لقد صارت موضوعة الجسد تستقطب اليوم اهتماما بالغا في الفكر الفلسفي والعلمي، ليس لأنها كانت موضوعة خارج التقليد الفلسفي والديني، وإنما بالنظر إليها من زوايا علمية متعددة، كالسوسيولوجيا، والأنثربولوجيا، والتحليل النفسي، والسيميولوجيا والأدب... ونحن هنا، لا نود الانخراط في تاريخ الجسد، ولكننا نرغب في الإشارة إلى أهم القضايا التي أثيرت حوله. ونعني ثلاث محطات رئيسة وهي: الفكر الفلسفي، والفكر الديني، وأخيرا الفكر العلمي. والوقوف عند هذه المحطات يشكل بالنسبة لنا خريطة طريق لملامسة واختراق الإشكالية البحثية التي اقترحنا النظر إليها. وهي محطات تشكل استئناسا أوليا لموضوعنا. بين الصورة الأولى والصورة الثانية مسافة تخييلية، إلى حدود بعيدة، تتمفصل معها الأساطير القديمة، مادام القرآن لم يعط لنبي الإسلام معجزة، كما هوالأمر عند موسى والمسيح... هذا البعد التخيلي هو ما أضاف لشخصية النبي مقاما آخر. لقد بين هشام جعيط – بكثير من الدقة –هذا الأمر عبر قراءة للسيرة النبوية من خلال النص المقدس. إذ، تنكشف العلاقة الأولى بين الله، والنبي، وجبريل، وهي "كلها مبنية على الرؤية " وتلح الرواية كثيرا فيما بعد على تخوف محمد من أن يكون أصابه جنون، بل إن تحفظ النبي و صموده أمام الشخص الماورائي وأوامره يمثل صمود الذات الإنسانية أمام الاختراق من الخارج ورفض مبدئي للائتمان، فعبارة (ما أنا بقاريء) التي تبدو مهمّة ولا تعني في رأيي "لا أُحسن القراءة" بل "أرفض أن أقرأ" لأني حر . هكذا يكون الاتصال الأولي بالرسالة الإلهية، مثلما يتبين الوضع الاجتماعي والثقافي للنبي، تشكل الصورة المرئية لجبريل والأشكال التصورية التي نحتت بها في المتخيل الديني، وهي صور تتناسل إلى حدود الإشارات التي يكون عليها النبي حين تلقيه الرسالة، وهي التمظهرات البائنة على جسده كالقشعريرة والعرق... قد نتلقى صورة أخرى لهذه العلاقة في حضرة خديجة زوجة النبي، أعني اللحظة التي سيتلقى فيها النبي الملك جبريل، وبالضبط حين تحضنه المرأة بين ركبتيها، لتحتجب فيما بعد، وليظهر ما كان سببا في تلك الرعشة التي ألمت به، إن المرأة ستحرره من ذاك المس الذي أصابه، كأنها عارفة بالحقيقة . لا عجب إذن أن تكون العلامات الأولية للنبوة ظاهرة على الجسد، ولأنه كذلك فإن الجسد النبوي سيكون مثالا وأنموذجا للإنسانية وليس للإسلام فحسب، جسد يتحدد وفق طقوسه وشعائره، وهي كلها أوامر إلهية يقوم بتنفيذها النبي دون مساءلتها، أوالبحث في ماهيتها، إنها لا تقبل سوى تصديقها ونشرها على المؤمنين والتابعين لدينه، ولأن النبي هو المؤسس لجغرافية الإسلام، فإن ذلك يتطلب تبيئة الإسلام في شبه الجزيرة العربية عبر تربية وتعليم المسلم الشعائر الدينية، إن خيال المجتمعات التي اخترقها الخطاب القرآني وترسخ فيها يستمد شكله وحيويته من هذا الخطاب بالذات. ذاك أن المعارف التوضيحية والمعيارية الصادرة عن الله والتي نقلت وطبقت من قبل النبي ليست محفوظة عن ظهر قلب ومستشهدا بها فقط، وإنما هي ملتحمة بجسد كل مؤمن (وبالمعنى الفيزيائي والحرفي للكلمة)، وذلك نتيجة للممارسات التعبدية والشعائرية اليومية التي يقوم بها المؤمن وحيدا أو ضمن الجماعة . واضح إذن العبور الذي شكله النبي، والخطاب القرآني، من مرحلة ما قبل إلى ما بعد، من مرحلة الجاهلية إلى الإسلام. وهذا