تماما كما السر تتفتح هذه الحديقة في قلب مراكش. أسوار عالية تخفي بهاءها في غفلة من عيون المارة الذين يعبرون حي المواسين . إشارة فخمة في هذا الطريق المزدحم بأصوات الحكمة المتراكمة في سحر الروائح وبهجة الألوان وجدران البيوت والتواءات الدروب التي تفيض بالحياة والحكايات . يصعب أن تتكهن أن خلف هذه الأسوار التي تجاور درب عبيد الله بحي المواسين تمتد مساحة بحجم أربعة آلاف متر مربع من الخضرة و جداول المياه و الهواء الخفيف و السماء الشاسعة، حيث لا يمكن للزائر أن يعير سمعه إلا إلى تلك المسرة التي تتسرب بين أغصان الشجر، و تلك السكينة التي تحول الروح إلى بستان . المواسين من حارة اليهود إلى حاضرة المولى عبد لله : الحديقة السرية لمراكش ، هكذا تسمى . في ماضيها كانت قصرا كبيرا، على امتداد 500 سنة من عمره تناوبت عليه أيام العز العامرة بمظاهر الوفرة و الرفاه و الجاه ، و أيام القفر و التدهور . خلال خمسة قرون كان التاريخ يفصح في هذا المكان عن تواطؤاته المتقلبة، مخلفا فيه تطلعات و خيبات و أحلام و حكايات و مسارات متناقضة من الصعود و التقهقر. يتشابك تاريخ هذا المكان بتاريخ حي المواسين و بتاريخ مراكش . و تبدأ حكايته في النصف الثاني من القرن 16 على عهد السلطان عبد الله السعدي ، الذي أعاد إنشاء حي المواسين الذي كان حارة من حارات اليهود حينها . فحوله إلى حاضرة بمعالم معمارية فخمة منها مسجد المواسين و المكتبة و الحمام و السقاية ، و هذا القصر . فمراكش صارت سلطانة مدن المغرب على يد مولاي عبد الله ، كما قال غستون دوفيردان «فكنت تجد فيها من ضروب الصنائع فنونا ، و من صنوف البذخ و الترف ألوانا ، و أمهر صناع المملكة ، و أعلم علماء الغرب الإسلامي» بل إن دوفيردان بعد عرضه لمنجزات مولاي عبد الله السعدي ، يصل إلى خلاصة مهمة تبين أثر هذا الرجل في مستقبل المدينة ، حيث يقول « و قد ظلت مدينة مراكش ، إلى سنة 1912 ، في معالمها الكبرى مدينة المولى عبد الله . لكن و أنا أكتب هذا متحسرا ليس على أي واحد من المآثر الحسان التي شيدها هذا السلطان ما يذكر باسمه ، حتى المدرسة خلت من ذلك مع أنها تليق بمقام هذا الباني العظيم « يكشف المؤرخون لغز تسمية هذا الحي . فإذا كان الاعتقاد سائدا بأن المواسين هو اسم بيت كبير من بيوتات الشرفاء ، الذين كانت سكناهم في ذلك العهد على مقربة من المسجد الجديد ، حتى أن اسم الجامع كان في البداية يسمى بجامع الأشراف ، إلا أن سر هذه التسمية حسب أشهر الروايات ، يرتبط بكون الشارع الرئيسي في الحي كان شارع المواسين ، أي صناع الموسى . و هذا ما يؤكده دوفيردان في كتابه الشيق عن مراكش . و هي حرفة كان يمتهنها اليهود. اندثرت آثار المهنة من الحي و ظلت تسميتها عالقة به. كان حي المواسين حيث يوجد القصر الذي أنشئت على أثره الحديقة السرية، تحفة حضرية لهذا السلطان السعدي الذي امتد حكمه 17 سنة ( من 1557 إلى 1574 م ) و عرف بإفراطه في الاستمتاع بملذات الحياة و شغفه الشديد بالمباني الحسان حتى لقب بأكبر بناة السعديين . فعلى خلفية رغبته