يدعونا نص الأستاذ عبد الإله بلقزيز لا لقلب زوايا النظر بل الدخول معه إلى المتعة والمؤانسة، اعني بذلك الكيفية التي يكون فيها النص «مرآة لقارئه». ليس في العلاقة تطابق القارئ مع النص بل في الظلال التي تتركها الصورة في المرايا تلك. النص إذن مستفز عند عتبته الأولى، مستفز لأنه يقوم بإتلاف القارئ، بمعنى أن القارئ تعود منذ عقدين من الزمن متابعة كتابات بلقزيز الفكرية، وبالضبط في أسئلة راهن الفكر العربي. يعلو الاستفزاز ذلك إلى طمأنة القارئ بقليل من المكر _بأن كتابة هذا النص هو نوع من استراحة المحارب- لكن سرعان ما يزول هذا الاستفزاز حين قراءة النص دفعة واحدة، وبدون استراحة ممكنة، حيث تشكل أبوابه المتعددة نوعا من إضافة شيء من هوامش الباحث، لا لتوضيحها وتعريفها بقدرما تصاحبك في مؤانستها إلى متعة النص، كنصّ منفتح عل كل الأجناس الكتابية إمكانا. لنترك هذه العتبة الأولى معلقة على غلاف الكتاب، ولنتأمل هذا النص المنفتح. هو نص إذن غير معلن وغير معرف. ربما يشحذ التعريف من قارئه، وربما كذلك. ليجد تعددا في التعريف عبر إعادة فلاحة حروفه وكلماته، فواصله وأرقامه، وبالجملة حين يتهرب النص من هذا التحديد، ليكون نصا مموضعا بين الكتابة والقراءة، بين المرأة والرجل، بين الطفل والجدة، بين جامع الفنا وظهر المهراز، بين بيروت وفاس، وبين بين يليق للقارئ شحذ كل الحواس لمتابعة حكاية السارد، إن لم أقل طرق الأبواب المفتوحة. لكن، في صيغة بين بين ثمة موضوعة تشكل لحمة النص وناظمه. إنها موضوعة الكتابة والقراءة. لا يقوم الكاتب هنا بالتنظير لهما بقدر ما يكون وسط بينهما. يتحسسهما، يشاكسهما، يداعبهما، يتألم بهما، يحن إليهما.. كأن الوسط لعبة تندفع بكثير من الجدية، كلقائهما، والالتقاء بهما. لا يحكي الكاتب هنا تجربته الذاتية كما يقول ضمنا. وإنما في كيفية وضع الذات كسؤال للتأمل الفلسفي. ليست المسألة في ما تحكيه الذات بنفسها. بقدر ما تفتح أبوابا أخرى داخل وخارج الذات نفسها. قد نتسرع حين نقول أن هذا النص سيرة ذاتية، كأن القارئ منا يريد اعتقال النص وصاحبه في درج من أدراج مكتبته، وإن كان الأمر يحيل إلى ذلك عبر الحكي عن الطفل الذي كانه، في علاقته بالجدة والمكان، ثم الشاب المشاكس للنظام العام والحامل لحية الشيخ الألماني، لكن بين الصورتين، ثمة قضايا أخرى لا تنم عن متابعة الذات في تفاصيلها اليومية، وفي مراحلها العمرية، في أحلامها وأوهامها. في انتصاراتها وفي انكساراتها، في أمكنتها الواقعية وفي أمكنتها المتخيلة، في الشخوص القديمة والحديثة... بل في الأبواب التي يفتحها من قبيل البيان، المعنى، الصورة، الاستعارة، التشبيه، النثر، الشك، السؤال، الهامش... ولا تعني هذه القضايا أبواب العناوين المبوبة في النص بل هي أبواب تنغلق كلما تم فتح إحداها، وتنفتح حين الوصول إليها، إنها موضوعات تنم عن ذات محترقة ومحرقة بنار بروميتوس، ولأنها كذلك فستكون الكتابة والقراءة هي الناظم الشفاف لكل تلك الموضوعات. لنتأمل هذه الصورة: ص 89 «القراءة سرير لقيلولة الزمان (...) ومكان المطلق في اللامكان.»