عام آخر على غياب محمود درويش، مع ذلك فإن وداعه لم ينته بعد. ما زال المغنى الذي طار، قبل ثماني سنوات، يكلّمنا مباشرة وما زالت فلسطين تشبه أكثر فأكثر أغنيته بل تصير أحياناً الأغنية نفسها. محمود درويش هو الذي جعل من فلسطين أغنية وهو الذي جعل منها أوذيسة كونية وهو الذي جعل منها جرحاً عالمياً، هكذا بعد غياب محمود درويش يزداد الشاعر التصاقاً بالمأساة التي كان الأول الذي استشفّ فيها الخسارة. وهكذا يستطيع درويش أن يحضر أكثر كلّما زادت المأساة تبلوراً وكلما كانت الخسارة مستديمة مقيمة متصلة. محمود درويش شاعر فلسطين، ليس لأحد أن يُنكِر ذلك، أنه شاعر قضية لبسها ولبسته حتى صار وجهاً لها، واسماً آخر وعنواناً. شاعر قضية بدون شك، لكنه جاء إلى القضية من الشعر وحملها إلى الشعر، وظلت عنده شعراً يسفر عن شعر ويزداد شعراً كلما أوغل فيها، وكلما شفَّت هي، وتحوّلت أكثر فأكثر إلى تراجيديا إغريقية، وتوحدت مع مأساتها واستدقت رمزيتها، وخرجت من الصخب السياسي والمعتركات الوقائعية والخطاب الإيديولوجي أو قل الخطب الأيديولوجية، خرجت لذلك من المصطلح السياسي وفوقه المصطلح النضالي بل النفير النضالي. الواضح أن القضية التي ذرّفت على أكثر من نصف قرن جرفت معها كثيراً من الكلام الخشبي ومن الحطام السياسي ومن الجدل الفارغ ومن الانتخاء الفروسي ومن الارتجاز الحربي ومن الأصنام اللغوية واللفظية ومن التابوات ومن الحصارات الفكرية ومن الخطابة والتحريض والدعاوة والدعوات ومن الهدير والصفير. ولما كانت فلسطين هي قضية العرب الأولى فقد دخلت فيها أصابع الجميع، وتناولها العرب من كل صوب، ومن كل طرف. وتراكمت عليها خطبهم ونصوصهم، أمكن من ذلك أن يكون النص الفلسطيني مجمع التابوات ومجمع المحرَّمات، وأن يكون فروسياً وملحمياً، وأن يكون متعالياً منزّهاً ومعصوماً أو شبه معصوم. صار للملحمة أبطالها ومساراتها وفرسانها وخطابها وصار لها نصها المحترم القدسي الذي يكاد يكون محنطاً وصنمياً، إن لم نقل متألها. بدأ محمود درويش من حيث بدأ الآخرون، وكان اسم فلسطين وحدها حصانته ودفاعه. لكن هذه كانت برهة فقط، وبرهة سار فيها درويش في الحطام ولامس، ولو بيد خفيفة، النص الصنّمي. لكن الشعر الذي امتلأ منه ما لبث أن أنقذه وأنقذ معه النص الفلسطيني. لم تكن فلسطين النص الفروسي هي التي رآها محمود درويش. كان عليه أن يمتلئ من الشعر ومن النص الفلسطيني في آن واحد. كان عليه أن يجد الشعر ويجد معه فلسطين نفسها. لم تعُد فلسطين أغنية المنتصر والمحارب والفارس والبطل، كان بطل محمود درويش هو الفلسطيني العادي وكان موضوع محمود درويش هو الخسارة والعذاب اليومي. نعم اليومي فشعر محمود درويش هو في قراءة من قراءات، سياحة في اليومي الفلسطيني، ليس اليومي هنا هو فقط الوقائع والتفاصيل والعاديات، وهذه تثري شعر درويش، لكن اليومي هنا هو معاناة الأفراد الأنطولوجية، معاناتهم الكينونية. وحين نتكلم عن الأفراد هنا يسعنا القول إن محمود درويش نقل المعاناة الفلسطينية إلى حيز المعاناة الفردية. لقد ردّ الشعر الذي كان يتكلم بلسان الكتيبة والفصيل والحزب والفيلق إلى ضمير الفرد ويوميات الفرد وأسرار الفرد. بل ردّ الشعر إلى نفسه جاعلاً من ذاته ومن الموضوع الفلسطيني ما يتجاوز الذات ويتجاوز الموضوع الفلسطيني نفسه، إلى أبعاد وآفاق تلامس في ارتجالاتها وفي كينونتها احتمالات الحقيقة. هكذا كان الموضوع الفلسطيني ينمو بنمو الشعر، وينمو بنمو الذات المتجاوزة لنفسها. كأنّ ما صنعه درويش في الشعر هو نفسه ما صنعه في الموضوع الفلسطيني. لقد جعل درويش الموضوع الفلسطيني شعراً، وجد وأوجد شعرية الموضوع الفلسطيني. وجد وأوجد الأبعاد الأنطولوجية للموضوع الفلسطيني. وبالطبع لم يُعنَ درويش بالشعر إلا بقدر عنايته بموضوعه. فالعمل الشعري لم يكن سوى عمل على تعميق وشعرنة، وأخذ الموضوع الفلسطيني إلى ما يشبه إعادة صياغة، بل إعادة بناء. هكذا انبجست الأوذيسة وانبجست أساطير الهنود الحمر وانبجست الفلسفة الحية. انبجست الوقائع في أشباه الذكريات واليوميات، في ما يشبه نثر الحياة وتداعياتها، والأفكار التي في قوة الملاحظات بقدر ما فيها ملابسات الفلسفة. هكذا كان محمود درويش يصعد بالذات وبالشعر وبالموضوع الفلسطيني في المرة نفسها. لذا نجد الموضوع الفلسطيني وقد اتسع وفاض وحوى كل شيء. تأسطر وتكونن وصار بذلك عالماً بذاته يحوي اليوميات والوقائع والأشخاص والقراءات والأفكار والغناء. صار فاوست وأيوب ودونكيشوت، صار الشتات والمنفى والتيه في كل مكان، كما صار الغناء ونثريات العيش والفكر في آن واحد. لم يكتمل وداع محمود درويش ولم تكتمل قراءته، لقد بقي كله أمام القراء وأمام الباحثين. ثمّة قراءات كثيرة تنتظره، قراءات بقدر ما تستحقّ فلسطين، وبقدر ما يُملي علينا الشعر.