لقد سبق أن أوردنا في الأجزاء السابقة (الأول والثاني) من هذه الدراسة جملة آراء تعترض على قدسية وأفضلية اللغة العربية على غيرها من اللغات. هذا وقد حاولنا أيضا التطرق إلى العوامل الموضوعية التي كانت وراء بروز اللغة العربية خلال نهاية القرن الذي عرف بزوغ الإسلام. هذا بالإضافة إلى تأكيدنا على أن مسألة اللغة هي ظاهرة اجتماعية تاريخية وليست ظاهرة دينية تستوجب التقديس والتفضيل كما هو الأمر عليه الآن، انطلاقا من اعتبارها " لغة القرآن"، وهذا يعنى أن اللغة سابقة عن ظاهرة الوحي(22). وفي نفس المضمار أكدنا أيضا بأن القرآن الكريم لم ينزل دفعة واحدة، وعلى شكل كتاب جاهز للقراءة والاطلاع حتى يتسن لنا القول بأنه (= القراَن) نزل بالفعل باللغة العربية؛ أو بمعنى أدق القراَن لم ينزل على شكل كتاب مكتوب باللغة العربية، وإنما نزل على شكل وحي وعبر مراحل متعددة، تماما كما يخبرنا بذلك القراَن نفسه، لهذا فإن اللغة العربية استعملت فقط في كتابة القراَن بعد نزوله على النبي محمد عن طريق الوحي، والفرق بين الحالتين – بين حالة نزول القراَن مكتوب باللغة العربية على شكل كتاب جاهز للقراءة والاستعمال وبين حالة استعمال الإنسان للغة العربية في كتابته للقراَن– فرق شاسع جدا. فبدون أدنى شك، كان من الممكن أن يكتب القراَن بلغة أخرى غير العربية لو كان النبي من أصول غير عربية، كما هو وارد وواضح جدا في العديد من الآيات القرآنية التي تخبرنا بهذا الأمر المنطقي، حيث يقول سبحانه وتعالى في سورة إبراهيم (الآية 4)، ((وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم )). نستنتج من الآية أمرين مهمين للغاية، أمرين سبق الإشارة إليهما في الفقرات السابقة من هذه الدراسة، الأمر الأول هو أن الله سبحانه وتعالى أرسل رسولا - قبل محمد - بلسانهم (= لغتهم) ؛ أي بلغات مختلفة، وهذا دليل كافي على أن اللغات عند الله متساوية. وهذا الأمر في حد ذاته يتناقض مع الموقف والرأي القائل بأن الله قد فضل وشرف اللغة العربية باعتبارها " لغة القراَن" كما يزعم الذين يدافعون عن اللغة العربية. والأمر الثاني هو أن اللغة هي مجرد أداة للتبليغ فقط، حيث تؤكد لنا العديد من السور والآيات القرآنية هذه الحقيقة الساطعة، ومنها على سبيل المثال وليس الحصر الآية الكريمة التي تقول(( كتاب فصلت آياته قرانا عربيا لقوم يعلمون))، فكلمة يعلمون الواردة في الجزء الثاني من الآية الكريمة تعنى العربية، بمعنى أن المشركين الذين كانوا يجادلون الرسول حول حقيقة الرسالة التي جاء بها كانوا يعرفون العربية(23). ومن هنا يمكن القول بأن وجود بعض الآيات في القراَن، التي تؤكد لنا ظاهريا على أنه (= القراَن) نزل بالعربية هي آيات لها علاقة - أساسا - بالجدل الذي كان قائما بين الرسول والمشركين (قريش) حول طبيعة وأهداف الرسالة التي جاء بها النبي محمد، حيث يقول سبحانه وتعالى في سورة الشعراء، الآية 199/198 ما يلي (( ولو نزلناه على بعض الأعجمين فقرأه عليهم ما كانوا به مؤمنين))، ويقول القراَن أيضا مخاطبا للرسول(( ما يقال لك إلا ما قد قيل للرسل من قبلك)). تؤكد