وتبقى سقاية "اشرب وشوف" التي بنيت في فترة السعديين ، والمتواجدة بأمصفح، على مقربة من حومة ديور الصابون ، أشهر سقايات مراكش،نتيجة ماتتميز به من زخرفة راقية غنية وأصيلة، ومن خصوصية حيث أن الآيات والزخارف الموضوعة على خشبها، تطلبت حسب الخبراء زمنا طويلا، ودربة خاصة ، حيث تم وضعها على أخشاب النخيل المستعصية على النحث، وقد عمد الصناع آنذاك إلى وضع جدوع النخيل المذكور في صهاريج من الخل البلدي، لتتماسك أليافها ويسهل نحتها ووضع النقوش عليه. تبدو السقايات المتبقية بمدينة مراكش، وكأنها تخوض حربا صامتة ، من أجل البقاء وتجنب الاندثار والانقراض، بعد أن كانت في الزمن الماضي تضطلع بدور إجتماعي أساسي وبيئي في تزويد المدينة بالماء،والحياة. إوالواقع، فإن كانت بعض السقايات تقوم حاليا بدور اقتصادي لكونها من مآثر المدينة التي تعمل على إنعاش القطاع السياحي، فإن الكثير من سقايات الماء بمراكش العتيقة مازالت ترزح تحت وطأة النسيان، ومدارج الإهمال واللامبالاة ، حيث باتت مهددة بالاندثار كثرات معماري يعكس عمق الحضارة المغربية، ومدى إهتمامها بالماء كنعمة من نعم الله، شاء له الخالق أن يكون مصدر حياة كل شيء، ، في حين بقيت سقايات أخرى صامدة، تصارع عوادي النسيان تنتظر الاهتمام والعناية الكفيلين بالمحافظة على هذه البنايات، التي تشكل جزءا من ذاكرة المدينة الحمراء نظرا لدورها الخدماتي و الاجتماعي في الحفاظ على الأمن المائي ، عبر التاريخ كنقطة حياة ظلت تلتقي عندها القوافل والأحياء ، ويتغذى من مياهها السلسبيل الإنسان والدواب على السواء. لقد شكلت السقايات المائية ، منذ عهد المرابطين والموحدين، نظاما ناجعا ومستديما لتزويد الساكنة المراكشية بهذه المادة الحيوية، تقوم باستقبال وجمع وتخزين وإعادة توزيع المياه التي تأتيها من مواردها الطبيعية الأصلية، من خلال استخدام سلسلة من الآليات والتقنيات التي تقوم بتدبير الماء من استخراجه إلى توزيعه حيث كان لكل حي من أحياء المدينة العتيقة سقايته الخاصة به، فضلا عن السقايات الكبيرة التي تتموقع في الساحات ، والتي كانت تتكون من صهاريج مخصصة لشرب الدواب، إضافة إلى “بزبوز” للماء الشروب، يغلق بقطعة خشب تسمى “اللزاز” وكانت مثل هذه السقايات الكبيرة ، على غرار سقاية سيدي لحسن أو علي في حي باب دكالة، وسقاية القصور بنفس الحي، وسقاية المواسين، وغيرها من السقايات الكبيرة التي تتمركز بين الأسواق أو قرب الفنادق العتيقة لتسهيل عملية إستفادة القوافل من الماء. هذا، وقد ظلت مراكش تتوفر على شبكة هامة من السقايات الصغيرة مقارنة بالسقايات المذكورة، والتي كانت تتغذى من الخطارات ومن السواقي والعيون المحيطة بمراكش مثل “عين قاو قاو” وعين سيدي مسعود و”عين إيطي” و”عين مزوار” وعين “مافوق ما” كما كانت الكثير من الصهاريج العمومية كصهريج “البقر” و”المنارة” وصهريج “الغرسية” و”دار لهنا” في حدائق أڭدال، أو الصهاريج الخاصة التي كانت تتواجد داخل العراصي وبعض الرياضات والمدارس العتيقة والزوايا والمراحيض العمومية، تمون بالماء عبر المساريب الباطنية المرتبطة بالسواقي، والمعدات ، وهي عبارة عن نقاط إلتقاء مائية باطنية تعيد توزيع الماء على الدروب وأجنحة الدروب المشهورة بإسم “الصابات”، حتى أن بعض الدروب داخل مراكش العتيقة لاتزال تحمل إسم “المعدة”.. وقد ذكر المؤرخ المراكشي القاضي عباس بن إبراهيم التعارجي، في مؤلفه “الإعلام بمن حل بمراكش وأغمات من الأعلام ” أن سقايات مراكش بلغت ماينيف عن مئة سقاية خلال فترة الحماية، أحصى من خلالها بالمدينة 89 سقاية، مشيرا أن هذا العدد من السقايات كان مضاعفا قبل هذه الفترة. وتشكل السقاية جزءا أساسيا ومحورا داخل الأحياء التقليدية بمراكش، وبؤرة تؤثت المكان لتؤكد عمق سيمفونية الماء، كملحمة إيكولوجية وثقافية طبعت مسار التمدن المغربي، لدرجة أن مجموعة من الدروب بمراكش حملت إسم “درب السقاية”، تأكيدا لدور السقايات في الحفاظ على الأمن المائي، ونشر قسمات الحياة والبركات ، أسماء دروب تمتد من حومة بن صالح، إلى الزاوية العباسية ومن القنارية إلى إسبتيين . وتبقى سقاية “اشرب وشوف” التي بنيت في فترة السعديين ، والمتواجدة بأمصفح، على مقربة من حومة ديور الصابون ، أشهر سقايات مراكش،نتيجة ماتتميز به من زخرفة راقية غنية وأصيلة، ومن خصوصية حيث أن الآيات والزخارف الموضوعة على خشبها، تطلبت حسب الخبراء زمنا طويلا، ودربة خاصة ، حيث تم وضعها على أخشاب النخيل المستعصية على النحث، وقد عمد الصناع آنذاك إلى وضع جدوع النخيل المذكور في صهاريج من الخل البلدي، لتتماسك أليافها ويسهل نحتها ووضع النقوش عليه. ولاتضارع غرائبية وجمالية وشهرة “سقاية أشرب وشوف” في مراكش، سقاية أخرى، رغم ما قد يبدو للعيان من سقايات أخرى مرصعة بالزليج والزخارف الجبصية، كسقاية الضريح العباسي بحي الزاوية. كما تستمد سقاية “اشرب وشوف” رونقها وصيتها من إسمها الذي إنبثق من التوحد بين عذوبة الماء الزلال ، وروعة المعمار الخالد. والواقع، أن سقاية “أشرب وشوف” في مراكش ألهمت الكثير من المعماريين والمهندسين والفنانين والكتاب والمسرحيين العالميين والمغاربة، كان من ضمنهم المعماري ، العاشق للتراث مولاي الطيب التلموذي الذي إستوحى معالم “أشرب وشوف” ليستلهم سقاية مماثلة في منشأته السياحية، وليعيد إنشاء تحفة من التحف المميزة لمراكش والمتعلقة بالجانب المعماري المعاصر الذي يستلهم تشبث المغاربة بتراثيات الماء، ولينقد مثل هذا المعمار ويعممه درءا للانقراض،والاضمحلال، وإعادة العناية والاهتمام لهذا التراث الذي يشكل جزء من هويتنا ثقافتنا. وشدد المعماري مولاي الطيب التلموذي على ضرورة صيانة هذه السقايات والعمل على حمايتها وتحويل بعض منها إلى مشاريع استثمارية سياحية، وخاصة بالنسبة للسقايات الكبرى، مشيرا إلى إهتمام المجتمع المدني بسقايات مراكش، التي شكلت تراثا معماريا متميزا بالنسبة للمدينة، نابع أساسا من كون هذا التراث يعرف اندثارا، الشيء الذي يتطلب التحسيس بأهمية المحافظة عليه باعتباره جزءا لا يتجزأ من ذاكرة المدينة الحمراء. وتجدر الإشارة، أن المركز المتوسطي للبيئة لمراكش قام بعمليتين لترميم سقاية باب دكالة سنة 2009، وسقاية ” سيدي عبد العزيز” سنة 2010، وذلك في إطار البرنامج الأورو-متوسطي “أوروميد إيريغيتاج 4′′ الممول من طرف الاتحاد الأوروبي. وقد ساهم عدد من الشباب المراكشي المثقف بتعاون مع مفتشية الآثار بالمدينة،في هاتين العمليتين اللتان تمتا وفق منهجية بنائية مضبوطة اعتمدت على تاريخ تشييد كل سقاية على حدى، وإستحضرت سياقات وميكنيزمات تطبيق تقنيات خاصة بعملية ترميم الآثار، والبحث عن الشكل المعماري الذي كان يميزها في زمن بنائها. محمد القنور