كل الدروب لدى العرب توصل إلى اللغة، وكل دروب اللغة توصل إلى الشعر، وكل دروب الشعر الحديث توصل إلى درويش، صحيح أن خيمة الشعر اليوم تستوعب قرائح أصيلة وأخرى عابرة للسبيل، لكن ما ينفع الناس يبقى في كلمات القصيدة..”لا يرى ولايزول كأثر الفراشة”، أما الطبول فتطفو على جلدها زبدا..لقد انتظرتْ لغة الضاد ألف عام أخرى بعد فاجعة المتنبي لتجد شاعرا يجدد لها ملاحمها...كان على العرب الانتظار خلف زجاج الغياب ليظهر درويش، ولا شعر يُنظم في حضرة غيابه..إنما إنصات وإنصات وإنصات..وحده «هايدغر» يعلمنا معنى أن نتعلم الإنصات إلى الشعراء... لذا فمن رأى منكم ناقدا يختصر درويش بأنه شاعر القضية أو المتنبي بأنه شاعر التكسب أو ابن عربي شاعر التصوف، فليبارحه وليكن له لسان صدق “وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما”.. درويش.. فكرة لقصيدة وعدت ووفت..ليس لها بلد أو جسد، ولن تكتفي بأن ترمى في التراجم، درويش أسطورة من أرض كنعان سقطت من سفر القوافل قرب أفعى.. فرمته الأرض خارج أرضها.. «ومن لا بر له لا بحر».. تلك قصته وغصته.. بدءا من «عاشق من فلسطين» إلى لاعب النرد».. وحيدا ومتوحدا.. لذلك لن تكون مناسبة إحياء ذكراه تأبينا أو رثاء، وإنما إنصاتا وتجديدا إلى الدهشة.. من أنا.. هذا سؤال الآخرين الاسم: «محمود».. وللمرء نصيب من اسمه؛ لقبه: درويش..قطب الزاوية الشعرية في كل الأزمنة، ابن «حورية»(أم درويش)؛ حامل رسالة للناس ألا ييأسوا. مكان البداية والنهاية: أرض تستحق الحياة، أم البدايات أم النهايات، كانت تسمى فلسطين صارت تسمى فلسطين. الهوية: «عاشق من فلسطين» أو»لاعب النرد» أو «الشاعر».(نقطة إلى السطر) الشخصية: وسيم الهيئة، عميق الصوت، طباخ ماهر، لاعب نرد ممتاز، أنيق ومرتب، فنان في صنع القهوة، محب للنكات، خجول، يفضل اللونين الأزرق و«التيركواز»، لا يشهر علاقاته النسوية أبدا، هويات نسائه «غير صالحة للنشر» أبدا، يتقن العبرية والانجليزية والعربية قراءة وكتابة، يكتب صباحا فقط بعد أن يكون قد ارتدى أفضل بدلاته وأكثرها أناقة، يشغل موسيقى محمد عبد الوهاب وأم كلثوم أثناء الكتابة، يقرأ كثيرا، يحب كرة القدم وخاصة فريق ريال مدريد الاسباني، متتبع نهم للدراما السورية (أكثر من أربع مسلسلات يوميا)، وترتابه خشية قبل لقاء الجمهور،.. هذا ما رشح عن أصدقائه المقربين: أنيس الصايغ، إلياس خوري، فواز طرابلسي. درويش ما قبل بيروت ودرويش ما بعد بيروت درويش الشاعر، لم يكتف بمنجزه الشعري والنضالي والسياسي لما قبل حصار بيروت، ولم يطمئن إلى كليشيهات «الحب القاسي»، فهوكان يتأفف من وصف «شاعر القضية»، خاصة وأن هذا الوصف يهمز إلى نقاش غير بريء، عن البقاء في الوطن أو مغادرته، وهو الأمر الذي نجد له تلميحا في رسائل سميح القاسم. درويش خدم الوطن وقضاياه أكثر من السير في مظاهرة شعارات ضد المحتل، فهو في غمرة «القضية» كان مختلفا حد التميز.. فلما طلب منه الجمهور في عمان سنة قبل وفاته قراءة «سجل أنا عربي» قال لهم سأقرأ لكم ما تحبون لتسمحوا لي أن أقرأ ما أحب.. فقرأ لهم «أثر الفراشة».. ما ينبغي الوقوف عنده على سبيل الإنصاف، هو علاقة درويش ببيروت، فبيروت هذه حكاية، جنون، خرافة وقسوة؛ فهي ليست منفى وليست وطنا بديلا، بيروت صارت عند درويش مفهوما ومعنى ومصطلحا ودلالة.. جاءها درويش ثلاث مرات، قسرا وطوعا وحبا..