الزوهرة، نعيمة و الحاجة فاطمة.. ثلاث نسوة لا يعرفن بعضهن، لسن جارات ، فهن لا يسكن في نفس الحي، لم يسبق أن جمعت بينهن صداقة من أي نوع، قاسمهن المشترك، أنهن مثل أخريات عديدات قررن أن يزين مائدة الإفطار لمجموعة كبيرة من الأسر، و يدخلن البهجة على أطفالهم و يسعدن أزواجهم، فاتخذن من بيع الحلويات والفطائر مهنة تساعدهن على متطلبات الحياة. في منتصف شارع محمد البقالي الواقع وسط حي جوهرة بمقاطعة سيدي مومن بالبيضاء، تتخذ الزوهرة لها مكانا وسط الكثير من الباعة. فالمكان يعج بالمتسوقين، كما أن الحي معروف بكثافته السكانية العالية. تبيع الزوهرة الفطائر خاصة «البغرير»و «البطبوط»منذ أربع سنوات تقريبا، بعد أن جربت الأمر في رمضان قررت الاستمرار في البيع طيلة السنة، لما وجدته من إقبال من زبناء أصبحوا لما تعده من فطائر أوفياء، وشجعوها على الاستمرار و إن كان البيع في رمضان لا تضاهيه باقي الأيام. «في رمضان رغم أن الكثيرات يصبحن بائعات، إلا أن الخير يعم الجميع، فقليل منا من تعيد سلعتها. بل في بعض الأيام منا من تنتهي قبل أذان المغرب بكثير» تقول الزوهرة. يشكل التوقيت المستمر والصيام تعبا لمجموعة من النساء العاملات، فيصبح العمل داخل المطبخ بعد يوم شاق خارج المنزل أمرا لا يطاق، خاصة وان متطلبات مائدة إفطار رمضان مختلفة عن باقي الأيام، و يجب أن تضم مختلف أصناف الحلويات والفطائر، بالإضافة للشربة و أنواع متعددة من أصناف الطعام. فتجد المرأة العامل و كذا مجموعة من الرجال في ما يعرض بالأسواق و المحلات التجارية من أشكال و أصناف المأكولات المنزلية الصنع، الملجأ من تعب الوقوف ساعات طوال في المطبخ. وفي حين يلجأ البعض إلى المخبزات العصرية، تفضل مجموعة أخرى التبضع مما تعرضه النساء البائعات في الشارع العام، لثمنه المنخفض مقارنة بما يعرض في المحلات المتخصصة، ولأنه يشبه إلى حد بعيد ما يصنعنه في منازلهن. غير أن التغيرات التي عرفها المجتمع المغربي في السنوات الأخيرة ربما ساهمت في الإقبال الكثيف على ما تعرضه هذه النسوة، فقد انتهى ربما ذاك الزمن الذي كانت المرأة تقضي أياما طوالا قبل حلول الشهر الكريم في إعداد الحلويات خاصة الشباكية، وتخزينها، وما يخلفه ذلك من معاناة جسدية تفوق طاقتهان لتفضل اقتناء حاجياتها من الأسواق. ساعدها في ذلك الانتشار الكبير لهذه التجارة. ففي السنوات الأخيرة ازدادت ظاهرة تجار الحلويات المغربية و الفطائر، بل تحولت من تجارة موسمية خاصة طوال الشهر الفضيل وأيام من شهر شوال، لتصبح تجارة دائمة، خاصة مع التنوع الكبير في المعروضات المستنبطة من مطبخ مغربي غني ومتنوع. إحدى العاملات في بنك تقول: «لا يمكن تلبية طلبات جميع أفراد الأسرة، فكل واحد منا يفضل وجود نوع ما فوق مائدة الإفطار». لتضيف: «عملي المستمر لا يمكنني من إعداد كل شيءن أفضل اقتناء الحاجيات من عند هؤلاء النسوة، فقد أصبحت زبونة