، لا تتحدد القراءة هنا في مكانها ولا في زمانها، بقدر ما تذهب بعيدا إلى مقتضيات تحيل إليها. كالليل، والمدرسة والمكتبة البلدية، والمرأة، الشعر والحكايات، التاريخ والجغرافيا، لا تستقيم القراءة هنا إلا في متابعة تفاصيل متعددة، كما قراءة الشيخين الجليلين، الشيخ أبي العباس السبتي، الشيخ الأحمر الألماني، المرتبطان بمكانين محددين، باب تاغزوت وساحة هوشي منه. ليس المكان هنا مجالا عمرانيا فحسب بل هو مجال للقراءة، قراءة الطفل لفضاء الشيخ الأول وقراءة الشاب لساحة هوشي منه. وبين الأولى والثانية، أمكنة أخرى يتصيدها السارد لقراءتها لا في سبيل طمأنة الذات، بمسكنات الخرافة عند الطفل، والإيديولوجيا عند الشباب، بل في خلخلة هذا بذاك عبر توحيد ما لا يوحد. كما أن القراءة لا تستقيم، إلا بالكتابة كما علاقة الذكر بالأنثى، «ذكر بلا أنثى كسمكة من دون ماء» ص 140. ولا تعني هذه الصورة نوعا من إلصاق كلام لم يقله الكاتب في الكتابة وإنما هي صورة تتكرر بشكل أو بآخر حين الحديث عنهما «الكتابة شهوة لا ترد ونزوة إن تضعها ضعت... « ص 129، «القراءة كتابة بالقوة، تمرين صامت بحبر سري (...) امرأة مأخوذة بسر أنوثتها» ص 132. ألا تعني الكتابة هنا امرأة؟ ما دامت مجموعة من الصفات كالجمر والشهوة والنزوة ... ترتبط بهما. وإذا كان الأمر كذلك فإن عشق الكتابة هو عشق امرأة. وعلى ذكر المرأة فإن أجمل الأبواب التي فتحها هو ‹بابها» دون أن يسميها كأن (الهاء) هو الكتابة عنها. لا عجب إذن أن تكون المرأة مفتاحا لكل الأبواب التي طرقها كأن المرأة هي التي تعطي للمكان رائحته. الجدة بعلاقتها بالطفل، الجدة كرائحة تؤطر المكان في اللامكان مثلما تندفع صور المرأة المتعددة في المكبوت الثقافي، مكتوبا كان أم رمزا شفهيا في الشعر الجاهلي وحكايا الأغاني وسيف بن دليزال، مثلما تتحول المرأة في ساحة هوشي منه إلى مجال آخر تفوح منه رائحة الإيديولوجيا وأسئلة المرحلة. المرأة كتابة بكل ما تحمله من رمزيات إيروتيكية وجنسية. لكن كيف تكون كتابة كجمرة، كشهوة وحرقة ونزوة؟ يحاول الكاتب الاشتغال على حنين الكتابة، وكأنه يشحذ من القدماء سر وجودهما معا أي في علاقة الشعر العربي القديم للصحراء، في التيه المنفلت من أثره. يستضيف الكاتب في رحلته عنترة والمتنبي والمعري والبحتري وأبي تمام وغيرهم. كأنه يرغب في قياس ذاكرته، بل في قياس جودة كتابته في الماضي والحاضر، في المدرسة الابتدائية والجامعة، في التوتر الحاصل بينهما بين إتلاف هؤلاء في ساحة هوشي منه واستحضارهما في الليل أي حين تنام الإيديولوجيا، يستيقظ عنترة والمتنبي والجدة كان بولينتزاز وغيفارا وغرامشي ... مطارق لهدم ما لا يهدم. الكتابة قوس قزح يربط ساحة جامع الفنا بساحة