عندما سكنها أو سكنته على الأصح، كتب ملحمة «حصار لمدائح البحر»، وعندما غادرها مُكرها ب«ورد أقل» أو غدرت به على الأصح، لم ينس أن يلقي إلى أهلها وصيته الأخيرة.. ليعلقوها قمرا على ليل العرب، تلك طريقته لتبصر الأشياء.. في بيروت كل ما يحدث في العالم يحدث هناك..انعكاسا تارة ونموذجا تارة أخرى، يسخر درويش في «ذاكرة للنسيان»، يتشاجر مثقفان في مقهى باريسي فينقلب شجارهما الكلامي اشتباكا مسلحا في شوارع بيروت،.. ليغادرها إلى باقي العالم، ويولد درويش مختلف، درويش «الشاعر» (بالتعريف)، أو الشاعر المفكر، إن استعملنا اللغة الأنطولوجية «لهايدغر» في «إنشاد المنادى»، لتعود لغة الضاد لغة الانطولوجيا، منذ أن لفها النسيان بعد رفع الشيخ الأكبر ابن عربي.. فكانت «جذاريات» و«لماذا تركت لحصان وحيدا» و«سرير الغريبة».. و»لا ينبغي لهذه القصيدة أن تنتهي». لو كان لي أن أعيد البداية لاخترت ما اخترت من البديهي لقارئ عميق القراءة أن يلمس التحول الذي دشنه هذا الشاعر/المفكر منذ ديوان «أرى ما أريد»، وهو انعطافة حقيقية في مسارات شاعر، أعاد كتابة الديوان العربي بلغة الأنطولوجيا والاختلاف.. بإصرار أسطوري على الحياة، «فإن قيل لي ثانية ستموت اليوم، فماذا تفعل.. إذن كنت أكتب أتجاهل السؤال وأكتب.. وإذا كنت أتناول الطعام أضفت إلى شريحة اللحم المشوية قليلا من الخردل والفلفل.. وإذا كنت موجودا كما أنا الآن فلن أفكر في العدم”..إنها لغة جديدة من شاعر متجدد، يمتلك اتجاه اللغة حسا شفافا.. وقدرة على توليد أخيلة مدهشة، صادمة، وغير متوقعة لدى كل العقول والقلوب معا..نستطيع أن نميز بين ثلاث مراحل في المسار الشعري لدرويش، لكل منها دواوينها ولغتها وموضوعاتها.. واستعاراتها، أولها مرحلة النضال في الحزب الشيوعي الإسرائيلي، يمثلها بقوة ديوان «عاشق من فلسطين»، مرحلة بيروت ومنظمة التحرير يمثلها بقوة، ديوان «حصار لمدائح البحر»، مرحلة ما بعد الخروج من بيروت، وهي مرحلة في حد ذاتها ليست واحدة، بدأت ب«أرى ما أريد»، ثمة باقي الدواوين.. أروعها تلك التي كتب بعد خوضه تجربة الموت في «جذاريات» وما بعدها. حكاية أخرى لا بد للمتتبع لدرويش أن يقف عندها وبدهشة، وهي أن تقرأ لدرويش شيئا، وأن تسمع بصوته ما قرأته تجربة تعاش ولا تحكى.. ومن أنصت للشاعر في مهرجان الرباط لسنة 2000، وهو يقرأ «جذاريات» على خشبة مسرح محمد الخامس، وبمرافقة تقاسيم العود للحاج يونس، سيعرف معنى أن تكون البلاغة أيضا صوتا وإنشادا.. إنها شيء من «الحضرة»..