من يتذكر، منا، هذه القصيدة الشعبية المغربية القديمة، التي عمرت قرونا، والتي بقينا جميعا (ولا نزال) نردد مطلعها الشهير: "آجرادة مالحة فين كنتي سارحة؟ في جنان الصالحة؟ آش كليتي؟ آش شربتي؟ (...)" دون أن نقف كثيرا للبحث عن "جنان الصالحة" هذا، بل وعن "الصالحة" تلك نفسها ومن تكون. لكن من يعرف مدينة مراكش جيدا وتاريخها العريق والتليد، سيعرف أكيد أن "جنان الصالحة" هو الإسم الشعبي القديم لحدائق أكدال الشهيرة، التي تعتبر أقدم حديقة حية في العالم، بقيت فيها مغروسات حية مثمرة، بشكل متواصل، منذ أنشأها الموحدون في القرن 12. أي أنها حدائق عمرت منذ 9 قرون كاملة، ولا تزال بهية، نظرة، معطاء. الحقيقة، إنه إذا كان هناك اختلاف وتوزع وتباين، حول من تكون "الصالحة" التي اقترن اسمها شعبيا في الذاكرة المغربية، بتلك الحدائق الشاسعة، الرائقة، بأشجارها المثمرة المتنوعة، وبشبكة مياهها الغاية في الدقة والإبداعية، ترجمانا على علو كعب المغاربة في ابتكار هندسة متطورة للمياه والسقي وفنون البستنة.. أقول، إذا كان هناك اختلاف حول شخصية "الصالحة"، حيث ينسبها البعض إلى زوجة أول خليفة موحدي عبد المومن بن علي الكومي (المهدي بن تومرت لم يبايع قط كأمير للمؤمنين)، والدة ثاني الخلفاء الموحدين، وأعظمهم، أبو يعقوب يوسف، الذي يعود إليه فضل إنشاء تلك الحديقة الشاسعة الغناء، وشقيقتها حدائق المنارة الأشهر. مثلما ينسبها البعض إلى السعدية الوزكيثية، الأمازيغية الشهيرة من جبل سيروا، والدة المنصور الذهبي السعدي، دفينة قبور السعديين بمراكش. فيما ينسبها البعض إلى "صالحة" أخرى (غير مؤكدة) ذات صلة بأقوى الملوك العلويين مولاي إسماعيل. فإذا كان هناك، إذن، اختلاف حول شخصية "الصالحة"، فإن ما لا خلاف حوله، هو تاريخ إنشاء "حدائق أكدال". كل المصادر التاريخية، تجمع على أن مؤسس حدائق أكدال، هو الخليفة الموحدي أبويعقوب يوسف بن عبد المومن بن علي الكومي. الذي يعتبر فعليا، أعظم خلفاء الموحدين، ليس فقط لأنه هو من بنى مسجد الكتبية بمراكش ومسجد حسان بالرباط ومسجد الخيرالدا بإشبيلية بالأندلس (الجامع الكبير)، بل لأنه كان صاحب رؤية تنموية استراتيجية، كانت جد متقدمة عالميا في زمنه. هو الذي ولد في أعالي الأطلس الكبير، في طريق آسني، ببلدة تنمل التاريخية، مركز الموحدين البكر الأول، سنة 1139، وأن أمه أمازيغية مصمودية، التي عرفت باسم "الصالحة" (توفي سنة 1184. وحكم 21 سنة). وإليه يعود كل التنظيم المائي لمراكش وإشبيلية، مثلما أنه قد كان صاحب رؤية تدبيرية ذكية، في ما يرتبط بمواجهة أسباب الجفاف، وخلق أسباب الإحتياط الغدائي في ذلك الزمن البعيد للحضارة المغربية. بدليل أنه مهندس حدائق أكدال (جنان الصالحة) وكذا حدائق المنارة بعاصمة الموحدين. حيث جعل منها فضاء فلاحيا منظما بدقة لتوفير الزيتون والبرتقال والرمان