هذه الآيات - وبشكل وأضح جدا - وجود حالة من الصراع والخلاف بين الرسول والمشركين حول طبيعة ومضمون الدين الجديد (= الإسلام)، وهو الأمر الذي أدى بالقراَن إلى تأكيده مرات عديدة على أنه نزل بالعربية. وهذا شيء منطقي وطبعي جدا، نظرا لوجود اعتبارات دينية/أخلاقية ومنهجية تعمل على تحقيق إرادة الله في نشر رسالته بين كافة الناس ، وهذا الأمر يحقق أيضا نوع من الانسجام والترابط بين النصوص القرآنية، فلا يعقل على سبيل المثال أن يخاطب الله ( عن طريق جبريل) نبيه محمد بالفارسية بينما أن النبي وقومه لا يعرفون الفارسية!!. لهذا كان من الضروري والمنطقي، خاصة في سياق الصراع الذي كان يخوضه النبي مع خصومه (المشركين) أن ينص القراَن في بعض آياته على أنه نزل بلسان عربي، أولا لكون أن النبي عربي ويتحدث بالعربية. وثانيا لكون أن المجتمع الذي استهدفه الدين الجديد للوهلة الأولى؛ وهو المجتمع العربي، أفراده يتكلمون العربية كذلك. ومن أجل نشر ومعرفة مقاصد الدين الجديد، كان من الحتمي أن يكون هناك انسجام بين لغة الوحي(القراَن) ولغة المتلقي (لغة النبي) حتى يفهم ويستوعب النبي، ومن بعده المجتمع العربي (القريشي) آنذاك مقاصد وأهداف الرسالة التي بعثها الله عن طريق محمد، وبالتالي يمكن نشر القيم والمبادئ التي يحملها الدين الجديد، ومنها الإيمان بالله الواحد، العدالة الاجتماعية، الحرية، المسؤولية، الأمانة، المساواة، الرحمة، التضامن، التواضع وغيرها من القيم والمبادئ الأساسية والجوهرية في الإسلام. لهذا فإن مسألة فهم واستيعاب محمد والمجتمع الذي يعيش فيه لفحوى الرسالة التي بعثها الله إلى محمد عن طريق جبريل هي مسألة مهمة وضرورية لتحقيق أهداف الرسالة سواء داخل المجتمع القريشي آنذاك أو خارجه (تحقيق عالمية الرسالة ). انطلاقا من هذا التحليل يمكن لنا القول بأن المقصود من الآيات التي تتناول عربية القراَن ليس هو ما يفهم عادة من ظاهر تلك الآيات نفسها. هذا من جهة، ومن جهة أخرى يمكن لنا القول كذلك بأن لغة القراَن (الرسالة) الذي جاء به محمد بن عبد الله للناس كافة لها علاقة مباشرة بالشخص (النبي) أولا، وبالمجتمع الذي يقيم فيه الرسول ثانيا، وليس بالرسالة نفسها. وبالإضافة إلى هذا حاولنا أيضا خلال الجزأين السابقين معالجة التناقض الموجود – وهو تناقض فادح وخطير - بين الرأي القائل بنزول القراَن باللغة العربية وبين مضمون وجوهر الإسلام نفسه، بحيث لا ينسجم هذا الرأي بتاتا مع مضمون وجوهر الإسلام من جهة، ولا ينسجم كذلك مع الواقع التاريخي الذي يؤكد لنا أمور وحقائق تتناقض كليا مع المبررات التي يقدمها المدافعين عن هذا الرأي من جهة ثانية. وخلاصة القول اننا نستفيد من ما تقدم ذكره من الأفكار والأسئلة حول إثبات ما نحاول إثباته من كون أن مسألة نزول القراَن باللغة العربية هي مسألة واهية لا أساس لها من الصحة بتاتا، سواء إذا ما نظرنا إلى الأمر من الزاوية الدينية نفسها؛ نقصد هنا دراسة أسباب نزول الآيات التي تتناول عربية القراَن أو إذا ما دققنا البحث أكثر في مسألة ظهور الإنسان للوهلة الأولى، حيث يطرح هذا الموضوع عدة أسئلة وإشكالات عويصة للغاية، فكيف يمكن على سبيل المثال القول بأن القراَن نزل بالعربية، بينما نجد الآراء والمواقف التي تتناول قضية تكوين الكون ونشأته تتضارب وتتباين فيما بينها إلى حدود التناقض، فمثلا: ماذا خلق الله في بداية تكوين ونشأة الكون، هل خلق القراَن أولا أم أنه خلق اللغة العربية التي " نزل " بها القراَن ؟ فالمنطق يفرض أن الله خلق اللغة العربية قبل أن يخلق القراَن أم إذا كان العكس فهذا يعنى أن لغة القراَن الذي نزل خلال المرحلة الأولى إلى الوح المحفوظ ليست هي العربية. وهل خلق الله الإنسان أولا (ادم عليه السلام) أم أنه خلق اللغة العربية قبل أن يخلق الإنسان والقراَن؟ وإذا كان الله سبحانه وتعالى خلق للوهلة الأولى القراَن والعربية؛ لكون أن القراَن نزل بالعربية كما يقول البعض، فلماذا خلق الله اللغات الأخرى؟ وما هي اللغة التي تكلمها ادم لما خلقه الله؟ وما هي اللغة التي استعملها الله لما كلم موسى؟. وماذا نقول عن الآية الكريمة التي تقول (( وجعلنا من الماء كل شيء حي)) سورة الأنبياء. وهل خلق الله في بداية الأمر القلم أم أنه خلق العقل؟(24). تلك كلها أسئلة قد يثيرها الموضوع، وكلها أسئلة مشروعة وحرجة، خاصة في ظل سيادة وانتشار الوعي الديني التقليدي، الذي يتحرك فيه معظم المغاربة. هذا من جانب، ومن جانب آخر هناك أيضا التاريخ الإسلامي، وخاصة تاريخ ما بعد الخلافة – خلافة الراشدين - فالي جانب التطورات السياسية والصراعات الدموية التي نشبت بين المسلمين بعد تولى عثمان مقاليد الخلافة، وخاصة بعد اغتياله وتولى علي ابن أبي طالب الخلافة بعده، وبروز الأمويين على مسرح الأحداث كقوة سياسية وحربية/عسكرية قوية، كانت هناك أيضا حركة فكرية/ثقافية مهمة جدا، حيث شكل موضوع اللغة – أي اللغة العربية - أحد ركائز هذه الحركة التي بدأت مع انطلاق عملية إعادة جمع وتدوين القراَن خلال ولاية عثمان، وهي الحركة التي أسست النواة الأولى لظهور الفكر الإسلامي والعلوم الإسلامية أو ما سار يعرف حاليا " بالعلوم العربية – الإسلامية "، ليس فقط لكون أن اللغة العربية كانت أساسية في عملية الكتابة والتدوين أو لكون أن الأمويين جعلوها لغة رسمية لدولتهم، بل وحتى خارج المنطقة العربية آنذاك( الجزيرة والشام)، حيث امتد الأمر إلى الأمصار الأخرى التي احتلتها الجيوش العربية تحت ذريعة نشر الإسلام ( مصر وشمال أفريقيا مثلا)(25) ، بقدر ما أن اللغة العربية نفسها عرفت خلال هذه المرحلة تطورا مهما للغاية في مسار انتقالها من اللهجة إلى اللغة، بحيث تم خلال هذه المرحلة وضع وضبط قواعدها (النحو ..) كلغة(26). لقد عرفت هذه الحركة – نقصد هنا الحركة الفكرية التي انبثقت مباشرة بعد إجراء عملية جمع وتدوين القراَن- خلافات وصراعات فكرية/ فقهية عويصة بين المؤيدين للسلطة والمعارضين لها من جهة، وبين المسلمين العرب والمسلمين من الجنسيات والأقوام الغير العربية من جهة ثانية. ونشير في هذا الصدد إلى الخلاف السياسي والفقهي العويص الذي نشب بين الفقهاء حول إقامة وأداء الصلاة باللغات المحلية الأصلية (باللغة الفارسية، الكردية