أصدرت «حلقة أصدقاء باهي»، تحت إشراف عباس بودرقة، الأعمال الكاملة للفقيد محمد باهي: «رسالة باريس: يموت الحالم ولا يموت الحلم»، ويضم الكتاب، الذي تم تقديمه بمناسبة الذكرى العشرين لوفاته، خمسة كتب استعرض خلالها المؤلف شهادته على العصر، وقدم لنا تحاليل غاية في الموسوعية.. في ما يلي نختار لقراء «الاتحاد الاشتراكي» أوراقا من ذاكرة محمد باهي، لنستعيد تلك الثقافة السياسية التي كانت يتمتع بها واحد من صانعي السياسة في بلادنا، وواحد من الذين تحصلت لديهم الخبرة والذكاء، واستطاعوا أن يقدموا لنا قراءة في قضية الصحراء، وفي امتداداتها وتعقيداتها والمساهمين الفعليين في ذلك.. «أنا من المؤمنين الصادقين بوحدة شمال إفريقيا. لقد تربيت عليها في صباي داخل حزب الشعب الجزائري، وحاولت أن أحققها أثناء سنوات حرب التحرير، من خلال التنسيق السياسي والعسكري مع حركة المقاومة المغربية، ثم إن الظروف التاريخية، والشخصية، جعلتني أعيش هذه الوحدة في حياتي الخاصة. إن لدي صداقات وعلاقات في المغرب وتونس، أعتز بها بقدر ما أعتز بصلاتي وروابطي الجزائرية. وأنا أعتبر أن تحقيق السلام والوئام والتعاون بين دول شمال إفريقيا، هي أهداف تقع على عاتق جيلنا، وسوف أبذل ما أستطيع من جهد لتوفير الشروط الموضوعية لإنجازها». بهذه العبارات، استهل السيد بوضياف رئيس المجلس الأعلى للدولة حديثا صحفيا طويلا، أدلى به إلينا مساء يوم السبت 22 فبراير 1992، في الجناح المخصص لإقامته بمبنى رئاسة الجمهورية، بحي المرادية، في أعالي الجزائر العاصمة. خلال هذا الحديث الذي استغرق ساعة كاملة شرح لنا رئيس المجلس الأعلى للدولة موقفه الشخصي من القضايا الداخلية ومن المشاكل الإقليمية، كما شرح لنا رؤيته وتصوره للحلول والتصورات التي تنوي القيادة الجزائريةالجديدة، وينوي هو شخصيا تطبيقها لإخراج الجزائر من المأزق الذي تتخبط فيه. ولدفع عجلة التعاون والتنسيق بين أقطار شمال إفريقيا، على طريق المزيد من الفاعلية والنجاعة. يجب أن نبني صرحا واحدا. إن أساس الوحدة موجود ومادتها الخام متوفرة في الجغرافيا وفي التاريخ وفي الدم المراق فوق أراضينا الطاهرة. وسوف نخون شهدائنا الذين سقطوا في الشمال القسطنطيني وفي الأطلس المتوسط أثناء انتفاضة 20 أوت 1955، إذا لم نحقق السلام والوئام بين أقطارنا، وأستطيع أن أؤكد لكم أن بناء صرح الشمال الإفريقي القوي، سوف يكون من أولويات سياستنا الخارجية، في المجال الإقليمي، وسوف يكون على رأس انشغالاتنا أن نصل إلى لغة مشتركة، نستعملها مع الأوربيين، ومع غيرهم وندافع بها عن مصالحنا المشتركة. بعد هذا الاستهلال العام، توقف الرئيس بوضياف عن الحديث وكأنه يستبق سؤالا كنا نبحث عن صيغة لطرحه عليه، توقف ونظر إلينا، وقال، وهو يؤشر بحركات من يده على كل كلمة تصدر منه. إنني أريد أن أكون صريحا معكم إلى أبعد الحدود حول نقطة أعرف أنها تهمكم شخصيا مهنيا، ألا وهي مشكلة الصحراء. لقد عبرت عن رأيي الشخصي في الموضوع والإخوان المغاربة يعرفونه، ولا أريد أن أكرر هذا، وإنما يهمني أن أؤكد لكم أن هناك إرادة في القمة الجزائرية لتسوية هذه المشكلة بأقصى ما يمكن من سرعة. لقد بدأنا بدراسة هذه المشكلة مع جميع صانعي القرار، وأجريت اتصالات ومشاورات واسعة مع كل الإخوان الذين لهم علاقة بالموضوع. ومع كافة الذين يملكون كلمة حول هذا الشأن وبإمكاني أن أقول لكم بأنه أصبح لدينا اتفاق كامل على ضرورة الإسراع في حل هذه المشكلة التي تسمم علاقات المغرب والجزائر، وتعرقل مسيرة السلام والوئام بالشمال الإفريقي. قد لا تكون الأفكار العملية واضحة لدنا حتى الآن بما فيه الكفاية، لكننا متفقون في دوائر صنع القرار على ضرورة الحسم العاجل، وسوف نبحث قريبا في صيغة لمعالجة مشكلة اللاجئين والمسلحين. وقد قلت هذا الكلام بالحرف لمندوبهم أثناء حفل استقبال السفراء، ولست أدري ما إذا كان فهمه أم لم يفهمه؟ ولكنني انتهزت الفرصة لإبلاغه موقف الدولة الجزائرية، لقد جاء مثل غيره من السفراء وقلت له هذا الكلام الذي قلته لكم الآن. لاحظنا أن الرئيس محمد بوضياف خلال حديثه إلينا عن مشكلة الصحراء لم يستعمل أية كلمة من الكلمات المألوفة في القاموس السياسي الجزائري التقليدي مثل «الشعب الصحراوي» أو « البوليساريو» وإنما استخدم صيغة ضمير الغائب والمجهول مثل مندوبهم لدى إشارته إلى اللقاء السريع الذي تم بينه وبين السيد إبراهيم حكيم سفير ما يسمى بالجمهورية الصحراوية في الجزائر. كما أنه استعمل عبارتي اللاجئين والمسلحين، في معرض شرحه للخطة التي تدرسها القيادة السياسية الجزائريةالجديدة لتسوية أوضاع القاطنين بمخيمات تندوف والحمادة. «بهذه المناسبة أنفي نفيا قاطعا ما قيل مؤخرا من تسرب عناصر مسلحة من التراب الجزائري، إلى التراب المغربي، نحن لم نقدم السلاح لأحد، ولن نقدمه إليه في المستقبل. هذا خيار واضح ولا رجوع فيه. لقد قررت الجزائر الابتعاد نهائيا عن سياسة إثارة القلاقل. نحن ضد استعمال العنف في الجزائر، ولا نريد أبدا أن نستعمله مع جيراننا». وكان الرئيس الجزائري، يشير من خلال هذا التكذيب إلى أنباء صحفية، نشرت في الآونة الأخيرة بالمغرب العربي، عن تسلل عناصر مسلحة من الانفصاليين، إلى بعض مناطق الصحراء المغربية. بعد استعراض موقفه من المغرب العربي ومن مشكلة الصحراء المغربية، روى لنا محدثنا وقائع جديدة عن الاتصالات التي أسفرت عن عودته إلى بلاده، وتسلمه مهام رئاسة الدولة. «الحقيقة أن الاتصالات معي لإقناعي بالرجوع إلى الجزائر، لم تنقطع منذ سنوات، وقد تكاثفت هذه المحولات، بعد أحداث الأسبوع الأول من شهر أكتوبر 1988، وكانت من أوساط وجماعات وفئات مختلفة، وهي ذات طابع إعلامي وسياسي وشخصي، وكانت تتم بمناسبة وبدون مناسبة. لقد زارني الصحفي محمد عباس، عندما كان محررا بجريدة الشعب، وأجرى معي حديثا نشره في الزاوية التي كان يشرف عليها تحت عنوان «منبر التاريخ »، ثم زارني صحفي من التلفزة وأجرى معي مقابلة حول ثورة أول نوفمبر، وأحضرت للمشاركة في تلك الحصة صديقي الدكتور عبد الكريم الخطيب ليتحدث عن دور المغرب والمقاومة الوطنية المغربية في تحقيق استقلال الجزائر...». عند هذه النقطة من كلامه أشار الرئيس محمد بوضياف، في لهجة استنكارية إلى أن «هم» خلقوا لنا مشاكل عندما أردنا أن نبين دور المقاومة الوطنية والمغرب في تحرير الجزائر، اكتفى المتحدث بضمير «هم» هذه، من دون أن يشفي ظمأنا إلى معرفة الجهة التي يعود إليها وهل هي جزائرية أو مغربية؟ هل هو مقص الرقيب المغربي أم مقص الرقيب الجزائري، أم هي جماعة من «أصحاب الوقت» «الفاهمين» هنا وهناك؟ اكتفى ب «هم» تلك وأضاف : في الواقع إن كثيرا من الإخوة الذين زاروا المغرب، في السنوات الخمس الأخيرة، كانوا يزورونني بمنزلي بالقنيطرة ويحاولون إقناعي بالعودة إلى البلاد لاستئناف نشاطي السياسي، وكان عدد كبير منهم يقدم أفكارا ومقترحات، ويعلن عن استعداده للعمل بجانبي، وقد رفضت كل هذه العروض، لأنني لم أكن مقتنعا بجدوى ولا بإمكانية إصلاح النظام، ولا كنت واثقا من ديمقراطيته. ولم يقتصر الأمر على اتصال الشخصيات، وإنما قامت حملة شعبية، تلقيت على إثرها مئات الرسائل من مختلف أنحاء القطر تدعوني إلى العودة. هذه الحملة التي يشير إليها السيد محمد بوضياف، قادتها جريدة السلام اليومية بمبادرة من رئيس تحريرها الزميل محمد عباس، الذي نشر قسيمة في صحيفته تتضمن عنوان منزل بوضياف