ظهر المهراز يحضر الليل فيهما بشكل يعطي للمكان بهاءه « الليل مئذنة تعلوها الروح كي تعلن منها توبتها، الليل إغراء لا ينتهي لنداء الخطيئة» ص 33 بين ليل الطفل وليل الشاب فعل التوتر المضاعف بين صورة الجن والعفاريت وصورة البوليس والمطاردات والتعذيب وما إلى ذلك. لكن بينهما يتشكل الحلم والقراءة مثلما تكتمل صورة المرأة. أي في عريها كما الكتابة تماما، كأن الكاتب يريد أن يقول لنا حين تكون المرأة أمامه يفكر قبلا في كل شيء، يفكر في تلك الجمرة التي تحرقه وفي تلك النزوة التي ترعشه وفي تلك الشهوة التي توجهه. من أين أبدأ؟ أي من أين تبدأ الكتابة؟ لكن سرعان ما تنطفئ الجمرة وتبعدك النزوة وتتلفك الشهوة لتبحث من جديد عن نص آخر وهكذا دون كلل حتى دون اكتمال ما لا يكتمل. أي في لحظة الليل كزمن يطلي المكان برائحة أخرى، رائحة تحتفل بالجمرة والشهوة والحلم «لكن حلم اليسار قصير وأنت تعشق الليل الأطول، والدولة عدو الليل....... للدولة نهارها ولي الليل وحدي؛ مملكة أصول فيها وأهذي» ص 35. هكذا يغدو الليل كتابة شعرية إن لم أقل إن شعرية الليل تتأسس على تأمل فلسفي، يوحد الصوفي بالماركسي، والشعري بالنثري والكتابة بالقراءة... رغبة في إيجاد إيقاع موسيقي للكلام وهندسة الحروف. «رائحة المكان» النص مطرز بالحنين والألم. إنه نص يبحث عن إيقاع بينهما في اللغة كأن الكلمة لا توضع إلا وفق إيقاعها ذاك. وأن الجملة لا تستقيم إلا وفق حنينها إلى الصحراء، إلى لغة الشعر الجاهلي والعباسي وغيره كما لو كان الكاتب يبحث عن موسيقى نصه من خلال هذا الرجوع، وهذه العودة. لكن بالمقابل ثمة إيقاع الحنين في الألم والعكس ممكن في شرطية العلاقة. الحنين والألم ص 126، بوصلتان للكتابة والقراءة كأن كل واحدة تحملك إلى الأخرى بطريقة ترابطية إلى حد تطابقهما. لقد قلنا في الأول أن موضوعة الكتابة والقراءة هي الناظم الشفاف للنص ككل. وإذا افترضنا ذلك جدلا- كما بينا ذلك- فإن طرق أبواب رائحة المكان وهندسة شعرية روائحها والفعل الموسيقي الذي يؤثث المكان والنقوش التي تظهر على الأبواب تدفعنا للحديث عن الطريقة التي هندس بها الكاتب كتابته، ونقول أنها كتابة شذرية. لا تتشكل شذريتها من الأرقام التي تفصل نصا عن آخر، ولا تتشكل في انكسارات السرد عبر خلق مسارات أخرى وطرقا أخرى تنفتح بدورها نحو طرق أرحب وأوسع وإنما في شكل الجمل المكتوبة بعناية وصرامة الباحث الذي يسكن كأن كل جملة في النص هي شذرة بعينها، وهذا ما يعطي للنص فرادته المتميزة وما يضع القارئ يحوم على المعنى ولا يقبضه ويعقله ليضع _ بطريقة أو بأخرى- تلفه طبقة أخرى من طبقات النص أو طريقا أخرى من الطرق. وهكذا إلى ما لا نهاية. لا نريد هنا الإحالة إلى الكتابة الشذرية كما رسمها الأولون والمتأخرون منهم بل في وضع الكتابة موضع تأمل وذلك سؤال آخر. عبد الإله بلقزيز : «رائحة المكان» دار منتدى المعارف بيروت ط 1 2010