يزخر التراث العربي بقصص وأخبار الأولين التي تم تدوينها، في كتب ومجلدات عديدة، متناولة حيوات أو أحداثا وقعت لهذا الشاعر أو هذا الأديب أو لذاك الوالي أو ذاك الحكيم أو هذا المجنون، أو هذا الطماع وذاك المحتال إلخ.. وهي قصص وأخبار انتمت في غالبها إلى الأدب العربي، الفصيح العالم منه، أو الشعبي، مما ظل الحكاة والرواة يرددونه في مجالس أنسهم، أويطالعه المهتمون بالأدب لإغناء قاموسهم اللغوي، لما تنطوي عليه بعض هذه القصص من مفردات مُفعمة بنداوتها الأولى وطراوتها البدئية، أو لما تشمله من عبر وحكم وأمثال أو لمجرد متعة القراءة والترفيه عن النفس. لذلك، اخترنا منتخبات من هذا التراث ليصاحبها القارئ الكريم، عله يجد فيها من البلاغة والفصاحة وحسن القول وسرعة البديهة، وخفة الظل والدم ومن مهارات الخطابة وأساليب المكر والحيل لبلوغ الغاية ومن الامتاع والمؤانسة، ما يملأ به وقته استفادة ومتعة. تكدير قال الحمدوني: بعث إلي أحمد بن حرب المهلبي في غداة، السماء فيه مغيمة فأتيته والمائدة موضوعة مغطاة، وقد وافت «عجاب» المغنية، فأكلنا جميعا، وجلسنا على شرابنا، فما راعنا إلا داق يدق بالباب، فأتاه الغلام فقال: بالباب فلان! فقال لي: هو فتى من آل المهلب ظريف نظيف! فقلت: ما نريد غير ما نحن فيه! فأذن له، فجاء يتبختر، وقدامي قدح شراب فكسره، فإذا رجل أسمر ضخم! وتكلم، فإذا هو أعيا الناس. فجلس بيني وبين «عجاب» فدعوت بدواة، وكتبت إلى أحمد بن حرب: كدر الله عيش من كدر العيش--- فقد كان صافيا مستطابا جاءنا والسماء تهطل بالغيث--- وقد طابق السماع الشرابا كسر الكاس وهي كالكوكب الدُّرري ضمت من المدام رُضابا قلت لما رميت منه بما أكره ----والدهر ما أفاد أصابا! عجل الله نقمة لابن حرب ----تدع الدار بعد شهر خرابا ودفعت الرقعة له، فقال: ألا نَفَّسْتَ، فقلت: بعد حول؟ فقلت أردت أن أقول بعد يوم، فخفت أن يصيبني مضرة ذلك! وفطن الثقيل، فنهض، فقال: آذيته! فقلت: هو آذاني!