مثل طفلين كنا نطحن الأحلام والطمي كي لا ينضب نهر البراءة.. نضحك على عبوس العالم من حولنا.. كنا نلهو غير عابئين بضغائن الكبار وحساباتهم ولا بسلطة أو تسلط والدتك كما يحلو للجارات تسميتها في نمائم القيلولة، ولا بتهم الزيادة في الأسعار في حق والدي أنا بنت مول الحانوت. كنا نركض مثل بوابة ريح مشرعة على السفر... نبني قصورا وأكواخا لا نفكر في من يقطنها بعدنا. لم تكن تعنينا الفوارق الطبقية .كان كوخ با المحجوب يشبه في عيوننا فيلا مسيو جانو، وكل ما نعتمده مقياسا للتمييز بينهما هو أن كوخ با المحجوب لا أحد يحرسه غير حكايات عجوز وعكازه، وكان متاحا الاقتراب منه بينما كانت فيلا مسيو جانو بعيدة المنال ولا نكاد نرى منها إلا حديقتها الخلفية ذات حبات البرتقال المكتنزة وحبات المشمش والبرقوق التي كانت تسيل لعابنا. ما أن يرن جرس المعمل القريب من بيتنا، معلنا عودة البروليتاريا الى حتفها الرأسمالي في الساعة الثانية بعد الزوال، حتى نخرج هائمين غير عابئين بقيظ الظهيرة، باحثين عن موادنا الأولية لينطلق الورش المفتوح. أمين، صب الماء فالطاحونة لا تدور رحاها جيدا ابتعدي قليلا لأرى، اجلبي الماء من بيتنا. هيا بسرعة. «واش ما غاديش تخليونا نعسو شوية» صاحت أم أمين وهي تفتح الباب على وقع طرقي المتلاحق مثل هزات ارتدادية. كم بنينا من طواحين ودمرها الأعداء من أبناء الجيران، وبحثنا عمن فعلها لنعيد الكرة مرات مرات بأمل بوذي في إعادة دورة الحياة. كثيرا ما كنت تختار دور المهندس العارف وأنا دور النملة النشيطة التي لا تكل من نظام السخرة، لإيمانها بأنها جزء من المشروع ومن الحل. تجلب الماء والأحجار وأغصان الأشجار.. تشذب ما شذ منها. وكلما انهار الحلم، تجري مسرعة تبحث في كل اتجاه عن دعامات حجرية كي ينهض من جديد. لم نكن نعرف أنها طواحين هواء سيتلوث بعد ذلك بمجرد جلوسنا على مقاعد الصف الابتدائي بالفرعية القريبة منا. لماذا يصر الكبار على زرع أحقادهم في قلوب الصغار؟ كيف ولماذا هذا التحول؟ لماذا تمترس كل منا في معسكر وأعلنا حربا باردة باسم عقدة التفوق.. عفوا لم نعلنها هم من أعلنها. لقد اكتشفت بعد ذلك أننا كنا نخوض حربا بالوكالة. فالحروب دائما يشعلها الكبار ويكون وقودها الصغار. لم أطرح كل هذه الاسئلة لحظتها. كنت مشحونة بما يكفي كي أفجر كل براميل البارود في وجه جدارنا السميك كلما دقت ساعة الاختبار المدرسي، وكنت مثلي تشحذ أسلحتك بتحريض من «شجرة الدر» أمك كي تحافظ على موقع القائد في ساحة المعركة التي كان غبارها يحجب الرؤية عنا نحن الاثنين الى أن غامت كل الخرائط، واختلطت علينا انتصاراتهم وهزائمنا... نضبت شرايين الطاحونة من فرط انتظار موعد للقاء، وانتظر أبناء الجيران بيتا يهدمونه ليثأروا من حب طفولي فلم يجدوه... بيتا لم يدركوا أنه تهدم من الداخل. كنا نسترق النظرات خلسة في باص المدرسة وداخل الفصل كمن يريد إبعاد التهمة عنه في كل ما يجري. أعلم أننا كنا أعداء أمامهم فقط، وأن المياه التي جرت تحت جسر أحلامنا كانت متواطئة معنا. سنة بعد الأخرى كانت الهوة تتسع وكان الحلم، على الأقل داخلي، يكبر بأننا سنلتقي يوما وعندها سنقول لا. سنعود إلى أوراشنا القديمة التي تركناها مفتوحة... سنتفقد منسوب النهر كي نروي ظمأ الحكاية فتنهمر من جديد. نعم إنه هو...إنه أمين. اكتفينا بسلام بارد أدرس بشعبة الاقتصاد وأنتِ؟ لم يعد ذلك الطفل الذي عرفته. كان وحيدا ينتظر الباص العائد من الكلية التي قذفته مثل الملايين من زملائه بعد أربع سنوات من التحصيل إلى الضياع قبل أن ينصرف الى هوايته الموسيقى التي أصبحت مهنته في ما بعد، لينتقل بعدها الى العمل بالباص شاهِد إثبات على رحلة جديدة تقل ملايين يشبهونه نحو المجهول. أمين، كم اشتقت إلى طاحونتنا البريئة وأنا أتخبط وسط هذه الطاحونة الكبيرة التي يسمونها الحياة. ماذا لو تركونا أبرياء.