والأمازيغية مثلا)، حيث أجاز أبي حنيفة مثلا قراءة الفاتحة أثناء الصلاة بغير اللغة العربية(27). ومن الجدير بالملاحظة أن الكثير من الكتاب والمثقفين الذين يقولون بهذا الرأي؛ أي الرأي القائل بأن القراَن نزل بالعربية، يعون جيدا حقيقة أسباب نزول الآيات التي تتناول عربية القراَن، كما يدركون تمام الإدراك التناقضات الجسيمة التي يقعون فيها حينما يقومون بالجمع بين الدين والعلم، وبين الدين والتاريخ، وبين الدين والسياسة أيضا، كما أنهم لا يقدمون إجابات شافية ومقنعة للملاحظات التي يثيرها المناهضين لهذا التصور(28). ومن أجل تفعيل النقاش، نفترض جدلا أن القراَن الكريم نزل بالفعل باللغة العربية كما هو شائع ومتداول بين معظم الناس، وبالتالي فإن اللغة العربية هي لغة الله وبها سيحاسبون يوم القيامة، فلماذا لم يجعل الله مسألة إتقان ومعرفة اللغة العربية شرط من شروط اعتناق الإسلام؟ وأيضا كيف يوجه الله رسالته (القراَن) إلى الناس كافة باللغة العربية وهو يعلم جيدا أن هؤلاء الناس لا يعرفون (= يتحدثون) هذه اللغة (= اللغة العربية )؟. وكيف نفسر اعتراف القراَن بالتعدد اللغوي والثقافي في سورة الروم(الآية 22) وبين تأكيد بعض الكتاب والمثقفين على قدسية وأفضلية اللغة العربية؟. الم يؤكد القراَن الكريم والسنة النبوية على أن دخول الجنة سيكون على أساس التقوى وليس على أساس إتقان اللغة العربية؟.(29) نضيف إلى هذه الأمور كلها وجود إشكالات أخرى تعترض الرأي القائل بنزول القراَن باللغة العربية، ومن بين هذه الإشكالات التي كثيرا ما اشتغل بها الفكر العربي – الإسلامي مند ظهوره ونشأته إلى يومنا هذا، هي مسألة وجود كلمات غير عربية في القراَن، وإذا كان الأمر على هذا النحو فكيف يمكن القول بأن القراَن نزل باللغة العربية؟. وهناك أيضا مسألة " الحروف السبعة" التي قرأ بها القراَن قبل أن يتم جمعه وتدوينه بلغة قريش أثناء عهد خليفة عثمان، والحروف السبعة حسب الطبري هي اللهجات العربية التي كانت قائمة أثناء نزول الوحي على الرسول(ص).(30) على أية حال، عندما نقوم بصياغة هذه الأسئلة المحرجة والمستفزة في نفس الوقت فإننا لا نسعى من صياغتها إلى التنقيص من شأن القرآن أو اللغة العربية، كما ورد في ردود بعض القراء (31)، وإنما نحاول فقط إعادة صيغة بعض الحقائق الدينية والتاريخية التي تناولتها العديد من المؤلفات والدراسات التاريخية حول الموضوع، ونسعى في نفس الوقت إلى دحض الأسس الإيديولوجية للرأي القائل بنزول القراَن باللغة العربية، وهو رأي وموقف سياسي بامتياز. هذا بالرغم من طابعه الديني ظاهريا، بحيث أن موقف القرآن من مسألة التعدد اللغوي هو موقف واضح لا غبار عليه، فالقرآن لا يلغي الخصوصيات الثقافية واللغوية للشعوب الغير العربية كما سبق الإشارة إلى ذلك مرات عديدة. وإلى جانب هذا كله، حاولنا أيضا – وبكل موضوعية - استعراض أهمية الاعتراف الدستوري باللغة الأمازيغية كلغة رسمية إلى جانب اللغة العربية، وبالتالي تسليط الضوء على واقع اللغة الأمازيغية في بلادنا من جهة، ودحض الادعاءات والافتراءات الإيديولوجية التي يصوغها بعض