، وقد يحصل أيضا أن تقرأ وتستمتع بقصائده القديمة ك»خطب الديكتاتور الموزونة» أو «سجل أنا عربي».. أو قصائده الحديثة؛ «تعاليم حورية»، «البئر»، «هيلين»، «حوار غير لغوي مع امرئ القيس».. لكن أن تسمعها بصوته الصافي والمنغم، فإنك تعيد اكتشافها من جديد، وكأن حبرها لم يجف بعد..لأنه يعطيها بإيقاعات صوته معاني قد لا تلتقطها قراءاتك المتكررة..، تتعدد الإيقاعات في القصيدة الواحدة، ويتعدد شكل الحضور من ديوان إلى آخر.. نجد العاشق والصوفي والشخصية القلقة والحكواتي والمؤرخ والنرجسي والمعالج النفسي والعاشق والمحارب والمبشر.. باختصار إنه «الشاعر».. فهل أتاك حديثه؟! ما أكبر الفكرة وما أصغر الدولة كان الراحل ياسر عرفات كلما همّ لوداع درويش صاح مبتسما» ما أجمل الفكرة وما أصغر الدولة»، وهو البيت الرائع الذي أورده شاعرنا وحكيمنا في آخر قصيدته الشهيرة «مديح الظل العالي»، ومناسبة الإشارة إلى هذه العلاقة التي تجمع في أطرافها درويش والوطن والسياسة،هي الإشارة إلى موقف عقلاني وصريح صدر عن درويش سواء في قصيدته الجميلة «أنت منذ الآن كغيرك» أوفي حواراته مع إدوارد سعيد، ويهم الوضع المخزي وغير المشرف الذي آل إليه الوطن، وبالتالي القضية بجميع مستوياتها، فأغلب الشعب في المنافي والمخيمات، أما شعب الداخل فيرزح تحت سلطتين وسجنين يتسعان للجميع.. المنتصر والمنهزم معا، البارحة كانت يد العابرين في الكلمات العابرة تعبث في الوطن والأرض والبشر، واليوم ناب عنهم العابرون في المعاني الزائفة، معاني مثل «السلطة الشرعية» و«مصلحة الشعب الفلسطيني» أو «المصلحة الوطنية».. البارحة كان الشعب الفلسطيني تقتله بندقية الغجري واليوم تقتله بندقية «الأخ» في غزة و»الرفيق» في رام الله، ليبقى الحل الثالث كما عبر عنه درويش وإدوارد سعيد أيضا، حلا صعبا ولكن مصيري.. فإذا كانت المقاومة موحدة فإن الدولة مفرقة.. ألم يقل درويش منذ عقود ما أصغر الدولة.. ألم يقل بعد ذلك مخاطبا الجميع قبل أشهر فقط من وفاته «أنت منذ الآن غيرك»... لا ينبغي لهذه القصيدة أن تنتهي الآن هنا أو درويش مرة أخرى؛ رجل المسارات الصعبة في الكتابة، اضطر كل مرة إلى تغيير إيقاعه ليسمع صوت قلبه واضحا، كما جاء في «يوميات»، لم تهزمه الأسطورة التي كتب عنها وبها وكونها لاسمه، ولم يكتف بأن يكون «شاعر قضية» كما علبه «أصحاب الحب القاسي»، وإن كان خير من عبر باللغة العالمية للشعر عن الحقوق الأساسية للشعب الفلسطيني حين قال على سبيل المثال لا الحصر «وطني حقيبة وحقيبتي وطن الغجر»، واضعا الضمير الإنساني للعالم المتحضر في تناقض لن يرفعه إلا إرجاع الحق إلى ذويه، بل استطاع أن يُكْسِب تجربته مضامين وأبعادا أنطولوجية، ليكتب القصيدة أو تكتبه على الأصح بلغة» تفتش عن بنيها، عن أراضيها وراويها تموت ككل من فيها، وترمى في المعاجم»..، لذلك لن تنتهي القصيدة/الملحمة ولا ينبغي لها أن تنتهي، فهي في حل من الترحال.. فالشعراء لا يرحلون، فهل رحل المتنبي والخيام والنفري؟!