دائمة لهن». كثير من الناس من يختارون هذا الحل رجالا و نساء، بل إن بعض ربات البيوت أنفسهن، أصبحن يفضلن التركيز على تحضير أنواع أخرى من الأكل في منازلهن مثل الشربات، وشراء الحلويات والفطائر خاصة «المسمن»، «رزة القاضي» و«البطبوط»من البائعات، هذا الأخير يلقى إقبالا كبيرا خاصة الحجم الصغير منه والذي يتم ملؤه بمختلف أنواع الحشوة. غلاء المعيشة وراء امتهان بيع الفطائر تجلس كمجموعة من النساء أمام المسجد، ينادونها باسم نعيمة، لم يسبق لها يوما أن فكرت في الخروج من منزلها لتعرض للعموم إبداعها في الفطائر المغربية الأصيلة. تلخص الأمر في جملة تحمل أكثر من معنى: «لا احد وجدها كما رغب فيها». إصرارها على الصمت قابلته رغبتنا في معرفة الحكاية، قبلت بصعوبة و تكلمت بسرعة عن قصتها وملخصها أن الوضع المالي لزوجها كان أحد الدوافع الكبرى لاختيارها هذه المهنة، فالظروف المالية أضحت صعبة منذ أن قررا تسجيل ابنهما الوحيد في مدرسة خاصة، وإصرار مجموعة من رفيقاتها على أن تقوم بالأمر و تشجيعهن لها، ساهم في اتخاذها لقرار امتهان بيع الفطائر. تخرج كل يوم قبل صلاة العصر، حاملة قفتها الملأى بالفطائر الساخنة من مختلف الأنواع، والتي أمضت الصباح كله في إعدادها. هي الآن جزء من فضاء باحة مسجد الحي، تنتظر زبناءها من المصلين أولا، ليأتي الدور بعد ذلك على العاملات اللواتي يحرصن أغلبيتهن على اقتناء ما يشتهين من فطائر من عندها، وتغادر المكان قبل صلاة المغرب، رفقة ابنها الذي تحمله لها سيارة مدرسته الخاصة، التي كانت السبب في إخراجها من منزلها. كثيرات هن النساء اللواتي وجدن في بيع الشهيوات المغربيةن فرصة للحصول على إيراد يعينهن على ميزانية المنزل، في ظل غلاء المعيشة المتزايد ولتأمين بعض متطلبات الحياة واحتياجات أسرهن. وإن كان الأمر ليس سهلا، فالبيع آخر المراحل التي تبدأ منذ الصباح الباكر بإعداد العجين، مع الحرص الشديد على احترام المقاديرن حتى لا تفقد الفطائر مذاقها المميز وإلا سوف لن يقبل عليها المتسوقون، بالإضافة لتحمل حرارة الطهي وسط هذا الجو الحار والشهر شهر صيام، لتكون الفطائر جاهزة في الوقت المحدد. يرتفع الطلب على الغذاء بشكل كبير في رمضان مقارنة بباقي شهور السنة، ذلك ما أكدته المندوبية السامية للتخطيط في بحث لها بعنوان «أثار شهر رمضان على نمط و أسعار الاستهلاك». حيث أوضحت أن إنفاق الأسر على التغذية يزيد بنسبة 37 في المئة، كما أن النفقات ترتفع بمتوسط نسبته تفوق 16 في المئة خلال شهر رمضان. يساهم في ذلك التغير الكبير في نمط الاستهلاك الذي يميز هذا الشهر مقارنة بباقي السنة .