المثقفين والكتاب المغاربة المناهضين لدسترة اللغة الأمازيغية في الدستور المنتظر كلغة رسمية من جهة ثانية. وفي ذات الاتجاه حاولنا أيضا توضيح السياقات التاريخية التي أدت، بشكل مباشر أو غير مباشر، إلى هيمنة وسيطرة اللغة العربية على مناطق شاسعة خارج موطنها الأصلي(= الجزيرة العربية)، خاصة بعد انفراد الأمويين بالسلطة. أما في هذا الجزء فاننا سنحاول التطرق، ولو بإيجاز شديد، إلى مناقشة علاقة القراَن باللغة العربية، والسؤال الجوهري والأساسي الذي سنحاول الإجابة عليه هو: لماذا أكد القراَن على أنه عربي ؟ وما هي الأسباب والدوافع التي جعلت القراَن يؤكد على هذا الأمر؟. عربية القراَن بين الحقيقة والأسطورة؟ صحيح أن القرآن يحتوي على مجموعة من الآيات التي تتناول عربية القرآن، وهي الآيات التي يتم استعمالها واعتمادها من قبل بعض الكتاب والمثقفين المغاربة لتقويض حق الأمازيغية في الدستور المرتقب كلغة رسمية للبلاد، وبالتالي تحقيقها (اللغة الأمازيغية) للسيادة الكاملة في وطنها التاريخي وضمان استمرارها وتطورها، لكن دون أن يتطرق هؤلاء الكتاب والمثقفين إلى أسباب نزول هذه الآيات وأهدافها العامة والخاصة. هذا من جهة، ومن جهة أخرى لم يعد في استطاعة هؤلاء الكتاب والمثقفين المناهضين للحق الأمازيغي في وجودهم الطبيعي والتاريخي فوق وطنهم وأرضهم إخفاء السياق الذي تناولت فيه بعض السور والآيات القرآنية عربية القرآن، دون أن يفيد ذلك بأفضلية وقداسة اللغة العربية على غيرها من اللغات، ليس لكون أن اللغة العربية استعملت فقط كأداة في إقناع المناهضين للنبي وإنما لكون أيضا أن مسألة تفضيل وقداسة اللغة العربية يتناقض مع جوهر الإسلام ومع العدل الإلهي كذلك. إذن، انطلاقا من هذا المنظور نرى أن ما ورد في بعض الآيات القرآنية حول اللغة العربية كالآية التالية(( أنا أنزلناه قرانا عربيا)) أو غيرها من الآيات التي تتناول عربية القرآن هو شخصية النبي (ص) وليس القرآن نفسه. وهذه الآيات موجهة كلها إلى قريش حيث أراد الله أن يقول لقريش، ومن خلال هذه الآيات، أن النبي محمد شخص عربي منكم ويتكلم لغتكم، لهذا فهو (أي النبي) فسيح أللسان وصريح الحديث معكم كما هو واضح من الآية التالية { أنا أنزلناه بلسان عربيا مبين } فلماذا لا تؤمنون به؟. تحاول هذه الآيات، بشكل عام، مع اختلاف سياق نزولها (سبب النزول) إقناع قريش بنبوة محمد (ص) وحقيقة الوحي مستعملة في ذلك اللغة لإقناعهم بنبوة محمد وصدق رسالته.(32) وفي سياق تأكيد علماء الأمة بأن القرآن نزل عن طريق الوحي، والوحي في القاموس المحيط هو " الإشارة والإلهام والكلام الخفي وكل ما ألقيته إلى غيرك "(33)، تقودنا هذه الفكرة إلى طرح سؤال آخر لا يقل أهمية عن الأسئلة السابقة وهو: هل تكلم جبريل مع النبي (ص) لحظة الوحي؟. وإذا كان الجواب بنعم (كما يقول البعض) فما هي اللغة التي تكلم به جبريل مع النبي (ص)؟ ولماذا لم يتناول القرآن هذا الأمر؟. نضيف إلى هذا مسألة في غاية الأهمية وهي ضرورة معرفة أسباب نزول الآيات التي تتناول عربية القرآن، وذلك حتى يتسنى لنا معرفة موقع ومكانة اللغة العربية في القرآن بعيدا عن علاقة ذلك بالنبي الشخص، فلو كان النبي محمد (ص) على سبيل المثال فقط من الهند أو فارس أو من الأمازيغ أو غيرهم من الأقوام؛ أي أنه ليس عربيا، فهل كان القرآن سينزل باللغة العربية أم بلغة أخرى، مصداقا لقوله تعالى (( وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم)) سورة إبراهيم /الآية 4 ؟؟. ومن أسباب نزول الآية التالية {أنزلناه قرآنا عربيا} على سبيل التمثيل فقط ، هو اتهام قريش للرسول بسرقة واخذ العلم عن رجل أعجمي، حيث رد عليهم القرآن بهذه الآية الكريمة(34). وهذا لا يفيد طبعا قداسة وأفضلية اللغة العربية أطلاقا، وإنما تفيد وتعنى، في تقديرنا الخاص، بأن النبي لا يعرف لغة العجم وإنما يتحدث فقط باللغة العربية، فكيف سيأخذ النبي العلم من رجل أعجمي وهو يعرف اللغة العربية فقط؟. وهذه القضية – أي اتهام قريش للنبي بسرقة العلم من رجل أعجمي – وإجابة القرآن على هذا الأمر، يقودنا إلى إشكالية أخرى، إشكالية القراءة والكتابة عند الرسول (ص)، وبعبارة أدق، هل كان النبي محمد بالفعل أمي بمعنى أنه لا يعرف القراءة والكتابة أم أنه كان مثقفا ومتعلما؟، فالقرآن لم يؤكد هذه المسألة بالمرة، ولم يشر أليها بتاتا، ومن هنا نفهم أن إشاعة الفكرة حول أمية الرسول (ص) عند عموم المسلمين مند عهد النبي إلى يومنا الراهن هو قول وكلام يمكن إدراجه ضمن مخطط الدعوة والثورة التي قادها النبي محمد (ص) ضد قريش وثقافتهم، وخاصة ثقافتهم الدينية، ولا يعبر عن الحقيقة؛ حقيقة معرفة النبي محمد للقراءة والكتابة. فالقول بأن النبي محمد (ص) كان أمي لا يعرف القراءة والكتابة قولا غير صحيح في نظر العديد من المفكرين الإسلاميين الحداثيين، فكيف يمكن القول أن النبي لا يعرف القراءة والكتابة ونحن ندرك جيدا أن أول سورة نزلت في القرآن، وبإجماع علماء المسلمين عبر التاريخ، هي سورة (( اقرأ باسم ربك))، وكلمة اقرأ هنا جاءت على شكل أمر، والآمر هنا يتعلق بالقراءة، فكيف سيقول الله للنبي اقرأ وهو (أي الله) يعلم أن النبي لا يقرأ ولا يكتب ؟ هل يعقل أن يقال هذا على الله ؟ زيادة على هذا فإن عملية القراءة تستوجب وجود شيء ما مكتوب على الورق(الكتاب) حتى يمكن للنبي قرأته، وهذا غير موجود وفق القرآن وبإجماع علماء المسلمين كما قلنا سابقا. ومن جانب آخر تخبرنا المصادر التاريخية أن الرسول (ص) لما اشتد عليه المرض قبل وفاته طالب من المرافقين له (المحيطين به) أن يمده بالقلم (دواة وقرطاسا) ليكتب لهم كتابا قال إنهم لن يضلوا به بعده(35)، والسؤال المطروح هنا هو ليس ماذا كان يريد الرسول أن يكتب فهذا موضوع آخر، وإنما هو كيف سيكتب الرسول وهو أمي لا يعرف القراءة والكتابة؟. وربما، سيجيب البعض ويقول لنا بأن الرسول (ص) تعلم الكتابة والقراءة خلال الفترة الممتدة بين نزول الوحي وانتهائه، هذا الأمر ممكن من الناحية النظرية طبعا، ولكن جميع الكتب التاريخية والمراجع الدينية التي اطلعنا عليها لا تتناول هذه المسألة، وفي المقابل هناك بعض المصادر التاريخية التي تؤكد أن الرسول (ص) كانت له دراية ومعرفة واسعة بالقراءة والكتابة، وكذلك