بالقنيطرة، وظل لمدة أشهر يدعو الناس إلى مكاتبته وتحريضه على الرجوع للمساهمة في الحياة السياسية الجديدة ببلده. يضاف إلى هذه الحملة الإعلامية والشعبية زيارة الوفود والشخصيات من مختلف المناطق والفئات الاجتماعية. لقد تقاطر رؤساء «عشيرة أولاد ماضي» التي ينتمي إليها الرجل، على مدينة القنيطرة، للتعزية في وفاة أحد إخوته الذي توفي ودفن بالمغرب، وتقاطرت عليها بعثات من منظمة أبناء الشهداء والمنظمة الوطنية للمجاهدين، وشخصيات تاريخية من أمثال علي الكافي والشريف بلقاسم، كان الرجل يستمع إليها بأدب، ويرفض الاستجابة لاقتراحاتها الرامية إلى الزج به مجددا في المعمعة السياسية. «في الفترة الفاصلة بين الدورتين اتصل بي السيد علي هارون وزير حقوق الإنسان وقال لي : انتظرني فأنا قادم لأمر مهم أريد أن أحدثك فيه. تصورت أنهم سيقترحون علي من جديد، تكوين حزب سياسي، ولكنه حضر إلى الدارالبيضاء وركب منها السيارة مع صديق مغربي، ثم التحق بي في القنيطرة، وشرح لي الوضع بإسهاب وقال لي أنه مكلف رسميا من طرف «صانعي القرار» بإبلاغي رغبتهم في أن أعود إلى البلاد لأشارك معهم في إنقاذها من شر مستطير. وقد اتصلت هاتفيا بالوزير الأول السيد أحمد غزالي وبالمسؤولين العسكريين، وأفهموني أن الحالة في منتهى الخطورة، ولابد من أن أتحمل مسؤوليتي لمواجهتها. بعد هذه الاتصالات ذهبت إلى الجزائر وقابلت قادة الجيش وعلى رأسهم اللواء خالد نزار وزير الدفاع، وكذلك رئيس الحكومة السيد سيد أحمد غزالي. وفهمت من خالد نزار أن الجيش يسيطر على الوضع، وقلت لهم: إذن فلتستلموا السلطة، وقال لي وزير الدفاع : نحن لا نريد استلام السلطة، وإنما نريد حماية الجزائر من الفتنة، ونريد تمكينها من استئناف تجربتها الديمقراطية، وقد جرى بيننا نقاش أخوي صريح اقتنعت بعده بأن من واجبي تجاه الجزائر وشمال إفريقيا أن أقبل هذا التحدي...». وذكر لنا الرئيس الجزائري أن السيد علي هارون الذي أقنعه بالعودة صديق شخصي قديم تعود معرفته به إلى حقبة الخمسينيات. «لقد كان معنا في تطوان عندما أصدرنا مجلة المقاومة الجزائرية من عاصمة الشمال المغربي. أصدرنا بضعة أعداد منها وأوقفناها باتفاق مع الداخل، لتصدر جريدة المجاهد بدلا منها، وكان السيد علي هارون بعد استقلال المغرب، يعمل سكرتيرا لباشا مدينة مكناس، وذلك في نطاق سياسة مساعدة المغرب للثورة الجزائرية، وهي سياسة كان من جملة مظاهرها إسناد مناصب إدارية عليا في الدولة المغربية للإطارات الجزائرية لتمكينهم من التفرغ للعمل في خدمة الثورة، وبعد اختطاف الطائرة المغربية، التي كانت تقلنا أن والإخوة أحمد بن بلة ومحمد خيضر ورابح بيطاط ومصطفى الأشرف والحسين أيت أحمد إلى تونس لعقد اجتماع مغاربي، نشارك فيه كقادة للثورة الجزائرية، مع الملك الوطني الكبير محمد الخامس والحبيب بورقيبة، بعد هذا الاختطاف ترك السيد علي هارون وظيفته في باشوية مكناس وسافر إلى أوربا بجواز سفر مغربي، ظل يتنقل به بين ألمانيا وفرنسا وسويسرا وبلجيكا، كأحد مسؤولي جبهة التحرير الوطني. ولابد لي أن أشير في هذه المناسبة إلى أن الأخ عبد الرحمان اليوسفي لعب يومها دورا مهما في اللقاء الذي تم بيننا وبين الملك محمد الخامس لأنه (أي عبد الرحمان اليوسفي) كان فيما أذكر رئيسا للمجلس الوطني للمقاومة وجيش التحرير، إضافة لكونه صديقا شخصيا شارك معنا في وضع لبنات تنسيق أعمال حركة المقاومة وجيش التحرير في البلدين». وبما أن الذكريات تجر الذكريات، فقد انطلق الرئيس محمد بوضياف، من هذا التقديم السريع لشخصية الوزير على هارون عضو المجلس الأعلى للدولة، لتذكيرنا بجوانب أخرى من علاقاته القوية والمتنوعة مع أقطاب الحركة الوطنية بالمغرب.