الشديدة في إنشاء جامع جديد بهذا الحي الذي كان يقطنه اليهود ، عمل على بناء ملاح كبير يجمع كل يهود المدينة فاختار له مكانا قرب باب أغمات. و تذكر رواية المؤرخين أن السلطان مولاي عبد الله أحب أن يبني مسجدا متميزا عما بناه الملوك الذين خلفهم ، و لم تحدثه النفس بمنافسة جوامع المدينة القديمة ،» بل ارتأى أن يبتدع جديدا فاجتهد في إقامة مجموعة معمارية دينية تضم إلى بيت الصلاة و المئذنة ، سقاية عظيمة بصهاريج ، و ميضأة كبيرة ، و حماما و محلات لسكنى الموظفين المكلفين بإقامة الشعائر.» (دوفردان) اكتسب القصر المحاذي لدرب عبيد الله كامل مجده من زخم أيام السلطان مولاي عبد الله، لم يُعرف لماذا بني بهذا المكان ، و من كان قاطنه حينها . لكنه ظل في زمنه هذا ، أشبه بجملة في نص متماسك ، هو هذا الحي بقطعه المعمارية التي تكمل كل واحدة منها المعنى الحضاري للقطع الأخرى . و يُظهره تصميم لومبير لسنة 1868 باسم دار قايد حاحا ، بهيكله السعدي .لم تكن هذه التسمية سوى لحظة أخرى من تاريخ هذا المكان ، انبعاث جديد من رحم النسيان . القصر الذي كان قطعة من لحظة مجد حي المواسين زمن مولاي عبد الله السعدي ، ناله ما طال مراكش بعد أفول حكم السعديين .بدأت حكايته تميل إلى الخمول ، تماما مثلما حدث لهذه المدينة، خراب و فوضى في انتظار انبعاث جديد .. من دار قايد حاحا إلى رياض لكريسي المكان انتصار على الفناء . ذلك ما تثبته قصة هذا القصر. تمر عليه قرون منزلقا تحت أقدام التاريخ، حتى يكاد يُنسى، فيجدد ذكره مرة أخرى متجاهلا مكر الزمن ، مؤكدا أن المكان تنكر للموت و الزمن عمله الأبدي . عثر هذا القصر المتلاشي على فرصة تجدده في القرن 19، و سخر أشخاص و أحداث لنفض غبار النسيان عنه و إعادة إعماره و بعث الحياة فيه . كان من حسن حظه أن السلطان العلوي مولاي عبد الرحمن ، عمل على رد الاعتبار مرة أخرى لمراكش ، و تبعه في ذلك ابنه السلطان سيدي امحمد . بل إن دوفيردان يعتبر أن لهذين الملكين الفضل في جعل مراكش تتباهى ببساتينها و صهاريجها الكبيرة « و لم يكن يخطر ببالهما أن البساتين و الصهاريج ستصير يوما وجهة سياحية شهيرة « (غستون دوفيردان) استقطبت هذه النهضة التي عرفتها مراكش في هذا العهد، عددا من القواد و الموظفين السامين . و كان من نصيب هذا المكان ، أن يضيف فقرة جديدة إلى حكايته الممتدة في الزمن، و هذه المرة تحت اسم جديد « القايد عبد لله أوبيهي» الذي يرجح أن يكون وراء إعادة بناء هذا القصر بالشكل المعروف اليوم . كان أوبيهي من القواد الذين حظوا بثقة مؤقتة من الحكم على عهد المولى عبد الرحمن ، وخاصة عندما واجه هذا الأخير معضلة ترويض قبائل الأطلس الكبير ، حيث اعتمد على مجموعة من القواد لبلوغ الجهات النائية و الوديان القصية .