بالحضارات المجاورة للعرب آنذاك، حيث كانت التجارة التي اشتغل بها الرسول بعد زواجه بخديجة أثار كبير في تشكل وتكوين الوعي لدى الرسول(ص). لهذا فإن المقصود بكلمة اقرأ الواردة في الآية الكريمة حسب المفكر العربي السوري طيب تيزيني هي ردد وليس المعنى الظاهري للكلمة التي تعنى القراءة الفعلية، أما إذا قلنا أن كلمة اقرأ تفيد وتعنى القراءة الفعلية المباشرة، فهذا سيقودنا إلى إشكاليات ومتاهات أخرى، ومنها مسألة التناقض والتضارب بين الآيات القرآنية إذا ما انطلقنا من ظاهر الآيات وليس من جوهرها وسياق نزولها. فإذا كان المقصود بكلمة اقرأ هي القراءة الفعلية فهذا يستوجب وجود شيء مادي ومحسوس، مخطوط ومكتوب (كتاب أو صحيفة مثلا)، وهذا يتنافى مع الآيات التي تقول بأن القرآن نزل على شكل وحي، ومنها الآية التالية(( وقال الذين كفروا لولا نزل عليه القرآن جملة واحدة كذلك لنثبت به فؤادك ورتلناه ترتيلا }(الفرقان 32 -33 ) أو الآية الكريم (( إن هو إلا وحي يوحى))(النجم 4). أو (( ولا تعجل به لسانك إنا علينا جمعه وقرانه)). وقبل أن نترك هذه النقطة نشير هنا إلى أن الآيات التي تشير إلى أمية النبي كما فسرها معظم المسلمين، ومنها الآية التي تقول (( النبي الأمي)) وبأنه (( نبي الأميين)) (الأعراف 157) أو الآية الكريم التالية (( بعث في الأميين رسولا)) (الجمعة 2)، فأنها لا تفيد الأمية بالمعنى المباشر للكلمة، وهي عدم معرفة القراءة والكتابة. وإنما تفيد حسب المفكر التونسي هشام جعيط " يعنى المبعوث من غير بني إسرائيل " وكلمة ((أمي)) و((أميين)) في اللغة العبرية حسب نفس المفكر تعنى " أمم العالمين من غير بني إسرائيل" (36). انطلاقا من هذا التصور نقول أن الحديث عن اللغة العربية من المنظور الديني – أي انطلاقا من بعض الآيات القرآنية التي وردت حول اللغة العربية - وهي آيات لا تعني التفضيل والتقديس إطلاقا، يجب فهمها في سياق وظروف نزولها، أي يجب معرفة أسباب نزول تلك الآيات. هذا من جهة، ومن جهة ثانية يجب التمييز بين الإسلام كدين الهي مقدس وبين الهوية العربية التي تتجاوز حدود الدين إلى أمور لا علاقة لها بالدين ومنها التاريخ العربي، والثقافة العربية، والأرض العربية، واللغة العربية. فهذه الأمور هي أمور خاصة بالشعب العربي فقط، بينما أن الإسلام هو لجميع الناس. والإسلام كما هو معروف لا يلغي خصائص الشعوب الأخرى، فالإنسان الفرنسي على سبيل المثال عندما يغير ديانته وقناعاته الدينية ويصبح مسلما، فهذا لا يعني أن هذا الإنسان أصبح عربيا، وبالتالي يجب عليه التخلي عن تاريخه ولغته وثقافته، بل والهجرة أيضا من بلده (فرنسا) إلى البلاد العربية لكونه أصبح عربيا بفضل اعتناقه للإسلام. ومن هذه الزاوية تحديدا نقل نعم نحن (الشعب الأمازيغي) مسلمون ولسن عرب ولا نريد أن نكون كذلك. أما الذين يقولون أن الله سبحانه وتعالى سيحاسبنا يوم القيام باللغة العربية، فهذا كلام مضحك ومبكي في نفس الوقت، فكيف يمكن للمرء أن يقول مثل هذا الكلام في حق الله؟ هذا كلام خطير للغاية، كلام ينقص من قدرة وعظمة الله، واستطيع الجزم أن معظم الذين يقولون هذا الكلام لا يدركون في العمق ماذا يقولون، هل يعني هذا أن الله لا يستطيع التحدث باللغات الأخرى مثل الأمازيغية والفرنسية والاسبانية والهولندية والانجليزية وغيرها من اللغات؟. وهل يعنى هذا أن كل الذين لا يتحدثون( يتكلمون) باللغة العربية سوف لا يحاسبهم الله يوم القيامة لكون أن الله لا يتحدث بلغتهم؟ وإذا كان الجواب بنعم فما جدوى الوعود التي قدمها القرآن للكفار حول العذاب الأليم يوم القيامة ؟ فهل سيعاقبهم الله دون حسابهم؟ وأين عدل الله في هذه الحالة؟ على أية حال، سنكتفي بهذا القدر في موضوع اللغة العربية، وعموما فأن ما نلاحظه، ويلاحظه غيرنا كذلك، في تعامل النخبة المغربية عموما، والنخبة الإسلامية بالخصوص، هو انتقادها للخطاب الأمازيغي، وفي غالب الأحيان، دون الاطلاع على المواقف الحقيقية للحركة الأمازيغية من القضايا التي تطرحها أو تطرح عليها، فهكذا يتم الاعتماد، وفي معظم الحالات، على تصريحات بعض الفاعلين الأمازيغيين فقط، وهي تصريحات شخصية أولا وأخير، ولا تعبر بالضرورة على مواقف الحركة الأمازيغية، وتعتمد على التخمين والتأويل كذلك، وهي في معظمها قراءات ذاتية شخصية سياسية غير موضوعية. يتبع محمود بلحاج/ فاعل أمازيغي [email protected] بعض الهوامش: 22: نصر حامد أبو زيد المرجع السابق 23:الدكتور محمد عابد الجابري " مفهم القراَن الحكيم: التفسير الواضح حسب ترتيب النزول" الجزء الثاني الصفحة 117– منشورات مركز دراسات الوحدة العربية . 24: انظر حول هذا الموضوع كتاب " صحيح البيان: في الرد من خالف القراَن" تأليف الشيخ عبد الله الهرري – منشورات دار المشاريع للطباعة والنشر الطبعة الأولى 2003 من صفحة 210 ما بعدها 25: نصر حامد أبو زيد المرجع السابق 26: حسين مروة المرجع السابق 27: نصر حامد أبو زيد المرجع السابق 28: من الغريب أن معظم الكتاب والمثقفين المغاربة – إسلاميين كانوا أو يساريين – يتذمرون وينفجرون غضبا عندما يتطرق احد الكتاب الأمازيغ إلى مسألة اللغة العربية أو الوجود العربي في شمال أفريقيا أو تاريخ ما يسمى " بالحركة الوطنية" أو غيرها من القضايا التي يشتغل عليها الفكر الأمازيغي المعاصر، بينما هم أنفسهم يقولون ما يشاءون في الأمازيغ وتاريخهم ولغتهم وثقافتهم. 29: هناك العديد من السور والآيات القرآنية والأحاديث التي تؤكد أن التقوى هي الأساس في تعامل الله مع عباده وليس اللغة ومن بينها الحديث النبوي المعروف " لا فضل لعربي على أعجمي إلا بالتقوى " 30: نصر حامد أبو زيد المرجع السابق 31: توصلنا عبر بريدنا الالكتروني بالعديد من الشتائم والتهديدات ، ومنها اتهامنا بالعنصرية والمؤامرة ومناهضة العرب والإسلام وغيرها من التهم الرخيصة والمجانية. 32: هشام جعيط " في السيرة النبوية : الوحي والقراَن والنبوة " عن دار الطليعة للطباعة والنشر – بيروت 33: المرجع السابق حامد نصر أبوزيد و هشام جعيط. 34: المرجع السابق هشام جعيط 35: هادي العلوي " في السياسية الإسلامية: فصول من تاريخ السياسية والفكر السياسي في الإسلام" عن دار صحارى للصحافة والنشر. 36: المرجع السابق هشام جعيط