العبور لا يتأتى إلا بتدبير محكم للجسد عبر تشكيله في أشكال متعددة سواء في البيت أو في الخارج، في علاقة الجسد بذاته، وفي علاقته مع الآخرين، في المسجد أو في أمكنة أخرى. إن نبي الإسلام قد بنى هذا الجسد حتى في جزئياته البسيطة، كالتغوط، والتبول، والنكاح وغيرها كثير. إنه تشريع معماري للإنسان المسلم داخل منظومة دينية واجتماعية وثقافية. وبما أن نبي الإسلام شكل أنموذجا مثاليا، فقد قام بتدبير جسد المسلم حتى يكون في كامل نقائه أمام الله، وهنا نعود إلى حديث نبوي ‹‹ألا أدلكم على ما يمحو الله به الخطايا ويرفع به الدرجات، قالوا بلى يا رسول الله قال إسباغ الوضوء على المكاره›› . إن محو الخطايا لا يتأتى إلا بذكر الله، وأن ذكر الله لا يستقيم إلا بنقاء جسد المسلم. لهذا تكون طهارة الجسد إحدى المقومات الرئيسة لطرد الشيطان بما هو خطأ، وأن تطهيره يكون باسم الله، هاهنا يعيدنا الحديث إلى ثنائية المقدس والمدنس مرة أخرى، ما دام كل طرف من الثنائية ينجذب إلى نقيضه. صحيح أن مسألة تدبير الجسد عبر تطويعه، وإخضاعه لله مسألة تتم منذ الولادة، بل قبلها، فإذا كان الله يحب الجمال، فإن المسلم وجب عليه الاحتفاء بالجمال، وليس بالقبح، وبالمتعة وليس بالحزن، وهذا ما يعبر عنه بأن الله جميل يحب الجمال، لقد صاغ النبي تقعيد هذه الرؤية الإلهية عبر حثه للمؤمنين بأن يعطوا قيمة لجسدهم في نقائه، في لباسه، في كل ما يتعلق به، وهذا ما يفيده قوله: ‹‹إنّ أفواهكم طُرق للقرآن فطيبوها بالسواك›› ، بالإضافة إلى مجموعة من الأحاديث التي تظهر ذلك، بطريقة تفيد تقيده، خاصة بالنسبة للنساء. فالنساء كما تبين النصوص الدينية وكما هو مرسخ في المتخيل الجماعي عند العرب، فتنة، ولأنهن كذلك فإنهن يخلقن الفوضى والحرب في الحواس، ثمة نصوص –سنعود إليها في الباب الثاني من هذا البحث- تبين ذلك، وتروم حجب المرأة كليا، باستثناء الطاعنات في السن، بل حجب صوتهن كأن الصوت إغراء، وكأنه إسقاط آخر في الخطأ، وهذا ما تشير إليه مجموعة من القصص التي حدثت للنبي. في القرآن يظهر الجسد، لكنه سرعان ما ينكشف بشكل إجرائي في السنة، فالعلاقة بينهما (بين النص القرآني والحديث النبوي) علاقة تبليغ، من مرسل إلى مرسل إليه. وقد نستثمر ما قاله هشام جعيط بوضوح ‹‹إن هدف الدين الإيمان، والإيمان معنيان: الإذعان الحر لما أتى به الدين وتصديقه في كل أمر، ومنح الثقة للمؤسس في أن قوله هوالحق، وهي كلمة تتردد في القرآن. فليس النبي بفيلسوف أو حكيم يبحث عن الحقيقة، بل صيغة التأكيد، ووسيلة التبليغ، ومطلبة التصديق. فهو انما يتلقى الوحي بصفة سلبية، فلا يجادل فيما تلقاه ويبلغه كرسول. والرسول غير مسؤول عن محتوى الرسالة›› . لا غرابة إذن أن تفتح هذه العلاقة النصية بين الكتاب المقدس والنبي قراءات متعددة والتي سيتم بمقتضاها توسيع الأفق التأويلي للجسد. إن القراءات تلك في تعددها واختلافات مرجعها، والأفق الانتظاري لها، هي ما تضعنا أمام تماس حقيقي لإشكالياتنا الرئيسة في هذا البحث، إن اتساع رؤية المؤول حسب ظرفيته ومقامه ومرجعه وخلفياته أعطى ثراء معرفيا للجسد، ولأننا لا يمكننا المكوث في المكتبة التراثية زمنا طويلا أو أطول مما تبقى من العمر، فإننا سنقتصر على تصورين مختلفين، واحد لحجة الإسلام أبى حامد الغزالي، والآخر لمحيي الدين ابن عربي.