين آيت أحمد، وضد كل العناصر التي شاركت في أحداث قسنطينة وجلفة والأغواط. ومع إصدار ذلك القانون، تكون الجزائر قد طوت إلى الأبد صفحة كاملة من تاريخها، ويكون الشاذلي بنجديد الجديد قد فتح صفحة جديدة في تاريخه الشخصي وتاريخ بلده. صفحة عسى أن تشكل نقطة اللاعودة في التجربة الديمقراطية الجديدة في المغرب العربي الأوسط. أحمد بن بلة العائد إلى الجزائر بعد رحلة قام بها إلى بغداد عمر الرجل اليوم ثلاثا وسبعين سنة، ومع ذلك فإنه يترك لدى الذين يقابلونه هذه الأيام، من دون معرفة سنه الحقيقي، الانطباع بأنه ما بين الخمسين والستين. على عكس ما يحدث للذين واجهوا محنا وبلايا مثله في الحياة، يبدو أن صروف الدهر القاسية، لم تزده إلا صلابة وثباتا ووضوحا في الرؤية ورسوخا في العقيدة. يتوقع الإنسان الذي يسمع عنه، ويعرف ما عاناه داخل بلده وخارجه، أنه حين يقابله سوف يجد رجلا، مهدما محطما، ينوء تحت وطأة الخيبة والانكسار، ولا يطمح إلا في أن يمضي ما تبقى من أيامه معتكفا في الظل، بعيدا عن الضوء والصخب، فإذا به يفاجأ بأنه أمام نسخة تكاد تكون طبق الأصل لذلك الزعيم وهو لا يزال في مقتبل حياته السياسية وفي أوج حماسته واندفاعه. لقد عقد الرجل حلفا بدا في وقت من الأوقات وكأنه أزلي مع السجن والغربة، وأمضى بموجب هذا العقد ثلث عمره بين المعتقلات والمنافي، لا يدخل السجن إلا ليتركه إلى المنفى، ولا يعود من المنفى إلا ليدخل السجن. يحدث ذلك لأن صاحبنا من طينة أولئك الرجال الذين يصدق عليهم بيت الشاعر العربي : ونحن أناس لا توسط بيننا لنا الصدر دون العالمين أو القبر في البداية، استضافه سجن فرنسي عام 1950 في أعقاب هجوم مسلح قاده مع مجموعة من المنظمة السرية الخاصة، ضد بريد وهران بهدف السطو على مبالغ مالية يفترض أن تخصص لشراء السلاح لحساب ثورة وطنية كانت لا تزال تعتمل في أحشاء الغيب. أمضى الرجل سنتين في ذلك السجن، ثم هرب منه عام 1952 ليلتحق بالقاهرة، ممثلا للحركة الوطنية الجزائرية، التي كانت يومها حبلى، تتمخض لتلد جبهة التحرير الوطني الجزائرية. في العاصمة المصرية، دخل ذلك الشاب الرياضي البنية، القادم من مدينة مغنية على الحدود المغربية الجزائرية، مكتب المغرب العربي، وتعرف على عبد الكريم الخطابي وعلال الفاسي، وبدأ يمارس مسؤوليته كواحد من أعضاء البعثة الخارجية لثورة جزائرية لم تكن قد اندلعت بعد. في القاهرة أيضا، نشأت علاقات شخصية قوية، بينه وبين ضابط عربي شاب اسمه جمال عبد الناصر، كان قد بدأ نجمه يومها في الصعود داخل مجموعة الضباط الأحرار الذين أطاحوا بنظام الملك فاروق في صيف 1952. لن تطول فترة الحرية هذه. وسوف يذهب الرجل ضحية أول عملية اختطاف طائرة مدنية حصلت في هذا القرن. لقد انتهزت قيادة القوات الجوية الفرنسية فرصة سفر وفد جزائري من الرباط إلى تونس، لعقد مؤتمر للمغرب العربي، فقامت يوم 22 أكتوبر 1956 باعتراض الطائرة وأرغمتها على الهبوط بمطار عسكري، ثم نقلت خمسة من ركابها، ومن بينهم صاحبنا، إلى فرنسا. في فرنسا دخل الرجل السجن مرة ثانية ولم يخرج منه إلا في ربيع سنة 1962، قبيل إعلان استقلال الجزائر ببضعة أشهر. خرج أحمد بن بلة من السجن الفرنسي في ربيع عام 1962، وذهب إلى سويسرا مع (محمد بوضياف، محمد خيضر، رابح بيطاط، مصطفى الأشرف وحسين آيت أحمد)، ثم انتقل إلى المغرب وغادرها إلى تونس، وكان أول تصريح سياسي أدلى به هو : «نحن عرب، نحن عرب، نحن عرب». ومن المغرب العربي، انتقل أحمد بن بلة إلى المشرق العربي، فزار القاهرة ودمشق وبغداد، وجدد صلاته وارتباطاته، وعاد ليتحالف مع الجيش، ويصبح بعد أزمة صيف 1962، أول رئيس لحكومة الجزائر المستقلة، ثم لينتخب في شهر سبتمبر 1963، رئيسا للجمهورية. لن يبقى أحمد بن بلة في السلطة أكثر من سنتين. لقد أطاح به العقيد الهواري بومدين في التاسع من يونيو 1965، وأدخله سجنا لن يخرج منه إلا بعد مرور خمسة عشر عاما (1980) في عهد الشاذلي بن جديد. أطلق سراح أحمد بن بلة ولكنه لم يستطع أن يتمتع بالحرية داخل بلاده فترة طويلة. اضطر بعدها إلى الذهاب للخارج، ليعيش منفى اختياريا أو إجباريا، سوف ينتهي هذا الأسبوع. هذا الأسبوع يعود أحمد بن بلة إلى الجزائر، بعد أن قضى عشر سنوات في الغربة. وهذا النص الذي نقدمه للقراء، ما هو إلا سلسلة من الأحاديث، أجريناها معه خلال الشهور الماضية، وكان آخرها حوار تم يوم الثلاثاء 18 سبتمبر 1990، غداة عودته من رحلة قام بها إلى بغداد وعمان. س : انطباعاتكم الأولى عن الوضع في العراق؟ ج : المعنويات عالية جدا، والبلاد في حالة تعبئة شاملة. ودعني أقُلْ لك في منتهى الصراحة، إنني ذهبت هذه المرة إلى بغداد للقيام بحج حقيقي. لقد كانت رحلتي سفرا روحيا مقدسا ضد الحرب الصليبية الجديدة المفروضة علينا من الغرب. هناك سبب آخر لهذه الرحلة أريد أن أبرزه في هذه المناسبة، وهو ذو طابع شخصي. ولعلكم تذكرون أنني عندما خرجت من سجون فرنسا سنة 1962، قمت بزيارة عدد من العواصم العربية في المشرق العربي. وكانت بغداد من العواصم التي مررت بها . كان الحكم يومها نظاما عسكريا، يقوده اللواء عبد الكريم قاسم، وكان العراق، في كل العهود، يقدم مساعدات مادية ومعنوية للثورة الجزائرية. وقد حرصت، والجزائر آنذاك على عتبة نيل استقلالها، على القيام بتلك الرحلة إلى بلاد الرافدين، تعبيرا عن اعترافنا بالجميل لوقوف الجمهورية العراقية الشقيقة إلى جانبنا، بالمال والسلاح وبالدعم الدبلوماسي والسياسي في المحافل الدولية. في عهد عبد الكريم كانت الأحزاب السياسية ممنوعة، بما فيها حزب البعث العربي الاشتراكي الحاكم اليوم في بغداد. ومع ذلك، فقد فوجئت بأن ربع مليون، نعم ربع مليون شخص، استقبلونا في شوارع العاصمة العراقية. وما زلت أذكر لافتة كبيرة كتب عليها الشعار التالي : «بن بلة أهلا بيك.. حزب البعث يحييك». فوجئت بهذا الاستقبال الشعبي الحماسي، الذي نظمه حزب سري ممنوع، وفوجئت بأن أمواج المتظاهرين حملت السيارة التي كانت تقلني إلى قصر الضيافة على أكتافها. هذه المرة، حين ذهبت إلى بغداد، جرى الاستقبال أيضا على مستوى رفيع، وفهمت من الإخوة العراقيين، أنه يوجد بين أعضاء القيادة الحالية، أعضاء من أولئك الشبان الذين حملوا سيارتي على أكتافهم عام 1962. لذلك قلت لكم إنها زيارة روحية مثل تلك الزيارة التي قمت بها في سنة 1962. وهناك قاسم مشترك بين الزيارتين، يتمثل في روابط العروبة. في سنة 1962، اخترت أن أزور عددا من العواصم العربية، من بينها بغداد، تأكيدا لأواصر الأخوة ووشائح المصير المشترك، بين المشرق والمغرب. قمت بتلك الرحلة قبل عودتي إلى الجزائر، بعد أن أمضيت عشر سنوات خارجها (من عام 1952 حتى عام 1962). هذه المرة أيضا فعلت نفس الشيء ولكن زيارتي اقتصرت على بغداد وعمان. وأنتم تلاحظون أن هذه الزيارة تأتي بعد غربة استمرت عشر سنوات عن بلدي، وقبل أسبوع واحد من رجوعي إليه. طبعا ظروف 1962 تختلف عن ظروف 1990، في المشرق وفي المغرب، لكن هناك خيطا واحدا هو استمرارية روابط الدم والمصير المشترك. س : هذا عن الجانب الروحي.. فماذا عن الطابع السياسي؟ ج : أنا شخصيا أود أن نعثر على حل سياسي سلمي للمعضلة، وذلك ما نسعى إليه وما نفكر فيه. لكنني أريد أن أكون صريحا معكم، إلى أقصى حدود الصراحة. لقد كان الهدف الأول من زيارتي لبغداد هو أن أعبر لإخواننا العراقيين، عن تضامننا الكامل والمطلق معهم في المعركة التي يخوضونها ضد الغزو الإمبريالي للمنطقة العربية. إن الهجمة الحالية، تعيد إلى ذاكرتي حكاية العدوان الثلاثي على مصر في خريف 1956، إنه نفس السيناريو، لكنه أكثر شراسة هذه المرة. في قصة قناة السويس، كانوا ثلاثة : بريطانيا وفرنسا وإسرائيل، وأما هذه المرة فالغرب كله دخل في اللعبة، بما فيه دول مثل أستراليا والنرويج. لكن المعنى يبقى واحدا في الحالتين. والمعنى التاريخي لحكاية السويس، وحكاية الخليج العربي، يتلخص في أمر واحد، في شيء بسيط جدا، وواضح للغاية، وضوح الشمس في رابعة النهار : الغرب لا يقبل بظهور دولة عربية قوية، لا في المشرق ولا في المغرب، وعندما تظهر هذه الدولة، ويشعر بأنها مؤهلة أو توشك أن تصبح مؤهلة للدفاع عن القضية العربية، ولفرض احترام مصالح أمتنا ولإسماع صوتها المتميز في المسرح العالمي، عندما يحصل ذلك، يقرر أن يضربها، ويقرر أن يسكتها إلى الأبد حتى تكون عبرة لغيرها. أمس ضربوا مصر الناصرية، واليوم يحاولون ضرب عراق صدام حسين، والسبب واحد. بالطبع درسنا هذه الجوانب، تناقشت فيها مطولا مع الرئيس صدام حسين، ومع الإخوة أعضاء القيادة الآخرين، ولكنني كما قلت لكم، كنت أقوم بتلك الزيارة أساسا للإفصاح عن تضامننا مع شعبنا العربي في العراق. بعدها يأتي البحث عن حل سلمي. س : كيف؟ ج : إذا وقعت الحرب، فسوف تكون كارثة، ويبدو أن الغرب لا يقدر خطورة الموقف. إن الغربيين يتصرفون وكأنما هم ذاهبون إلى فسحة قصيرة، يطلقون من خلالها بعض العيارات الثقيلة والخفيفة المتعددة الأشكال والأحجام، ثم ينتهي الأمر ويعودون إلى بلادهم بعد أن يكونوا قد تمكنوا من تركيع العراق وتطويعه. ذلك على الأقل ما يقولونه في إعلامهم، أما رأيي في المسألة فهو مختلف. إننا نحن العرب، نملك لأول مرة في تاريخنا سلاحا ردعيا تدميريا، ولن تكون المعركة مع العراق يسيرة «للرامبوات» الجدد. لكن لابد أن يقوم حزام أمني شعبي يحمي إخواننا في العراق والأردن.. وأقول الأردن لأنه مستهدف كذلك. وقد زرته ورأيت فيه تحركا جماهريا واسعا يتمثل في المظاهرات والمسيرات الشعبية، والندوات والملتقيات الفكرية والمهرجانات السياسية، التي يقبل عليها الناس إقبالا واسعا لإعلان تضامنهم مع العراق. س : هل خرجتم من لقائكم مع صدام حسين بوجود احتمال، ولو ضعيف لتسوية سلمية؟ ج : نعم، الإمكانيات السلمية موجودة، متوفرة ولكن بشرط أن تكون عقلانية ومقبولة، وبشرط أن يكف الغرب عن التدخل في الشؤون العربية، وأن لا يركب رأسه ويدخل في مغامرة مسلحة. لكن الغرب يبيت شيئا، وإلا فلماذا كل هذه الأساطيل الجوية والبحرية، ولماذا كل هذه الجيوش البرية؟ ثم لماذا هذه الحملة الإعلامية المسعورة؟ إنني، مع إقراري بتوافر احتمالات قوية للسلام، أخشى أن يكون الغرب، قد وصل نقطة اللاعودة. لقد عدت من المنطقة وأنا على يقين تام بأن مشكلة الكويت ما هي سوى مبرر لتغطية خطة سابقة عليها، خطة أمريكية لاحتلال منابع النفط العربي والسيطرة عليها. والكلام الذي قيل في الجامعة أثناء مؤتمر القمة العربي الأخير في القاهرة، والطريقة التي عولجت بها الأمور كلها أشياء تؤكد وجود مثل هذا السيناريو. إن الغاية من وراء نسف الحل العربي، هو توفير المبررات والشروط الملائمة لضرب الآلة الحربية والصناعية العراقية. وحتى لو لم يدخل العراقيون الكويت، فقد كان الأمريكيون وحلفاؤهم يبحثون عن صيغة مناسبة لتفكيك الآلة الحربية العراقية. إنهم يريدون رأس صدام حسين.. عاوزين راسه. وهم لا يطلبون السلم، لأن من يسعى إلى السلم، لا يطالب بمثل هذه الوقاحة، هذه الصفاقة، وهذه الغطرسة المتناهية، بقتل الطرف الآخر. وكلام الجنرال الأمريكي، قائد القوات الجوية الذي أقالوه وكذبوه، كشف حقيقة أهدافهم. وقبل الجنرال دونمان، قال جورج بوش كلاما مماثلا. إنها تصريحات صادرة عن عسكريين ومدنيين، من كبار صناع القرار الاستراتيجي في الولايات المتحدة، تفضح الأهداف الحقيقية للضربات الأمريكية المنتظرة. أمريكا لا تريد السلام والغرب لا يريد السلام، وأمريكا والغرب لا يريدان أن تخرج دولة عربية أو إسلامية، ولا بلد من بلدان العالم الثالث عن بيت الطاعة. ذلك هو منطقهم، وتلك هي السياسة التي يمليها عليهم هذا المنطق، وما عدا ذلك، فإنما هو ذر للرماد في العيون. لقد ضربوا عبد الناصر ثم ضربوا بعده معمر القذافي وضربوا الخميني، وها هم اليوم يجردون أسلحتهم لضرب صدام. والأمريكيون والغربيون حمقى. إنهم يتحدثون عن الرهائن، وهم الذين ضربوا الحصار على العراق، وهم الذين يحاولون تجويع العراق. يقولون ذلك بمنتهى الصراحة، ومن دون أن يرف لهم جفن واحد. يفرضون الحصار على شعبنا في العراق، مع أن الحصار، اصطلاحا، في مفهوم الأمم المتحدة هو الحرب، ثم يتكلمون عن الضمير العالمي، وعن المجتمع الدولي وينسون أن أولادنا في العراق مهددون بالموت جوعا. هناك ما بين خمسة وستة ملايين طفل عراقي مهددون في حياتهم اليومية بسبب الحصار المفروض من طرف الغرب. ألا يستحق هؤلاء الأطفال صحوة الضمير العالمي؟ س : قابلتم الملك حسين، فما رأيكم في وضعه ووضع بلده؟ ج : دعوني أتحدث إليكم حديث القلب، وأنا أشعر بأن الكلمات تخرج من حلقي بفطرة وتلقائية. إنني لا أتردد في القول إن الأردن بلد عظيم، وأن الملك الحسين رجل عظيم. إن مقياس عظمة بلد ما، ومقياس عظمة رجل ما، لا يتحددان بحجم رقعته الجغرافية، ولا يتحددان بموارده الاقتصادية، ولا يتحددان بكثافة سكانه، ولا بعراقته أو قدمه في التاريخ، ولا بتطوره التكنولوجي والعلمي فقط، وإنما يتحددان أيضا وبالخصوص، في فترات معينة من التاريخ، بالموقف الذي يلتزمه هذا البلد من قضية أمته. الأردن طبعا بلد صغير، فقير، ضعيف، حديث النشأة، ولكن السياسة القومية الجريئة التي التزمها ملكه ووجدت تجاوبا عميقا لدى شعبه، تجعل الملك حسين رجلا عظيما وتجعل بلده بلدا عظيما. بالفعل قابلت الملك حسين في طريق عودتي من بغداد، وجرت بيننا مداولات ومحاورات رائعة عن المعركة التي تخوضها أمتنا، وعن الخيارات المفروضة عليها وعن ضرورة صمودها في المحنة. ثم إنني ذهبت للجبهة، وتناولت الشاي مع الجنود العرب الأردنيين على مسافة بضعة أمتار فقط من خط النار. وأقسم لكم بالله العظيم أنني تمنيت من صميم قلبي أن أبقى معهم ولا أعود. لقد أدركت صفاء الروح والاستعداد الكامل للتضحية والبذل في سبيل الدفاع عن كرامة الأمة العربية. مرة أخرى، أكرر أنه لو كان باستطاعتي أن أعيش معهم لما رجعت من المشرق إلى المغرب. وأذكر لكم هنا حادثة بسيطة وقعت عندما كنت أزور الجبهة الأردنية، كان الجو حارا ورطبا للغاية، وكان الذباب يتطاير بكثرة حول كؤوس الشاي، وقد تقدم مني ضابط الوحدة العسكرية وقال لي : «يا أحمد نحن حشمانين لأنو عندنا ذباب كثير» فكان جوابي: «لا، والله الدبان الحقيقي موجود برا، موجود ورانا... إنه الدبان المتطاير حول النفط الذي مسخ كل شيء في حياتنا». س : كيف تتصورون دور المغرب العربي في الأزمة الحالية؟ ج : المغرب العربي له دوران متكاملان، دور رسمي ودور شعبي. رسميا لابد أن يقوم المغرب العربي بدور وساطة لوقف الهجمة الغربية الأمريكية على المشرق العربي. إن الأزمة الحالية، هي بالدرجة الأولى أزمة إقليمية، جهوية تمس النظام الإقليمي العربي، وحلها يجب أن يكون عربيا. والمغرب العربي، يمكن أن يؤدي دورا إيجابيا في التسوية، سواء بما هو اتحاد المغرب العربي ، أو بما هو دول، لكل واحدة منها اجتهادها وتصوراتها وارتباطاتها بالأطراف المؤثرة أو المعنية باللعبة الدولية والإقليمية. المهم أن يعمل هذا الجزء من الوطن العربي، لإطفاء الحريق الذي يوشك أن يندلع في المشرق، لابد من نزع الفتيل بسرعة، قبل الانفجار الصاعق الرهيب. هناك سوابق كثيرة في هذا الشأن، تمكنت خلالها دول أو مجموعات جهوية من تسوية أزمات ذات طابع إقليمي. لقد حلت أمريكا الوسطى مشكلة نيكاراغوا في اجتماعات كوستاريكا. وها هي الأطراف المعنية بأزمة كمبوديا تجتمع الآن في أندونيسيا، باعتبارها إحدى دول جنوب شرق آسيا لتسوية المشكلة الكمبودية. وبالأمس، اجتمع العرب في الطائف ووضعوا أسسا لتسوية القضية اللبنانية، وكونوا لجنة عربية على رأسها أخونا الأخضر الإبراهيمي. من الممكن العثور على صيغة عربية، يكون المغرب العربي صاحبها، إما كمجموعة وإما من خلال إحدى دوله، لإنقاذ الأمة العربية، وتجنيب الإنسانية مخاطر ومزالق كارثة محققة. وفي اعتقادي أن القيادة العراقية متفتحة لمثل هذه الاحتمالات، وفي رأيي أننا يجب أن نحتاط كثيرا من المحاولات الغربية الرامية إلى تضخيم التناقضات العربية وتعميقها. س : يعتقد بعض الملاحظين أن الجزائر كانت غائبة عن الساحة الشرقية في هذه الفترة. ج : نعم. وكان هذا الغياب ملحوظا، وهو الذي دفعني للقيام برحلتي العراقية-الأردنية. لقد أردت من وراء هذه الزيارة الخاطفة أن أثبت لإخواني العراقيين والأردنيين، بأن الجزائر حاضرة وغير غائبة عن ساحة المعركة، وقلت للمسؤولين العراقيين والأردنيين الذين قابلتهم، أنني مستعد لأن أتجند في سبيل القضية العربية، وقلت إن هناك آلافا من الشبان وقدماء المجاهدين مستعدون للقتال في صفوف الجيش العراقي وفي صفوف الجيش الأردني، وقلت إن معركتنا الوحيدة اليوم، هي معركة العراق. ليس لدينا الآن وليس أمامنا اليوم، مشكل أكثر إلحاحا من هذه المسألة. وفي هذه الأيام التي سأعود فيها إلى بلدي، أستطيع أن أقول لكم بكل صدق إن اهتماماتي الجزائرية الخالصة لا تتجاوز عشرة في المائة، وأن تسعين بالمائة من انشغالاتي منصرفة إلى العراق. إننا نخوض اليوم معركة عبد الناصر، نواجه حرب سويس جديدة، ولابد أن يفهم إخواننا الإيرانيون أنها معركة ضد الاستكبار العالمي، وسوف نحاول إقناعهم بهذا الأمر. س : ما رأيكم في تحركات الشيخ عباسي مدني الخليجية؟ ج : لا أريد أن أخوض في مثل هذا الأمر. كل ما أستطيع أن أقوله لكم، هو أن الجزائر، مهيأة اليوم، وربما لأول مرة في تاريخها منذ انقلاب 19 جوان 1965، لأن تجتمع على كلمة واحدة هي : العراق. والجماعة مكرهون ومضطرون لاتخاذ موقف إيجابي مساند لبغداد، لأن مشاعر الشعب الجزائري تلتهب حماسة، وتتوقد لهفا وبلا تردد مع العراق، وسوف تلفظ أي حزب سياسي لا يتخذ مثل هذا الالتزام في المعركة القومية الحالية. ولست أريد الدخول في أي جدل سياسي أو لفظي، مع أي طرف جزائري بشأن هذه النقطة، وإنما سوف أعمل على ترسيخ الإجماع الحالي وتعميقه وتنظيمه. وهذه هي الطريقة، أو هذا هو الطريق الحاضر في ذهني وأنا أتأهب للرجوع إلى بلدي. سوف أقول هذا الكلام، وسوف ألتزم بهذا الموقف، وسوف أبذل جهدي لتوسيع صفوف المؤمنين بالقضية العربية وترجمتها الحالية هي التضامن مع العراق، وذلك في أفق الارتباط المصيري بين مشرق الوطن العربي ومغربه. س : هل لديكم تصور لوضع المنطقة بعد كل الذي جرى؟ ج : المستقبل المنظور، الماثل للعيان الآن، يملك ملامح احتلال أمريكي غربي لمنابع النفط. الغرب الأمريكي، والأوروبي المتغطرس لا يريد رأس صدام حسين فقط، وإنما كما سبق أن قلت يخطط لتدمير تجهيزاتنا التكنولوجية والصناعية والعلمية. يقولون إن لدى العراق قنابل كيماوية ولا يذكرون أن إسرائيل تملك عشرات القنابل الذرية والنووية، لكن ستكون لهم مفاجأة كبيرة إذا أشعلوا نار الحرب، لكننا نحن العرب نراهن على السلم، ولا بد أن نصل إليه من موقع القوة. والمشكلة تتجاوز قصة الكويت، وما يسمى بعودة الشرعية أو المشروعية. لا بد أن نعيد ترتيب البيت العربي من جديد. ليس من المعقول أن نستمر في تبديد الثروة النفطية العربية، ولا من المعقول أن نستمر في تبذير العائدات المتأتية منها بالأسلوب القديم. الدول النفطية الخليجية تملك مئات المليارات، تكدسها في بنوك غربية تسيطر عليها، وتقرر سياساتها مراكز مرتبطة ارتباطا وثيقا بالصهيونية. والناس، مئات الملايين من العرب، يتخبطون في البؤس والفقر والجوع بالسودان وموريتانيا والمغرب ومصر وفي أقطار عربية أخرى. هذه الوضعية المختلة لابد أن تنتهي، لابد أن يوضع لها حد في القريب العاجل من خلال ترتيب يستند إلى اعتبار هذه الثروة ملكا للأمة العربية في مشرق الوطن وفي مغربه. وعلى رأس جدول أوليات ترتيب البيت العربي. لابد أن تقوم ديمقراطية حقيقية، ديمقراطية فعلية، ديمقراطية غير شكلية تتجسد في برلمانات منبثقة عن إرادة الشعب، تمثل طموحاته وتطلعاته وأحلامه، وتنشأ منها حكومات وطنية تعكس مصالح الأمة وتحترم كرامتها. إن الديمقراطية هي الشرط الأول، شرط الشروط، لاستعادة الثروة النفطية العربية وتوظيفها خدمة لتنمية قومية شاملة، تقضي على الفوارق الجهوية والقطرية، ثم لابد من التفكير في حل للمسألة الفلسطينية والمسألة اللبنانية. س : ما هو شعوركم وأنتم تعودون إلى الجزائر بعد غربة طالت عشر سنوات؟ ج : إنه شعور مبهم ومختلط، تمتزج فيه الغبطة الطاغية والفرح الغامر بحزن عميق وبكآبة مفرطة. لماذا؟ أنا فرحان ومسرور جدا لأني أعود إلى بلدي الذي منحته زهرة شبابي، وأعطيته سنوات نضجي وعشت أحلامه ومخاوفه ومطامحه، إلى درجة أنني تقمصتها بالمعنى الصوفي، هذا في جانب. أما في الجانب الآخر، أما الوجه الآخر من الصورة، فهو يبعث في قلبي مرارة وكآبة كبيرتين. لن أطيل في شرح وضع الجزائر الحالي، لأقل باختصار شديد إنها تتخبط في أزمة حضارية عميقة، شاملة، تمس كل قطاعات المجتمع وتمس كافة مناحي الحياة الاجتماعية والاقتصادية. وهذا أمر يحزنني وأكرر أنني عائد للجزائر بهموم مشرقية تلخصها كلمة العراق. أعود وأنا مسكون بإحساس مختلط فهناك فرحة كبرى بالرجوع إلى الوطن، وهي حالة نفسية معقدة وبسيطة، ولا يمكن توصيلها باللغة، وأعود كذلك بآمال عريضة، لأن معركة الشرق العربي تفرض علينا أن نقف صفا واحدا لنلتحم مع إخواننا هناك. س : كيف تتصورون موقعكم في خريطة العمل السياسي بالجزائر؟ ج : أراهن على الديمقراطية، وأتمنى أن تتوسع وتتعمق وتنجح وأن تسود الشفافية أيضا، وأن يترسخ ويتأصل احترام حقوق الإنسان. وأعود فأكرر أن أهم شيء في الوقت الراهن هو أن تتوثق علاقات الجزائر وروابطها بالمشرق العربي، تلك في نظري نقطة أساسية، أرجو أن أوفق في إقناع أوسع عدد من قطاعات الرأي العام بها. وأنا على يقين من أن المناخ مناسب لمثل هذا العمل. بل أنا على ثقة تامة من أنني حين أقول لكم مثل هذا القول، إنما أعبر بصدق عن شعور الناس في بلدي. الجزائر من الشاذلي بنجديد إلى محمد بوضياف أو شتاء الديمقراطية في الجزائر 1 - انتصار السوق على الإيديولوجيا!.. «كيف تطلبون منا أن نواجه حزبا يعقد خمس اجتماعات في اليوم، وينظم مؤتمرا وطنيا كل أسبوع، ويغطي بنشاطه مختلف مدن البلاد وقراها، طيلة أربع وعشرين ساعة، بدءا من تامنراست عند الحدود مع جمهورية مالي، حتى بشار القريبة من المغرب، وبدءا من مغنية إلى عنابة عند الحدود التونسية؟ كيف تطلبون منا المستحيل؟». كان محدثنا، وهو من مسؤولي جبهة التحرير الوطني، يشير عبر هذه الملاحظة إلى المتاعب التي واجهها تنظيمه السياسي في صراعه مع الجبهة الإسلامية للإنقاذ. الاجتماعات الخمسة التي ذكرها مخاطبنا، هي صلوات الفجر والظهر والعصر والمغرب والعشاء. أما المؤتمر الوطني الأسبوعي فهو صلاة يوم الجمعة. لقد حولت الجبهة الإسلامية للإنقاذ، مساجد الله إلى أماكن للتحريض السياسي، يلتقي حولها، ويجتمع داخلها أعضاؤها، قبل تأدية الفرائض اليومية، الخمس، وبعدها للتداول والتشاور، ووضع خطة التحرك اليومي، ثم تقرير برنامج العمل الأسبوعي. ولما كانت المساجد وأماكن العبادة مفتوحة «آناء الليل وأطراف النهار»، يأتي إليها الناس في أي وقت شاءوا، لأداء العبادات والفروض، أو الاستماع إلى الخطب، أو من أجل المشاركة في النقاش الخصب الذي تشهده، فإن مناضلي الإنقاذ، وهم يختلفون إليها، إنما يعيشون داخل أعماق المجتمع المدني حياة الأسماك وسط المحيط. ويضيف محدثنا بمرارة : «وحدهم مناضلو الجبهة الإنقاذية يجسدون، في جزائر اليوم، النظرية الماوية الشهيرة، عن الثوار. ولا يوجد لدينا، حزب سياسي يستطيع أن ينافسهم في مجال تعبئة الجماهير وتحريكها وتأطيرها. لذلك صار من المسلم به لدى المراقبين المتتبعين لتطور الأوضاع، اعتبار يوم الجمعة، من كل أسبوع لحظة متميزة في الحياة السياسية الوطنية». قبل أن نحاول تفسير أسباب هذه القوة الهائلة التي تملكها جبهة الإنقاذ، نريد أن نقدم نماذج وعينات من تجلياتها المتعددة، لمسناها أثناء جولة سريعة قمنا بها خلال الأسبوع الأول من شهر يناير الحالي، أي أثناء الأيام التالية للدور الأول من الانتخابات التشريعية، وعشية تعطيل المسار الديمقراطي والإعلان عن تكوين مجلس الدولة الجديد، برئاسة السيد محمد بوضياف. كانت آخر رحلة لنا إلى الجزائر، قد مكنتنا من معايشة ربيع التجربة الديمقراطية التي توجت بالانتخابات البلدية في شهر يونيو 1990، وسجلت فوزا ساحقا للإسلاميين. أما الزيارة الأخيرة، فإنها أتاحت لنا مشاهدة مقدمات شتاء التجربة الديمقراطية. لم نذهب إلى الجزائر العاصمة مباشرة بالطائرة، كما كنا نفعل في المرات السابقة، ولم نصل إليها رأسا من باريس أو الدار البيضاء، لننخرط في أجواء المناقشات والتحليلات والتخمينات، وإنما دخلنا إليها من الحدود المغربية، بهدف التعرف على «الجزائر العميقة»، ومحاولة تلمس مدى التحولات السياسية التي تعرفها، بعيدا عن صخب العاصمة. قمنا بجولتنا الأخيرة، في رفقة الأخ الحبيب سيناصر والأخ محمد معنى السنوسي، عضوي مجلس النواب المغربي واللجنة المركزية للاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية. والأستاذ الجامعي عبد القادر البنة، واكتشفنا، عبر مشاهد الطبيعة الفاتنة الساحرة، ومن خلال اللقاءات، والمناقشات والحوارات، والغذاءات والعشاءات، أننا ننتمي إلى شعب واحد، تحركه هموم وانشغالات واحدة. كنا نعرف تلك الحقيقة، ولكن ليس الخبر كالعيان، كما يقول المثل. من وجدة، حتى الجزائر العاصمة، مرورا بتلمسان ووهران ومستغانم، وجدنا أنفسنا ضمن نفس الشبكة العائلية المغربية الجزائرية، شبكة الأخوال والأعمام والخالات والعمات، والأقارب والمعارف. ووجدنا الناس يتسابقون إلى تنظيم الضيافات، مع الإلحاح الشديد على البقاء أطول مدة ممكنة لرؤية الصديق الفلاني أو زيارة الأسرة الفلانية. سبقتنا أخبارنا من وجدة إلى تلمسان، وسبقتنا من هذه إلى وهران، وتقدمتنا من وهران إلى مستغانم فالجزائر العاصمة. مشاهد الطبيعة بين مغنية وتلمسان، وبين هذه وقرية بني سنوس، هي نفس المناظر التي تعرفها في جبال الأطلس ما بين تارودانت ومراكش، أو ما بين مكناس وبني ملال، مع فارقين مهمين، يتمثلان في وجود أشجار الأركان (أو الأرجان وفقا لتعبير المختار السوسي) بالجنوب المراكشي، ووجود أشجار الأرز، في الأطلس المتوسط. اختلاف الطبيعة محصور في الغطاء النباتي لا يوازيه ولا يماثله إلا تشابه البشر، تشابها، يصل حد التطابق. الدخول إلى الجزائر من مدينة وجدة، إضافة لما يثيره من ذكريات شخصية قديمة، يسمح للمراقب بأن يضع يده على جملة من التفاصيل والجزئيات، لا تتاح له معرفتها وتقدير أهميتها حق قدرها في العاصمة. في مدينة وجدة بدأنا نعيش أجواء التجربة الجزائرية، وأخذنا نلمس في مظاهر الحياة اليومية، ما تثيره من هواجس ومخاوف وتساؤلات. ماذا سيحدث إذا ما وصلت الجبهة الإسلامية إلى السلطة؟ هل تغلق الحدود بين البلدين؟ هل تتوتر الأوضاع؟ هل ينشط التهريب؟ ماذا سيكون موقف النظام الجديد من قضيتنا الوطنية؟ هل ينخفض الدينار؟ هل يتدفق علينا اللاجؤون؟ ماذا يكون انعكاس التجربة القادمة على التيارات الإسلامية المحلية؟ ما مصير المغرب العربي؟ هل تنحصر التجربة المنتظرة في حدود القطر الجزائري، أم أنها ستحاول الانتشار خارج حدود جغرافيتها الأصيلة؟ كيف نتعايش معها؟ أي توازن جيو استراتيجي ستفرضه؟ دخلنا الجزائر من مركز حدود «زوج بغال» ورؤوسنا تعج بالأسئلة. سميت نقطة الحدود «زوج بغال»، لأنها هي المكان الذي كانت تلتقي فيه بَغْلَةٌ جزائرية وبغلة مغربية تحملان البريد بين تلمسان ووجدة. بعد الاستقلال، أطلق الشعب، على تلك النقطة اسم «زوج فاقو»، لكن عبارة «زوج بغال» ما تزال مكتوبة على جدران مباني الجمارك والشرطة في الطرف المغربي، فيما أطلق الجزائريون على القرية اسم «العقيد لطفي»، أحد شهداء الثورة. كنا، ونحن نمر على المدن والقرى، نقرأ الشعارات والملصقات المتبقية على الجدران من آثار الحملة الانتخابية التي ميزت الدورة الأولى من التشريعات. هذه مدينة مغنية، موطن الرئيس الجزائري السابق، أحمد بن بلة. إنها أول حاضرة مهمة بعد مدينة وجدة. المسافة بين المدينتين ثمانية عشر كيلو مترا لا غير. الخلاف أو الاختلاف هنا واضح في الطراز المعماري العائد إلى الفترة الاستعمارية، والطبيعة الجبلية والزراعية المغناوية، تجعل موطن أحمد بن بلة مختلفا عن الواحة السهلية الوجدية. ولكن البناء العشوائي الحديث يكاد يكون نبرة مشتركة هنا وهناك. في مدينة مغنية، وهي من معاقل الحركة من أجل الديمقراطية التي يتزعمها أحمد بن بلة، نجحت لائحة جبهة الإنقاذ منذ الدور الأول. وكان جميع المراقبين يتوقعون أن تصوت مدينة، «لالة مغنية» لمرشحي الحركة من أجل الديمقراطية، ولو لاعتبارات جهوية خالصة، أو ليست «الحركة من أجل الديمقراطية» هي حزب الرئيس أحمد بن بلة؟ أو ليس هذا الأخير ابن تلك المدينة الحدودية وله شعبية واسعة ونفوذ شخصي وعائلي قوي فيها؟ «أتعرفون لأي سبب سقط مرشحو الحركة من أجل الديمقراطية بدائرة مغنية، ولم يحتفظوا بموقع «بالوطاج» حتى في الدورة الثانية؟ لقد حضر الرئيس السابق شخصيا إلى بلدته، وخطب في مهرجان شعبي لمساندة مرشحي حزبه، لكنه ارتكب خطأ نفسيا وسياسيا قاتلا حين وعد أنصاره بمحاربة ظاهرة «التراباندو» (أي التهريب) والقضاء عليها،... ذلك هو التفسير البسيط، الذي تطوع بتقديمه إلينا أحد المراقبين المحايدين الذين تحدثنا معهم في وهران، بشأن نتائج الدور الأول في دائرة مغنية. «مدينة مغنية، تعيش من تجارة التهريب مع وجدة والناضور ومليلية، فكيف يعقل أن يمنح سكانها ثقتهم لحركة سياسية تضع في جدول أعمالها تصفية شبكات التهريب؟». هزيمة أنصار أحمد بن بلة، في عقر داره، أمام أتباع جبهة الإنقاذ، تعطينا مؤشرا بالغ الدلالة على عمق قوة التيار السياسي الإنقاذي وشموله، وضعف خصومه، رغم ما يجرونه وراءهم من تراث تاريخي عريق. إن الأسباب والاعتبارات الجهوية التي جعلت المراقبين يتوقعون أن تختار مدينة مغنية نوابا لها من أنصار الرئيس السابق أحمد بن بلة، هي نفسها التي دفعت التيار في الاتجاه الآخر. وبتعبير أدق، فإن الحرص على استمرار تجارة التهريب، والرغبة في إبقاء «الرئة المغربية» مفتوحة أمام الشبان العاطلين عن العمل، هما اللذان جعلا أكثرية المغناويين والمغناويات، يصوتون للمصالح بدلا من الأخلاق. خصوم جبهة الإنقاذ سواء كانوا من مناضلي جبهة التحرير الوطني، أو جبهة القوى الاشتراكية، أو من أعضاء النخبة العصرية ذات الثقافة الفرانكفونية، حين يحاولون النيل من سمعتها، لا يجدون تهمة يلصقونها بها أكثر من قولهم إنها «حزب المهربين». سوف نسمع هذه التهمة في كل مكان حللنا به، وحاولنا أن نفهم من خلال مناقشة هادئة مع من نلتقي بهم فيه، أسرار قوة التيار الإنقاذي وشعبيته، وعدم فاعلية الخطاب السياسي المناهض له. إنها، أي تهمة التهريب، الحجة الاستراتيجية، بل القوة الضاربة في الخطاب المعادي لجبهة الإنقاذ. ومع ذلك، بل وربما بسبب ذلك، فإن تأثيرها على الجمهور الواسع، يكاد يكون في مستوى الصفر. والواقع أن استخدام أنصار جبهة التحرير الوطني وأنصار حكومة السيد سيد أحمد غزالي، والأحزاب الأخرى لتهمة التهريب ضد حزب عباسي مدني وعلي بلحاج، كان له مفعول عكسي تماما. ترجمته لنا مهندسة بتروكيماويات، تعمل بمدينة أرزيو، قائلة : «الدعاية الواسعة التي قامت بها الأحزاب الديمقراطية، بما فيها جبهة التحرير الوطني، أثناء الحملة الانتخابية ضد التهريب، جعلت الناس يتخوفون من إغلاق الحدود مع المغرب، في حال انتصار الحكومة والجماعات والتنظيمات الموالية لها. إنه خطأ فادح ارتكبه الديمقراطيون. قبل بدء الحملة الانتخابية رسميا، بعدة أسابيع، شنت الصحافة الجزائرية، بوحي من بعض الأوساط الرسمية هجوما واسع النطاق ضد ما وصفته بالآثار السلبية لبناء المغرب العربي على الاقتصاد الجزائري. لقد كانت تلك الحملة محاولة يائسة وغير موفقة لاستنهاض نعرة الوطنية الاقتصادية الضيقة ضد تيار التبادل والتفاعل الكاسح الذي لا يعترف بالحدود. أتعرفون ماذا كان رد الفعل الشعبي على تلك الضجة الإعلامية؟ إنه مزيد من التدفق باتجاه الحدود. لقد بدأ الناس يتكلمون من جديد عن «طريق الوحدة»، بعد أن اقتنعوا بأن الحدود الرسمية سوف تغلق بالتأكيد، وطريق الوحدة هي الممر السري الذي كان المواطنون يسلكونه في الاتجاهين أيام إغلاق الحدود. خطأ فادح إذن ذلك الذي ارتكبه الرئيس أحمد بن بلة، حين تكلم في مدينة مغنية عن ضرورة محاربة التهريب، وغلطة استراتيجية شنيعة تلك التي ارتكبتها الصحافة الجزائرية الموالية للحكومة، حين أخذت تبرز ما أسمته بالجوانب السلبية لسياسة الحدود المفتوحة، مع المغرب وتونس، على الاقتصاد الجزائري. لقد قدم الرئيس السابق، والصحافة الديمقراطية من حيث لا يعرفان خدمة كبرى للأصوليين». تواصل مهندسة البتروكيماويات تحليلها مضيفة : «إنه الخطأ السياسي الفادح الذي سقط فيه مولود حمروش، عندما اتخذ قراره الشهير بتشديد الرقابة على الحدود البرية، والمطارات والموانئ عشية الانتخابات البلدية، في شهر جوان 1990، بدعوى ضرورة محاربة التهريب. لقد ساهم ذلك القرار في إقناع الناس بأن الحكم لم يتغير، ودفع بجماهير واسعة من المتمردين إلى الارتماء في أحضان الأصوليين، والتصويت لصالحهم في تلك الاستشارة الشعبية التعددية الأولى، وكنت أتصور -تقول تلك المهندسة- أن سيد أحمد غزالي، وهو من مدينة ندرومة الحدودية،، والرئيس السابق أحمد بن بلة، وهو من مدينة مغنية المجاورة لوجدة، لن يقعا في نفس الخطأ ولن يرتكبا نفس الخطيئة، ولكنهما خيبا آمالنا، عندما أرادا أن يحاربا السوق بالإيديولوجيا، ولعلهما ظنا أن بإمكان الأخلاق أن تنتصر على المصالح، لكن الذي حدث هو أن السوق فازت على الإيديولوجيا». ما زلنا نتذكر، أثناء زيارتنا السابقة للجزائر في ربيع وصيف 1990، كيف انقلبت شبكات التهريب إلى كارثة نفسية وسياسية ضد جبهة التحرير الوطني. يومها قال لنا السيد جمال حوحو، وهو وزير وسفير سابق، «ليس للمسؤولين الرسميين عندنا أي خيال سياسي. إنهم «يخربون بيوتهم بأيديهم»، ويقدمون خدمة سياسية مجانية لِلْمُلْتَحِين». وكانت حكومة مولود حمروش، قد أرفقت حملتها المعادية للتهريب آنذاك بضجة إعلامية واسعة النطاق، شاركت فيها محطات الإذاعة وقنوات التلفزة والصحف الصادرة باللغتين العربية والفرنسية. وهكذا أتيحت للمواطنين الجزائريين في تلك المناسبة، فرصة مشاهدة آلاف الأطنان من البضائع وقطع الغيار والعطور والتجهيزات والمشروبات المهربة من المغرب وتونس، والتي كانت تتكدس في المخازن والمستودعات، وتنزل إلى الأسواق، لتفرقها، ثم تختفي منها تحت مفعول يد سحرية خفية. وفي ظرف أيام معدودات، هبطت معدلات الأسفار بالطائرات، هبوطا مروعا، أرغم شركة الخطوط الجوية الجزائرية على إغلاق عدد من خطوطها مع المغرب وتونس وإيطاليا وإسبانيا وفرنسا. غير أن تلك الحملة التي استغرقت نصف شهر كامل، عشية الانتخابات البلدية، وكانت المادة الأولى لأجهزة الإعلام طوال أسبوعين كاملين، لم تزد الرأي العام إلا ابتعادا عن السلطة ونفورا منها. «لقد تصوروا -يضيف الوزير السابق- أنهم بمحاربة التهريب، يوجهون ضربة قاصمة للجبهة الإسلامية للإنقاذ، لكنهم في الحقيقة أسدوا إليها خدمة ثمينة، لا تعوض». سمعنا رأيا مماثلا حول نفس المشكلة من موظف كبير، هو الدكتور أحمد هني، أستاذ الاقتصاد السياسي بجامعة الجزائر، والذي كان قد عين قبل تلك الحملة، على رأس الإدارة العامة للضرائب : «لم يؤخذ رأينا إطلاقا في الموضوع، ولو أنهم استشارونا في الأمر لنصحناهم بالتريث. لقد أتيحت لي في إحدى المرات فرصة تقديم وجهة نظري، أثناء نقاش سريع، مع وزير الاقتصاد والمالية، السيد الغازي حيدوسي، لكن ذلك النقاش بيننا جرى بعد إصدار التعليمات الرسمية إلى إدارات الجمارك وشرطة الحدود بملاحقة المهربين ومداهمة أوكارهم واقتحام مخازنهم.والواقع أننا لم نكن بحاجة إلى نشر هذا الغسيل كله. رأينا العام، لم يفهم العملية، وفسرها على أنها تعبير عن إرادة الحكم في إغلاق الحدود من جديد، وفي العودة إلى الوضع الذي كان سائدا في عهد الرئيس الراحل هواري بومدين. وأستطيع أن أقول لكم بأن حكومة مولود حمروش، أضاعت بذلك التصرف رصيدها الناشئ، وأفقدت جبهة التحرير الوطني أية إمكانية للنجاح. وجاءت نتائج صناديق الاقتراع في الانتخابات البلدية، لتؤكد أن تلك البادرة لم تكن موفقة». وما حدث في انتخابات الدور الأول من التشريعات في شتاء 1991، كان تأكيدا مضخما وموسعا لما حصل في البلديات عام 1990. سوف نستعرض لاحقا، ظروف المعركة الانتخابية، ورهاناتها وعواقبها والآليات التي أسفرت عن تعطيل مسار التجربة وحصول الانقلاب المقنع الذي جاء بالسيد محمد بوضياف رئيسا للدولة. أما الآن، فإننا نستمر في تقديم نماذج وعينات تؤشر إلى قوة جبهة عباسي مدني وعلي بلحاج. كانت مدينة تلمسان، هي محطتنا الثانية بعد مغنية. ومدينة تلمسان، اختارت هي الأخرى، منذ الدور الأول، التصويت لفائدة حزب عباسي مدني وعلي بلحاج. ورغم أنها كانت قلعة، تعتبر حصينة من قلاع جبهة التحرير الوطني، فإن هذه الأخيرة لم تحتفظ فيها حتى بموقع يرشحها للفوز أثناء الدورة الثانية. مرشح جبهة التحرير الوطني المهزومة في تلمسان، واحد من أفراد الرعيل الوطني الأول. إنه طبيب كبير، كان يشغل منصب نقيب الأطباء في الغرب الجزائري، حين التقينا به ليلة مرورنا بالمدينة، كان ما يزال تحت تأثير الصدمة. «في الحقيقة أنا لا أفهم ما الذي حدث بالضبط حتى الآن. لقد كنت واثقا تمام الوثوق من النجاح. التوقعات والاستطلاعات كلها كانت تؤكد أن جبهة التحرير الوطني سوف تكسب الرهان في تلمسان، أو على الأقل تحتفظ بمكان في السباق للوصول إلى الجولة الثانية والأخيرة. أنا أنتمي لأسرة تلمسانية عريقة، معروفة بماضيها الوطني، لم يدر بخلدي لحظة واحدة أنني سأخسر المعركة منذ الدورة الأولى. إنها مفاجأة حقيقية بالنسبة لي». كان ذلك الطبيب الشيخ البالغ من العمر حوالي خمسة وستين عاما، والذي تنضح ملامحه بأصوله الأرستقراطية، يتحدث بمرارة مكبوتة عن فوز خصمه الإسلامي. وقد بدأ لنا من كلامه أنه يمثل نخبة حاكمة، مطمئنة إلى مكانتها في المجتمع، واثقة من حقها وجدارتها بالاستمرار في توجيه دفة شؤون البلاد : ولا تكاد تصدق ما جرى لها. خلال حوارنا مع ذلك الطبيب، لمسنا ما يمكن أن تقود إليه الثقة الزائدة عن اللزوم بالنفس، مع ما يرافقها من استهانة بالخصم... لقد هزم الرجل وحزبه منذ الدور الأول، ومع ذلك، حاول إقناعنا بأن «الجبهة الإسلامية» ليست حزبا، ولا يمكن أن تكون حزبا، وإنما هي مجموعة من الشراذم، لا تملك أي برنامج معقول. على مسافة ثلاثين كيلومترا نحو الجنوب الغربي من تلمسان، وفي قرية خميس بني سنوس، سوف نعاين صورة أخرى مختلفة، تعطينا فكرة عن القطيعة العميقة القائمة بين المجتمع المدني الجديد الصاعد الذي تمثله الجبهة الإسلامية، وبين المجتمع السياسي الآخذ في الأفول، والذي تمثله جبهة التحرير الوطني. على طول امتداد الطريق الجبلية الرابطة بين تلمسان وبني سنوس، لاحظنا عند مدخل كافة القرى والمداشر والدواوير التي توقفنا بها، وجود جماعات من الفتيان، يقفون عند الأطراف، ملتفين حول أحدهم آخذين في النقاش، منتبهين إلى الداخلين إلى بَلْدَتِهم أو الخارجين منها. وكنا نتوقف لنسأل عن الاتجاه المؤدي إلى ديار بني سنوس، ونطرح بعض الأسئلة السريعة عن الحالة السياسية والانتخابات. وقد ذهبنا عندما اكتشفنا أن كل من التقينا بهم ينتمون إلى الجبهة الإسلامية للإنقاذ، ولا وجود بالمطلق لجبهة التحرير الوطني. مناظر جبال بني سنوس نسخة طبق الأصل من جبال الأطلس المتوسط. أخيرا وصلنا القرية التاريخية، التي تنتمي إليها الأسرة السنوسية الشهيرة المؤسسة لدولة ليبيا الحديثة. وعلى الطريق، نشير إلى أنه يوجد فرع أو فخذ من قبيلة بني سنوس هذه، يحمل نفس الإسم بإقليم تاونات شمال مدينة فاس، ينتمي إليها رفيقنا محمد معنى السنوسي، عضو مجلس النواب المغربي وعضو اللجنة المركزية للاتحاد الاشتراكي. أما الفرع الثالث، فهو موجود بناحية مستغانم، ومنه مؤسس الطريقة الصوفية المعروفة التي استقرت بفزان، وقادت معارك حربية جنوب ليبيا وشمال تشاد وشرقي الجزائر، ضد الاستعمار الغربي مع بدايات هذا القرن، وكان من أشهر أفرادها إدريس السنوسي آخر ملك لليبيا. ويقال إن السنوسيين شرفاء أدارسة. وسواء صحت هذه النسبة أو كانت مفتعلة أو منتحلة، فالذي لاشك فيه أن السنوسيين موزعون جغرافيا ما بين برقة وفزان في ليبيا، وتاونات بالمغرب، مرورا بمستغانم وبني سنوس في غرب الجزائر. وهم يمثلون إحدى التجليات العشائرية لوحدة المغرب العربي. عند مدخل قرية خميس بني سنوس، التقينا بعدد من فتيان الجبهة الإنقاذية من بينهم شاب لا يتجاوز عمره الخامسة والعشرين، قدم لنا نفسه باسم صالح بوقنادل وقال لنا إنه أستاذ التكنولوجيا، شعرنا مرة أخرى بأننا ما نزال في نفس البلد. وفي سرعة البرق، حضرت مائدة الشاي ودعينا لزيارة مبنى البلدية، حيث استقبلنا نائب الرئيس. وردا على استفسارنا عن مصادر القوة المالية للجبهة وما إذا كانت تتلقى دعما من الخارج، قدم لنا أستاذ التكنولوجيا