و بالجهة الغربية ساعده القايد عبد الله ولد بيهي الحاحي ، الذي بزغ نجمه حسب الرواية التاريخية سنة 1844 ، واستطاع أن يكسر شوكة قبائل امتوكة بسبب تفوق القوة التي كان يحتكم إليها ، مثلما استطاع أن يصير خليفة السلطان بتارودانت . مرت أيام مجد هذا الرجل ، و كانت الثقة التي حظي بها من قبل الحكم مؤقتة استنفذت بتحول خدماته إلى تهديد لا يخلو من خطر . في فترة مجده أعاد القصر موضوع حديثنا إلى بهائه المعماري بعدما حوله إلى إقامة شخصية بمراكش . لذلك ظهر في تصميم لومبير المشار إليه أعلاه باسم دار قايد حاحا ، محافظا على هيكله السعدي . كانت سنة 1868 تميل إلى نهايتها . و كان التوجس من كبير قواد حاحا « ولد بيهي « يتعاظم بعد وفاة السلطان مولاي عبد الرحمن . و ازداد غضب محمد بن عبد الرحمن منه فاستدعي إلى مراكش ، من قبل السلطة المركزية . و قُدم له كأس شاي مسموم ، و أُلزم بشربه. فكانت نهايته و نهاية علاقته بهذا المكان . بعد هذه النهاية المأسوية للقايد أوبيهي انتقلت ملكية القصر إلى القاضي مولاي مصطفى الذي عُد في زمنه من كبار رجال الدين و رموز القضاء . و ازداد ثقله الاجتماعي بفعل مصاهرته للسلطان الحسن الأول بعد زواجه من أخت الملك . لكن التاريخ لم يهدأ على حال و ظل يقلب بمكر مصير هذا المكان ، مؤولا إياه في منعرجات الحياة قصة للفقد و الوجد، يسحبه من هذا و يسلمه لذاك. و في النهاية لا أحد ملكه . يعبرونه و يخلفونه لغيرهم ، لا تشفع لهم أمجادهم و سلطانهم في ذلك . وحده الزمن وارثه الحقيقي . في سنة 1912 ، بادل القاضي مولاي مصطفى و الأميرة قصرهما بالمواسين بإقامة الحاج محمد الكريسي بفاس . فاقترن اسمه بهذا المكان في ذاكرة المراكشيين. و صار إلى عهد قريب معروفا باسم « رياض لكريسي» . كان الرجل من نخبة ساعاتيي المغرب ، تألق في ميكانيكا الساعات و توج على قمة هذه المهنة التي كان لها شأن كبير في بداية القرن العشرين . و تميز بكياسة نادرة و تفنن فائق في ربط علاقاته الاجتماعية، و خاصة بذوي الحظوة ممن يتحركون في المدار القريب لمركز الحكم . فدفع به ذلك بسرعة إلى منصب رفيع ، حيث اختير سنة 1908 حاجبا ملكيا للسلطان مولاي حفيظ . و من سوء حظه أن صدف التاريخ التي قذفته إلى هذه الدرجة الرفيعة ، كانت جد بخيلة معه ، إذ سرعان ما انقلبت عليه الظروف ، بعد توقيع مولاي حفيظ على معاهدة الحماية ، و ما تبع ذلك من إبعاده عن سدة الحكم و مغادرته أرض المغرب. فلم يحظ الحاج محمد الكريسي بشرف هذه الرتبة سوى لثلاث سنوات عصيبة ، كانت فيها الأحداث تتقلب بعنف كأمواج بحر هائج ، المغرب يدخل شرك الحماية و العالم يتأهب لحرب كونية مدمرة . عندما غادر مولاي حفيظ عرشه ، مخلفا مكانه لأخيه يوسف بن الحسن ، غادر الكريسي منصبه كحاجب للسلطان و عاد إلى رياضه بحي المواسين ، و بقي فيه إلى جانب زوجاته الثلاث إلى أن توفي سنة 1933. عمليا كانت المدة التي قضاها حاجب مولاي حفيظ في قصر المواسين هي الأطول مقارنة مع قايد حاحا و القاضي مولاي مصطفى . كان الكريسي رجلا مزواجا ، هذه الحقيقة انعكست على مستقبل رياضه ، إلى أن تحول إلى حديقة سرية في سنة 2016. لأن السلالة كثيرة العدد التي خلفته تكاثرت مع توالي الأجيال، مستوطنة الأرجاء الفسيحة للقصر الذي بدأ يفقد ملامح الثراء و الرفاه بسبب الانتشار العشوائي للأبنية التي نُصبت بفنائه الذي لم