والمشمش وما لا حصر من أنواع المغروسات، وأيضا زراعة الشعير والخرطال والقمح. تاريخيا، يعود إنشاء "حدائق أكدال" إلى ما بعد سنة 1163، تاريخ بداية حكم هذا الخليفة الموحدي. وتمة من يقول إنها تعود إلى سنة 1165 م، وأنها أكبر من حدائق المنارة الشهيرة اليوم، بصهريجها المائي، وببنايتها التي تحولت إلى واحدة من الأيقونات السياحية والأثرية لمراكش. لأن الحقيقة، أن حدائق أكدال أكبر منها بكثير، وأقدم منها، وأنها تضم صهريجين كبيرين جدا، هما صهريج "دار الهنا" وصهريج "الغرسية". ويعتبر صهريج "دار الهنا" أعظم منجز هندسي مائي بالمغرب، إلى اليوم، بل واحدا من أعظم الصهاريج المائية في العالم، الذي لا يزال قائما حتى الآن، بتقنيات جلب مياه من الأطلس الكبير، جد متقدمة ومبتكرة، مثلما أنه مرتبط، بشبكة للري، عبر قنوات تحت الأرض، وقنوات سقي مبنية بالحجر والطوب المقوى، لا تزال تعمل إلى اليوم. أي أنها شبكة وتقنيات يعود تاريخها إلى القرن 12 الميلادي، ولا تزال مستعملة وجيدة حتى في القرن 21. وتقدر مساحة حدائق أكدال الهائلة هذه، ب 500 هكتار، وهي مساحة جد جد كبيرة، تتطلب جهدا خرافيا لرعايتها والإبقاء على خصوبتها، وتنظيم بستنتها وتجميع منتوجاتها وتخزينها أيضا. مما يعكس مدى الجرأة والذكاء المؤطر لهذا المشروع الحضاري الكبير والمبهر. إنه بالعودة، إلى مرجع تاريخي من قيمة كتاب "تاريخ مراكش من التأسيس إلى الحماية" لصاحبه الفرنسي غاستون دوفيردان، سنكتشف أن الرؤية التي حكمت إنجاز وتحقيق هذا المشروع التنموي والحضاري الكبير، هي رؤية شجاعة ذات أفق استراتيجي. لأن صهاريجها وكذا صهريج حدائق المنارة، لم تستعمل فقط للسقاية بل إنها كانت فضاء للتدريب العسكري على السباحة للجنود وأيضا على التدرب على المعارك في الماء، وأكثر من ذلك، على تدريبر الفرسان والخيل على المعارك في اصطخاب الماء. هنا تكمن عظمة رجال المغرب هؤلاء حينها، أنهم ربطوا بين الأداة والنتيجة، بشكل براغماتي ذكي، وأن الماء أصبح أداة للتنمية وضمان الأمن الغدائي، مثلما كان مجالا لتقوية الأداة العسكرية. بل إن الصديق عبد الصمد الكباص، سينبهني مشكورا، إلى مرجع علمي مغربي آخر، هو كتاب "الحدائق التاريخية في مراكش" للباحث المغربي محمد الفايز، الأستاذ بكلية الحقوق بمراكش، والذي يعتبر من أهم الخبراء المغاربة اليوم المتخصصين في تاريخ الحدائق والبساتين والثقافة المائية بمراكش. وهو المرجع الذي يشير إلى فكرة جد ذكية، تنبهنا إلى أن المغاربة، منذ العهد الموحدي، أي منذ القرن 12، قد ابتكروا التقنية المشهورة، المنسوبة إلى الإنجليز، والتي تعود فقط إلى القرن 19، وهي ما يعرف ب "المدينة الحديقة ? city garden"، التي سعى من خلالها الإنجليز إلى تحقيق التوازن، ضمن تطور المجتمع الصناعي منذ نهاية القرن 18، بين حجم البناء في المدن الجديدة بإنجلترا