مثالا ناطقا عن أداء الفرع المحلي للجبهة في تلمسان، اعتبره دليلا يجسد قدرتها على الاكتفاء الذاتي، دون الرجوع حتى إلى المركز في العاصمة. ويتعلق الأمر بحياة ثلاثمئة عامل طردتهم السلطات من أعمالهم، بمناسبة الإضراب الانتفاضي الذي أعلنته جبهة الإنقاذ في شهري مايو-يونيو الماضيَيْن. لقد تمكن الفرع التلمساني، بعد عقد سلسلة من الاجتماعات والاتصالات مع الأعضاء والأنصار والمؤيدين والعاطفين، من توفير ميزانية دائمة مكنته من ضمان رواتب العمال المطرودين، التي ما تزال تؤدى لهم بانتظام حتى اليوم. حين عرف مسؤولو جبهة الإنقاذ انتماءنا إلى المغرب، أخبرونا بأن رئيس بلديتهم ينتسب هو الآخر لأسرة جزائرية مغربية، وأكدوا لنا بأن عائلته ما تزال مقيمة بالدار البيضاء. دارت علينا كؤوس الشاي عند مدخل القرية وقدمت إلينا في مكتب رئيس المجلس البلدي، مع ترحيب حار، ترافقه دعوة ملحة للبقاء لأجل زيارة الآثار والأماكن التاريخية، التي قالوا لنا إن المنطقة زاخرة بها. ومع ارتشافات السائل النحاسي الساخن، خُضْنَا في نقاش أخوي صريح حول التجربة السياسية الجديدة لدى جيراننا. وقد اتضح لنا بسرعة أن أستاذ التكنولوجيا الذي وجدناه عند أطراف القرية، هو المسؤول الأول لبني سنوس. اتضح لنا ذلك من الصمت والانضباط والنظرات المؤيدة الصادرة عن الحاضرين، والتي كانت ترافق حديثه إلينا. وما فهمناه عبر حوارنا بتلك القرية النائية جدا عن صخب العاصمة، والواقعة على مسافة مرمى حجر من الحدود، هو أنهم يحلمون بأن تعم «صحوتهم الإسلامية» المغرب المجاور، وذكر لنا أستاذ التكنولوجيا بأن مرجعياتها الفقهية والدينية مغربية أكثر مما هي مصرية أو مشرقية. ولم نفهم بالضبط قصده من هذا الكلام، كما أن الوقت لم يسعفنا للخوض في التفاصيل. وحين طرحنا سؤالا حول اختلاف الأنظمة السياسية والاجتماعية، وحول المشاكل العالقة، وخاصة قضية الصحراء، أجاب مخاطبنا بأن الشعب الجزائري لا يعرف شيئا عن الحكاية، وقال إنها غامضة جدا، ومشوشة، وهي في كل الأحوال، مثل مسألة النظام السياسي، من ضمن الاستراتيجيات العليا التي تخص القيادة الوطنية في العاصمة. وبقدر ما بدا لنا أن الحكيم التلمساني، الكهل، الهرم والمهزوم، يجسد بحكم سنه وعقليته ووضعه الاجتماعي، جيلا سياسيا قديما بدأت شمسه بالأفول، بقدر ما تأكد لدينا أن أستاذ التكنولوجيا يرمز إلى القوة الفتية، الحية الصاعدة على مسرح السياسة الجزائرية. ثم أن المشاهد والمشاهدات والملصقات والشعارات التي رأيناها على طول امتداد الطريق البرية بين مغنية والجزائر، واللقاءات والحوارات التي أجريناها في أكثر من مكان، بمناسبة وبدون مناسبة، مكنتنا، قبل الوصول إلى العاصمة، من الخروج بخلاصة واحدة فرضت نفسها علينا فرضا منذ ابتداء الرحلة حتى نهايتها، ألا وهي أن الجبهة الإسلامية للإنقاذ، سوف تفوز، لا محالة، بحصة الأسد، في الجولة الثانية للانتخابات التشريعية. أمام فندق تيمكاد الذي أقمنا به، في قلب مدينة وهران، توجد عمارة فخمة من عدة طوابق، تحتلها جميعها، اتحادية جبهة التحرير الوطني، لعاصمة الغرب الجزائري. إنها رائعة كلاسيكية فاخرة من الطراز المعماري الهسمانيHaussmann العائد إلى عصر نابليون الثاني، وهي شبيهة بالبنايات المماثلة العائدة إلى نفس الفترة الزمنية والموجودة بأعالي شارع سان جيرمان بالحي اللاتيني في باريس، سيكون ذلك النوع من المعمار «أسلوب الإمبراطورية الثانية»، إنها واحدة من آلاف المباني التي خلفها الفرنسيون. ورغم أننا زرنا مقر الحزب الحاكم، في ذروة الحملة الانتخابية الخاصة بالدورة الثانية، فقد وجدنا الرياح تصفر في ردهاته وأبهائه، وبدا لنا كما لو كان بناية باريسية من حي الأوبرا يوم عطلة أسبوعية. كانت المكاتب مقفلة، وكانت علامات الإهمال واضحة عليها. وحده الحارس، الشيخ كان موجودا، وعندما سألناه عن إمكانية الاتصال بالمسؤولين المحليين، أجابنا باختصار وعدم اكتراث قائلا : «يا حسرة! أراهم مزرتيين، يا خويا» (إنهم هربوا يا أخي). على بعد خطوات، وفي أحد الشوارع الخلفية، كان مقر الجبهة الإسلامية للإنقاذ، الموجود داخل مكاتب متواضعة مختلفا تماما. لقد بدا لنا بمثابة خلية نحل حقيقية تعج بالنشاط والحركة، يدخله عشرات الشبان، ويخرجون منه، أو يقفون على الرصيف أمامه. إنهم فتيان من عمر صالح بوقنادل، أستاذ التكنولوجيا الذي سبق أن التقينا به في قرية بني سنوس، يوزعون مطبوعات بينها برنامج الإنقاذ أو «كيف كان يتوضأ الرسول صلى الله عليه وسلم». الجزائر من الشاذلي بنجديد إلى محمد بوضياف أو شتاء الديمقراطية في الجزائر 2 - محمد السعيد : من الدعوة لانتصار الشيوعية إلى الدعوة الإسلامية صادف حلولنا بوهران الانطلاق الرسمي للحملة الانتخابية الخاصة بالجولة الثانية. كانت التلفزة الوطنية الجزائرية تقدم حصصا يومية للأحزاب الثلاثة التي ظل لها مرشحون يتنافسون على الدوائر الباقية، وهي جبهة الإنقاذ وجبهة القوى الاشتراكية وجبهة التحرير الوطني. هكذا رأينا السيد محمدي السعيد، يتكلم باسم الإنقاذ داعيا المواطنين إلى التصويت لها، لأنها هي التي تجسد الإسلام الحقيقي في رأيه. كان الرجل، وهو شيخ بدين، أصلع، قوي البنية، عصبي المزاج، يتكلم على الشاشة الصغيرة، والزبد يتطاير من فمه، وقد انتفخ ودجه وشدقاه، واحتقنت عروق جبهته وعنقه من فرط الانفعال الهستيري والغضب المقدس، والكلمات تخرج متسارعة من شفتيه وكأنها طلقات رصاص حقيقية. تذكرنا، ونحن نستمع إليه تلك الليلة، مهرجانا خطابيا كنا قد حضرناه معه في مرة سابقة بمدينة تيارت، وسمعناه يختتمه بقوله : «يحيا سيدي ربي. يحيا قل هو الله أحد». حكاية محمدي السعيد تستحق منا وقفة خاصة، لأنه يمثل عينة فريدة من الشخصيات التي يستند إليها الحزب الإسلامي. لقد دخل الرجل سلك الجندية غداة الحرب العالمية الأولى، وعند اندلاع الثانية تمت تعبئته كسائر الجزائريين، من أجل خدمة العلم الفرنسي، لكنه فر والتحق بالجيش الألماني. وكان الفرار من الجندية، في زمن الحرب يعتبر خيانة عظمى، تجري معاقبتها بالإعدام. ولابد أن تكون للهارب دوافع قوية تجعله يستهين بالمخاطر المرتبة عن سلوكه. ومحمدي السعيد، كان واحدا من عشرات إن لم نقل مئات الوطنيين المغاربة والجزائريين والتونسيين الذين راهنوا على ألمانيا النازية، واعتبروا أن حربها ضد فرنسا فرصة ذهبية لابد من استغلالها للحصول على تحرير بلادهم من الهيمنة الاستعمارية. لذلك نجده لا يكتفي بالفرار من سلك الجندية، وإنما يذهب مع مَنْطِقِةِ إلى نهاياته القصوى، فيقرر الالتحاق بصفوف القوات الألمانية، ثم يعود إلى شرق الجزائر متسللا لمحاولة تنظيم انتفاضة بجبال الأوراس ضد الوجود الفرنسي. وتقوم السلطات الفرنسية باعتقال الجندي الهارب، وتدخله السجن ثم تطلق سراحه، بعد صمت المدافع. وعندما اندلعت ثورة أول نوفمبر 1954، كان محمدي السعيد في عداد أفراد الرعيل الأول الذي التحق بها. وبعد انعقاد مؤتمر الصومال (20 غشت 1956) والتحاق السيدين كريم بلقاسم وعبان رمضان بتونس ضمن مسؤولياتهما داخل لجنة التنسيق والتنفيذ، وبين نهايات عام 1956 وبدايات عام 1957، عين محمدي السعيد على رأس القيادة العليا للولاية الثالثة تحت اسم العقيد سي ناصر. وفي منتصف سنة 1957 تم تطويقه، مع عدد من جنود وضباط جيش التحرير، بجبل ايكوفاف، قرب مدينة عين الحمام بولاية تيزي وزو. ودارت في تلك المناسبة معركة عنيفة سقط أثناءها أكثر من عشرين قتيلا من المجاهدين، وكان هدف المعركة، كما كتب أحد المشاركين فيها «هو كسر الطوق من أجل إنقاذ حياتكم ومنع العدو من إلقاء القبض عليكم حتى لا يستغل الحدث ويصوره على أنه ضربة خطيرة ضد الثورة. وهكذا انطلق المجاهدون، وهم يهتفون : «الله أكبر» وشقوا لكم ثغرة نجاة في صفوف العدو» (المصدر، جريدة لوماتان الجزائرية عدد 12 يناير 1992). كاتب تلك الواقعة، السيد «عمار أوقاسي» واحد من الذين شاركوا في حرب التحرير وقد نشر مقاله في الجريدة المذكورة، وآنفا تعليقا على حديث محمدي السعيد في التلفزة الجزائرية، ضمن الحصة المخصصة للجبهة الإسلامية للإنقاذ.يلاحظ كاتب ذلك المقال الانتقادي أن الخطيب لم يقل كلمة واحدة عن البرنامج الاقتصادي للجبهة الإسلامية للإنقاذ، وإنما أشعل فتيل الحقد والتقسيم والفتنة، مذكرا إياه بأن الجزائر كانت بلدا إسلاميا، من قبل أن تبرز جبهة الإنقاذ إلى الوجود. وكان محمدي السعيد، في خطبته الدعائية الانتخابية قد وصف الذين لا يصوتون للإنقاذ بأنهم «كفار وأعداء الله». تجدر الإشارة إلى أن محمدي السعيد هذا، شغل وظيفة النائب الثاني لرئيس الجمهورية، خلال عهد الرئيس أحمد بن بلة. ومن بين الدعابات والنوادر التي تروى عنه تأكيدا لقوة نزعته الدينية وسذاجته السياسية، واحدة تقول أنه ذهب في رحلة رسمية إلى موسكو، على رأس وفد سياسي كبير من جبهة التحرير الوطني، وأثناء مقامه بالعاصمة السوفياتية نظمت له وللوفد المرافق حفلة عشاء كبرى بقصر الكرملين، شربت فيها الأنخاب وفقا للتقاليد الشيوعية : «نخب الصداقة بين الشعوب»، «نخب السلام»، «نخب الثورة الاشتراكية». وقد حضر كافة الزعماء السوفياتيين، وعلى رأسهم نيكيتا خروتشوف، ذلك الحفل، وكان كل واحد منهم يرفع قدحه وينتصب واقفا لينطق جملة طقوسية العربية»، أو فلنشرب نخب الصداقة الإفريقية-السوفياتية الخ...» وعندما حان الدور البروتوكولي لرئيس الوفد الجزائري، نهض محمدي السعيد ووقف قائلا : «باسم الله الرحمان الرحيم، لنشرب نخب انتصار الشيوعية بإذن الله». ذلك الرجل الذي شغل وظيفة النائب الثاني لرئيس الجمهورية في الفترة ما بين 1963 و1965، وظل حتى انقلاب التاسع عشر من يونيو يحتل المكانة الثالثة بعد ابن بلة وهواري بومدين ما يزال يردد نفس الخطاب الذي كان يتعاطاه منذ ثلاثين سنة. ولكنه انتقل من موقف الدعاء لانتصار الشيوعية إلى موقع الدعوة الإسلامية. عندما كانت جبهة التحرير الوطني، هي القوة المهيمنة في الساحة الوطنية، وكانت سياسة الجزائر الخارجية تقوم على مبدأ التحالف مع المعسكر الشيوعي رأيناه، حسب الرواية السابقة التي سمعناها من أحد مرافقيه، ينادي بانتصار الشيوعية، أما اليوم، وقد تبدلت الأحوال، فقد سمعناه يكفر الذين لا يصوتون للقوة الجديدة الصاعدة. إنه من أولئك الرجال الذين يلبسون لكل حالة لبوسها. هكذا، حين كانت النازية، حركة صاعدة وجدناه يتحالف مع الألمان، وحين شم رائحة انتصار بن بلة وبومدين، وجدناه يقف معها في خندق واحد، وهاهو الآن يصبح جنديا من جنود الدعوة السياسة الإسلامية. لقد استمعنا إلى محمدي السعيد، أكثر من مرة أثناء إقامتنا بالجزائر خلال السنوات التالية للاستقلال، والتقينا به مباشرة في ربيع 1990 ببلدة المرحوم كريم بلقاسم، في قلب جبال القبائل. كان محمدي السعيد، قد حضر يومها من العاصمة للمشاركة، مع شخصيات في إحياء ذكرى اغتيال السيد كريم بلقاسم، الذي كانت المخابرات العسكرية، قامت بتصفيته داخل فندق ألماني بمدينة فرانكفورت، أثناء عهد الراحل هواري بومدين. وقد حاول محمدي السعيد إلقاء خطاب عام عن الإسلام، لم يتطرق فيه من قريب ولا من بعيد لرفيقه الراحل، والذي كان ذلك المهرجان قد أقيم لتخليد ذكراه. بمبادرة من رابطة أبناء الشهداء. لكنه لم يستطع متابعة خطابه، بل إنه أثار حفيظة مجموعات من الشبان أخذوا يهتفون ضده بالأمازيغية والفرنسية، يطالبونه بالاختصار وبحصر كلامه في مناقب وأعمال الرجل الذي أقيمت تلك التظاهرة تخليدا لذكراه. وعلى الرغم من الهتافات والصرخات والتصفيرات المعادية ظل محمد السعيد قابضا بيد مرتجفة على مكبر الصوت، مسترسلا في خطبته الإسلامية، واتَّهم الشبان الذين كانوا يقاطعونه بأنهم كفرة ملاحدة، وهددهم بقطع ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم، في عهد الدولة الإسلامية العتيدة التي يبدو أنه كان واثقا من انتصارها. أما خطابه الانتخابي، على شاشة التلفزة الوطنية، فقد أتيحت لنا مشاهدته في بيت أسرة جزائرية صديقة، بحضور عدد من السيدات والسادة يمثلون عدة فعاليات، الأمر الذي مكننا من رصد ردود الفعل الفورية الساخنة إزاء الإيديولوجية الإسلامية السياسية لدى نماذج متعددة من رموز النخبة العصرية. وأكثر ما استرعى انتباهنا، هو الفزع الذي أثاره الخطيب في صفوف السيدات. لقد كانت هناك مهندسة، وطبيبة وأستاذة جامعية، رددن بصوت واحد مذعور : «يا إلهي! يا إلهي! فظاعة! فظاعة! أهؤلاء هم الذين سيحكموننا؟ إنه هتلر من لحم ودم...» قال أحد الرجال الحاضرين، وقد قدموه لنا على أنه صاحب معمل لصناعة الجعة، معلقا بدون اكتراث : «اعذروه! لقد كان نازيا في شبابه!». وذكرت إحدى السيدات، وهي مهندسة تشرف على قسم إداري وتقني هام لشركة نفطية أن واحدا من صغار الموظفين العاملين تحت مسؤوليتها، بدأ يستفزها ويضايقها، بل ويهددها قائلا ما مؤداه : «يجب عليك أن تستعدي لوضع الحجاب أو العودة إلى البيت من أجل التفرغ للشؤون المنزلية والاعتناء بتربية الأولاد». ولاحظت الأستاذة التي تتولى تدريس مادة الاقتصاد السياسي بالجامعة أن ابنتها التي لا تتجاوز خمسة عشر عاما، صارت تتدخل بكل شاذة وفاذة من حياتها الشخصية، داعية إياها إلى الكف عن الكلام باللغة الفرنسية مع الزميلات اللائي يزرنها في البيت محرضة لها على الاستقالة من العمل لكي تبقى في البيت وتتفقه في شؤون الدين واللغة العربية... أما الطبيبة، التي تمارس عملها بأحد المستشفيات العمومية، وتقدم دروسا عن التشريح في الكلية، فقد أخبرتنا أن أحد زملائها المنخرطين في جبهة الإنقاذ أفادها بأن الحكم الإسلامي القادم، سوف يصدر قانونا يمنع النساء من العمل باستثناء الطبيبات والممرضات والمعلمات، كما أنه سيحرم معالجة النساء من قبل الرجال والعكس، وروت لنا تلك الطبيبة حكاية الأطباء الذين أضربوا عن العمل في شهر رمضان الماضي لأنهم لا يريدون ملامسة أجساد النساء أثناء الصيام، وقالت إن التجربة سوف تتجدد مع حلول رمضان القادم، ثم شرحت المآسي الناجمة عن هذه الوضعية، خاصة في الأقسام ذات التخصص العالي في المتابعة والعناية بشؤون الحوامل... شرحت ذلك كله وأضافت في لهجة باردة قاطعة : «إنهم يستعدون للانتقال بنا إلى القرون الوسطى». قال رجل الأعمال من جهته : «مصيبة وَخْلاَصْ لقد أنفقنا أموالا طائلة، في جلب آلات وتجهيزات جد متطورة، ومعقدة، من ألمانيا لتحديث مصانع الجعة. دفعنا ثمن مستورداتنا بالعملة الصعبة، وغرقنا في الديون، ولكننا أوقفنا عملية التركيب في انتظار انجلاء الأمور. وقد جَاءَنِي قبل أسبوع، مهندس كيمائي لم أكن أعرف انتماءه للحزب الإسلامي، واقترح علي إرسال وفد تقني إلى العربية السعودية، للاستفادة من خبرتهم في إنتاج البيرة الخالية من الكحول. وأعرف مجموعة من مصانع النبيذ في الغرب الجزائري تواجه نفس المشكلة. لقد استوردوا آلات معقدة من فرنسا، وأرسلوا فنيين وخبراء لإمضاء فترات تدريب وتكوين مكلفة، ولكنهم وضعوا خططهم التجديدية والتحديثية في الرفوف تحسبا للطوارئ. والمسألة أكثر تعقيدا مما يتصوره الملتحون. إن تطور الصناعات الكيمائية مرتبط تاريخيا بتصنيع المشروبات الروحية. وإذا أصبحت العربية السعودية مثلنا الأعلى حتى في إنتاج البيرة، فإن المجال الكيمائي الوحيد الذي سيحافظ على مستواه التكنولوجي، هو ذلك الذي يتصل بالبتروكيماويات». أحد الرجال الحاضرين فسر لنا تصويت الأغلبية الساحقة من الناخبين على مرشحي جبهة الإنقاذ بقوله : «المسألة في منتهى البساطة. الجزائريون مسلمون، مؤمنون بالحياة الآخرة، وليست لديهم أية أوهام عن إمكان إيجاد حلول فعلية لمشاكل الإسكان والغذاء والماء والتطبيب والبطالة والتعليم، التي يتخبطون فيها، ولذلك فهم يريدون الاطمئنان في الأقل على مصيرهم بعد الموت. وأنا أعرف أشخاصا صوتوا للفيس تجنبا لتبكيت الضمير. لقد نجح الحزب الإسلامي في خلق عقدة ذنب كبرى عند الكثيرين». هذا الخطاب السياسي الأخروي أثار ثائرة المهندسة، فاندفعت لتسفيهه، مخاطبة ضيوفها من الرجال : «أنتم الرجال، مرتاحون بلا شك، لأن اللعبة الجديدة تخدم مصالحكم الأنانية. وإذا ما نجح الإنقاذيون في الاستيلاء على السلطة، فأنتم تتصورون، لا شعوريا، أنكم سوف تعيشون عصركم الذهبي. حتى التقدميون منكم يشعرون في أعماقهم بالغبطة. أنتم تحلمون بالعودة إلى عُصُور الحريم الأسطورية. ولكن حذار! إذا لم يتمكن الإسلاميون من تسوية المعضلات الاجتماعية، فسوف تقوم ثورة عارمة تدفع الناس إلى الكفر بالدين. ماذا سيفعلون بالانفجار الديموغرافي؟ إن عودة النساء إلى البيوت لن تحل المشاكل بل ستعقدها، وفتح المجال أمام تعدد الزوجات، لابد أن تكون نتيجته ارتفاعا صاروخيا، مذهلا في النسل. الصناعة الوطنية الوحيدة التي ستزدهر في هذه الحالة، هي صناعة الأرحام، ولكن ماذا سيقدمون لملايين الأفواه الجديدة؟ أية سوق للعمل؟ أي تعليم؟ أية برامج إسكانية؟ لن تنطلي لعبتهم فترة طويلة على الناس». أثناء تلك السهرة، في بيت الأسرة الجزائرية بوهران، سمعنا حكايات لا عد لها ولا حصر عن المضايقات التي تتعرض لها النساء في أماكن العمل. «خذوا مثلا قصة أستاذة اللغة والحضارة الألمانية بجامعة الجزائر. إنها سيدة محترمة، كانت تعيش مع أبيها وأمها بحي الأبيار في العاصمة. لقد نالت تلك المرأة شهادة دكتوراه الدولة في اللغة الألمانية وآدابها من جامعة برلين في منتصف الثمانينات، وعرضوا عليها البقاء في ألمانيا براتب محترم، من أجل تدريس الآداب العربية، لكنها رفضت وفضلت العودة إلى بلدها لتساهم في نهضته العلمية والفكرية. وبعد القيام بمساعي مضنية تمكنت من الحصول على منصب معيدة في الجامعة، وبدأت تمارس عملها بشغف وحماس، لكنها اصطدمت منذ البداية بسلطة الأصوليين، الذين كانوا يقتحمون قاعة الدرس، ويشاغبون عليها لمنعها من الاستمرار. كانت تلك الأستاذة تعمل أيضا في لجنة إحياء تراث كاتب ياسين، وتساهم في نشاط عدد من الروابط والجمعيات المهتمة بالدفاع عن حقوق المرأة. وقد ظهرت مرة على شاشة القناة الثانية للتلفزة الفرنسية ضمن برنامج خاص عن الجزائر تكلمت فيه عن معاناة النساء الجزائريات، وعن الآفاق المظلمة التي تنتظرهن، في حالة سقوط الدولة بين أيدي أنصار الحركة الإسلامية. لم تتكلم أستاذة اللغة الألمانية عن محنتها الشخصية في الجامعة، وإنما حصرت كلامها حول الظاهرة العامة، ظاهرة العدوان المستحكمة في الوسط الفكري بين الإسلاميين والفرانكفونيين مع تركيز خاص على محنة المرأة العصرية. وبعد ثلاثة أيام من ظهورها في القناة الثانية، فوجئت بخمسة شبان ملتحين يهاجمونها، لحظة خروجها من منزل أسرتها، ويهددونها بالتصفية الجسدية، ثم يحطمون الزجاج الأمامي لسيارتها. بعد ذلك الهجوم، تلقت مكالمات هاتفية من أشخاص مجهولين، بينهم صوت أنثوي عرفت فيه واحدة من طالباتها الفاشلات، التي قالت لها «إن الحل الوحيد لمشكلتها يكمن في التوبة والعودة إلى الإسلام ووضع الحجاب، وإلا فهي وحدها المسؤولة عما ينتظرها من سوء في الدنيا وشر في الآخرة». تساءلت السيدة التي روت الحكاية أمامنا : «أتعرفون ماذا حدث بعد ذلك؟ لقد غادرت الأستاذة الجزائر، وذهبت إلى فرنسا ثم من بعدها إلى ألمانيا. لقد حولوا حياتها إلى جحيم، ففضلت أن تنجو بجلدها ويمكن لي أن أقول لكم بأن كثيرات من الجامعيات والطبيبات والموظفات، سوف يبذلن المستحيل، لمغادرة هذه البلاد إذا ما وصل الإسلاميون إلى الحكم». سوف نجد نفس الرؤية التشاؤمية بشأن المستقبل، لدى توقفنا بمدينة مستغانم، وسوف نجد بالخصوص قناعة عميقة لدى الرجال هذه المرة، بأن جبهة الإنقاذ، بدأت تضع اللوائح، على جميع المستويات، وفي كافة القطاعات، استعدادا لتنصيب أطرها في مناصب المسؤوليات الاقتصادية والتقنية والمالية، وسوف نسمع ألف حكاية وحكاية عن أشكال التعبئة الجماهيرية التي مارستها للفوز في الانتخابات التشريعية. في مدينة مستغانم الشاطئية الجميلة روى لنا مدير الميناء، وهو ابن أحد المجاهدين الذين استشهدوا في الثورة، أنه اقتنع بانتصار «الفيس» عندما شاهد رجلا ثوريا يحمل جدته على ظهره، إلى مكتب الاقتراع، من أجل التصويت، كما أكد لنا أنه يعرف الشخص الذي يَخْلُفُهُ في إدارة الميناء. في مدينة مستغانم أيضا سمعنا لأول مرة، من طبيب جزائري يبدو لنا الآن، وبعد ذهاب الرئيس الشاذلي بنجديد أنه كان على معرفة دقيقة بالأوضاع، سمعنا منه ما مؤداه أن قيادة الجيش لن تسمح للإسلاميين بالوصول إلى السلطة. وقال لنا ذلك الطبيب أن «كل الديمقراطيين، يؤيدون بلا تحفظ عودة الجيش إلى الحكم مباشرة لحماية البلاد مما وصفه بالطاعون أو الوباء الأصولي» وحين أبدينا بعض الاستغراب والدهشة من أن يقف الديمقراطيون ضد نتائج صناديق الاقتراع، أحالنا على تصريح أدلى به السيد رابح بلكبير، مسؤول العلاقات الخارجية في الجبهة الإسلامية للإنقاذ، يستخلص منه أن هذا الحزب الإسلامي «لا يؤمن إطلاقا بالديمقراطية، وإنما يستغلها كوسيلة للاستيلاء على السلطة» لم نصدق ما سمعناه، بل اتضح لنا بالملموس أن «الديمقراطيين» أو من يصفون أنفسهم كذلك، مثلهم في ذلك مثل الإسلاميين، مستعدون لدفن الديمقراطية، إذا كانت نتائجها غير ملائمة لهم. وبعد تدقيق وتمحيص، تبين لنا أن الدكتور رابح بلكبير، وهو للمناسبة أستاذ مادة الفيزياء بأحد المعاهد وعضو مجلس شورى الإنقاذ ألقى خطابا انتخابيا قبل ذلك ببضعة أيام، دعا فيه المواطنين للتوجه إلى صناديق الاقتراع يوم السادس عشر من يناير «حتى يصوتوا للمرة الأخيرة» على حد تعبيره. كذلك قرأنا في الصحف الجزائرية تصريحات منسوبة إلى مسؤولين في الحزب الإسلامي يعلنون فيها أن مثلهم العليا في الحكم، مستمدة أو سوف تستمد من ثلاثة بلدان هي الجمهورية الإسلامية الإيرانية والمملكة العربية السعودية والسودان. في الطريق الرابطة بين وهران والجزائر شاهدنا أكثر من شعار يبشر بقرب ميلاد الدولة الإسلامية، وتكررت بعض الشعارات أكثر من مرة في الصيغة التالية : «الدولة الإسلامية قادمة والخلافة راجعة»، أو «لا برلمان ولا دستور... ما قال الله والرسول» «لا مجلس لا برلمان... دستورنا هو القرآن». إن انتشار مثل هذه الكلمات على طول امتداد الطريق الطويلة بين مغنية والجزائر العاصمة، مرورا بتلمسان، فوهران، فالأصنام، (الشلف) والبليدة. يؤكد أننا أمام شعارات مركزية إستراتيجية وضعها جهاز وطني، وزعها على شبكة محكمة تغطي فضاءات متباعدة، وكلفها بكتابتها على الجدران الملاصقة للطريق الكبرى. عند دخولنا مدينة بليدة التي تبعد عن العاصمة بحوالي أربعين كيلو مترا والتي هي مقر قيادة الناحية العسكرية الأولى، رأينا تباشير وبوادر الانقلاب العسكري المقنع، قبل بضعة أيام من وقوعه. رأينا الاستعدادات الميدانية في صورة شرطة عسكرية تقوم بتنظيم حركة المرور ليلا، ورأيناها في شكل جرارات ضخمة تتولى نقل المدرعات والمصفحات والآليات والمدافع والجنود من نقطة لأخرى، أو من ثكنة لغيرها. وكانت الجزائر العاصمة حين وصلنا إليها ليلة الثلاثاء في السابع من يناير، أي قبل خمسة أيام من الإعلان الرسمي عن استقالة الرئيس الشاذلي بنجديد، توحي من خلال التحركات العسكرية عند أطرافها ومداخلها الجنوبية باقتراب لحظة الحسم. ومع ذلك لم تكن الصحف ولا قنوات التلفزة، ولا محطات الإذاعة، تتحدث سوى عن نشاطات واجتماعات الأحزاب الثلاثة، أي الجبهة الإسلامية للإنقاذ، وجبهة القوى الاشتراكية، وجبهة التحرير الوطني، في نطاق الإعداد للدور الثاني من الانتخابات التشريعية. ولم نتمكن من البقاء في الجزائر، عندما بلغنا في صباح اليوم التالي نبأ الفاجعة الوطنية، المتمثلة في غياب قائدنا السياسي الكبير عبد الرحيم بوعبيد. لقد انتشر خبر غيابه بسرعة في الوسط السياسي بالعاصمة الجزائرية، الأمر الذي دفع عددا من الشخصيات السياسية إلى الاتصال مع وفدنا لتقديم التعزية والمواسات. «إنه أسبوع تراجيدي حقا بالنسبة للمغرب العربي، أسبوع اختفت فيه جبهة التحرير الوطني من المسرح السياسي الجزائري، وانتقل فيه عبد الرحيم بوعبيد إلى جوار ربه»، هكذا قال وزير جزائري سابق، حرص على القيام بزيارة الشقة التي كنا نقيم فيها عند أحد إخواننا القاطنين بالعاصمة. ويضيف الوزير السابق «خسارة كبرى لا تعوض... الله يرحم سي عبد الرحيم... المصيبة أننا لا نستطيع إرسال بعثة للاشتراك في تشييع جنازته لانشغالنا هذه الأيام بدفن جبهة التحرير الوطني عجيبة هي الأقدار، لأنها شاءت خلق هذا التزامن المفجع بيننا وبينكم، إنكم تفقدون في شخص الرجل وجها طبع حياتكم السياسية منذ الاستقلال حتى الآن، ونحن نفقد في جبهة التحرير الوطني الهيئة التي مكنتنا من استعادة سيادتنا الوطنية. هي صفحة كاملة من تاريخنا المشترك نطويها معا، في نفس الأيام، و»عزاؤنا واحد»، يا أخي، وتحياتنا لجميع الإخوان... الله يعاونكم على ما بعد بوعبيد، والله يساعدنا على ما بعد جبهة التحرير». الجزائر من الشاذلي بن جديد إلى محمد بوضياف أو شتاء الديمقراطية في الجزائر 3 - كيف تمرد الوزير الأول قاصدي مرباح على بن جديد؟ منذ أن استعادت الجزائر استقلالها الوطني خلال صيف 1962، بعد مئة واثنتين وثلاثين سنة من الاستعمار الاستيطاني الفرنسي، وفي أعقاب خوضها لحرب تحرير عنيفة، قدمت فيها مئات آلاف الشهداء، واستغرقت من حياتها سبع سنوات طوال، منذ ذلك التاريخ، وحتى شتاء هذا العام (1992) الذي شهدت فيه ثاني تجربة ديمقراطية حرة ونزيهة، والمؤسسة العسكرية هي صاحبة كلمة الفصل في حياتها السياسية. بل يمكن القول، من دون مبالغة، بأن هذه الدولة الشقيقة عاشت طوال الثلاثين سنة الماضية، في ظل ما نستطيع أن نسميه حالة انقلاب دائم. حصل الانقلاب الأول، حتى من قبل أن يتم الإعلان عن ميلاد الدولة الجديدة المستقلة. كانت الحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية، التي يرأسها الدكتور الصيدلي، يوسف بن خدة، تستعد مع بداية شهر يونيو للانتقال من تونس، حيث توجد مكاتبها، إلى الجزائر، لأجل استلام السلطة من الإدارة الفرنسية، وذلك وفقا لمعاهدة إفيان وتطبيقا لنتائج الاستفتاء الذي صوت أثناءه الشعب الجزائري بأغلبية ساحقة على الاستقلال. وبينما كان وزراء الحكومة المؤقتة الممثلة للشرعية الوطنية والدولية، يجمعون حقائبهم، ويهيئون أنفسهم للرجوع إلى بلدهم، أعلنت القيادة العامة للجيش الوطني والشعبي، عدم ثقتها في الوزارة، واتخذ رئيس هذه الأخيرة قرارا بعزل بومدين ورفاقه. يومها وصلنا الخبر، بواسطة قصاصة عاجلة من وكالة الأنباء الفرنسية. كنا في جريدة التحرير، وقد نزل علينا النبأ كالصاعقة، وسمعنا الأستاذ عبد الرحمان اليوسفي، رئيس تحرير الجريدة، يعلق عليه، في لحظة من لحظات سخريته النادرة، قائلا : «لا بأس، ها هي الجزائر تؤكد لنا عروبتها، لأنها عاشت انقلابها العسكري الأول حتى من قبل ميلادها الرسمي كدولة مستقلة». وما أشبه اليوم بالأمس. كان الرهان الاستراتيجي لانقلاب صيف 1962، هو منع قيام سلطة مدنية، تصبح فيها صلاحية اتخاذ القرار من صنع المجتمع المدني والسياسي، ولا يزال رهان شتاء 1992، ينحصر في الحيلولة دون تمتيع غالبية الشعب الجزائري، بثمرات اختياره السياسي. وفي كلتا الحالتين، كانت الحجة المبررة أو المسوغة لتدخل العسكر هي هي : حماية الثورة والوحدة الوطنية في المرة الأولى، والحفاظ على مؤسسات الدولة وصيانة الأمن العام في المرة الثانية، وفي الحالتين أدى تدخل العسكر، إلى تعطيل التطور الديمقراطي لفترة زمنية بالغة الخطورة في حياة المغرب الأوسط خصوصا والمغرب العربي عموما. ولا تنتهي أوجه التشابه عند هذا الحد، بل إنها تمتد لتشمل أسلوب معالجة الصراع. في صيف 1962، لجأ أعضاء قيادة الجيش إلى أحمد بن بلة، واختاروه من بين الزعماء الخمسة ليرشحوه لقيادة الدولة الجديدة. وفي شتاء 1992، اختاروا رفيقه وخصمه السياسي اللدود محمد بوضياف ليقوم بنفس المهمة. قبل انفجار أزمة صيف 1962، بعثت القيادة العامة لجيش التحرير الوطني أحد أعضائها (عبد العزيز بوتفليقة الذي كان يعرف باسم الرائد عبد القادر) في مهمة سرية إلى فرنسا للاتصال بالقادة الخمسة الذين كانوا ما يزالون رهن الاعتقال في سجن أروتان، وهم أحمد بن بلة، محمد بوضياف، حسين آيت أحمد، محمد خيضر، ورابح بيطاط. كانت مهمة بوتفليقة في الظاهر تنحصر في عرض وجهة نظر هيئة الأركان العامة حول المفاوضات الجارية بشأن الاستقلال، أما في الباطن، وكما رواها السيد عبد العزيز بوتفليقة نفسه لاحقا، فقد كان الهدف منها جس نبض الزعماء الخمسة ومعرفة استعداد كل واحد منهم للتحالف مع الجيش في نزاعه المفتوح ضد الحكومة المؤقتة. عاد عبد العزيز بوتفليقة من رحلته الفرنسية، وقدم تقريرا مفصلا إلى العقيد هواري بومدين عن الحوارات التي أجراها مع القادة السجناء، واقترح أن يتحالف الجيش مع أحمد بن بلة لأنه وجد لديه «استعدادا لفهم موقفنا»، وفقا لتعبير سمعناه من بوتفليقة في خريف العام الماضي. وإلى جانب هذا الاعتبار السياسي الخالص، كان هناك عامل آخر -حسب رأي بوتفليقة دائما- دفع الجيش إلى اختيار أحمد بن بلة بدلا من غيره، ألا وهو كون الأخير مؤهل أكثر من الباقين للزعامة، وكان أكثر شعبية في الداخل والخارج من الآخرين، «ولكننا لم نشأ -يقول عبد العزيز بوتفليقة- أن نعلن اختيارنا على الملأ، قبل استكمال الاستعدادات العسكرية، وقبل الاتفاق مع قوى الداخل. لقد توليت بنفسي مع المرحوم أحمد المدغري التحضير لزيارة أحمد بن بلة لوجدة في صيف 1962، غير أننا فضلنا الانزواء عن الأضواء، خوفا من إثارة بعض الحساسيات، سيما وأننا كنا، مثل سي أحمد، ننتمي إلى منطقة الغرب الجزائري». في صيف 1965، بادرت قيادة الجيش التي جاءت بأحمد بن بلة إلى السلطة، بإسقاطه، وبإنشاء مجلس للثورة وضعت على رأسه العقيد هواري بومدين. ويمكن أن تقال أشياء كثيرة عن ذلك الانقلاب الثاني، لكن الذي يعنينا من أمره هنا هو ما يمثله كلحظة استراتيجية ودرامية، من لحظات التدخل السافر للجيش في السياسة وتغيير مجراها، والتحكم في إيقاعها ورسم مسارها إلى حين. وقد أسقط الجيش أحمد بن بلة بحجة «محاربة الفوضى والارتجال والحكم الفردي وحماية مكاسب الثورة وصيانة الوحدة الوطنية، وفرض احترام الدولة إلخ...»، وحين نقارن العبارات التي استعملتها قيادة الجيش في أدبياتها المنشورة خلال أزمتي 1962 و1965، مع الكلمات الواردة في بيان التاسع عشر من يونيو، نجد أنفسنا أمام نفس المسوغات الإيديوليوجية رغم اختلاف الظروف. الانقلاب الثالث تم فيما بين نهايات 1978، وبدايات 1979، أي في الفترة اللاحقة لوفاة بومدين مباشرة. وكان الاعتقاد السائد يومها في الداخل والخارج، أن اختيار خليفة للرئيس الراحل سوف يتم لواحد من اثنين، هما العقيد محمد الصالح اليحياوي، مسؤول حزب جبهة التحرير الوطني وعبد العزيز بوتفليقة وزير الخارجية. لكن، حين انعقد مؤتمر حزب جبهة التحرير، فوجئ العالم كله بظهور اسم العقيد الشاذلي بن جديد، كمرشح لرئاسة الجمهورية. يومها انتشرت في الجزائر نكتة سياسية تقول بأن الصراع حول الخلافة دار بين شخصية معربة هي اليحياوي وشخصية مفرنسة، هي عبد العزيز بوتفليقة، لكن الجيش الذي لا يحب التدخل في السياسة اختار ضابطا محايدا، هو الشاذلي بن جديد، الذي يجهل اللغة العربية ويجهل اللغة الفرنسية، ولا يفهم سوى «حاضر سيدي»... وواضح ما تشتمل عليه هذه النكتة من ثلب وتشهير في حق الرئيس الجديد، ومن غمز ولمز من تحت قناة الجيش. وواقع الحال أن السيد عبد العزيز بوتفليقة يتقن العربية والفرنسية بنفس الدرجة، ويرتجل بهما خطابات سياسية تنم عن ثقافة واسعة، كما أن محمد الصالح اليحياوي لا يجهل اللغة الفرنسية، وإن كان تكوينه الثقافي عربيا خالصا. وإبعاد الرجلين من حلبة الصراع حول الخلافة وتقديم الشاذلي بن جديد مرشحا وحيدا، كان أمرا قضي بليل، عبر مشاورات اقتصرت على صناع القرار داخل جهاز الاستخبارات والأمن العسكري الذي لم يتوقف عن توجيه دفة السياسة، إما في الظل خلال الأوضاع العادية، وإما علنا أثناء الأزمات. وقد روى لنا وقائع ذلك الانقلاب السري الذي لم يسمه أحد، طبعا، باسمه الحقيقي، رواها لنا كل من محمد الصالح اليحياوي، الذي كان صاحب الحظ الأوفر، آنذاك في الخلافة، والعقيد قاصدي مرباح، الذي كان يشغل يومها وظيفة مدير الأمن العسكري، وكان له رأي حاسم في تقرير مجرى الأحداث. قال لنا السيد محمد الصالح اليحياوي : لقد كلف بن جديد بعد وفاة بومدين بتولي تنسيق الشؤون العسكرية مؤقتا وذهبت بمعيته، وبتكليف من أعضاء مجلس الثورة الأحياء، والذين كانوا ما يزالون محتفظين بعضويتهم، أقول إننا ذهبنا معا عند السيد رابح بيطاط رئيس المجلس الوطني الشعبي، وطلبنا منه تحمل مسؤولية رئاسة الدولة بالوكالة، وفقا لنص الدستور، في انتظار انعقاد مؤتمر الحزب الذي له وحده صلاحية وأحقية اختيار المرشح. وكان من المفروض أن نلتقي في اليوم التالي لاستئناف اجتماعاتنا، لكني فوجئت به يتصل بي هاتفيا ليقول لي بالحرف : «رَاهُم الخَاوَة فرضو علي نترشح للريَّاسة»، وبذلك وضعني أمام الأمر الواقع، وأفهمني أن الأمور محسومة. وكان ردي : «وَاشْ تْحَبْ نْقُول لَكْ؟ الله يْعَاوْنك...». قاصدي مرباح أكد لنا من جهته أنه هو الذي فرض الشاذلي بن جديد على المؤسسة العسكرية، تمهيدا لفرضه على الحزب. شيء واحد لم يذكره لنا الرجلان، وهو أن مؤتمر الحزب، إنما اجتمع من أجل المصادقة والتصفيق، لا أكثر ولا أقل. كما أنهما لم يشرحا لنا بما فيه الكفاية الخلفيات والحسابات الثانوية في صلب ذلك الاختيار. والحقيقة أن الشاذلي بن جديد، عند وفاة بومدين، كان بعيدا عن الأضواء، ولم يكن مطلعا على خبايا السياسة الداخلية والخارجية وتعقيداتها وتشابكاتها، ولا كان على معرفة بالآليات التي تتحكم بها. حقا إنه كان أقدم ضباط مجلس قيادة الثورة وأكبرهم سنا وأرفعهم رتبة، وتلك بلا جدال هي الصفات التي قدمت لتبرير اختياره دون سواه. إلا أن باطن الأمور يختلف عن ظاهرها. وما حدث بعد وفاة بومدين، يشبه في كثير من جوانبه ما حصل غداة غياب عبد الناصر. لقد تعذر على أجهزة المخابرات والأمن والمقامات النافذة في مختلف قطاعات الجيش، وقيادات الحزب الواحد، التوصل وبسرعة إلى انتقاء خليفة لعبد الناصر ضمن وجهاء النظام وأعيانه وباروناته. وهذه الاستحالة، هي التي دفعت أغلب العناصر النافذة في الدولة الناصرية إلى الالتفاف مؤقتا حول أنور السادات. وافق الجميع على أن يكون أنور السادات الخليفة الرسمي، وفي ذهن كل طرف من الأطراف المتطاحنة، أن ذلك الحل، يعطيه الفسحة الزمنية الكافية لترتيب شؤونه وبناء تحالفاته، وفي أسوأ الأحوال، فإن شخصية السادات «الفهلوية» الضعيفة، ستمكنهم من تحويله إلى رئيس-دمية. ومثلما فاجأ السادات، زملاءه، من خلال ممارسته للحكم، رئيسا فعليا لا ينازع. فاجأ الشاذلي بن جديد رفاقه في الجيش والحزب، بسحب البساط تدريجيا من تحت أقدامهم. لقد تغلبت لدى الاثنين شطارة الفلاح وخبثه، على مكر السياسيين ودهائهم. وإذا كان السادات قد توفي نتيجة لحادث اغتيال سياسي نفذه خالد الاسلمبولي، فإن الشاذلي بن جديد وسواء كان استقال أو أقيل، قد ذهب ضحية موجة أصولية عارمة، أطلق هو نفسه عفاريتها من عقالها، مثل نظيره المصري، بهدف إضعاف خصومه. الانقلاب الرابع حصل أثناء خريف الغضب الجزائري فيما بين شهري أكتوبر-نوفمبر 1988، وقاده الشاذلي بن جديد هذه المرة، شخصيا، مع عدد من ضباط الجيش، ضد حزب جبهة التحرير. وما يزال الغموض يلف حتى الآن كثيرا من جوانب تلك الانتفاضة الشعبية العارمة، التي شكلت بداية النهاية لسلطة الحزب الواحد.وما يهمنا في شأن أحداث ذلك الخريف الدامي، ضمن سياق هذا التحليل العام لمراحل تدخل الجيش الجزائري في الشؤون السياسية، هو أن تلك الانتفاضة انتهت بإبعاد قيادة حزب جبهة التحرير، وبتصفية عدد من رموز مواقع القوى داخل الجيش وأجهزة الاستخبارات، وبسيطرة الشاذلي بن جديد مباشرة على أدوات صنع القرار ووسائل تنفيذه سواء في الدولة أو في الحزب. وقد كان الجيش هو القوة الميدانية الضاربة التي حسمت مسار الصراع باتجاه تعزيز ومركزة سلطة رئاسة الجمهورية. هنا نجد أنفسنا أمام استمرارية تاريخية وضعت أسسها وتقاليدها مع البدايات المبكرة لاستقلال الدولة الجزائرية، استمرارية تكاد تكون بمثابة حتم قدري، يدفع القوات المسلحة في اللحظات الفاصلة من تاريخ الأمة الجزائرية إلى التدخل المكشوف، بهدف إجبار التاريخ على اتخاذ وجهة معينة. وعلى الرغم من أن رهان الانتفاضة الضمني كان يطرح مآل حكم الحزب برمته على بساط البحث، فلم يستطع، لا حزب جبهة التحرير، ولا الاتحاد العام للعمال، ولا المنظمات الجماهرية الأخرى، مثل اتحاد الشباب، واتحاد الفلاحين واتحاد النساء، القيام بأي دور يذكر في مدار الصراع وفي اختتامه، وحده الجيش تمكن من استلام المبادرة، واستطاع بعد عمليات قمع وحشية غير مسبوقة في تاريخ الجزائر المستقلة، أن يعيد إلى الدولة هيبتها ومهابتها، ولو لفترة قصيرة. غير أن المؤسسة العسكرية خرجت من تلك المحنة بمعنويات هابطة جدا. وقد رأينا ضباطا كبارا جزائريين، يبكون من فرط التأثر، وهم يتحدثون إلينا عن تلك التجربة القاسية، بعد مرور أشهر معدودات على اشتراكهم فيها. وفي خضم المواجهة المتعددة الأبعاد بين جبهة التحرير الوطني والشارع من جهة، وبين الشاذلي بن جديد وخصومه داخل الحزب والجيش من جهة ثانية، جرى استقدام الأستاذ عبد الحميد المهري، على عجل من سفارة الجزائر بالرباط، وأسندت إليه مهمة إعادة تنظيم الحزب. لقد أراد الشاذلي بن جديد، الذي كان يتولى في نفس الوقت مهام رئاسة الدولة، ووظيفة الأمين العام للحزب، أراد من تعيين عبد الحميد المهري مسؤولا عن جبهة التحرير، تأمين تأييد، أو على الأقل ضمان تحييد ضروري للآلة الحزبية، يمكنه من المضي بخطى حثيثة وسريعة على طريق الإصلاحات الضرورية التي شعر أكثر من غيره بحتميتها الملحة. جاء الشاذلي بن جديد بعبد الحميد المهري ووضعه في قيادة الحزب واعتبر أنه سينجح في الحفاظ على وحدة الجبهة وتماسكها، وترشيدها، حتى لا نقول ترويضها، كي لا تقف حجر عثرة في وجه الإصلاحات الشاملة التي كان ينوي الإقدام عليها. وكان رصيد المهري يجعل منه «الرجل المناسب، في المكان المناسب»! إنه واحد من رموز الرعيل الأول الفكري والسياسي للثورة، وقد ظل بحكم مزاجه وطبعه، بعيدا عن الصراعات والخصومات التي عصفت بالجبهة طوال ربع القرن اللاحق للاستقلال. وكانت أول مبادرة اتخذها المهري هي الاستجابة لفكرة عقد ندوة وطنية دعا إليها كل المسؤولين وكافة الأطر السابقة في جبهة التحرير، باستثناء الشخصيات التي كونت أحزابا مستقلة (مثل بن بلة وبوضياف وحسين آيت أحمد). وتأتي أهمية انعقاد تلك الندوة من كون الشاذلي بن جديد، كان قد رفضها، عندما طرحها عليه أعضاء سابقون في مجلس قيادة الثورة، كما تأتي من كونها مهدت لمؤتمر استثنائي، عاد في ختامه عدد من أقطاب الفترة البومدينية (أمثال بوتفليقة، واليحياوي، والزبيري وبلعيد) إلى عضوية اللجنة المركزية. واجه عبد الحميد المهري في سياسته التوحيدية نقدا عنيفا من كتلة «الذئاب-الجراء» ومن طرف الدناصير. الأولون، كانوا يؤاخذونه على محاولاته المستميتة لإعادة القدامى إلى ساحة العمل السياسي، والآخرون كانوا ينتقدونه بشدة لكونه فتح أبواب الجبهة على مصاريعها أمام «الانتهازيين والوصوليين والمتسلقين». «كانت الذئاب-الجراءLes jeunes loups» تعتبر أن «الدناصير» مسؤولة عن جميع النكبات والانتكاسات التي حلت بالجبهة، ولذلك يجب إبعادهم عن قيادتها بأي ثمن، لأن الشعب يعتبرهم رموزا لما حل بالبلاد من كوارث، وما نزل بها من مصائب. وكانت الدناصير ترى من جهتها أن هؤلاء «الذئاب الجراء» لا يملكون من التجربة والدهاء وقوة الشخصية، ما يؤهلهم لمواجهة التحديات الجديدة، ولا شك أن حدة الخلافات بين الطرفين مسؤولة إلى حد كبير عن المأزق الذي شل مقدرة جبهة التحرير على المبادرة غداة خريف الغضب الدامي، في وقت كانت فيه في أمس الحاجة إلى تحرك سريع ودينامي لاسترجاع مصداقيتها، أمام المد الأصولي الصاعد. بموازاة عبد الحميد المهري، في قيادة الجبهة، جاء الشاذلي بن جديد بالعقيد قاصدي مرباح، مدير الأمن العسكري الأسبق في عهد الرئيس هواري، ووضعه على رأس الوزارة الأولى، وكان الهدف من تعيين قاصدي مرباح رئيسا للحكومة هو طمأنة كبار ضباط الجيش، وتحييدهم، وفي نفس الوقت إبقاء جسر مفتوح مع البومدينيين من بينهم، حتى لا يتحالفوا مع المتمردين الحزبيين، ويجهضوا إصلاحاته الاقتصادية والسياسية. وعلى عكس عبد الحميد المهري، الذي لم تكن له عداوات قوية ولا صداقات متينة داخل الأجهزة الحزبية أو خارجها، بحكم ابتعاده عن المسؤوليات العليا في الفترة السابقة لخريف الغضب، كان العقيد قاصدي مرباح من أهل الحل والعقد، وكان من الذين يثيرون كثيرا من الحساسيات والحزازات والخصومات. وإذا كان وجود المهري على رأس الحزب، قد فجر ذلك الخلاف الذي أشرنا إليه بين الشباب والشيوخ، فإن وجود العقيد قاصدي مرباح على رأس الحكومة، قد أسهم في تهدئة خواطر الضباط، وخفف من حدة الشعور بالخيبة لديهم، وجعلهم يطمئنون إلى أن الورطة، ورطة ممارسة القمع التي جرهم الرئيس إليها، لم تذهب أدراج الرياح، ما دام قد اختار واحدا من رموزهم لإدارة دفة شؤون الحكم. في هذه الأجواء، أعيد انتخاب الشاذلي بن جديد للمرة الثالثة رئيسا للجمهورية وجرى التصويت على الدستور (فبراير 1989)، الذي يقر مبدأ التعددية الحزبية، لأول مرة في تاريخ الجزائر المستقلة. وقد أدخل مبدأ التعددية بواسطة عملية ولادة قيصرية، فرضها الشاذلي بن جديد على نخبة المجتمع السياسي، وأكد لنا الأشخاص الذين تحدثنا إليهم في ربيع 1990، وكانوا من صناع القرار السياسي في السنة السابقة، سواء داخل الحزب أو الدولة، أنهم لم يوافقوا على إدخال فكرة التعددية، في القانون الأصلي، وقالوا لنا إنهم كانوا يفضلون السير على مراحل وبخطوات مدروسة على طريق الديمقراطية. ويبدو أن الأساتذة الجامعيين والخبراء الذين تولوا تحرير نص الدستور، أخذوا تلك الخلافات الموجودة بين الرئيس الشاذلي بن جديد ورفاقه في قيادة الحزب والجيش بعين الاعتبار، لقد أدخلوا مبدأ التعددية، ولكنهم قيدوه بشروط صارمة سوف تحوله، وقد حولته بالفعل غداة الانقلاب الأخير إلى سيف مصلت ومسلط على رقاب الأحزاب. إن الدستور الجديد الذي صوت عليه الشعب الجزائري لا يعترف بالأحزاب، وإنما بالروابط والجمعيات «ذات الطابع السياسي»، بل هو يمنع منعا قاطعا وصريحا تكوين الأحزاب على «أسس دينية أو عرقية أو لغوية أو حتى جهوية»، وهذه الثغرة هي التي يلوح مجلس الدولة الجديد، منذ نشوئه تحت رئاسة السيد محمد بوضياف باستغلالها للحد من نفوذ خصوم التجربة الناشئة عموما، ولسحب البساط من تحت أقدام الجبهة الإسلامية خصوصا. «دستورنا الجديد -كما ذكر لنا ذلك أحد الأساتذة الجامعيين في ربيع 1990- زرع في طريق الديمقراطية عددا من الألغام يمكن أن تنفجر في أية لحظة. لقد جاء ذلك النص معبرا عن توازن القوى الظرفية داخل النخبة السياسية والعسكرية، صاحبة القرار، فهو من ناحية الشكل يقر مبدأ التعددية تلبية لإرادة الشاذلي بن جديد، إلا أنه في محتواه، يترجم رغبة قطاع واسع من قيادات جبهة التحرير والجيش في إبقاء الأبواب موصدة أمام القوى السياسية الجديدة. نفس التأويل سمعناه في تلك الأيام من السيد الشريف بلقاسم الذي شغل في عهد هواري بومدين وظيفة مسؤول الأمانة التنفيذية لحزب جبهة التحرير، ثم بالتتابع وزارات التربية والاقتصاد والمالية والإعلام، قبل أن ينسحب من مجلس الثورة في منتصف السبعينات بسبب اختلافه مع رفيقه بومدين، وعدم موافقته على تركيز السلطات في شخص الرئيس. قال لنا السيد الشريف بلقاسم يومها : «إقرأوا نص الدستور بشكل جيد، وستجدون أنه مشحون بالتناقضات، ولا علاقة له بالواقع السياسي الذي أفرزته هزة أكتوبر. وإذا أرادت جماعة من الضباط، أن تقوم غدا بتنحية الشاذلي بن جديد من رئاسة الجمهورية، فإنها تستطيع أن تنفذ انقلابها وفقا لمقتضيات الدستور. ألا ينص هذا القانون، وهو أعلى قانون للدولة، بل هو قانون القوانين على منع إنشاء الأحزاب الدينية أو العرقية أو الجهوية؟ أو ليس الحزبان الرئيسيان عندنا، وهما الجبهة الإسلامية للإنقاذ، وجبهة القوى الاشتراكية التي ينحصر نفوذها بمنطقة القبائل ويتزعمها السيد حسين آيت أحمد، يقومان طبقا لتلك القواعد التي يحرمها الدستور؟ أو ليس حزب «التجمع من أجل الثقافة والديمقراطية» الذي يقوده الدكتور سعيد سعدي، والذي يضع على رأس جدول انشغالاته، مهمة إحياء الثقافة الأمازيغية، ومهمة فرض اللغة الأمازيغية أداة لغوية وطنية بجانب العربية، أو ليس هذا الحزب مخالفا لثلاثة مبادئ من مبادئ الدستور، أي مبدأ العرقية، ومبدأ اللغوية ومبدأ الجهوية؟ لهذا أقول لكم منذ الآن، إن الانقلاب الآتي سوف يكون دستوريا مئة في المئة، وسوف تكون نتيجته، إن اقتضت الحال، منع الأحزاب السياسية استنادا إلى نص دستوري صريح لا يقبل التفسير ولا التأويل. والواقع أن الذين وضعوا مسودة ذلك الدستور، زودوا بلادنا بأداة قانونية، لأي انقلاب. وحسب مبلغ علمي، فإن الجزائر هي البلد الوحيد في العالم العربي، وربما حتى في العالم كله، الذي تتوفر فيه إمكانية تغيير رئاسة الدولة بواسطة الجيش، من دون أن يستطيع أحد اتهام الحكام الجدد بخرق الدستور. بل أنا أذهب إلى أبعد من ذلك وأضيف، إن دستورنا يبيح سواء قرأنا نصه بالمفهوم الحرفي الضيق، أو نفذنا إلى لبه، عدم الاكتفاء بحل هذه الأحزاب، بل أيضا محاكمة زعمائها بتهمة مخالفة الدستور، وهو يسمح حتى بمحاكمة رئيس الجمهورية نفسه، بحجة خرق الدستور. أليس الشاذلي بن جديد، بوصفه حامي الدستور، هو أول من خرقه عندما اعترف بشرعية أحزاب ممنوعة دستوريا؟» سوف نرى في مقال لاحق، دور السيد الشريف بلقاسم، في تلك العملية المعقدة التي انتهت بذهاب الشاذلي بن جديد، أما الآن، فإننا نكتفي بالاستشهاد بتأويله الشخصي للطابع الدستوري للمشروع الانقلابي، الذي لم يكن قد برز أو بالأحرى تبلور ونفذ بالنجاح المعلوم. ولا شك أن قراءة الشريف بلقاسم للدستور توجد بهذا القدر أو ذاك من الوضوح لدى القادة الجدد للدولة الجزائرية، بل إننا نجدها في خلفية كافة المبادرات والمواقف التي اتخذت منذ إعلان استقالة الشاذلي بن جديد، يوم السبت 11 يناير 1992، حتى كتابة هذه السطور. وسوف نعالج، في مقال آخر، مقدمات التغيير الجديد، وآلياته، وشكليات تنفيذه، مكتفين هنا بالتأشير على أسسه النظرية. من مفارقات السياسة في الجزائر أن ذلك الدستور الذي وضع مبدئيا لإنهاء سيطرة الجيش على الحزب والدولة، هو نفسه الذي سيستعمله الجيش لوقف عملية التحول الديمقراطي. لم يكن الجيش راضيا على الإطلاق عن إدخال مبدأ التعددية، ولا كان بالخصوص مرتاحا إلى الترخيص لحزب إسلامي مثل جبهة الإنقاذ. ولكنه صمت، وترك الشاذلي بن جديد يتصرف كما يريد، لا لأنه كان مقتنعا بسلامة الخط السياسي الذي سار عليه خليفة هواري بومدين ، وإنما لحاجته إلى التقاط الأنفاس، وتضميد الجراح بعد تجربة أكتوبر. لقد كانت صورة الجيش مشوهة، مهزوزة، ومكروهة لدى الرأي العام. وقد انتهز الشاذلي بن جديد تلك الفرصة، فدفع الضباط العشرين الأعضاء في اللجنة المركزية إلى الاختيار بين العودة إلى الجيش، وبين الخروج منه نهائيا والبقاء في الحزب. واختارت غالبيتهم الحل الأول، أي الاستقالة من المسؤوليات الرسمية للحزب، وبموازاة ذلك الفصل بين الجيش والحزب، حصل فصل آخر بين الدولة وجبهة التحرير، أراد من ورائه رئيس الدولة إقناع الشارع بانتهاء عهد الحزب الواحد إلى الأبد، واستكمالا لسيطرته على الوضع، أقدم الشاذلي بن جديد بعد انتفاضة أكتوبر على إقالة عدد من كبار الضباط وإحالتهم على المعاش، بحجة ضرورة تحديث المؤسسة العسكرية، وشملت هذه التصفيات التي طالت مئات الضباط من مختلف الرتب، وجوها كان لها وزن كبير في حرب التحرير، الأمر الذي أثار حفيظة قدماء المجاهدين سواء داخل الحزب أو الدولة أو الجيش، أو المجتمع المدني، وجعلهم يشعرون بأن الشاذلي بن جديد لديه خطة متكاملة لتصفية عناصر الثورة من مواقع المسؤولية، وتجريدهم من أدوات التأثير في شؤون البلاد. رغم كل عمليات الإبعاد والإقالات والإحالات على التقاعد، ظل الجيش حاضرا في قلب اللعبة السياسية، وكان يرفع صوته من حين لآخر، للتذكير بوجوده. هكذا مثلا، وأثناء المظاهرات التي جرت في ربيع 1990، قبيل حلول موعد الانتخابات البلدية، أعلن العميد مصطفي الشلوفي، الأمين العام لوزارة الدفاع الوطني أن الجيش «لن يسمح بخرق الدستور أو تهديد الوحدة الوطنية». وكان ذلك الخطاب موجها بالأساس إلى الجبهة الإسلامية للإنقاذ التي بدأت أدبياتها تتحدث عن مشروع إقامة الدولة الإسلامية. ثم قطع الرئيس شوطا آخر، في إبعاد الجيش عن السياسة اليومية، عندما قرر إعفاء العقيد قاصدي مرباح من رئاسة الحكومة، وإبداله بالسيد مولود حمروش، الأمر الذي اعتبره مسؤولو جبهة التحرير والجيش غلطة استراتيجية، سيما وأن التغيير الوزاري تم عشية الانتخابات البلدية الأولى التي تحصل في عهد التعددية. ووصلت الأزمة يومها إلى ذروتها، عندما اعتصم قاصدي مرباح بمقر الوزارة الأولى رافضا الاستجابة لقرار رئيس الجمهورية، مبررا موقفه بأن المجلس الوطني الشعبي له وحده صلاحية تغييره، وفي حالة واحدة، هي انعقاد جلسة مناقشة، تنتهي بحجب الثقة، أو بالأحرى سحبها من حكومته. وحبست البلاد أنفاسها مدة أربع وعشرين ساعة، وهي تواجه حالة غير مسبوقة يتخذ فيها رئيس الدولة قرارا رسميا معلنا بإقالة الوزير الأول، ويرفض فيها هذا الأخير التخلي عن منصبه، لكن امتحان القوة لم يستمر أكثر من أربع وعشرين ساعة، رضخ بعدها قاصدي مرباح للأمر الواقع، وغادر مبنى الوزارة الأولى ليخلفه فيه مولود حمروش. وحسب رواية سمعناها من أكثر من مصدر موثوق، فإن الانقلاب «العسكري-الدستوري» ضد الشاذلي بن جديد، كاد أن يحصل في تلك المناسبة، ولكنه تأجل لاعتبارات فنية وسياسية غامضة. «نعم، كان هناك رأي عام داخل الحزب والجيش يرى ضرورة وضع حد للمهزلة، وإعادة الاعتبار للدولة، قبل الشروع في أي إصلاح ديمقراطي. لكن العناصر العسكرية المقتنعة بالفكرة، كانت تعتبر أنه لا بد من مرور فترة زمنية قد تطول أو تقصر، تسمح للجيش بالخروج من كوابيس أكتوبر. ثم إنه لا مفر من السماح بإجراء الانتخابات البلدية لمعرفة حقيقة قوة التيارات السياسية المؤثرة والنافذة داخل المجتمع. وقد انتصر الرأي الذي قال بضرورة إفساح المجال أمام مولود حمروش، حتى يجرب حظه في الحكم وحتى نرى ما إذا كان قادرا على إقامة سد منيع، في وجه التيار الأصولي، عن طريق صناديق الاقتراع. أليس مولود حمروش شابا، وابن شهيد، ومثقفا، ومديرا سابقا للتشريفات في عهد بومدين وأمينا عاما سابقا للحكومة ولرئاسة الجمهورية؟». الضابط السامي الذي قال لنا هذا الكلام، في بداية صيف 1990، كان يشغل منصبا هاما في المحافظة السياسية للجيش الوطني الشعبي. ومثلما ابتلع هذا الأخير، إبعاد قاصدي مرباح عن رئاسة الحكومة تقبل مجيء مولود حمروش مكانه، وبقي يراقب عمل القيادات السياسية، في انتظار ما سيؤدي إليه من نتائج عملية. وجاءت الانتخابات البلدية في شهر يونيو 1990، وكانت هزيمة ساحقة لجبهة التحرير وانتصارا مشهديا مدويا للجبهة الإسلامية، التي استولت على السلطة المحلية في اثنين وأربعين ولاية من ثمانية وأربعين. وهناك عوامل ساهمت في توفير شروط انهيار جبهة التحرير الوطني، ووفرت الظروف الملائمة لانتصار الحزب الإسلامي. العامل الأول : هو حركة المناقلات الشاملة التي أقدمت عليها حكومة مولود حمروش، ونقلت بموجبها كافة الولاة من الأماكن التي كانوا يعملون بها إما إلى ولاية بعيدة عنها، وإما إلى الإدارة المركزية بوزارة الداخلية. ولقد أقدمت الحكومة على هذا التصرف حرصا منها على نزاهة الانتخابات وأيضا نتيجة ليقين راسخ لديها بأن أداء مناضلي جبهة التحرير العارفين جيدا بحقائق المناطق، كفيل بسد الثغرة. يضاف إلى ذلك أن حكومة مولود حمروش، كانت تريد أن توسع فرص النجاح أمام ممثلي الجيل الشاب داخل جبهة التحرير، وقد ارتأت كما قال لنا يومها أحد أعضاء اللجنة المركزية أن تبديل ممثلي الجهاز الإداري المرتبط بالحزب، هو أنجع وسيلة لتلافي تواطئه مع العناصر المتصلة بجيل الدناصير. وكانت العاقبة الفعلية لتلك السياسة، أن أعضاء الحزب الواحد الذين تعودوا على مساندة الإدارة لهم خلال التجارب الانتخابية البلدية الماضية، خاضوا معركة البلديات في بداية صيف 1990، وهم محرومون من أية مساندة إدارية. وزاد في الطين بلة أن السرعة التي تمت بها التغييرات الإدارية، لم تفسح لهم وقتا كافيا للتكيف مع الطوارئ. بل إن غالبيتهم العظمى لم تصدق حتى آخر لحظة، أن تقف الإدارة على الحياد التام، بل المطلق من تلك الاستشارة. وكانت انتخابات يونيو 1990، بمثابة صدمة عميقة لأنصار جبهة التحرير، لأنها بينت لهم وللرأي العام الوطني، أن حزبهم، برغم مشروعيته التاريخية، إنما يستمد وجوده، ونفوذه، وقوته، من مساندة الدولة له، وحين قررت الدولة أن تترك للمواطنين حرية الاختيار، وأن لا تتدخل لا من قريب ولا من بعيد في اللعبة الانتخابية، كانت النتيجة كارثة حقيقية. العامل الثاني : هو إبعاد القادة التاريخيين من الحملة الانتخابية. فتحت ضغط الحكومة، وأنصارها المؤلفين آنذاك لأغلبية المكتب السياسي، استغنى السيد عبد حميد المهري عن شخصيات ذات وزن وطني ودولي معروف مثل عبد العزيز بوتفليقة، ومحمد الصالح اليحياوي، وعبد السلام بلعيد، وأحمد طالب الأبراهيمي ومحمد الشريف مساعدية، ولم يدرجهم في لوائح الخطباء الذين كانوا يشرفون على المهرجانات الدعائية للجبهة، أكثر من ذلك، أصدرت حكومة مولود حمروش، كما أكد لنا ذلك في حينه السيد عبد العزيز بوتفليقة، تعليمات مشددة إلى أجهزة الإعلام، بأن تتجنب تغطية التظاهرات التي قد تشارك فيها تلك الرموز التاريخية المعروفة. ولا نستطيع أن نجزم حول ما إذا كان الهدف من تغييب «التاريخيين» مبعثه الرغبة في إبراز وجوه جديدة لإقناع الناس بحصول تغيير جذري، أم إن غايته الحقيقية، هي محاربة نفوذ «البومدينيين»، لكن الذي لا شك فيه هو أن جبهة التحرير الوطني خاضت غمار معارك تلك الانتخابات البلدية، بجنود من دون ضباط يحسنون فن المناورة، أو كما أكد لنا آنذاك وزير سابق يتخذ موقفا محايدا : «لقد أحالت قيادة الجبهة مارشلاتها وجنرالاتها على التقاعد، واكتفت باستخدام ضباط الصف والجنود، وتلك غلطة استراتيجية لا تغتفر لها». العامل الثالث : الذي حول الرأي العام عن الحزب الحاكم ودفعه إلى تأييد خصومه، هو تلك الحملة الغريبة خاصة من حيث التوقيت، والتي شنتها الحكومة ضد المهربين، وقد شرحناها في فقرات مقال سابق. العامل الرابع : ما اصطلح على تسميته بقنبلة 26 مليار دولار. وملخص الحكاية أن الدكتور عبد الحميد الإبراهيمي، الذي شغل منصب رئيس الحكومة أثناء السنوات السابقة لخريف الغضب، قال في محاضرة جامعية عادية أن الأموال التي كدسها الأثرياء الجزائريون بالخارج، بعد أن حصلوا عليها بواسطة الرشاوى والعمولات والصفقات المشبوهة مع الشركات الأجنبية، تتجاوز مبلغ المديونية الخارجية للبلاد. وكان من الممكن أن يبقى ذلك الكلام محدود التأثير داخل جدران الجامعة وفي أوساط الطلاب، لولا أن صحفيا من جريدة المساء الواسعة الانتشار نقله على صفحات مطبوعته. ولما كان عبد الحميد الإبراهيمي معروفا بنزاهته الفكرية، وبابتعاده عن الأضواء، واطلاعه الواسع والعميق على شؤون الاقتصاد، وتجربته الطويلة في الحكم كوزير أول مسؤول عن التخطيط، فقد أثارت تصريحاته غبارا كثيفا وسط الشارع، ووسط الدوائر المسؤولة، وانتهت بتكوين لجنة برلمانية للتحري، وبتهديده هو شخصيا، بالمتابعة أمام القضاء. واعتبرت العملية بمثابة قنبلة الموسم السياسية، ورافقتها إشاعة قوية بأن الرجل انخرط في الجبهة الإسلامية للإنقاذ، وأراد بكلامه أن يقدم لها عربونا ملموسا على صدقية انتمائه الجديد. وقد أكد لنا السيد عبد الحميد الإبراهيمي، خلال لقاء مطول أجريناه معه بعد بضعة أيام فقط من إلقاء محاضرته، أنه يملك الأدلة الدامغة لإثبات صحة أقواله، التي لم يكن يتوقع، عندما صدرت منه أن تكون لها هذه الأصداء الواسعة. وإجمالا، كانت لتلك القنبلة آثارها المدمرة على معنويات أنصار جبهة التحرير، وكانت لها انعكاساتها القوية في تعميق الفجوة القائمة بين الحزب الحاكم والشارع الثائر، الغاضب. وكان لذلك كله أثره في صناديق الاقتراع، سيما وأن رئيس الحكومة السابق فجر مفرقعته في أوج الحملة الانتخابية. العامل الخامس والأخير : السماح للرجال بأن يصوتوا مكان النساء، سواء بصفتهم أزواجا، أو آباء أو إخوة أو أخوالا أو أعماما. ولما كانت الجبهة الإسلامية للإنقاذ أكثر تنظيما وأشد وأحكم انضباطا من غيرها، ولا تولي، مثل الأحزاب الديمقراطية، أهمية كبرى للرأي الفردي، ولاسيما إن كان صادرا عن المرأة، فإنها استفادت أكثر من غيرها، من ذلك القانون الغريب. إنها خمسة عوامل، أربعة منها من صنع الحكومة وتدبيرها وإخراجها، تضاف إليها هفوة رئيس الوزراء السابق، تضافرت جميعها لإقناع أغلبية الجزائريين بانتهاز الفرصة المتاحة لهم من أجل تبديل الحزب الحاكم بغيره، في البلديات، تمهيدا لإبعاده نهائيا عن السلطة، عندما يأتي موعد الانتخابات التشريعية أو الرئاسية. وسوف نرى أن بذور انقلاب شتاء 1992 موجودة فيما أفرزته صناديق الاقتراع في صيف 1990، وأن العام ونصف العام الفاصل بين التاريخين، ليس مجرد صفحة بيضاء في كتاب الانقلاب الدائم، وإنما هو سلسلة متصلة الحلقات، كان لا بد أن تنتهي بما حدث يوم 11 يناير الماضي. الجزائر من الشاذلي بنجديد إلى محمد بوضياف أو شتاء الديمقراطية في الجزائر 4 - الإنقلاب السري ومحاولة الإنقلاب العلنية لابد أن تمر فترة زمنية طويلة أو قصيرة، بهذا القدر أو ذاك، قبل أن نتمكن من معرفة التاريخ الدقيق الذي اتخذت فيه قيادة الجيش قرارها بإبعاد الشاذلي بن جديد من موقع رئاسة الجمهورية، وفي انتظار ظهور المعلومات الموثقة، يبقى علينا أن نقدم سلسلة من الوقائع والمعطيات التي استطعنا جمعها من صناع القرار، عبر اتصالات عديدة في الجزائر وباريس. إذا كانت العناصر المتوفرة لدينا لا تسمح لنا بالجزم في شأن الأشخاص الذين خططوا للانقلاب الأخير، فإن مؤشرات البحث عن بديل أو خليفة الشاذلي بن جديد، هي من الغزارة والتشابك والتعقيد، إلى درجة يصعب معها فرز الخبر الصحيح من الإشاعة السّقيمة. هناك جملة من الوقائع المؤكدة، تثبت أن فكرة تغيير الشاذلي بن جديد، ولدت في وقت ما، بين انتفاضة أكتوبر 1988 والانتخابات البلدية التي جرت في يونيو 1990. من جملة هذه المعطيات، معطيان تمكَّنَّا من التدقيق في صحتهما. ويتعلق الأمر بمحاولة جرت أثناء حوادث أكتوبر، ونسبت مسؤوليتها إلى العميد محمد عطايلية، الذي كان يتولى قيادة الناحية العسكرية الأولى في مدينة البليدة، قبيل انفجار خريف الغضب، ثم نقل من موقعه لِيُعَيَّنَ في منصب المفتش العام للجيش. وكان العميد محمد عطايلية المعروف داخل الجيش بلقب «الروج» بسبب بشرته الشقراء، والذي يمت بصلة قرابة إلى الرئيس الراحل هواري بومدين، معروفا لدى الخاص والعام، بغيرته الشديدة على مكانة الجيش، وبمعارضته لخطة الشاذلي بن جديد الرامية إلى عزل العناصر الآتية من حرب التحرير. وقد روى لنا أحد أصدقائه والمقربين منه أنه، عندما عرض عليه بن جديد التخلي عن موقعه في المؤسسة العسكرية، أجابه : «لقد جئنا معا إلى السلطة، فإما أن نتركها جميعا أو نبقى فيها جميعا». وذكر لنا ذلك الصديق المشترك، أن العميد السيد محمد عطايلية، أبعد في النهاية من وظيفته، بعد أن اكتشفت الاستخبارات العسكرية مشروعا انقلابيا، كان يعده بالتعاون مع مجموعة من كبار الضباط، بينهم العميد أمين زروال، القائد العسكري السابق لناحية بشار، الذي كان يشغل في ذلك الوقت وظيفة قائد سلاح المدرعات. وإذا كان عطايلية، قد أبعد من قيادة الناحية العسكرية الأولى، حيث كان يسيطر على قوات هامة تضع العاصمة تحت رحمة تهديده المباشر، ثم عُين مفتشا عاما للجيش قبل أن يحال على المعاش، فإن العميد أمين زروال، قد نقل من قيادة سلاح المدرعات، إلى منصب سفير الجزائر في رومانيا. الواقعة الثانية في ذلك الهجوم الغامض الذي شنته مجموعة من الضباط والجنود على المنزل الصيفي للرئيس الشاذلي بن جديد في مدينة زرالدة الشاطئية، بالضاحية الغربية للجزائر العاصمة. وإذا كانت المحاولة المنسوبة إلى العميد محمد عطايلية، بقيت محدودة التداول، ولم تخرج عن نطاق الدوائر السياسية والإعلامية والدبلوماسية المطلعة، فإن عملية اقتحام القصر الشاطئي، خرجت إلى العلن بعد أن سربتها جهة مجهولة إلى مكتب وكالة أنباء أجنبية، بعث بها إلى الخارج، فتلقفتها القناة الخامسة الفرنسية، وبثتها كخبر رئيسي في إحدى نشراتها المسائية التي يشاهدها مئات آلاف المتفرجين الجزائريين. كنا حينئذ في الجزائر، نتابع حملة الانتخابات البلدية، وعشنا عن كثب ردود فعل الشارع على الحدث. وقد ردت أجهزة السلطة على ذلك الحدث، بترويج إشاعة مفادها أن العملية كانت من فعل جنود سكارى، فكروا في تدبير مقلب لبعض رفاقهم وتبادلوا رشقات نارية مع حراس الإقامة الصيفية للرئيس. لكن تلك الإشاعة لم تصمد طويلا، أمام فيض الخيال الشعبي الذي بدأ يتحدث عن إصابة بن جديد بجراح بالغة الخطورة، اقتضت نقله إلى الخارج، ومن أجل وضع حد لموجة الشائعات، أعلنت مصالح الإعلام في الرئاسة أن بن جديد سيقوم بجولة رسمية إلى شرق البلاد، لعقد سلسلة لقاءات هامة مع إطارات الأمة. وبعد مرور أربع وعشرين ساعة على صدور ذلك البيان، ظهر الشاذلي بن جديد، بمدينة قسنطينة، يخطب في اجتماع مغلق للمسؤولين في الولاية، وكان محاطا بكبار قادة الجيش. ثم ظهر في اليوم التالي بمنطقة الأوراس، وهو يحضر مناورة بالذخيرة الحية لفرقة المدرعات. تزامنت تلك المحاولة، التي لم تعرف حتى اليوم تفاصيلها الكاملة، مع سيل من الشائعات تدور كلها حول مشروع تحالف بين الرئيس السابق أحمد بن بلة، الذي كان ما يزال مقيما بالخارج، وبين الجبهة الإسلامية للإنقاذ بزعامة عباسي مدني. وكان الرئيس أحمد بن بلة، قد أوضح لنا خلال لقاء شخصي طويل أجريناه معه بمدينة لوزان السويسرية، أنه يتوقع حصول تطورات سريعة، تمكنه من العودة إلى بلاده، ليساهم في إخراجها من المأزق السياسي الذي تتخبط فيه. وشرح لنا أنه على اتصال وثيق بقيادة الجبهة الإسلامية للإنقاذ، وبعدد من الضباط النافذين في قيادة الجيش، وأنه يدرس مع كل الأطراف تفاصيل صيغة سياسية تحظى بوفاق وطني واسع، من أجل تأمين ذهاب الشاذلي بن جديد، بشروط تضمن له حفظ ماء وجهه، وتوفر مناخا سياسيا صحيا يسمح للدولة باستعادة هيبتها، ويتيح إنجاز الإصلاحات العميقة التي يريدها الشعب. وفهمنا من كلام أول رئيس للجمهورية الجزائرية، أن الصيغة الموضوعة قيد الدرس، قد تأخذ شكل إضراب سلمي عام، ترافقه مسيرات واعتصامات، لن تتوقف إلا باستقالة الشاذلي بن جديد. في الفترة ذاتها أعلنت الجبهة الإسلامية للإنقاذ أنها سوف تنظم مسيرة شعبية، تتوجها باعتصام مفتوح أمام مبنى الرئاسة، لتقديم سلسلة من المطالب، لم تكن تتضمن الاستقالة الفورية. كما أعلنت مجموعة من مسؤولي الاتحاد العام للعمال الجزائريين، أن تلك المركزية النقابية تفكر في إعلان إضراب عام، لم تحدد أهدافه السياسية بما يكفي من الوضوح. وفي النهاية، قامت الجبهة الإسلامية للإنقاذ بمسيرتها واعتصم آلاف من أعضائها عدة ساعات أمام قصر الرئاسة، واستمعوا إلى الشيخ عباسي مدني، وهو يقرأ لائحة من عدة نقط تشرح برنامج الحزب الإسلامي، وتطالب الدولة باحترام رأي الشعب. وقد استقبل وفد يمثل المتظاهرين من قبل موظف بسيط في رئاسة الجمهورية، تسلم منه المطالب ووعد بإبلاغها إلى الشاذلي بن جديد. أما الاتحاد العام للعمال الجزائريين، فإنه لم يجدد كلامه عن الإضراب، وإنما دخل مباشرة في سلسلة من المفاوضات، مع حكومة مولود حمروش، تمخضت بعد بضعة أيام، عن إعلان مشترك، يفهم منه أن السلطات الرسمية، استجابت لغالبية المطالب التي تقدمت بما المركزية النقابية الوطنية. فما الذي حدث بالضبط حتى أقلع الإسلاميون عن فكرة الاعتصام المفتوح وألغى الاتحاد العام مشروع الإضراب؟ مرة أخرى، لا نستطيع القطع برأي نهائي في شأن ذلك التحول المفاجئ الحاصل في موقف الحزب الإسلامي والنقابات، لأن الطرفين رفضا يومها الإجابة بدقة عن السؤال الذي وجهناه إليهما، واكتفيا بالكلام عن عموميات غير مقنعة. الملفت للنظر، هو أن الرئيس السابق، أحمد بن بلة الذي كان وقتها محور التحركات المختلفة الرامية إلى إيجاد خلف تاريخي للشاذلي بن جديد، اختار تلك الأيام بالتحديد، للخروج من مرحلة صمت طويل، كان قد قرر بالاتفاق مع أصدقائه الالتزام بها كجزء من استراتيجية التمهيد لعودته. وكان الرئيس أحمد بن بلة الذي التقينا به أربع مرات، واستغرقت أحاديثنا معه ساعات طوالا، فتح لنا خلالها قلبه بلا تحفظ وحدثنا عن تفاصيل اتصالاته، يؤكد لنا في نهاية كل لقاء على عدم نشر أي كلام على لسانه، قبل إعطائنا الضوء الأخضر بذلك، ويلح علينا بأن نبلغ التفاصيل إلى الإخوة في الاتحاد، خاصة سي عبد الرحيم، وسي عبد الرحمن، حتى يظلوا على معرفة، بينة ودقيقة بمجريات الأمور. وفجأة ونحن في الجزائر، قرأنا حديثه الذي أدلى به إلى الصحفي الفرنسي، جان فرانسوا كان، مدير تحرير أسبوعية «حدث الخميس». ويأخذ ذلك الحديث، على ضوء التطورات الأخيرة التي انتهت بإبعاد الشاذلي بن جديد عن الرئاسة، كل دلالاته وأبعاده. لقد اقترح أحمد بن بلة يومها تعويض الشاذلي بهيئة أطلق عليها اسم «مجلس الحكماء»، تتولى تسيير شؤون البلاد لفترة مؤقتة بمساعدة مجلس استشاري لم يحدد عدد أعضائه، وعبر عن استعداده لتولي رئاسة تلك الهيئة، والغريب أن هذه الصيغة هي التي طبقت أخيرا عبر تكوين مجلس دولة من خمسة أعضاء، وعبر الكلام عن مجلس وطني استشاري، تجرى الاتصالات حاليا على قدم وساق لإنشائه. هل معنى ذلك أن صيغة شتاء 1992، كانت جاهزة في صيف 1990، وأن العناصر النافذة في الجيش اختارت محمد بوضياف بدلا من أحمد بن بلة، للإشراف عليها؟ تحضر في ذاكرتنا الآن، ونحن نحاول إعادة بناء التفاصيل والجزئيات التي مهدت للتحول الأخير جملة عابرة وردت في سياق حوار بيننا وبين الرئيس السابق، بالبيت الذي كان يستقبل فيه زواره على ضفاف بحيرة ليمان في ضاحية مدينة لوزان، كان يوما ربيعيا جميلا وكنا نقف مع الرئيس في شرفة دارته، وننظر إلى الضفة الفرنسية المقابلة من النهر، حيث توجد مدينة إيفيان التي أبرمت فيها خلال يوم ربيعي مماثل من سنة 1962، الاتفاقيات الرسمية بين فرنسا ووفد الحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية حول استقلال الجزائر. قال لنا الرئيس السابق، ونحن نستعد لوداعه للعودة إلى باريس، قبل الالتحاق بالجزائر عبر المغرب، «إذا قرأتم حديثا لي مع صحيفة فرنسية فافهموا أن ساعة الحسم قد اقتربت، سلموا على الإخوان، وخاصة سي عبد الرحيم وسي عبد الرحمن». وقرأنا الحديث المذكور مع مدير أسبوعية «حدث الخميس»، وفهمنا فيما بعد من مساعدي بن بلة الأقربين أنه اختاره من بين عشرات الصحفيين الفرنسيين والإسبان والبريطانيين والألمانيين، الذين وجهوا إليه طلبات بإجراء مقابلات صحفية، بعد أن تواترت الأنباء عن قرب عودته، واحتمال استلامه منصب رئاسة الدولة، وفهمنا لدى وصولنا إلى الجزائر أن صيغة «مجلس الحكماء» التي اقترحها، كانت خلاصة لمفاوضات سرية أجراها معه عدد من ضباط الجيش والمسؤولين في الدولة. لكننا لا نملك أن نجزم اليوم إذا كانت تلك الاتصالات تترجم موقفا محددا من طرف مجموعة قوية من الجيش والدولة والحزب، كانت تخطط منذ تلك الفترة لإزاحة الشاذلي بن جديد عن كرسي الرئاسة والمجيء بأحمد بن بلة لخلافته، أم إنها كانت عملية جس نبض لا غير، أرادت من ورائها المؤسسة العسكرية معرفة مدى استعداد الرئيس السابق للتعاون معها ضد بن جديد؟ ويوجد بين أصدقاء الرئيس ابن بلة اليوم أشخاص لا يترددون في القول، بأن تلك الاتصالات كانت مجرد فخ نصبته الاستخبارات العسكرية لأحمد بن بلة واستدرجته إلى السقوط في شباكه، من أجل نسف مشروع التحالف الذي كان يوشك أن يعلنه مع الجبهة الإسلامية للإنقاذ. وأصدقاء الرئيس أحمد بن بلة، الذين قالوا لنا هذا الكلام، ليسوا من الذين يطلقون أحكاما جزافية متسرعة. لقد كانوا يشكلون حلقة الوصل التنظيمية السرية بين الرئيس السابق وحزب عباسي مدني وعلي بلحاج، وكانوا قد قطعوا أشواطا بعيدة مع جبهة الإنقاذ في إعداد مسودة نص سياسي يلزم الطرفين، أي البنبليين والإنقاذيين، تنضم إليه تيارات وشخصيات أخرى من جبهة التحرير الوطني، ويشكل أرضية مشتركة، لمرحلة انتقالية يغادر فيها الشاذلي بن جديد، رئاسة الجمهورية، وتتولى خلالها هيئة مؤقتة إدارة شؤون البلاد، بانتظار إقامة المؤسسات الدستورية الجديدة. وفجأة، لاحظ أولئك الشبان الذين كانوا حلقة اتصال مع قيادة الإنقاذ، أن أشخاصا رسميين يحتلون مناصب هامة في الأجهزة، بدأوا يكثرون من التردد على منزل بن بلة في سويسرا، ويقدمون إليه معلومات واقتراحات مغرية، وينصحونه بالابتعاد عن الإنقاذيين. كما لاحظوا أن هؤلاء «الموفدين» وجدوا أذنا صاغية لخطابهم عند الرئيس السابق، الذي وصل به الأمر إلى إصدار تعليمات لأصدقائه بالكف عن التنسيق مع مدني وجماعته. وكان هؤلاء الرسميون، يؤكدون لابن بلة البقاء على الحياد في الصراعات الحزبية، لأنه زعيم وطني فوق الجميع، ينبغي أن يحتفظ بمكانته كمرجع وملاذ تحتاج البلاد إلى خبرته وحنكته وتبصره. ولا نستطيع أن نقطع برأي دقيق، حول طبيعة هذه الاتصالات : هل كانت مثلا من فعل الأجهزة، وفي إطار استراتيجية تستهدف فك الارتباط بين ابن بلة وجبهة الإنقاذ، في نطاق تشتيت المعارضة المناوئة للشاذلي بن جديد؟ هل كانت تتم بعلم من هذا الأخير، أو من وراء ظهره، وضمن النشاط الاعتيادي لهيئات أمن الدولة الخارجي؟ هل كانت من فعل جهاز معين، يعمل لحساب جهة ما داخل الجيش، في أفق تأجيل التغيير؟ ما نعرفه الآن عبر مسموعات مستمدة من أصدقاء بن بلة نفسه، هو أن أولئك المندوبين، وبينهم وزير يحتل اليوم منصبا هاما في حكومة السيد أحمد غزالي، أبدوا استعدادهم للتكفل بكل مستلزمات عودة الرئيس السابق، إلى بلاده وسلموه جواز سفر دبلوماسي، وسهروا بعد عودته، على الترتيبات والإجراءات التي أعطي له بموجبها بيت محترم، في أعالي العاصمة، يليق بمكانته وتاريخه. وما نعرفه كذلك، هو أن السيد أحمد غزالي، الذي كان يشغل آنذاك وظيفة وزير الخارجية، والذي ينتمي إلى مدينة ندرومة القريبة من مغنية، موطن بن بلة الأصلي، كان واحدا من الشخصيات المسؤولة التي أبلغت أحمد بن بلة، أكثر من رسالة تدعوه فيها إلى التعجيل بالعودة لبلاده، من أجل المساهمة في تجربتها الديمقراطية. وقد كان الموقف من الرئيس السابق مثار خلاف حاد بين سيد أحمد غزالي، ورئيس الحكومة مولود حمروش ، الذي لم يكن يتردد في مجالسه الخاصة باتهام وزير خارجيته بأنه أصبح «بَنْبَلِّياً» لاعتبارات جهوية، وقد تركز اختلاف رئيس الحكومة ورئيس الدبلوماسية حول الملف القضائي الذي سنعرض له في فقرة لاحقة. وتوجد أيضا وقائع أخرى تؤكد أن فكرة عودة أحمد بن بلة إلى البلاد، بدأت ترتبط في أذهان عدد من كبار المسؤولين باحتمال «إعادته» إلى السلطة أو إعادتها إليه. وأهم مناسبة برزت فيها تلك الحالة، أو بالأحرى خرجت فيها من المكاتب المغلقة إلى الرأي العام هي الاجتماع الاستثنائي الذي عقدته اللجنة المركزية لجبهة التحرير الوطني بقصر الأمم، قبل الانتخابات البلدية ببضعة أسابيع. خلال ذلك الاجتماع الذي استغرق ثلاثة أيام، وأتيحت لنا فرصة متابعة مداولاته المغلقة، طرح عدد من أقطاب الحزب الحاكم، [وتحديدا السادة عبد السلام بلعيد وعبد العزيز بوتفليقة ومحمد الشريف مساعدية]، ضرورة تحديد موقف من مسألة عودة أول أمين عام للحزب، بعد الاستقلال، بل ذهب أحدهم إلى حد المطالبة بأن يعود إلى الجبهة. وكشف ثلاثة من الخطباء هم عبد العزيز بوتفليقة ومحمد الصالح اليحياوي ومحمد الشريف مساعديه، النقاب عن أنهم أثاروا مشكلة بن بلة مع الشاذلي بن جديد. وقد استغرق الجدل حول بن بلة يوما ونصفاً، من ثلاثة أيام كان يفترض أن تخصص لمناقشة استراتيجية الحزب الحاكم في الانتخابات البلدية الآتية قريبا، ولم يبد أعضاء اللجنة المركزية أي اعتراض حول ضرورة رجوع بن بلة، بل إن الشبان الذين كانوا يستمعون لأول مرة إلى الحديث عن القضية، أظهروا فضولا حقيقيا، وعبر أكثر من واحد منهم عن رغبته في الاستماع إلى المزيد من التفاصيل حول نقطة، كانت تعد، حتى ذلك التاريخ، من صنف المحرمات السياسية. صوتان، ارتفعا في تلك المناسبة للتنديد بذلك الاهتمام المفاجئ، من طرف بعض أعضاء اللجنة المركزية بابن بلة هما صوت الدكتور أحمد طالب الإبراهيمي وزير الخارجية السابق، في عهد هواري بومدين، وصوت المحامي الشاب، علي بن فليس وزير العدل في حكومة مولود حمروش. وقد بدأ الدكتور أحمد طالب الإبراهيمي وكأنه صارخ في البرية، أو طائر يغرد خارج السرب، حين تدخل ليقول حذار، ثم حذار، إذا قررتم دعوة أحمد بن بلة، لاستلام قيادة الجبهة، فإنكم مقبلون حتما على انتحار سياسي مضمون. غير أن مداخلة وزير الخارجية لم تؤثر في الجو العام، وفهم المشاركون المرارة التي طبعت خطاب أحمد طالب على أنها صادرة من رجل لا يزال يتذكر أنه سجن مرتين في حياته : مرة أولى من طرف فرنسا ومرة ثانية من طرف الرئيس أحمد بن بلة، الذي أساء إلى والده الشيخ البشير الإبراهيمي وأهانه حين وضعه تحت الإقامة الإجبارية، ومنعه من أداء أي نشاط ثقافي أو ديني ضمن محاربته لنفوذ جمعية العلماء. ولم يكن هؤلاء الأخيرون، يخفون معارضتهم الشديدة للنهج الاشتراكي الذي اتبعه أحمد بن بلة خلال سنوات حكمه. وكان من الطبيعي تماما أن يؤثر ذلك الماضي البعيد على موقف الدكتور أحمد طالب الإبراهيمي من مشروع عودة بن بلة، وبالأخص من احتمال إعادته إلى جبهة التحرير. إنها مسألة طبيعية تماما سيما وأن الدكتور أحمد طالب الإبراهيمي -كان ولعله لايزال- يطمح في الرئاسة. أما كلام المحامي علي بن فليس، وزير العدل فإن له مبررات ودوافع ودلالات مختلفة. لقد حاول بن فليس أن يوضح أمام اللجنة المركزية بأن مشكلة بن بلة، ليست من صلاحية رئيس الجمهورية، وإنما هي من اختصاص العدالة، والعدالة وحدها. وبما أن القضاء، وفقا لبنود الدستور الجديد، مستقل تماما عن السلطة التنفيذية، فإنه لا يمكن لهذه الأخيرة أن تعمل أي شيء من قبل أن تقول العدالة كلمتها الأخيرة. وكان وزير العدل، يشير في خطابه، إلى قضية معروضة يومها على القضاء الجزائري، تتصل بشبكة اعتقل أعضاؤها وقدموا إلى قاضي التحقيق بتهمة حيازة السلاح، والتحضير لسلسلة من الأعمال الإرهابية. وقد نسبت السلطة القضائية إلى رئيس الشبكة اعترافات يؤخذ منها أنها عضو مسؤول في حزب الحركة من أجل الديمقراطية الذي يقوده أحمد بن بلة من الخارج. كما نسبت إليه إفادات يؤكد فيها أنه تلقى كميات من الأسلحة والأموال من ليبيا، وكان، وهو يخطط للعمليات، على صلة منتظمة بِبَنْ بَلَّة. ومن الواضح أن وزير العدل، حين تدخل أمام اللجنة المركزية وحاول أن يختزل مشكلة أحمد بن بلة إلى قضية جنائية اعتيادية، إنما كان يعبر عن وجهة نظر قطاع واسع من أهل الحكم. لقد حاولت حكومة مولود حمروش أن تستغل حكاية شبكة الإرهاب المذكورة لتأجيل الاعتراف الرسمي بحزب «الحركة من أجل الديمقراطية»، بل استخدمتها لنسف الجسور التي كانت أطراف أخرى نافذة، داخل الدولة والجيش والحزب، تريد إقامتها مع الرئيس السابق، ضمن بحثها عن بديل للشاذلي بن جديد، يحظى بالصدقية والمصداقية، ويملك رصيدا تاريخيا يجعله جديرا بالتصدي للتحديات الجديدة. فهل هي مجرد مصادفة، أن القطيعة السياسية بين أحمد بن بلة والجبهة الإسلامية للإنقاذ، تعود إلى تلك الفترة؟ حتى ذلك التاريخ، أي الأيام السابقة لسلسلة المظاهرات الكبرى التي جرت في شهر مايو 1990، كانت الحسابات الاستراتيجية، والتقديرات السياسية والتوقعات المرحلية المتصلة بآفاق التغيير، سواء لدى الأطراف المحليين أو عند الجهات الإقليمية والدولية المعنية برهانات التجربة الجزائرية تستند إلى جملة من الفرضيات، تأتي في مقدمتها فرضية واحدة تؤكد أن الشاذلي بن جديد، لن يكمل ولايته الثالثة. انطلاقا من هذه الفرضيات، كانت هناك سيناريوهات متنوعة للبديل، تتقاطع أكثر من واحدة منها حول شخصية الرئيس السابق. كان هناك سيناريو حلف سياسي بين حزب بن بلة وحزب عباسي مدني زائد الجناح الإسلامي في جبهة التحرير، وسيناريو حلف بين بن بلة ومجموعة بومدين داخل الجيش، زائد بعض الرموز التاريخية داخل الدولة والحزب، وسيناريو تحالف بين بن بلة وأيت أحمد زائد عدد من التيارات الديمقراطية المتناثرة هنا وهناك، دائما في نطاق البحث عن بديل أو خليفة للشاذلي بن جديد. الرهانات الدائرة حول الرئيس السابق، لم تكن محصورة في الجزائر وحدها وإنما تعدتها إلى الأطراف الإقليمية العربية والدولية. وكانت فرنسا في مقدمة الجهات الخارجية التي انتبهت قبل غيرها إلى احتمالات عودة بن بلة إلى قيادة سفينة الدولة الجزائرية. ولم يكن ربط الجسور بين باريس وأول رئيس للجمهورية الجزائرية بالأمر الهين. فبالإضافة إلى تاريخ الرجل الذي كان واحدا من مفجري ثورة أول نوفمبر، ضد الاستعمار الفرنسي، والذي اختطفت طائرته يوم 22 أكتوبر 1956 من طرف الجيش المحتل، في أول عملية قرصنة جوية معاصرة، أمضى بعدها أكثر من خمس سنوات داخل زنازن السجون الفرنسية، وكان بعد الاستقلال، وراء تصفية النفوذ الاقتصادي لفرنسا، بالإضافة إلى ذلك كله، تعقدت الصلات بين الحكم الاشتراكي الفرنسي وبن بلة، إلى درجة كان من الصعب فيها على الطرفين، أن يخطو واحد منهما باتجاه الآخر. يعود ذلك التعقيد إلى عدة أسباب، يمكن اختصارها أو اختزالها إلى الاعتبارات التالية : بعد وصول الاشتراكيين إلى السلطة، في ربيع عام 1981، أصبحت الجزائر محور استراتيجية عالمية طموحة، تقوم على مربع يفترض أن أركانه أو زواياه موجودة في دلهي الجديدة وبغداد بالقارة الآسيوية، ومكسيكو وكوبا بأمريكا اللاتينية، والجزائر ومصر بالقارة العربية الإفريقية. كانت الحرب العراقية الإيرانية في أوج عنفوانها، وكانت باريس تقف بلا تردد في صف بغداد، وكان ابن بلة حينما لجأ إلى العاصمة الفرنسية بعد عودته من الحج، ومروره على طهران، مفتونا بالتجربة الخمينية. لم تكن العلاقات الجيدة بين أحمد بن بلة ومعمر القذافي أمرا سريا، ولا كانت الروابط القوية بين طهران وطرابلس خفية على أحد، لأن الطرفين عبرا عنها في أكثر من مناسبة. وكانت العاصمتان الإسلاميتان يومها في حرب غير معلنة مع فرنسا. كانت طهران تعتبر باريس «شيطانا صغيرا»، يقوم بتزويد خصمها العراقي بكل ما يحتاجه من عتاد وذخيرة لمواصلة «حربه» ضدها، وكانت طرابلس في صراع مفتوح مع العاصمة الفرنسية، على امتداد الساحة الإفريقية، وفوق رمال التشاد بالضبط. أحمد بن بلة، لم يكن أيضا يخفي معارضته لسياسة تدجين الفلسطينيين، وكانت علاقاته الوثيقة والاجتماعات المكثفة مع المرحوم «أبو جهاد» معروفة لدى الخاص والعام. لم تكن العلاقات بين باريس والجزائر، محصورة في نطاق التعاون الاقتصادي والثقافي والعلمي والمالي والتكنولوجي، ولكنها تجاوزت هذه الميادين إلى مجال التنسيق الأمني الاستراتيجي. وقد لعبت الجزائر دورا نشطا في قصة الرهائن الأمريكيين والغربيين بصورة عامة، سواء من خلال تعاونها وتفاهمها مع إيران وسورية، أو عبر علاقاتها ومعارفها وشبكاتها داخل الأوساط اللبنانية والفلسطينية. وكانت مشكلة «الإرهاب» في نهاية حقبة السبعينات وبداية حقبة الثمانينات، نقطة حساسة بالنسبة لفرنسا خصوصا وبالنسبة للغرب عموما . ولعل الرئيس السابق، حين اختار الإقامة في فرنسا، لم يكن يدرك تماما أنه يضع نفسه في عين الإعصار. ومما زاد في حراجة وضعه أنه بدأ فور استقراره في ضواحي باريس، في العمل على توحيد الهجرة الجزائرية، وفي السعي إلى تنسيق جهود المعارضة. وقد رأت الحكومة الاشتراكية، فيما يبذله من نشاط متعدد الأوجه، تهديدا مباشرا لتحالفاتها الإقليمية، سيما وأنه أصبح بسرعة نجما إعلاميا، تتسابق الصحف والإذاعات وقنوات التلفزة إلى الأحاديث معه، وذات يوم قررت الحكومة الفرنسية طرده، بحجة أنه لم يتقيد بفريضة التكتم، التي تحتم على أي لاجئ سياسي، أن لا يقوم بأي نشاط من شأنه أن يخل بالأمن. ويبدو أن حكومة فرنسا ندمت بسرعة على تسرعها. وذكر لنا المحامي الفرنسي-الجزائري الشهير، الذي كان يتولى الدفاع عن بن بلة، وكان من قبل أن تغتاله المخابرات العسكرية الجزائرية في باريس يقوم بمهمة ضابط الارتباط بين بن بلة وأيت أحمد، ذكر لنا أن وزارة الداخلية الفرنسية أخبرته أن بإمكان الرئيس السابق العودة إلى فرنسا متى شاء، لكن أحمد بن بلة -حسب رواية المرحوم علي المسيلي- اشترط أن تقدم له فرنسا اعتذارا علنيا عن تصرفها معه، وأن تلتزم بعدم إبعاده مجددا، وكان «يطلب المستحيل» في رأي محاميه. رفض بن بلة العودة إلى باريس، وبقي يتنقل بين سويسرا والنمسا وإيطاليا وإسبانيا، وظلت العلاقات مقطوعة بل متوترة جدا بينه وبين السلطات، التي شددت في وقت من الأوقات مضايقاتها على أنصاره، وحاولت أن تطرد مجموعة هامة من مسؤولي الحركة من أجل الديمقراطية إلى الجزائر مباشرة، حيث كان المتوقع أن تعتقلهم مصالح الأمن وأن تقدمهم إلى المحاكمة. ثم غيرت باريس موقفها بالتدريج، بناء على معلومات وصلتها من داخل الجزائر، ترشح الرجل للعودة إلى السلطة في غضون عام 1990. وكان أول مؤشر إلى ذلك التبدل، هو تسابق الصحف ووسائل الإعلام الفرنسية إلى طلب المقابلات الصحفية، تسابقا كانت ثمرته الأولى الحديث الذي سبق أن أشرنا إلى أن أحمد بن بلة أدلى به لمدير مجلة «حدث الخميس»، والجدير ذكره، هو أن ذلك الصحفي، رغم المقالات الانتقادية المستقلة التي يكتبها عن الأوضاع الفرنسية كان على اتصال وثيق برئيس الجمهورية الفرنسية، من خلال صداقته الشخصية بجاك أتالي، مستشار ميتران. وقد انتهز بن بلة فرصة تلك المقابلة ليوجه خطابا سياسيا معتدلا وجديدا تماما، حول علاقات فرنسا والجزائر، وحول القضية الفلسطينية وحول الإسلام، وكان ذلك الحديث الصحفي مجرد بداية لسلسلة من الاتصالات السرية جرت، بانتظام وبدون توقف حتى اليوم، بين بن بلة وإدغار بِّيزَاني، مدير معهد العالم العربي وأحد أقطاب الحزب الاشتراكي والذي يشغل أيضا منصب مستشار خاص للرئيس ميتران. وإذا كان أحمد بن بلة لم يعد إلى السلطة، كما كان متوقعا، فإنه أعاد ربط الجسور مع الحكومة الاشتراكية. هل دبر الشاذلي بنجديد حوادث أكتوبر 1988؟ تمتلئ الصحافة الجزائرية، منذ بضعة أشهر بسلسلة من المقالات والتحليلات والتعاليق، تحاول أن تقنع الرأي العام الجزائري بأن الرئيس الجزائري السابق، الشاذلي بنجديد هو المسؤول الأول والأخير، عما وصلت إليه البلاد من تدهور في أوضاعها السياسية والاقتصادية والأمنية. ولما كانت الصحف الصادرة تخضع بهذا القدر أو ذاك لرقابة الدولة، فليس من المبالغة في شيء القول بأن حملة الشهير الحالية، تدخل ضمن سياسة مرسومة، هدفها تسويد صفحة خليفة هواري بومدين، وتحميله مسؤولية الحالة المتردية التي يواجهها البلد الشقيق. مجلة ألجيري أكتياليتي (أحداث الجزائر) الأسبوعية التي كانت قبل خريف الغضب الدامي أقرب المطبوعات الصحفية إلى رئاسة الجمهورية، وأصبحت فيما يبدو، بعد تغيير هيئة تحريرها، المرة الرابعة في ظرف أربع سنوات، مقربة من خط المجلس الأعلى للدولة، شاركت من جهتها في الحملة، بنشر مقال مطول، من ست صفحات، بمناسبة الذكرى الرابعة لأحداث أكتوبر تحت عنوان «هل صنع الشاذلي أكتوبر؟» وقد حاول كاتب المقال أن يثبت نظرية كانت متداولة في الشارع، وكان يدافع عنها عدد كبير من المسؤولين، مفادها أن أحداث أكتوبر 1988، لم تكن ثورة تلقائية، وإنما كانت حركة منظمة، فجرها الشاذلي بنجديد بهدف تصفية من بقي من رفاقه، الذين أصبحوا خصوما له في الدولة والحزب والجيش. بدأ كاتب المقال كلامه عن الظروف العامة التي انفجرت فيها انتفاضة خريف الغضب الدامي، بالإشارة إلى أن الرئيس كان يعرف منذ بضعة أشهر، أن صناديق الدولة فارغة. «لقد أرادوا إخفاء الحقيقة عنه، لأطول فترة ممكنة، ثم استقر الرأي في النهاية لإطلاعه عليها. ولكنه لم يستطع تحمل الصدمة. لقد سبق له أن أصدر أوامر صارمة بإلغاء كافة النفقات اللامجدية، ولاسيما تلك المصروفات التي كانت الدولة تنفقها لإعطاء محتوى عملي لذلك الشعار الفضفاض : «من أجل حياة أفضل». أوقفت الحكومة كافة النفقات ولم تعد تستورد سوى المواد الضرورية». من «هم» هؤلاء الذين ترددوا في إطلاع الرئيس الشاذلي بنجديد على الحقيقة؟ ثم قرروا في نهاية المطاف أن يطلعوه عليها؟ لا يقدم الكاتب أسماء معروفة، ولا حتى مجهولة، وإنما يكتفي بإحالتنا إلى «ضمير الجملة أو الكلمة المبنية للمجهول» ويترك لخيالنا أن يشتط أو يقتصد في البحث عن الجهة التي يقصدها. المهم أن الشاذلي بنجديد، بدأ «يفكر» في الطريقة المناسبة لمواجهة الموقف وأن «هم» ساعدوه على التفكير، وأدرك أنه أضاع وقتا طويلا في التردد وتأجيل لحظة الحسم والاختيار، لقد كانتالمقترحات التي يقدمها إليه مستشاروه، تنسف وتحارب من طرف الأصدقاء والمقربين وأعضاء الحاشية النافذين. ثم بدأ الرجل يحاسب نفسه بقسوة. إنه لم بتصرف كقائد سياسي، يعمل بدون خوف، من أجل المصلحة العامة، وإنما تصرف كزعيم لطائفة يهتم بمراعاة خاطر صديق هنا، وإرضاء رفيق قديم هناك أو يأخذ في الحساب بعض الحساسيات والأمزجة الفردية والمصلحية المتقلبة. ومع ذلك فإن وزير داخليته، السيد الهادي الخضيري، وكان مطلعا بحكم المدة الزمنية الطويلة التي قضاها في منصبه، على الحقائق، على الحقائق، كثيرا ما نبهه إلى خطورة الوضع الناجم عن جمود الأجهزة وصفاقة بعض المسؤولين لقد قدم إليه تقارير ضافية عن وزراء موظفين كبار، كانوا يستغلون مناصبهم، بحكم الحمايات التي يتمتعون بها في الرئاسة، فيسافرون في مهمات «صورية»، إلى الخارج، ويقومون بأداء «العمرات»، ويمضون عطلا باذخة، ينفقون خلالها أموالا طائلة على «الأهل والأصدقاء». كان الشاذلي بنجديد، في هذه الحالة التي سمعنا عنها روايات كثيرة، خلال زياراتنا المتعددة إلى الجزائر من طرف وزراء وزراء وسفراء ومدراء وموظفين وضباط كبار، ومسؤولين حزبيين، كان في هذه الحالة عندما قرر، بناء على نصيحة مساعديه، أن يعقد اجتماعا «لإطارات الأمة» في نادي الصنوبر، على مسافة ثلاثين كيلو مترا إلى الغرب من العاصمة. و«اجتماع إطارات الأمة» سنَّه الرئيس الراحل هواري بومدين، كان يلتقي خلاله من حين لآخر، بكبار المسؤولين في الدولة والجيش والحزب، وهو يعقد في مبنى ضخم، له شكل قبة، شيده المهندس المصري مصطفى موسى، في عهد الرئيس أحمد بن بلة على شاطئ البحر الأبيض المتوسط، وسط مزرعة كروم تتخللها غابات من الصنوبر، كان يملكها «بورجو»، أحد الأثرياء الفرنسيين، في عهد الاستعمار. شيد ذلك المبنى وحوله مجموعة من الفيلات عام 1965، من أجل استضافة مؤتمر عدم الانحياز. وقد سقط الرئيس أحمد بن بلة قبل أن يستقبل ضيوفه فيه، وبقي منذ ذلك التاريخ وحتى الآن، المكان المفضل الذي تجرى فيه اللقاءات والاجتماعات والمؤتمرات الكبرى. الخطاب الذي ألقاه الشاذلي بنجديد، في قبة نادي الصنوبر، يوم 19 سبتمبر 1988، هو الذي أشعل فتيل انتفاضة خريف الغضب الدامي خلال شهر أكتوبر من نفس السنة. هذه واقعة معروفة. لكن مبلغ علمنا أن هذه أول مرة، تتطرق فيها صحيفة جزائرية إلى الحدث من هذه الزاوية وتقدم تفسيرا أو بالأحرى تأويلا، يجعل من الشاذلي بنجديد المدير والمفجر والمخطط لأحداث التراجيدية الشهيرة. يقول كاتب المقال : «الخطاب الذي وجه إلى الأمة يوم 19 سبتمبر تم إعداده من طرف الشخصيات الرئيسية التي كان يتألف منها طاقم المستشارين. لقد قرئ ذلك النص، وشرح، وأعيدت صياغته وتصحيحه، وجرى حفظه عن ظهر قلب، وتمرن عليه المتحدث أمام المرآت، حتى يتقن التطابق بين الكلمات والحركات. وقد ساهم كل من مولود حمروش وبشير رويس [وزير الإعلام أنذاك]، مساهمة كبرى» في إعداد ذلك النص المشتعل. ونوقشت فكرة إعادة بثه على أمواج الإذاعة، أكثر من مرة كل ساعتين. ولم تكن الدعوة إلى الانتفاضة، في ذلك الخطاب الرئاسي ضمنية، ولكنها كانت صريحة : «لازم الشعب انتاعنا يتحرك...» هذه الرواية تلقي أضواء جديدة على الحدث. حقا إنها لا تأتي بعنصر جديد، بغير المعطيات المتوفرة لدى المراقبين المتتبعين لتطور الأوضاع الجزائرية، لكنها توسع معرفتنا ببعض التفاصيل الدقيقة المهمة، وفي ضوء هذه الإنارة الجديدة، يبدو أن ما حسبه بعض المحللين، في حينه «غضبة مزاجية رئاسية عابرة» إنما هو خط سياسي مدروس بعناية. وتأتي قيمة هذا الضوء الجديد، على أحداث أكتوبر، من أنه يكشف جانبا من جوانب التحول اللاحق، المتمثل فيما وصفه لنا ذات يوم أحد المفكرين الجزائريين ب«تواطؤ الشاذلي بنجديد ومولود حمروش مع الجبهة الإسلامية للإنقاذ». «لازم الشعب انتاعنا يتحرك»، كلمة وردت بالفعل، في خطاب الشاذلي بنجديد أمام اجتماع «إطارات الأمة» بنادي الصنوبر يوم 19 سبتمبر 1988. وحسب الرواية الواردة في ملف المجلة الجزائرية، كان الشاذلي بنجديد، يريد أن يشرك الشارع في صراعه مع خصومه، دون أن يذهب الأمر إلى حد العصيان، وكانت له من وراء هذا التصرف مجموعة أهداف : أولا : إجهاض الإنتفاضة الشعبية قبل أن تنضج شروطها الموضوعية، وتصبح السيطرة عليها مستحيلة. ثانيا : إبعاد الرفاق القدامى من مواقع السلطة واعتبارهم مسؤولين عن الإخفاق. ثالثا : إدخال إصلاحيات بنيوية لتصحيح الإختلالات التي أصبحت خصائص دائمة، ثم بعد ذلك، فرض مسار اقتصادي جديد. هذا التفسير يعني أن خريف الغضب الدامي، في أكتوبر 1988 قد تم «تصويره وتطبيقه» بما هو انتقال عنيف لنظام بيروقراطي سلطوي، وصل إلى نهايته نحو نظام مختلف تماما. بالطبع لم يكن هناك اتفاق كامل بين «المستشارين» حول العلاج الأفضل، للأزمة. كان هناك جناح شعر بمخاطر التوجه إلى الشارع وقد نجح أصحابه، أو ممثلوه، وأبرزهم مدير شؤون الإعلام بالرئاسة، في تغيير بعض الكلمات والجمل، وحصلوا على إلغاء فكرة بث الخطاب عدة مرات في الإذاعة. بعد مرور أسبوعين على إلقاء خطاب 19 سبتمبر في نادي الصنوبر، كان الشاذلي بنجديد جالسا في قصر الرئاسة، عندما جاءته الأخبار الأولى الانتفاضة أكتوبر، وكان السؤال الذي طرحه على سامعيه! ماذا يقولون؟ وكان رد بعض الحاضرين! إن ما يحدث هو ثورة حقيقية. وألح الشاذلي بنجديد مرة أخرى : ماذا يقولون؟ وبما أن الهتافات الأولى، كانت موجهة ضد الرئيس وأسرته وتطالب باستقالته، فإن أحد لم يتجرأ على مواجهته بالحقيقة. كان الحاضرون يتجنبون النظر إليه ولم يكن يفهم شيئا مما يحدث. لقد قامت القيامة في الجزائر، وأصبحت الشتائم الموجهة ضد شخص الرئيس تتدفق من آلاف الأفراه، وتحولت النوافذ والأبواب إلى متاريس، يختفي وراءها الشبان والمراهقون لإطلاق أي شيء بجدونه على رجال الدرك والأمن : قنينات الغاز، علب الصباغة، الأثاث العتيق، الكراسي، قنينات النبيذ والبيرة الفارغة، إنه الغضب الشعبي العارم، يستعمل الأسلحة المتوفرة لديه. وجاءت التعليمات الرئاسية صارمة وواضحة رددتها أجهزة المواصلات السلكية واللاسلكية المتنقلة مع رجال الدرك والشرطة: لا تطلقوا النار.. لا تطلقوا النار. وأدركت إدارة الأمن من خلال المعلومات التي توصلت بها أن الغضب الشعبي العفوي، تفجر بالدرجة الأولى، في الأماكن التي توجد فيها مصالح ضخمة لأسرة الرئيس الشاذلي بنجديد. لقد كان هذا الغضب بالغ العنف والقسوة بمدينة عنابة حيث كان شقيق الرئيس يتولى منصب الوالي، وكان ذا طبيعة تدميرية عمياء في مدينة مستغانم، موطن السيدة الجزائرية الأولى حليمة بوركبة، وكان غضبا حاقدا في وهران التي توجد فيها مراكز نفوذ قوية متصلة بالرئاسة، وحدثت أعمال تخريبية في الجزائر العاصمة وتيبازة، أحرقت خلالها المدارس، ومقرات الحزب، ومنشآت كثيرة تابعة للدولة. استمرت الانتفاضة الدامية ثلاثة أيام، لاحظ خلالها المسؤولون الذين كانوا يتصلون بالشاذلي بنجديد أنه ضائع، حائر، متردد لا يعرف ماذا يفعل؟ وتحدث وزير الداخلية في الإذاعة والتلفزة داعيا إلى الهدوء، ولكنه كان مثل صارخ في البرية. لم يستجب أحد لدعوته، بل إن الانتفاضة صارت أقوى بعد الخطاب مما كانت قبله. وكان السؤال الوحيد الذي لا يتوقف الشاذلي بنجديد عن طرحه : واش راهم يقولو؟ [ماذا يقولون؟]. وأخيرا تجرأ مدير الدرك، وهو ضابط قديم في جيش التحرير، ونظر إلى الرئيس مباشر وقال له بالحرف ما كان يردده المتظاهرون ضده من هتافات. وأدرك بنجديد للمرة الأولى أنه أصبح الهدف المباشر لحركة الشارع الغاضب. وبدأت الأصوات ترتفع لمطالبته بعمل أي شيء ووصل الأمر بصديقه الحميم الجنرال رشيد بن يللس، قائد البحرية السابق، ووزير النقل أنه قال له أثناء اجتماع الحكومة : «سيدي الرئيس يجب أن تعلنوا انسحاب القيادة السياسية» ونظر الرئيس إلى الوزير وكأنه لا يصدق ما سمعه منه وأفهمه أنه لن ينسحب تحت التهديد. لقد بدأ الجيش يتحرك، وسوف يفرض عودة النظام والأمن. الطريق التي صاغ بها كاتب المقال روايته عن هذه اللحظات يكتنفها غموض كبير. فنحن لا نعرف ما إذا كانت عبارة، «لقد بدأ الجيش يتحرك» تصور مبادرة حقيقية قام بها الجيش، تلقائيا، أم أنها تصور حالة أخرى بدأ الجيش يطبق فيها أوامر صادرة إليه من الشاذلي بنجديد؟ الوقائع الرسمية معروفة لدينا بما فيه الكفاية : لقد أعلن الشاذلي، حالة الطوارئ، وكون قيادة بإشراف عدد من الضباط [من بينهم خالد نزار وزير الدفاع اليوم، أوكل إليها مهمة حفظ الأمن والنظام، وأعلن في النهاية أنه مسؤول عن كل ما حدث. لكن الأسلوب الذي قدم به كاتب التحقيق الصادر في مجلة «أحداث الجزائر» وقائع دخول الجيش إلى الساحة «توحي بأن مشاركة العسكريين في قمع الانتفاضة» قد فرضت على بنجديد، أو على الأقل توافقت مع رغبته. «لقد فهمت هيئة الأركان العامة للجيش الوطني الشعبي، منذ يوم الخامس أكتوبر، أن الأوضاع خطيرة للغاية. إن التقارير الصادرة عن الدرك الوطني، والمعلومات المتجمعة لدى مختلف مصالح الأمن، وهي معطيات باردة، صحيحة وشديدة الدقة، جاءت كلها تعزز القناعات الشخصية للضباط. وكان يكفي أن يفتح أحدهم النافذة، أو يسير بضع خطوات داخل الحي الذي يسكنه، ليدرك حقيقة الوضع بنفسه. ولذلك فإن قيادة الجيش اقتنعت بأنه حان وقت التدخل. إن تحليل عناصر الاضطرابات القائمة يؤكد أنها ليست تعبيرا عن عمل حركة سياسية معارضة، وإنما هي شغب عنيف وفوضوي يلحق أضرارا جساما بممتلكات الأفراد والجماعات. وعندما أعلنت حالة الطوارئ، كانت وحدات الجيش، قد بدأت تحركاتها بالفعل. وسوف يكون حضور هذه الوحدات في الشارع، وأضرارها وتورطها أحيانا، عناصر حاسمة في استتباب الأمن وعودة الهدوء. كما أن سكان العاصمة استقبلوها بارتياح. «بعد ذلك بفترة -والكلام دائما للصحفي الجزائري- سوف يؤكد أعداء الجزائر التقليديون أن الجيش أنقذ الشاذلي بنجديد ونظامه مقابل موت الأشخاص. ولا شيء أكثر زيفا من هذا القول. لقد كان كبار قادة الجيش عام 1988 عسكريين محترفين وصلوا إلى مراتبهم من دون أن يكونوا مدينين بوصولهم لا للدسائس ولا للامتيازات. وكانوا يملكون ماضيا تاريخيا مجيدا، وتحتوي سجلاتهم على خدمات تفوق بكثير ما قدمه الشاذلي بنجديد ثم إن الترقيات والتشريفات التي حصلوا عليها، لم تكن سوى تتويج للأقدمية وأحيانا للكفاءة. لذلك فإن الشعور الذي يكنونه للبلاد، هو الذي أملى عليهم اتخاذ القرار وليس الولاء الشخصي لرجل لم يكونوا مدينين له بأي شيء. وأثناء أيام أكتوبر التراجيدية عمل هؤلاء الضباط في إطار مهمتهم الدائمة، التي تحتم عليهم أن يكونوا دائما في خدمة الأمة الجزائرية، بغض النظر عن التقلبات السياسية الظرفية العابرة. «من بين هؤلاء الضباط -يضيف الكاتب- واحد نحجم عن ذكر اسمه (حماية لتواضعه)، كان رئيسا لأول مدرسة تكوين لجيش التحرير عام 1957، وقد أمضى عدة أسابيع، ينقل على كتفيه الخبز اليومي لرجاله، على مسافة 7 كيلومترات تفصل بين مدينة الكاف التونسية ومعسكره، كان يفعل ذلك لأنه لم تكن لديه سيارة. هذا الضابط ورفاقه الذين كانوا يحملون رتب ملازمين صغار في عام 1958 أو 1959، أصبحوا جنرالات واعين بالمخاطر الكبرى، وواعين بأنهم يحملون الجزائر على أكتافهم، وأثناء عاصفة أكتوبر، وبينما كانت البنيات العامة تحترق، ورجال الأمن يسقطون، لم يصدر الشاذلي بنجديد، ولا قادة الجيش، ولا مسؤولو الأمن أي أمر بفتح النار على المتظاهرين. وخلال لحظات الانفعال القوية تسقط الأقنعة وتجيء ردود فعل الرجال انعكاسا للعواطف العميقة التي تجيش بها الصدور، فتتبخر الطلاءات والمظاهر الخارجية، ولا يبقى سوى الثوابت العميقة للطبائع. إن قناعات جيل حرب التحرير الوطنية الذي كان أفراده آنذاك في مراكز القيادة، هي التي أَمْلَتْ على الجيش الوطني الشعبي سلوكه بصورة تلقائية. «نعم، إن عشرات وربما مئات من الشبان التعساء فقدوا حياتهم بسبب اندفاعهم الانتحاري. إن الغارات التي قاموا بها ضد رجال الأمن، لإكراههم ونزع سلاحهم وربما لأكثر من ذلك، لا يمكن أن يقبلها جندي في أي بلد، وإذا كان التاريخ سوف يحكم على الشاذلي بنجديد، فعله يؤكد صحة بعض الشعارات التي أطلقت ضده، لكنه سوف ينفي قطعا أكثر تلك الشعارات تطرفا : «الشاذلي قتال!». إن قراءة متأنية لهذه الفقرات الطويلة التي نقلناها عن مجلة أحداث الجزائر الأسبوعية، حول دور الجيش في أحداث أكتوبر، وعلاقة بالرئيس الشاذلي بنجديد تترك الانطباع بوجود بذور أحداث السنوات اللاحقة، في وقائع خريف ذلك العام. وبعبارة أخرى، فإن قيادة الجيش، لم تتحرك في تلك الفترة، كما عبر عن ذلك كاتب المقال بصراحة، «الإنقاذ الشاذلي بنجديد ونظامه» وإنما تحركت لمصلحة «الأمة الجزائرية» ألا يمكن أن نعتبر أن هذا التميز أو التمييز بين الرئاسة والمؤسسة العسكرية، في ذلك اللحظة الحرجة من تاريخ الجزائر، يشكل «استباقا» لتلك الحركة التي ستحدث بعد ثلاث سنوات وتؤدي إلى إخراج الشاذلي بنجديد من الرئاسة؟ ألا يكون الجيش الجزائري قد بدأ منذ تلك الفترة يفكر في تغيير الرئيس؟ لنتذكر أن الشاذلي بنجديد، لم يكن في تلك الفترة رئيسا للدولة فحسب، ولكنه كان أمينا عاما للحزب الواحد الحاكم ووزيرا للدفاع. فكيف، والحالة هذه نتصور أن يتحرك الجيش من تلقاء نفسه، لا لحماية النظام المهدد، وإنما لإنقاذ الجزائر، دون أن يكون لديه، أو لدى الضباط النافذين في قيادته، فكرة أو مشروع أولي، لتغيير النظام؟ يشير كاتب المقال إلى أن الرجال الذين كانوا يحيطون بالرئيس الشاذلي بنجديد، في تلك الفترة هم الذين أقنعوه بضرورة الإعلان عن برنامج الإصلاحات السياسية. ووفقا لهذه الرواية، فإن السيد مولود حمروش الذي كان يشغل في ذلك المرحلة منصب الأمين العام لرئاسة الجمهورية، كان له دور حاسم في دفع الشاذلي بنجديد إلى اتخاذ مبادرته السياسية القاضية بيده عهد جديد تنتهي فيه سيطرة الحزب الواحد. ويرى الصحفي الجزائري أن ما يسميه «التواطؤ الموضوعي» بين مولود حمروش والمتشددين من أعضاء الجبهة الإسلامية للإنقاذ يعود إلى تلك الفترة. كما يرى أن بداية انهيار مصداقية الدولة، وتبخر حرمتها واحترامها، بعود إلى ذلك الانطباع الذي تركه الشاذلي بنجديد، في أذهان المواطنين، يوم العاشر من أكتوبر، حين ظهر أنه رجل ضعيف، وعاجز، لا يستطيع السيطرة على مشاعره وانفعالاته، وكان كل ما يهمه بعد «استقالته النفسية» أن يبقى على رأس الدولة، حتى ولو كانت هذه الأخيرة، فقدت كل ما لديها من هيبة في عقول المواطنين. إشكالية القضاء في الجزائر دخل مواطن جزائري، يبحث عن مقر المحكمة، يسأل عن عنوان تلك البناية الواقعة بشارع عبان رمضان وسط العاصمة، فرد عليه مخاطبه مشيرا إلى العمارة المطلوبة قائلا : «القصر هناك، قريب جدا، أما العدالة، فلا أعرف عنوانها». هذه النكتة، التي سمعناها أكثر من مرة، في زياراتنا الأخيرة للجزائر، تترجم نظرة متشائمة إلى القضاء والمؤسسات القضائية، طغت في الأسابيع الأخيرة على الحياة العامة في الجزائر. نعم، لقد عاد القضاء ليحتل في الأسابيع الماضية موقع الصدارة، في اهتمامات أجهزة الإعلام، ورجال السياسة، وفي انشغالات المواطنين. حصل ذلك، بسبب سلسلة من الأحداث المتوافقة، المتزامنة، جاءت كلها تضع هذا القطاع ورجاله، في بؤرة الأضواء. بدأ الجدل مباشرة، بعد الإجراءات الجديدة التي اتخذها المجلس الأعلى للدولة، بإنشاء ثلاث محاكم استثنائية بالجزائر العاصمة وقسنطينة، ووهران، وبتغيير القوانين المسطرية بحيث يمكن لرجال الأمن أن يحتفظوا بالمعتقلين عندهم لمدة اثني عشر يوما، بدلا من الثماني والأربعين ساعة المنصوص عليها في القانون. آراء المحامين ورجال القضاء تختلف بالطبع حول التعديلات الأخيرة. المقربون من المجلس الأعلى للدولة، يرون أن الجزائر، تعيش وضعا استثنائيا لابد أن تواجه بإجراءات استثنائية. هذا مثلا، هو رأي الأستاذ يوسف فتح الله، الذي يقول بأن «القانون المضاد للإرهاب، مطابق تماما للقوانين الموجودة، وكل ما تغير فيه هو الإجراءات المسطرية. ولاشك أن إنشاء محاكم استثنائية يشكل خرقا للحريات الفردية، ولاشك أن هذه التدابير تضر بحقوق الإنسان». والأستاذ يوسف فتح الله، هو رئيس العصبة الجزائرية للدفاع عن حقوق الإنسان، وصديق شخصي لرئيس المجلس الأعلى للدولة «علي كافي» وصديق شخصي أيضا لرئيس الحكومة، السيد «عبد السلام بلعيد». وهو يرى أن الجزائر تعيش وضعا استثنائيا، يفرض عليها اللجوء إلى تدابير استثنائية إلى أن يستتب الأمن فيها. أما الأستاذ علي يحيي عبد النور، وهو رئيس الرابطة الجزائرية للدفاع عن حقوق الإنسان، فله رأي مختلف. لقد أعلن في تصريحات مثيرة أن أجهزة الأمن، بدأت تمارس عمليات التعذيب، ضد المعتقلين الأمر الذي دفع وزير الداخلية، «محمد حردى» إلى أن يتحداه ويطلب منه أن يقدم برهانا يدعم به صحة اتهامه. وقد تدخل السيد عبد الرزاق بارا، مدير مرصد حقوق الإنسان في الجدل، وأعلن أن الهيئة التي يشرف عليها لم تتلق أية شكايات من أشخاص أو من عائلات بهذا الشأن. محامون آخرون قالوا إن منطق الدولة، هو الذي بات يصبح سائدا، عندما تفقد الدولة المنطق تماما. الرئيس علي كافي بدوره، أدلى بدلوه، ولو بصورة غير مباشرة في الجدل. لقد اختار مناسبة رمزية مهمة هي ذكرى ثورة أول نوفمبر، وافتتاح السنة القضائية الجديدة ليعلن أمام القضاء أن تكوين المحاكم الاستثنائية لا يعني بأي شكل من الأشكال أن المجلس الأعلى للدولة تخلى عن اختياره الأصلي الرامي إلى بناء دولة القانون الضامنة لاحترام الحريات الأساسية وحقوق الإنسان. عبد السلام بلعيد، رئيس الحكومة أسمع صوته التميز، هو الآخر، في هذه المناسبة، إذ لم يتردد في الاعتراف بأن حكومته تقوم بلا شك بخرق الدستور لكن لا خيار أمامها، سوى ذلك. وكان مسك الختام، في هذه الضوضاء كلها، هو إقالة وزير العدل، بتلك الطريقة المسرحية غير المألوفة. فلماذا احتلت الإشكالية القضائية كل هذه المكانة، وأصبحت في غضون أيام معدودة الشغل الشاغل للدولة وللمجتمع المدني وللإعلام؟ هناك، بداهة مشكلة الإرهاب وحالة الطوارئ غير المعلنة، والضرورة التي تبيح المحظور، وتفرض على الدولة أن تتسلح بالأدوات المتوفرة لديها لمواجهة خصومها. لكن هناك أيضا أشياء أخرى، مسكوت عنها، هي تلك الملفات المتراكمة، المتخلفة عن العهدين السابقين، عهد بومدين، وعهد الشاذلي بنجديد، والتي ما تكاد بعض الأصابع تقترب منها، حتى تنفض الأيدي وتبتعد خوفا من الاحتراق. ومما يسترعي الانتباه، أن هذا الجدل حول المؤسسة القضائية انطلق مع تجدد الحديث عن احتمال فتح بعض هذه الملفات القديمة التي تتعلق بالفساد والرشوة. والكلام عن محاربة الرشوة، ومعاقبة المرتشين، خطاب قديم في السياسة الجزائرية، دشنه الشاذلي بنجديد، في مستهل حقبة الثمانينات، ولكنه لم يذهب بعيدا في تطبيقه. حقا إنه أحدث ديوانا وطنيا للمحاسبة، وقدم بعض الرموز، التي اعتبرها الرأي العام في حينها مجرد «أكباش فداء» لقد اتخذت المحاكمات الخاصة آنذاك صورة تصفية حسابات سياسية كان الغرض منها إبعاد الخصوم من المسرح نهائيا أو إسكاتهم. أما الأسماك العملاقة، فقد بقيت تسرح وتمرح في بحار الثروة الحرام التي جمعتها من الصفقات الكبرى. ومثلا، فإن الرأي العام الجزائري كله، يتحدث عن تلك المحاكمة، التي بدأت بسرعة وانتهت بسرعة، دون أن يقيم أي تفسير مقنع لذلك. يتعلق الأمر بالمدعو رشيد زكار المعروف برشيد كازا. لقد كان هذا الرجل تاجرا عاديا قبل قيام الثورة، وعندما اندلع الكفاح المسلح، في الخمسينيات، التحق بصفوف جبهة التحرير، وجاء إلى المغرب، ليتخصص في تزويد جيش التحرير الوطني الجزائري، بالأسلحة الأمريكية وأجهزة الإتصال التي كان يشتريها من السوق السوداء أو من القواعد الأمريكية في القنيطرة والنواصر وبن جرير. ولأنه كان يقيم كثيرا في العاصمة الاقتصادية المغربية، فقد أصبحت شهرته في الوسط الجزائري، «رشيد كازا». خلال حرب التحرير توثقت صلات رشيد كازا، بشخصيات مدنية وعسكرية جزائرية سوف تكون لها مواقع مؤثرة في صنع القرار بالدولة الجديدة. قد أصبح صديقا شخصيا لبومدين بعد أن كان صديقا لبوصوف. وعندما استعادت الدولة الجزائرية استقلالها، في بداية الستينيات، عاد رشيد كازا، إلى حبه الأول، أي التجارة، وتمكن بواسطة شبكة المعارف والأصدقاء الذين احتلوا في الكيان الفتي للدولة مناصب هامة، تمكن من أن يصبح أحد المتعهدين الأساسيين للصفقات الكبرى، خاصة العمليات الإستراتيجية المتصلة بتجهيز الجيش. كان رشيد كازا، بحكم علاقته الوثيقة مع هواري بومدين، «المهندس-الظل» للسياسة النفطية الجزائرية. لأنه هو الذي فتح أسواق الولايات المتحدة أمام النفط والغاز الجزائريين، وهو الذي أبرم الصفقات الخاصة بطائرات البوينغ لحساب شركة الخطوط الجوية الجزائرية. وفي منتصف السبعينات، أي في أوج الطفرة النفطية، أصبحوا يطلقون عليه داخل الأوساط المالية «خاشقجي الجزائر». بيد أن دور الرجل لم يقتصر على الاقتصاد، ولكنه تجاوزه إلى السياسة والسياسة الإستراتيجية العليا. إنه هو الذي كان وراء زيارة عدد من الشخصيات الأمريكية إلى الجزائر، وكان وراء تعريف بومدين بعدد من الوجوه الأمريكية المؤثرة مثل روكفلر وكيسنجر، وهو الذي وضعت في مكاتبه بنيويورك الخطوط الكبرى لذلك الخطاب التاريخي الذي ألقاه بومدين في الإجتماع الشهير للجمعية العامة للأمم المتحدة، حول «النظام الاقتصادي العالمي الجديد». هذا الرجل، لم يكن معروفا كثيرا لدى الرأي العام الجزائري، ولا كان معروفا، رغم خطورة الأدوار التي قام بها حتى لدى الرأي العام الخارجي، لقد احتفظ من تجربته في الثورة، بنفور مرضي من الواجهات المتلألئة. ولم يخرج اسمه عن الدوائر الضيقة إلا عندما قرر المرحوم قايد أحمد، المسؤول السابق لجهاز حزب جبهة التحرير وبعد دخوله المعارضة، وسفره إلى الخارج، أن يكشف أمره للصحافة الدولية. لقد حدثنا عنه كثيرا، أثناء لقاءات جرت بيننا وبينه في باريس، ففي منتصف حقبة السبعينات، أعطانا، وغيرنا من الصحفيين، نسخة مصورة، عن حساب بنكي، أكد لنا أن رشيد زكار، فتحه باسم هواري بومدينن في فرع بنك أمريكي بنيويورك. وكشف قايد أحمد، في تلك الأيام وجود حسابات سرية في سويسرا، باسم المسؤولين الرسميين، لكن هذه «الفضائح» بقيت محصورة التداول، ولم تنشرها الصحافة أو تروجها، بما فيه الكفاية، لأن الدولة الجزائرية، كانت آنذاك، أي في منتصف السبعينات، في أوج مجدها الاقتصادي والسياسي والإعلامي، وكانت «قيادتها الثورية» تتمتع بما يشبه «العصمة» في نظر صناع القرار الدولي. ومع ذلك، فقد مست تلك «الكشوفات» وترا حساسا عند الراحل بومدين، الذي اعترف أمام «أطر الأمة» في أحد اجتماعات نادي الصنوبر بوجود أموال أودعت في حسابات مصرفية خارجية. قال إنها «مرصودة للثورة». وكان لابد من أن تحدث فضيحة من نوع آخر، ليطفو اسم رشيد كازا على السطح، ويخرج من دائرة المجالس والمحافل الضيقة إلى الفضاء الإعلامي الواسع، وجاءت الفضيحة عندما قرر الرجل أن يخطف ابنة أخته دليلة، من مونتريال في كندا ليمنع زواجها من شاب فرنسي أشهر بعد والده إسلامه، ليتمكن من الإرتباط شرعيا بحبيبته. إنها قصة بوليسية، شغلت الصحافة يومها [في بداية الثمانينات]، وكانت بمثابة غلطة الشاطر، التي دشنت مرحلة بداية النهاية بالنسبة لمرتكبها. اختطف رشيد كازا الفتاة المتمردة، بشكل مثير، إذ نقلها في طائرة بوينغ خاصة من عاصمة الكبيك إلى الجزائر، ومنها إلى مدينة العلمة، موطن أسرته، في الشمال القسنطيني، وأخفاها عن الأنظار. وانفجرت أزمة قضائية-سياسية بين كندا والجزائر، ووجد الشاذلي بنجديد، الذي كان يبحث عن وسيلة ملائمة للتخلص من مراكز القوى البومدينية، فرصة ذهبية لتصفية الحساب مع أحد رموز العهد القديم. هكذا وضع رشيد كازا في الإقامة الجبرية، وتطورت الإقامة الجبرية إلى إجراء تحقيق قضائي وأمني، والمحاكمة انتهت بالبراءة وبدأ الرأي العام يتحدث كثيرا عن الموضوع لأن رشيد كازا، هدد بكشف أوراق وقضايا انفجارية، قال حسب ما روي لنا أحد عارفيه يومها إنها ستؤدي إلى زعزعة النظام بأسره. وانتهت الحكاية بإطلاق سراح الرجل، ومغادرته للجزائر، وكان ختامها أنه وجد ميتا ذات يوم (بداية 1983) في غرفة بأحد فنادق مدريد، بسبب «جلطة» كما قيل. محاكمة ثانية، لم تحصل تحدث عنها الرأي العام كثيرا ولكنها لم تقع حتى الآن. وهي، كما سنوضح، تتصل بقصة رشيد كازا، وتلقي بعض الضوء على أزمة القضاء الجزائري، بما هي إحدى تجليات المأزق السياسي والاقتصادي العام، لهذا البلد. إنها القضية المعروفة بستة وعشرين مليار دولار. لقد انفجرت هذه الفضيحة في شهر مارس 1990، عندما أعلن السيد عبد الحميد الإبراهيمي، أمام طلابه، أن المبالغ المالية التي حصلها بعض الأفراد من الصفقات والعمولات المختلفة، تتجاوز رقم المديونية الخارجية للجزائر. وكان من الممكن أن يمر ذلك التصريح، أو يضيع، بلا عواقب تذكر، لولا أنه وجد بين المستمعين صحفي من جريدة المساء نقل الكلام، واعتبره خبرا جديرا بالنشر. وكان ذلك التصريح قنبلة الموسم السياسي والإعلامي، لكونه صدر عن رجل معروف لدى الخاص والعام، برصانته واعتداله، وقلة أحاديثه المثيرة. كان عبد الحميد الإبراهيمي، قد تولى منصب الوزير الأول في الفترة ما بين 1984 و1988، ولم تصدر عنه طوال تلك السنوات، أية تصريحات أو تصرفات مماثلة أو حتى قريبة من تلك المفرقعة الحارقة. لم يكن الرجل من فئة كبار اللاعبين في المسرح السياسي. لقد كان ضابطا في جيش التحرير، تولى بعد الاستقلال منصب والي مدينة عنابة، ونقل بعد انقلاب التاسع عشر من يونيو 1965، إلى أحد الأقسام الإدارية لوزارة الدفاع الوطني، ثم بعد ذلك إلى مكتب شركة سوناطراك [المشرفة على شؤون صناعة النفط والغاز]، نقل إلى مكتبها في واشنطن، وأرسل قبل وفاة هواري بومدين، تقريرا مفصلا عن «التلاعبات» الحاصلة فيه، ولعله أشار، في ذلك التقرير إلى رشيد كازا، وغيره من كبار الوسطاء. وقد أبعد عبد الحميد الإبراهيمي من العاصمة الأمريكية فور انتشار الخبر عن تقريره، وانتقل إلى لندن لاستئناف دراسته، وبقي ينتقل بينها وبين باريس، لإعداد أطروحته عن الوحدة الاقتصادية العربية. وبقيت الوثيقة نائمة بين أدبيات كثيرة مماثلة لها، إلى أن سمع الشاذلي بنجديد بها، فاستدعى كاتبها وعينه وزيرا أول، خلفا لوجه معروف من وجوه الفترة السابقة، هو العقيد عبد الغني. ثم كانت أحداث خريف الغضب الدامي (1988) التي تألفت بعدها وزارة جديدة برئاسة العقيد قاصدي مرباح، مدير الأمن العسكري السابق. وعندما أدلى عبد الحميد الإبراهيمي، بحديثه حول ذلك الرقم الخرافي، قامت القيامة في الوسط السياسي والإعلامي. كانت البلاد يومها مقبلة على أول انتخابات (بلدية) في ظل التعددية السياسية الجديدة، وبدا أن الوزير الأول السابق، رغم أنه كان [وما يزال] عضوا في اللجنة المركزية لجبهة التحرير الوطني، أي الحزب الحاكم آنذاك، يقدم خدمة مجانية للجبهة الإسلامية للإنقاذ. بل إن شائعات قوية، راجت في تلك الفترة، تؤكد أنه استقال من عضويته، والتحق بحزب عباسي مدني، وقد نفى لنا الرجل تلك الإشاعات أثناء لقاء صحفي أجريناه معه في تلك الأيام، ولكنه بدا لنا كما لو كانت تجوز تماما، بالعاصفة التي فجرتها كلماته. لقد قامت جبهة الإنقاذ بطبع آلاف النسخ من ذلك الكلام، ووزعتها في منشورات وملصقات إعلامية عبر مجموع التراب الوطني، وجعل منها خطباؤها في المساجد والمهرجانات موضوعهم المفضل، أثناء الحملة الانتخابية. كما أن الصحافة، بمختلف قطاعاتها. [المقروءة، والمرئية والمسموعة] حولتها إلى مادة لتعليقاتها، وتساؤلاتها. ولم تبق أية شخصية سياسية جزائرية، في تلك المرحلة، صامتة أمام هذه الفضيحة [ابن بلة، آيت أحمد، يوسف بن خدة وآخرون] فطالبوا بإجراءات تحريات عاجلة لمعاقبة المرتشين. أما عبد الحميد المهري، الأمين العام لجبهة التحرير الوطني، فقد أنحى باللائمة على الوزير الأول السابق، واعتبر أن كلامه يدنس سمعة الجزائر بكاملها، مجتمعا ودولة، وطلب منه أن يضع النقط على الحروف، ويخرج من التعميم إلى التخصيص. المجلس الوطني الشعبي [البرلمان]، شكل آنذاك وبمبادرة من رئيسه عبد العزيز بلخادم، المعروف بقربه من التيار الإسلامي لجنة تحقيق برلمانية، عقدت جلستين مغلقتين، استمعت خلالهما إلى إفادات رئيس الحكومة السابق. ويومها، قالت الجبهة الإسلامية للإنقاذ، أنها إذا وصلت إلى السلطة، فسوف تكشف الحقيقة، وتحاكم المسؤولين على أساس مبدأ «من أين لك هذا؟» وكان أنصارها أثناء دعايتهم الانتخابية للبلديات في ربيع 1990، وحتى في تشريعات خريف 1991، يكررون «وشهد شاهد من أهلها» ولما جرى إبعاد الشاذلي بنجديد من منصبه، وحلت محله رئاسة جماعية في صورة مجلس أعلى للدولة [في عهد بوضياف]، ثارت من جديد خصومة علنية بين رئيس المجلس الشعبي السابق، ووزير العدل، في حكومة سيد أحمد غزالي، حول الجهة صاحبة الصلاحية في الإحتفاظ بملف الستة عشرين مليار دولار! أخيرا، وبحكم قوة الأمر الواقع، أصبح الملف بين أيدي العدالة، والعدالة وحدها، لأن المجلس الوطني الشعبي، السابق لم يعد موجودا، والمجلس الوطني الشعبي الجديد، أُجهض في المهد، ولم يرى النور [بسبب الانقلاب] حتى يستمر في متابعة القضية. وعندما جاء الرئيس محمد بوضياف إلى رئاسة مجلس الدولة، وضع على رأس جدول أعماله مهمة محاربة الفساد والرشوة، باعتبارها رسالة عاجلة لإعادة الثقة المفقودة بين المجتمع والدولة. ولكنه في نفس الوقت، حذر الرأي العام، من مخاطر تخول المحاكمات المنتظرة إلى تصفية حسابات، وأصر على ضرورة إعداد الملفات والوثائق والمستندات حتى يجرى كل شيء في شفافية كاملة.وكان أول ملف جدي، يتصل بالرشوة، عولج في عهده هو موضوع العميد المتقاعد مصطفى بلوصيف، الأمين العام سابقا لوزارة الدفاع الوطني. وبمناسبة، البدء في تقديم ذلك الملف إلى القضاء، سربت، معلومات عنه إلى الصحافة، في محاولة بدت، كما لو كانت مقصودة، لتلميع المؤسسة العسكرية، وإبعاد الشبهات عنها، ويبدو أن تلك «التسريبات» هي التي شجعت الصحافة على إثارة قضايا أخرى جديدة، قديمة، من جملتها مسألة الستة وعشرين مليار دولار وقضية الغرفة الوطنية للتجارة. ثم تدخل عبد السلام بلعيد في النقاش وأعطاه بعدا جديدا حين دعا علنيا الوزير الأول السابق عبد الحميد الإبراهيمي للعودة إلى الجزائر، لأجل تقديم معلومات تفصيلية عن التهم التي سبق له أن وجهها، وبقيت عامة وغامضة وحسب المعلومات المنشورة في الصحف الجزائرية، فإن الملف الموجود الآن رهن إشارة أحد قضاة التحقيق بالعاصمة، حول الستة وعشرين مليون دولار، يتضمن ثمانية وعشرين قضية كبرى تتصل بصفقات عقدتها الدولة مع شركات ومؤسسات أجنبية بهدف إنجاز جملة من المشاريع الإستثمارية. من بين هذه الصفقات، مشروع بناء معهد باستور الذي توقفت الأعمال الخاصة بإنجازه عام 1985، بعد أن كانت الدولة خصصت له غلافا ماليا، يبلغ مئة وعشرين مليار سنتيما من الفرنكات الفرنسية. ثم هناك ما يسمى بملف «الغرفة الوطنية» للتجارة، وهو يضم حوالي 2400 طلب رخص استيراد موجة للإستثمار. ورخص الاستيراد كما هو معروف تعطى للذين يحصلون عليها الحق في الحصول على مبالغ معينة من العملات الأجنبية، تقدمها الدولة لمن يسمون في المصطلحات المحلية «المتعاملين الاقتصاديين» بهدف توريد أجهزة ومعدات ومواد أولية. والأسئلة المطرحة الآن هي : هل وصلت تلك الأشياء إلى الجزائر، وهل كانت مواصفاتها مطابقة لما قدم عنها من معلومات؟ وهل مازالت تعمل؟ وهل أن قيمة البضائع المستوردة مساوية للمبالغ التي سمحت بها الدولة؟ وهل أن المستفيدين من رخص الاستيراد متوفرون على الشروط القانونية المطلوبة؟ أما السؤال السياسي الكبير، الذي غطى ويغطي على غيره من الأسئلة، فهو: ما علاقة ذلك كله بإقالة وزير العدل، السيد عبد المجيد الماحي؟ أولا من هو هذا الرجل الذي وضعته الظروف على رأس هذا القطاع الإستراتيجي، في هذا الظرف الدقيق من تاريخ الجزائر؟ لقد كان عبد المجيد الماحي، تلميذا في ثانوية فرنسية. بمدينة وهران أيام الثورة التحريرية، وعندما دعا الاتحاد العام للطلاب المسلمين الجزائريين، إلى الإضراب عن الدراسة (يوم 19 مايو 1956)، أشرف بنفسه على العملية الإضرابية في ثانويته بعاصمة الغرب الجزائري. بعد ذلك شارك في عدة عمليات فدائية، قبل أن يلتحق مع عدد من زملائه التلامذة بوحدة من وحدات المقاتلين بالولاية الخامسة، ثم بمدينة وجدة، مقر قيادة جيش التحرير الوطني. قام عبد المجيد الماحي بعدة مهمات في الخارج في نطاق بعثات مكلفة من قبل وزارة التسلح والمواصلات، بجلب الأسلحة لحساب الثورة. وكان واحدا من مئات الأطر الجزائرية الذين يتنقلون بجوازات سفر مغربية. وعندما استقلت الجزائر. وضع السلاح وعاد إلى مقاعد الدراسة، فشارك في المؤتمر التأسيسي للاتحاد الوطني للطلاب الجزائريين (1963) وعين مسؤولا عن فرع وهران، وعن مجلة «الطالب الجزائري» التي ظل يديرها إلى أن اختفت عام 1964، بعد انقلاب 19 يونيو 1965، انضم عبد المجيد الماحي، إلى «منظمة المقاومة الشعبية» التي كانت ثمرة تحالف بين الحزب الشيوعي الجزائري ويسار جبهة التحرير الوطني، بقيادة المؤرخ الكبير محمد حربي. ثم عاد الماحي إلى جبهة التحرير، بمناسبة المؤتمر الرابع الذي عقد غداة وفاة هواري بومدين، عاد وشارك في تلك التظاهرة بصفته منسقا لقسمه [فرع] مدينة سيدي بلعباس التي ينتمي إليها. وكان الرجل قد أكمل دراسته الجامعية في الحقوق وأصبح قاضيا بوهران 1967، ثم انتخب عام 1990 نائبا لرئيس النقابة الوطنية للقضاء وهي واحدة من الروابط المهنية العديدة التي أفرزها خريف الغضب الدامي، في عهد الشاذلي بنجديد. الأشخاص الذين يعرفون الوزير السابق يصفونه بأنه «أصغر صديق» للرئيس الراحل بوضياف، ويذكرون له من جملة المناقب التي يذكرونها، أنه معتز جدا بشخصه ولا يقبل أن «يدوس أحد على قدميه». ويذكرون تأكيدا لهذه الصفة، الموجودة عند كثير من الجزائريين، أنه كان يوجه انتقادات عنيفة للحزب الحاكم سابقا، وذلك ما دفع قيادة الجبهة إلى فصله من مسؤولياته التنظيمية، ثم طرده نهائيا من الحزب. ذلكم باختصار هو الرجل. فأية صلة يا ترى، بين إقالته وبين إشكالية القضاء المثارة هذه الأيام؟ هل اقترب هو الآخر من الملفات واحترقت أصابعه فأبعدوه، قبل أن يخطو خطوة أخرى، تؤدي إلى إشعال الفتيل؟ الملاحظ أن هذه الإقالة تزامنت مع اقتراح تقدمت به السيدة فتيحة بوضياف، أرملة الرئيس، الراحل، تدعو فيه إلى تحويل البحث بخصوص اغتيال زوجها إلى العدالة، بدل إبقائه بين أيدي لجنة التحقيق المكلفة بالإشراف عليه من طرف المجلس الأعلى للدولة. والملاحظ كذلك أن الوزير «المقال» كان قد انتهى من وضع قائمة بعدد من القضاة ورؤساء المحاكم لإبعادهم، وأنه كان -كما ذكر لنا أحد أصدقائه- يريد أن يشرف على كل شاذة وفاذة في وزارته، ولا يقبل أن «يتجاوزه» أحد أيا كانت رتبته، للإتصال بالأجهزة القضائية التابعة له، والملاحظ أخيرا أن الرجل أبعد من منصبه، في وقت ينتظر فيه الرأي العام في الداخل وفي الخارج، صدور نص القسم الثاني من التقدير الذي أعدته اللجنة المكلفة بتقصي الحقائق حول ملابسات اغتيال الرئيس محمد بوضياف. فهل يكون إبعاد الوزير جزءا من تصفية الحسابات التي حذر منها الراحل والتي ربما يكون الفقيد نفسه ذهب ضحيتها؟ سؤال مطروح في الجزائر، والجواب عليه، قد يأتي قريبا في فصل جديد من فصول الدراما الحالية، أو يبقى مدفونا، محصورا في صدور المطلعين، العارفين بأسرار وخبايا وزوايا لعبة السياسة في المغرب العربي الأوسط.. إلى أجل غير مسمى. الفهرس أولا : المغرب الكبير 2 - باقي المغرب العربي وإفريقيا الجزائر مفاجأة غير مفاجئة في فترة شك عميق دسمبر جزائري ودسمبر فلسطيني حكاية الموت المعلن والاحتضار الطويل للقوة الثالثة خريف الغضب الجزائري : خطاب غاضب للشاذلي بنجديد ضد الدولة والحزب والشعب قطيعة عميقة بين الدولة والشعب لكل دولة جيشها وللجيش الجزائري دولته عاشت فرنسا أحداث الجزائر كما لو كانت مأساة فرنسية العقيد قاصدي مرباح من الأمن العسكري إلى الوزارة الأولى وجوه قديمة ورموز جديدة في حكومة قاصدي مرباح حكاية ميلاد معلن حديث مع حسين آيت أحمد أقدم معارض جزائري هذه قصة علاقتي مع أحمد بن بلة... الغاز والمساعدة مقابل الديمقراطية الجزائر في مفترق الطرق مشاهدات ومسموعات : التطور الموازي بين الجزائر والمغرب نهاية عهد المحرمات والطابوهات بلد المليون ونصف مليون متظاهر تفسيرات شريف بلقاسم ومحمد الصالح اليحياوي لهزيمة الجبهة (الحلقة الأولى) مساجد الشعب والمساجد الحرة والمساجد الخاصة ودورها السياسي (الحلقة الثانية) جبهة التحرير تصل إلى ذروة مجدها وانهيارها في عهد بن جديد (الحلقة الأولى) كيف استُعملت المسألة اللغوية في الأزمة السياسية (الحلقة الثانية) غياب بومدين كان مناسبة لخروج السلفيين من السرية للعلنية (الحلقة الأولى) ثلاثة آراء لتفسير هزيمة واحدة (الحلقة الثانية) جريدة المجاهد تشرح التزوير ودور السلطة في هزيمة جبهة التحرير الوطني (الحلقة الأولى) صيف إسلامي ساخن وكئيب (الحلقة الثانية) صيف إسلامي ساخن وكئيب (الحلقة الأولى) الفتنة في وادي ميزاب... (الحلقة الثانية) الفتنة في وادي ميزاب... (الحلقة الأولى) الشاذلي بنجديد أو الرجل الثالث (الحلقة الثانية) الشاذلي بن جديد.. أو الرجل الثالث (الحلقة الأولى) كيف عاد القدماء إلى الحزب (الحلقة الثانية والأخيرة) كيف عاد القدماء إلى الحزب أحمد بن بلة العائد إلى الجزائر بعد رحلة قام بها إلى بغداد الجزائر من الشاذلي بنجديد إلى محمد بوضياف أو شتاء الديمقراطية في الجزائر : انتصار السوق على الإيديولوجيا!.. محمد السعيد : من الدعوة لانتصار الشيوعية إلى الدعوة الإسلامية كيف تمرد الوزير الأول قاصدي مرباح على بن جديد؟ الإنقلاب السري ومحاولة الإنقلاب العلنية هل دبر الشاذلي بنجديد حوادث أكتوبر 1988؟ إشكالية القضاء في الجزائر