يعد فسيحا بسبب تزاحم المساكن الفوضوية. و من سطح المقهي العربي الذي يقابله ، كان من الصعب التعرف في هذا المكان على مظهر فضاء بتاريخ كبير من المجد و السلطان . بل كان يظهر كمجرد دوار عشوائي من طينة تلك الدواوير التي تنبت على ضفاف المدن المغربية . لأن أزيد من مائة أسرة صارت تكتظ داخله . وحده برجه العالي و قبة البهو الذي يقابله بقرميده الأخضر يشيران إلى أن خلف كل هذا التشوه الظاهر يرقد تاريخ كبير. دعوة الكونتيستا ماريا التي أنصفت القصر حل لاورو ميلان بمراكش بدعوة من الكونتيستا ماريا التي يعرف الجميع رهافة تذوقها لطعم عاصمة النخيل . كان ذلك منذ 18 سنة ، حينما كانت رياح الغرب تهب على المدينة الحمراء، عقب الشهرة التي حازت عليها عقب قمة الكاط ، حاملة معها مستثمرين و فنانين و المولعين بفتنة الشرق و الهائمين بأحلام المدن التي يستفيق فيها الزمان ببطء . لاورو ميلان هذا المستثمر من أصل سويسري ، بثقافته كمعماري التقط بسرعة نداء هذه المدينة التي تدق جاذبيتها في القلب، فاستسلم. و من حسن حظ رياض لكريسي أن هذا الرجل اختار فضاء تقليديا بحي المواسين ليفتتح فيه مقهى راقيا أسماه « المقهى العربي « .يدل هذا الاسم على شخصية المكان و روحه . و من سطح المقهى اكتشف لاورو الفضاء المقابل له. أثار انتباهه ذلك الفناء الشاسع الذي يمتد بين بنايتين تكشف ملامحهما بقايا مجد متبدد في عنف التاريخ. أضحى هذا المكان دعوة ملحة يتلقى نفوذها لاورو في صورة شغب ابتدأ معرفيا و تطور بدافع استثماري و انتهى إلى نتيجة ثقافية . كان السؤال الملح بالنسبة إليه في البداية هو ماذا كان هذا الفضاء ؟ و بأي انتماء للتاريخ ؟ فشرع في تقصي حقيقته في دروب الماضي. واصل بحثه الذي قاده إلى المكتبة الوطنية ببريطانيا و باريس لشراء حقوق استنساخ تصميم لومبير لسنة 1868 ، و البحث عن الوثائق التاريخية و الصور التي يحتفظ بها أرشيف هذين البلدين عن مراكش و بالضبط هذا الرياض . كانت مراكش بكاملها تنتشر أمامنا كباقة ورد ، و نحن نشاهدها من سطح برج « الحديقة السرية « حينما شرع لاورو في سرد قصة علاقته بهذا المكان قائلا: « عندما قررنا أن نقتني هذا الفضاء ، كان مشروعنا أنا و شريكي جيوفاني هو إنشاء فندق فخم .. لكنني ، بعد أن تعمقت في القيمة التاريخية لهذا المكان ، اقتنعت بأنه ليست الفنادق ما يعوز مراكش ، ففيها المئات من دور الضيافة و الآلاف من الأسرة و المئات من الفنادق المصنفة و العشرات من المؤسسات فائقة الفخامة .. وجدت أن ما تطلبه قيمة المكان التاريخية هو تحويله إلى منشأة ثقافية تصير إحدى المعالم الحضارية للمدينة الحمراء..» حديقة لأسرار الحياة بمراكش حديقة مدهشة ومفاجئة بمواصفات الثقافة الإسلامية في فن الحدائق .