هذا التغير في السلوك الاستهلاكي للمغاربة تجده مجموعة من النسوة مثل نعيمة، و كذا بعض الشباب، فرصة للحصول على مدخول مادي يساعدهم على متطلبات الحياة في هذا الشهر على الأقل. بيع الحلويات مهنة دائمة... بعيدا عن سيدي مومن، وسط حي البرنوصي لا تفتح الحاجة فاطمة محلها التجاري في شهر الصيام إلا في منتصف النهار، تقدم فيه الحلويات المغربية التقليدية الخاصة بالمناسبات، كالأعراس وحفلات العقيقة أو الختان. فتحت المحل منذ أكثر من ست سنوات تقريبا، بعد أن راكمت خبرة في إعداد الحلويات المغربية تفوق الثلاثين سنة. «في السابق كنت أذهب للأعراس، يطلب مني إعداد الطعام لضيوف بالعشرات، فأتكلف بجميع التفاصيل, كانت الحلويات جزءا من الطعام المكلفة بإعداده». بعد كل هذه السنوات قلت الطلبات، فالناس أصبحوا يفضلون إقامة حفلاتهم داخل القاعات المختصة بالأعراس، التي تعرض خدمة إعداد الطعام ضمن عرضهان وهو ما يختاره الغالبية» . لهذا قررت الحاجة فاطمة التخصص بالحلويات، شجعها في ذلك اعتلال صحتها وسنها المتقدم. فالخدمة في الأعراس تتطلب السهر طوال الليل لخدمة الضيوف بعد أن تكون قد قضت النهار كله في الإعداد و الطبخ. اليوم هي تراقب الأمور وتشرف على الإعداد و تقدم خبرتها لإحدى بناتها التي تساعدها في المحل رفقة امرأتين تشغلهما معها في المحل. في رمضان تقدم لزبنائها مختلف أنواع الحلويات والفطائر خاصة «المسمن»بالخليع وبالشحوم» بالإضافة إلى «الورقة البسطيلة»التي يرتفع الإقبال عليها في هذا الشهر الكريم. من أسباب التغيير... في الماضي القريب، كانت الأسر المغربية مركبة أو كبيرة، الجد - الجدة والأزواج يتقاسمون المنزل الكبير، بالإضافة للجيران، الجزء الآخر من الأسرة، ليتغير الوضع اليوم،بالخصوص في المدن الكبرى كالدارالبيضاء،حيث يغلب على الأسر الطابع النووي المتكون أساسا من الأب، الأم،و الأطفال. كما أن العلاقات مع الجيران أضحت متباعدة، فكل واحد داخل شقته لا يعرف ما يجري عند الآخر. مما زاد من خيار شراء حلويات المناسبات والأعياد من الباعة بدلا من إعدادها في المنازل. ففي السابق كان الجميع يساعد ربة البيت في إعدادها وكل واحدة تهب لتقديم خبرتها للمجموعة. بل إن ساعة الإعداد كانت لحظة فرح مستقل بذاته، فالاستعداد للعرس أو للولادة يتم لمدة أيام أو أسابيع، لتتغير الصورة تماما في هذا الزمن. الأغلبية تفضل إخراج المال والتعامل مع المختصين من متعهدي الحفلات، و من لا يملك المال الوفير فقد منحته المحلات الصغرى لإعداد الحلويات التقليدية مثل ما تقوم به الحاجة فاطمة الملاذ. حيث الأنواع المختلفة والثمن المنخفض مقارنة مع الاثمان المقدمة من طرف متعهدي الحفلات أو الموجودة في المخبزات العصرية. هن فقط ثلاث نسوة، و مثلهن عديدات، نساء بسيطات اخترن أو أجبرن على هذا العمل، تحدين الصعاب وواجهن قسوة الحياة، وعبر هذه المشاريع الصغيرة، بربحها المتواضع، يساعدن أسرهن، غير أن الأهم من كل هذا أنهن يقدمن يد المساعدة لنسوة مثلهن، فبتعبهن المضني طوال اليوم، يمنحن أخريات وقتا ثمينا لعمل أشياء أخرى و يساعدن بشكل غير مباشر، في إعداد موائد إفطار عائلات عديدة، و يشاركنها أفراحها.