ينفتح هذا العمل الأدبي ب "إهداء" ينبئ عن الروح العامة التي يندرج فيها "حديث" الكاتب عن مكان عنوانه "سينترا". فكلّ الأشخاص المذكورة أسماؤهم هم علامات أو دوال على دلالات تحيل على الإيمان بالتعايش والمستقبل والتسلح بالعقل وروح التنوير. ص5 في البدء كانت جلسة عشاء جمعت بين أشخاص يتحاورون حول الوضع العام بالمغرب. تنتهي الجلسة، ويقترح أصغر الحاضرين الذهاب إلى كاباريه "سينترا" للاستماع إلى أغاني محمد عبد الوهاب والاستمتاع بها. وكان يكفي بعض الوقت كي يدرك "المفكر- الراوي" أنّ الزمان توقف في هذا الفضاء منذ 1946، وهي السنة التي تنطلق منها أحداث هذه الرواية. يتكلّف عمر بنمنصور، الشخصية المحورية، بأمر من صديقه في الاستعلامات "كازالطا" بالتعرف على شخص خطير يرتاد "سينترا". يلج بنمنصور سينترا كاباريه الأهالي. كان المغنيان يغنيان، في الطابق العلوي، حسن السقاط يغنّي محمد عبد الوهاب، وفي الطابق السفلي الحسين ولد عيشة يصدح بأغاني الشعب. سكارى يردّدون مع من يغنّي، يعقّبون على ما فاه به فقيه مهبول يتسوّل بما يراه قصائد حكمة... ويتساءل بنمنصور كيف لفرنسا أن تهتمّ بسكارى لا مبالين؟ يدخل بنمنصور إلى سينترا للمرة الثانية. مولا مليانة الكثير العناق والمعروف بلازمته "حبيبي" ينتقل بين الموائد، ينطق شعرا مبشرا بثورة الكادحين القريبة، الكنفاوي والعلام وعنيبة واعلالو يتحدّثون عن "الكلاوي" ويتجاوبون في أشياء أخرى، ومليكة الغريبة الأطوار تتودّد الجمْع للاستماع لشعرها الذي يفوق ما أشعر به مولا مليانة. لا شيء يثير الانتباه، هرج ومرج، كلام وتعقيب على الكلام. غير أنّ بنمنصور سيُصاب بالذهول وهو يحاور "الموتشو". حوار يتموقع بين زمانين، يختلط فيه الماضي بالحاضر. يسأل الموتشو بنمنصور عن حال حفيدته بشرى، ويجيبه بنمنصور أنّه حديث الزواج. يخبره الموتشو بوفاة زوجته سوليكا ويستعجب بنمنصور من كلام الموتشو، وقد تركها على التو في المنزل قبل خروجه متوجها نحو سينترا...الموتشو يتحدّث بالمستقبل إن كان الزمان هو نهاية الأربعينيات من القرن الماضي، وبنمنصور يتحدّث عن الماضي إن كان الزمان بداية القرن الواحد والعشرين ! كان على بنمنصور وقد اختلط عليه الزمان أن يتأكّد أولا من أنّ زوجته سوليكا ما تزال على قيد الحياة، يتلمسّها، يحادثها... تُصاب سوليكا بالذهول من سلوك زوجها وتقترح عليه السفر إلى إيفران في عطلة لتستريح أعصابه، وبأمل أن يوافقهما «هوا» إيفران ليُرزقا بولد. بإيفران، يلتقى بنمنصور ب»المعمري»، مدير الكتابة الخاصة للسلطان. كان مُعجبا به، وهو القائل عمّن عنّفوه ونعتوه بالخيانة : Ceux qui m'ont violenté et continuent de le faire, tiennent l'ombre pour la proie. إعجاب ذو دلالة بالنسبة لشخص يرى أنّ فرنسا هي أداة التحديث، وسبيل التقدم في نفس الوقت الذي يجد نفسه موزّعا بين فئتي «المعمرين» و»الأهالي». لم يكن ضدّ فرنسا التي بنت القناطر وعبّدت الطرقات، ولكن ضد فرنسا معيّنة تحتقر الأهالي وتفصلهم عمّا عداهم. بعودته إلى الدارالبيضاء، يلتقي مجددا ب»كازالطا» الذي يحدّثه عن الوضع المتوتّر، وانتشار الحركة الوطنية، وانحياز الملك إلى جانب المد الوطني، وتأثير تواجد محمد الفاسي والمهدي بنبركة والأمير مولاي الحسن...