كانت تلك هي الفكرة التي نضجت في ذهن لاورو ميلان لبعث أمجاد هذا المكان . في هذه اللحظة كان رياض لكريسي قد غلفته مظاهر الإهمال التي كادت أن تحوله إلى مجرد أطلال خربة ، أو في أحسن الأحوال دوار عشوائي تقطنه 132 أسرة من ورثة الحاجب الملكي للسلطان مولاي حفيظ . كنا بالقرب من الصهريج المائي الذي يوجد بالقرب من البهو الكبير ذي القبة الخضراء، عندما سألنا لاورو ميلان عن سبب اختيار اسم حديقة مراكش السرية ، فأجاب « لأنها مفاجئة ، يتجمع فيها سر هذه المدينة ، و روحها الهادئة التي تحدث النفس بأعمق معاني الحياة و غبطتها .. إنها فعلا الحديقة السرية لمراكش .. فيها يمكن اكتشاف أسرار فن الحياة الأصيلةللمراكشيين ، علاقتهم بالأشجار و حبهم للماء و تفانيهم في جعل الجمال إفصاحا يوميا في تفاصيل فضاءات عيشهم في أجلى بساطتها، في فناء البيت المفتوح على السماء، و في النباتات التي يصرون على صداقتها ، أي كل تلك الثقافة التي دمرتها اليوم مع الأسف ،مظاهر الحياة العصرية المتمركزة حول عزل الناس في شقق مغلقة يعيش أصحابها في حرمان مطلق من حقهم في السماء و الشمس و كثافة النجوم التي تزين قبة العالم ليلا ...» بمجرد دخولنا من الباب الرئيسي نجد أنفسنا أمام فضاء شاسع تحيطه أسوار عالية تملأه المياه و النباتات التي يبدو أنها انتقيت بعناية من مختلف أرجاء العالم. كانت غواية المكان تدفعنا نحو عمقه . لكن المفاجأة الأكبر هي أننا عندما وصلنا طرفه الأقصى انبثق مدخل جانبي صغير ، ما يظهر منه كان شيئا مذهلا : الحديقة التي كنا فيها ليست سوى مقبلات صغيرة لاستقبال الطبق الفخم ، الحديقة الكبرى بطرازها الإسلامي . «تتكون الحديقة السرية من مُرَكبين متميزين عن بعضهما البعض بشكل كبير حيث أن كل واحد منهما يعتبر رياضا قائما بذاته.» يشرح لنا لاورو . و يضيف «فكلمة رياض في المغرب تشير إلى أي منزل سكني يوجد في مركزه بستان و ذلك على عكس الدار حيث أن هذه الأخيرة عبارة عن مسكن بإبعاد عادية تسمى بوسط الدار أو الساحة الوسطى) ولا تسمح بتواجد الأشجار. وتحد الرياض أسوار عالية بلا نوافذ يأخذ بين أحضانها حجما مستطيلا حول بستان واسع مقسم إلى أربعة أحواض يتقاطع فيها ممران مرتفعان ويوجد في وسطه نافورة أو كما هو الحال في الحديقة السرية حوض من الرخام (الخصة). وفي طرفي المحور الرئيسي نجد البنايات الرئيسة للرياض، تتقدمها بوابات بقوس منكسر (رواق عود الورد) أو ذات سقف لتشكل رواقا. والأروقة ذات العمق الضيق تتوفر على سقوف بأعمدة أفقية بارزة- هذه السقوف- يمكن أن تكون ذات تصميم بسيط أفقي (بساط، رواق عود الورد) أو مرتفعة المستوى (البرشلة) وبوابات بعمودين ونوافذ منخفضة حيث أن العادة قضت بالجلوس على أرائك موضوعة مباشرة على الأرض .» لغز البرج عندما تعتلي قمة برج الحديقة يكون ارتفاعك 17 مترا. تندفع مراكش أمامك في قبضة واحدة . لتكتشف أن لهذا المكان أبعادا استثنائية . بالنسبة للاورو هذه الأبعاد كانت ومازالت في حد ذاتها إشارة لأهمية هذا المسكن و ساكنيه. «تشهد على ذلك القبة الصغيرة المتوجة بالقرميد الأخضر التقليدي المرصع و القلعة المرتفعة التي يغطيها القرميد التي تقف شامخة فوق المدينة وتعكس ثروة وسلطة مالكها. لكن وظيفتها العملية تظل غامضة: هل كانت رمزا للنفوذ ؟ أم برجا للمراقبة؟ أم فضاء للاسترخاء ؟ يظل ذلك لغزا بالنسبة لنا ؟ » مدينة الحياة السعيدة دخلنا إلى فضاء جدرانه و أرضيته مغلفة بزجاج شفاف يكشف طابعه الأصيل. الأمر يتعلق بالحمام التقليدي، الذي يعكس ثقافة متكاملة تتعلق بالجسد كمصدر لراحة النفس و خفة الروح . دعانا لاورو للتوقف قليلا . كان يشير إلى مستطيل صغير تخترقه فجوات متدرجة مبنية في عمق الأرض. « عثرنا على هذا البناء أثناء الأشغال . فطلبت من العمال أن يتركوه على حاله.. الأمر مثير ، إذ هناك عدة أسئلة تتعلق به . مثل ما هي وظيفة هذا الهيكل المبني تحت الأرض بعناية ؟ لنكتشف من خلاله أن هناك نظاما مضبوطا لتوزيع الماء أساسه شبكة من السواقي المبنية تحت الأرض التي تعتمد على قانون الجاذبية ، لتجعل المياه تحف كل أرجاء القصر ، تمد نافوراته و صهريجه بالماء بشكل مستديم .. أما الهيكل الذي عثرنا عليه فيسمى ب» المعيدة « التي تستقبل المياه التي ترد عليها من مسجد درب عبيد الله الذي يصله الماء من مسجد المواسين الذي يصله بنفس التقنية من صهريج أكدال ..» لاورو اعتبر أن في هذا الكشف قيمة ثقافية تتعلق بحضارة الماء بمراكش» في قلب الحديقة السرية كما هو حال الحدائق الإسلامية توجد عين ماء والنافورات وأحواض الرياض منها تشرب العصافير، وعلى صفحتها المتموجة تنعكس أشعة الشمس وتنتج أضواء مختلفة ، فيما خرير المياه وهمسه يؤجج حالة الخلو مع الذات وصفاء المكان» نافورات تتدفق مياهها بهدوء ، و صهريج طوله تسعة أمتار و عرضه خمسة ، و فناء شاسع من الأشجار و الورود المتموجة مع تردد الهواء ، و أرضية مكسوة بالزليج الفاسي المفعم بالألوان التي تهب على الروح بنسائم الفرح و الكثير من السماء التي تملأ العين ، تلك تركيبة الحياة السعيدة بهذه الحديقة التي تمثل ملخصا مركزا لهذه الروح التي تسري في مراكش العتيقة بكاملها . لست مجوريل آخر .. سألنا لاورو ميلان و نحن نجول في متحف الحديقة الذي يروي قصة هذا المكان بالصور و الوثائق ، هل ترغب بمشروعك هذا أن تكون مجوريل آخر؟ فأجاب « لا ، مطلقا . مجوريل أسس حديقة جميلة لكن بتقاليد غربية . أنا عملت على أن أنشىء حديقة بمواصفات إسلامية .. كل ما قمت به هو أن تذكير المراكشيين بثقافتهم الأصيلة ، ثقافتهم التي كانت في عمقها جملة من الممارسات المرتبطة بشكل حميم بفهمهم للحياة .. ذلك الفهم الذي يقوم على كون الجمال هو الحاجة الأساسية الأولى للإنسان ، منه ينبع إحساسه بالأمان و يكتمل قربه من الغير و يتحول إلى لحظة غنية بمعاني البهجة و المسرة و الإبداع « 40 مليون درهم من أجل حلم سألنا صاحب المشروع « تخليت عن فكرة إنشاء فندق فخم رغم أهميته التجارية، و فضلت عوض ذلك إغناء مراكش بمشروع ثقافي . هل وجدت ما يكفي من الدعم من قبل مسؤولي مراكش؟ « ابتسم ثم قال « أنت مراكشي و تعرف جيدا كيف تجري الأمور هنا . لذلك لا أود الحديث عن هذا الموضوع كثيرا . مثل هذا المشروع يجلب معاناة كبيرة لصاحبه أثناء الإنجاز . هناك مستويات معقدة تتعلق بالمحيط .. لكن في النهاية يبقى الأهم و هو أننا خلفنا تحفة حقيقية لهذه المدينة و لساكنتها ..» كانت عيناه تمسحان المجال الفسيح للحديقة ، و نظراته تلمع بمشاعر الانتصار حينما قال « عملنا على الحفاظ على هوية المكان . ترميمه تم بدقة كبيرة ، و بحيطة و حذر، لم نمس شخصيته ، و كل تفصيل فيه تم إحياؤه وفق ما كان عليه في القرن 19 . المواد التي استعملناها أصيلة ، و استفدنا من مهارة و عبقرية الصانع التقليدي بمراكش . معالمه التاريخية ظلت كما هي . اكتفينا بالترميم و إزالة آثار العشوائية و الإهمال التي طالته بعد وفاة الكريسي. و أحيينا الحديقة . و أنشأنا في المدخل حديقة عجيبة تتكون من نباتات استقدمناها من بلدان إفريقية و أخرى من مناطق مختلفة من العالم .. « سألناه عن تكلفة إنجاز هذه الحديقة السرية ، فأجاب « هناك تكلفة كبيرة تتعلق أولا بالوقت الذي أنفقناه في التفاوض مع ورثة الكريسي قصد تصفية العقار ، بدأ ذلك سنة 2007 و لم ننته منه إلا في متم سنة 2013 ، أي سبع سنوات طويلة من التفاوض العسير مع 132 أسرة .. أنفقنا على المشروع 40 مليون درهم. تواصلت الأشغال إلى نهاية سنة 2015 . هناك تفاصيل دقيقة تدل على المجهود الذي بذل من أجل رد الاعتبار لهذا الفضاء التاريخي الجميل الذي كاد أن يُقتل بسبب الإهمال و العشوائية . يكفي أن أذكر أنه أثناء أشغال الترميم أخرجنا منه أزيد من 30 ألف كروسة (عربة) من الأتربة ، من مخلفات البنايات العشوائية التي كانت في فنائه .. أنفقنا الكثير من الوقت في الاستشارات التاريخية و الأنثروبولوجية مع الخبراء ، و قمنا من أجل استكمال صورته التاريخية ، برحلات إلى عواصم أروبية لاستشارة أرشيفها و وثائقها حول مراكش و التصاميم التي أنجزت في القرن 19 من قبل رحالة و دبلوماسيين و غيرهم، و دفعنا حقوق استنساخ بعض الوثائق .. اليوم افتتحنا الحديقة ، يشتغل فيها 21 شخصا ممن يسهرون على رونقها ، و سيتطور العدد قريبا إلى 40 شخصا .. في الافتتاح الأول الذي كان في شهر مارس 2016 و الذي يسبق الافتتاح الرسمي أخبرنا ولاية مراكش لكن لا أحد كلف نفسه عناء الحضور معنا ، التشجيع الوحيد كان من قطاع السياحة . لكن الدعم الأكبر جاء من الولاياتالمتحدةالأمريكية و إيطاليا و بريطانيا و فرنسا بفضل التفاعل الإعلامي العالمي الواسع مع مشروع الحديقة السرية .. و ها أنتم ترون فقد شرعنا في استقبال الزوار القادمين من هذه البلدان « يرغب لاورو في أن تصير هذه الحديقة السرية مزارا للمراكشيين أولا ، لذلك خصص لهم سعرا تفضيليا لا يتجاوز عشرين درهما . هاجسه في ذلك أن يتاح لأبناء المدينة و تلاميذ المدارس التعرف عن قرب على فن أجدادهم في العيش و أسلوبهم في التفاعل مع الحياة ،وأن يقتربوا من حكمة أسلافهم ، و يحظوا بفضاء يوفر كل شروط الاسترخاء و تملك الزمن بعيدا عن ضجيج السرعة و الضغط القاتل و التوتر. في حديقة مراكش السرية يكفي أن تكون كما أنت بأذنين و عينين مهيأتين لاستقبال إشارة الحياة ، لتنسى الشارع الذي تجلده الشمس و تجلس على كتفيه ، و تتذكر أن في المكان غيمة ستمطر حلما .. دع الشجر و النسيم الرقيق و الماء الودود يهمس بوتر الحكمة « اركب سفينة ذاتك، لا ترفع شراعا ، فأنت الموج و الريح أنفاسك ..»