يزخر التراث العربي بقصص وأخبار الأولين التي تم تدوينها، في كتب ومجلدات عديدة، متناولة حيوات أو أحداثا وقعت لهذا الشاعر أو هذا الأديب أو لذاك الوالي أو ذاك الحكيم أو هذا المجنون، أو هذا الطماع وذاك المحتال إلخ.. وهي قصص وأخبار انتمت في غالبها إلى الأدب العربي، الفصيح العالم منه، أو الشعبي، مما ظل الحكاة والرواة يرددونه في مجالس أنسهم، أويطالعه المهتمون بالأدب لإغناء قاموسهم اللغوي، لما تنطوي عليه بعض هذه القصص من مفردات مُفعمة بنداوتها الأولى وطراوتها البدئية، أو لما تشمله من عبر وحكم وأمثال أو لمجرد متعة القراءة والترفيه عن النفس. لذلك، اخترنا منتخبات من هذا التراث ليصاحبها القارئ الكريم، عله يجد فيها من البلاغة والفصاحة وحسن القول وسرعة البديهة، وخفة الظل والدم ومن مهارات الخطابة وأساليب المكر والحيل لبلوغ الغاية ومن الامتاع والمؤانسة، ما يملأ به وقته استفادة ومتعة. إن صَدَقْناك أغضبناك شكا الحجاج يومًا سوء طاعة أهل العراق، وسَقَم مذهبهم، وسَخَط طريقتهم، فقال له جامع المحاربي - وكان شيخًا خطيبًا لسِنًا: أما إنهم لو أَحبُّوك لأطاعوك، على أنهم ما شنئوك لنسبك ولا لبلدك ولا لذات نفسك، ولكنهم نقموا أفعالك، فدع ما يُبعدهم عنك إلى ما يُدنيهم منك، والتمس العافية ممن دونك، تُعْطها ممن فوقك، وليكن إيقاعك بعد وعيدك، ووعيدك بعد وعدك. فقال له الحجاج: والله ما أرى أن أرد بني اللكيعة إلى طاعتي إلا بالسيف!cc فقال جامع: أيها الأمير، إن السيف إذا لاقى السيف ذهب الخيار. فقال الحجاج: الخيار يومئذ لله. قال جامع: أجل، ولكن لا تدري لمن يجعله الله! فغضب الحجاج وقال: يا هناهُ (أي يافلان) إنك من مُحارب فقال جامع: وللحرب سُمينا وكان محاربًا إذا ما ألقى أمسى من الطعن أحمرا فقال له الحجاج: والله لقد هممت أن أخلع لسانك، وأضرب به وجهك. فقال جامع: إن أَصْدَقْنَاك أَغْضَبناك، وإن كَذَبْنَاك أغضبنا الله، وغضب الأمير أهونُ علينا من غضب الله. فقال الحجاج أجل! وسكن، واشتغل ببعض الأمور، فخرج جامع وانسل من صفوف الناس.