مهمّته الآن أن يتجسّس على الأمير مولاي الحسن. هكذا سينتقل أسبوعيا إلى الرباط، وتحديدا إلى المدرسة المولوية باعتباره أستاذ الأدب العربي... عاد بنمنصور إلى سينترا غير ما مرة، كلّ شيء هو هو، الفضاء نفسه، رواده هم هم، والكلام يعاود نفسه...غير أنّ ما حدث ذات أمسية كان استثنائيا. فالموتشو يتوعّد الجميع، يصفهم ب»المطمسين»، ويستحتّهم أن يستيقظوا من سباتهم وينصتون لضيف خاص حلّ بسينترا. لم يكن هذا الضيف سوى زميل بنمنصور في المدرسة المولوية، المهدي بنبركة بلحمه ودمه. يعتلي المصطبة ويُلقي خطبة تستحث الهمم، تدعو للعقل، تؤمن بالمستقبل لتُتوّج أخيرا بسيل من التصفيقات من جموع الحاضرين. يقرّر الموتشو بمناسبة رأس السنة الميلادية (الجديدة أو القديمة) إقامة حفل خاص لن يكون أبطاله غير ناس الغيوان. غنّت المجموعة، طرب لها رواد سينترا بمن فيهم مليكة التي حضرت رفقة عشيقها الأمازيغي. وبانتهاء الحفل، وفي لهجة لم يعهدها رواد سينترا خاطب الموتشو الحاضرين قائلا : «شوفو الله يرضي عليكم، قادو الماكانات ديالكم، ما يمكنش نمشيو بعيد، وكل واحد عايش في زمان.. شي في 1946، وشي مع سيف دي يزن وعنتر بن شداد، شي يامن بالتوكال والتشيار والعين ويدّاوا بكسكسو مفتول بيد الميت، وما عرفت شنو، وشي في العصر الحجري، ما مسوق كاع، وشي في عالم الأنترنيت وبزنس كارت. وشي معانا وما معانا ويدير بحال إلا هو معانا، وإلا تزبلت إمشي من حدانا» ص139. أشياء كثيرة ستتغيّر بعد هذا الحفل. الكنفاوي خرج من سينترا تاركا أوراقه ولم يعد أبدا. وقد رأته مليكة مرتديا البياض، محلّقا في السماء. تغيّرت نظرة بنمنصور إلى الموتشو، وتغيّرت نظرة رواد سينترا إلى بنمنصور الذي أصبح جزءا منهم. تطوّرت الأمور، بنمنصور الذي تعوّد على سينترا كما تعوّدت عليه، يكتب تقارير لا تفيد في شيء. وذات أمسية، يقدّم عنيبة شخصا اسمه بوعزيز لبنمنصور، ويخبره بالحفل الذي ستقيمه الشيخة المناضلة «خربوشة» عدّوة قايد عبدة. ها هي خربوشة تغني دون أن يُفارق نظرها بنمنصور، وتسمّيه «أوريد». يتذكّر شقته في الرباط وتحديدا سنة 1996. يتساءل بنمنصور فيما إن كان فعلا هو أوريد الذي نطقت به خربوشة. فعلا الأسماء تتغيّر لكن الحقيقة تابثة، أو ربّما الزمان يدور ولكن في حلقة مفرغة. لم يكن «كازالطا» ليرتاح لتقارير بنمنصور الفارغة. يسأله عن بوعزيز، وخاصة عمّا يعرف حول الزيارة المرتقبة للسلطان إلى طنجة. وبنمنصور يتستّر عن بوعزيز، وينكر علمه بزيارة طنجة. كان لحظتها كما لو أنّه اختار طريقه ضد الإدارة الاستعمارية. في حوّ كئيب يلف سينترا، يدخل بوعزيز ليخبر الحاضرين بمذبحة ابن مسيك وما فعله الرماة السينيغاليون. بحثوا عن الموتشو دون جدوى. كلّها أحداث ستعمّق اختيار بنمنصور، وعزمه على مرافقة السلطان في رحلته إلى طنجة. لم تكن مجزرة ابن مسيك التي قيل أنّها مُختلقة لتثني السلطان عن رحلته. فكانت هذه الزيارة التاريخية مؤشرا وقتها على وحدة المغرب، وكانت خطابات الطريس والسلطان والأمير مولاي الحسن وعائشة دليلا على حسن اختيار بنمنصور لطريقه. ها هو اليوم إذن مطلوب من السلطات الاستعمارية، وقد تناهى إلى علمه حملة الاعتقالات، بل وإغلاق كاباريه «سينترا». فضّل البقاء في طنجة رفقة الطريس، ولكن إلى متى، وزوجته سوليكا في انتظاره؟ ما كان له إلا أن يعود إلى الدارالبيضاء ليتفاجأ بغياب سوليكا، ومنزل مهمل بدون كهرباء ولا ماء. وحده استدعاء إدارة الأمن كان في انتظاره. ما العمل؟ الحل الوحيد أمامه هو بوعزيز في المدينة القديمة. هكذا التقى في خندق واحد بنمنصور البورجوازي وبوعزيز الهامشي. أقام عنده لمدة، واقترح عليه بوعزيز بحثا عن حل لقاء أحد قادة الحزب الشيوعي، شمعون ليفي الذي واساه وسلّمه رسالة بخط يد سوليكا تخبره فيها بسفرها إلى فلسطين- إسرائيل. لم يعد لبنمنصور مكان بالدارالبيضاء، بل وبالمغرب فقرر الذهاب إلى القاهرة وليس غيرها. نحن الآن في سنة 2003، وها هو بنمنصور رجل طاعن في السن، يتوجّه إلى فندق روايال منصور حيث مدير الاستعلامات رفقة أحد الصحفيين في انتظاره للحديث حول أحداث 16 ماي الإرهابية بالدارالبيضاء. بمجرد استوائه على الكرسي إلى جانب مضيفه تراءى له كما لو أنّ هذه الجلسة هي استنساخ لتلك التي جمعته مع «كازالطا» رفقة صحفي ماص ذات يوم من سنة 1946. لم يعر أي اهتمام لما نطق به الصحفي من عموميات حول الحركات الإسلامية والأحياء الهامشية، ولا هو اهتمّ بحديث «المدير» المفرط في هاجسه الأمني... يستأذن بالانصراف، ويغادر الفندق في جولة قصيرة. لا شيء تغيّر، هناك اليوم كما البارحة في عهد الحماية عالمان متوازيان لا يلتقيان، بنية بوتيرتين، عصرية وتقليدية. تغيّرت أسماء الشوارع لا غير...عبر شارع الجيش الملكي، اتجه نحو عمارة الأحباس، ثمّ مارشي سانترال، وأخيرا بناية قديمة لا زالت على حالها، عنوانها «سينترا». هو الآن طريح الفراش بالمستشفى. جسد بدون لغة. تتكفل به الدكتورة فاتن التي تعلقت به بشكل يكاد يكون غير مفهوم. وتعتقد أنّ هناك شيء خفي يحجب حقيقة مرضه. تستعين بحفيدته بشرى علّه ينطق، ولكن بدون جدوى. تقرأ عليه أبياتا شعرية من ديوان صلاح الوديع، ولكن بدون نتيجة، وأخيرا تستنجد بمثقف اسمه طارق أوريد. حاولا الإثنان معا جعل المريض يتكلم. لجأ الإثنان إلى مختلف الوسائل، أسمعاه ناس الغيوان أوّلا، زجل مراد القادري ثانيا، أغاني محمد عبد الوهاب ثالثا، ثمّ الحسين السلاوي...لينطق أخيرا بصعوبة وبشكل متقطّع بكلمتين هما «س ي ن ت ر ا» و «المو ت شو»...بل وسيستطيع أن يحاور زوجته سوليكا على لسان فاتن بهمسات من أوريد وهو الحوار الذي ينتهي به حديث المؤلف عن سينترا. لقد كان للزمان دور رئيس في هذا العمل الأدبي. تارة يتجمّد، وأخرى يحلّ فيها المستقبل في الحاضر، وثالثة يختلط فيها ما مضى بما هو آني...وفي نفس السياق تحضر وقائع تاريخية معروفة، وفي مقدّمتها رحلة محمد الخامس إلى طنجة في 1947، أو مجزرة ابن مسيك، وكذا تهجير اليهود نحو فلسطين- إسرائيل أو أحداث 16 ماي الإرهابية بالدارالبيضاء...كما تحضر العديد من الأسماء الوطنية المعروفة مثل المهدي بنبركة وعلال الفاسي وشمعون ليفي...غير أنّها كلّها وقائع وأسماء بعيدة عن أن تجعل من حديث أوريد نوعا من التأريخ، بقدر ما كانت منصهرة في ما يروم الراوي حكيه دونما أيّ إقحام. تلك هي الخطوط العامة لهذه «الرواية»، أو هذا «الحديث» كما أسماها المؤلف نفسه، وهو فعلا «حديث صحيح» رواه حسن أوريد.