وبين حجم الحدائق والمناطق الخضراء (من هنا حتى فكرة حديقة سنطرال بارك الشهيرة بمانهاتن بنيويورك وحدائق لندن، وحتى حديقة بوادبولون بباريس). لقد نبهنا ذلك الباحث المغربي بذكاء، إلى أن حجم حدائق أكدال وحدائق المنارة بمراكش، في زمن الموحدين، كان يوازي من حيث المساحة بالضبط، حجم المساحة المبنية بعاصمة الموحدين الإمبراطورية. إن حدائق أكدال (جنان الصالحة) بمراكش، التي لا تفتح اليوم للعموم، في أجزاء صغيرة منها، لا تتجاوز حتى عشر مساحتها الضخمة (لأسباب أمنية وأيضا للمحافظة على غنى موروثها من المغروسات المنتجة)، سوى يومي الجمعة والأحد، كانت لقرون جزء من القصر الملكي القديم بمراكش، الذي بني في العهد العلوي، على عهد سيدي محمد بن عبد الله في القرن 18. وأنها كانت مغلقة دون العموم، وتضم بنايات متعددة للنزاهة، واحدة منها مفتوحة الآن أمام الزوار، قرب أصغر صهاريجها وهو صهريج "الغريسة" الذي يؤكد المؤرخ الفرنسي غاستون دوفيردان أنه بني في العهد العلوي وليس موحديا مثل صهريج "دار الهنا" الأضخم والأكبر، والذي لا يزال ممنوعا على العموم، حيث من الصعب الجزم بحجمه. ويعود الفضل في فتح ذلك الجزء الصغير من حدائق أكدال يومين في الأسبوع فقط، إلى الملك الراحل الحسن الثاني في أواخر الثمانينات. وهذا ما يجعل الجمهور العام والسياح لا يعرفون شيئا عن "جنان الصالحة" أي حدائق أكدال. بل إننا كمغاربة، بقينا نعتقد لسنوات ولعقود أن حكاية "جنان الصالحة" مجرد خرافة تحكيها الجدات عن حديقة أشبه بالجنة، كانت سيدة صالحة تمنعها عن الساحرات اللواتي يغرين صغار مراكش بزيارتها مما يسهل عليهن اختطافهم وقتلهم. الحقيقة، إن "جنان الصالحة" حدائق حقيقية، قائمة بمراكش، هي حدائق أكدال الشاسعة والبهية والغنية، التي تعتبر اليوم موروثا إنسانيا، لأنها باعتراف من اليونيسكو، تعتبر اليوم أقدم الحدائق الحية بمغروسات حية منتجة في العالم. لكن ما وقفنا عليه للأسف في زيارة لنا لها منذ أسبوع، هو أن بعضا من بناياتها التاريخية (على الأقل تلك التي سمح لنا بالإنسلال إليها) خربة تتهدم من الداخل. وهي البناية التي كانت متنزها للسلطان العلوي سيدي محمد بن عبد الرحمان (محمد الرابع) وابنه السلطان الحسن الأول، حيث سقط سقفها الأوسط العلوي وتهدم بفعل عوادي الزمن، مثلما أن الصعود إلى ما تبقى من سطحها عبر سلالم أدراج عتيقة، فيه مغامرة، لكنه يسمح باكتشاف عظمة شساعة تلك الحدائق الرائقة، التي هي مفخرة للمغرب والمغاربة ومفخرة للإنسانية. لأنها عنوان آخر عن إبداعيتنا، كإنسية، ضمن الحضارة البشرية. ويخشى أن يصبح مصير تلك البناية (ولا قدر الله) أجزاء من تلك الحديقة الهائلة البهية، مثل مصير "صهريج البقر" التاريخي الموحدي القديم، الذي كان قريبا من باب الرب بمراكش والذي دمر وضاع إلى الأبد في جريمة عمرانية بسبب زحف العمران.