بعد الاستسلام غير المشروط للجيوش اليابانية شهر غشت 1945، دخل اليابان مرحلة ما بعد الحرب. والكل يعلم أن هذه المرحلة تطابق ما يُسمى «بعد التحرير» في كل من كوريا والتايوان، التحرير من وضعية المستَعمَر من طرف الإمبراطورية اليابانية العظمى. بصيغة أخرى، فما بعد الحرب بالنسبة لليابان يعادل مرحلة ما بعد التحرير بالنسبة للأراضي التي ظلت مستَعمَرة حتى ذلك الوقت، التايوان وشبه الجزيرة الكورية ( وكذلك بالتأكيد منشوريا، مكرونيزيا وساخالين). لذلك، يمكن كذلك تسمية أدب ما بعد الحرب أدب فترة ما بعد التحرير، أو الفترة ما بعد الكولونيالية. الحال أننا، في يابان ما بعد الحرب، نجد أن فكرة كون أدب ما بعد الحرب (الأدب الذي استمر لمدة طويلة والذي لا يزال مستمرا إلى غاية اليوم على مستويات كثيرة) أدب ما بعد كولونيالي ونادرا ما تم الوقوف عنده. يعني «الأدب ما بعد الكولونيالي» في اليابان «الأدب الذي تلا ضياع المستعمرات»، والذي لا تمكن مماثلته بما يُسمى كذلك في جهات أخرى: لا يتعلق الأمر هنا بأدب المستعمرات القديمة، بل بأدب القوى الكولونيالية سابقا. مهما كان الأمر، فإن تاريخ أدب ما بعد الحرب، وبما أن الأبحاث التي تهم هذا المجال لا تخصص أي مكانة لهذا «الأدب الذي تلا ضياع المستعمرات»، فإنه من الصعب جدا تجميعه ضمن تسمية «تيار المُرَّحلين» ويضم عددا من الروائيين الذين تُغذي أعمالهم أدب التسلية. وينحدر من هذا التيار روائيون عادوا من كوريا بعد الهزيمة (إيتسوكي هيرويوكي، كيجاياما توشييوكي،)، من الصين (إيكوشيما جيرو)، من منشوريا (أويابو هاروهيكو، أونو كويشيرو)، الذين سجلوا بداياتهم في المشهد الأدبي خلال الستينيات، في نفس وقت ظهور كتاب آخرين ينتمون لتيار «الدمار والسوق السوداء» أمثال نوساكا أكييوكي، والذين سيصنفهم النقد الصحفي ككتاب لأدب جديد موجه للجمهور العريض. لم تتم المماثلة بهذا التيار، «تيار المرحلين»، بالنسبة لروائيين اعتُبروا كتاب «أدب خالص» أمثال كوتو ميييسي، هينو كايزو، كوباياشي ماسارو، رغم انحدارهم هم أنفسهم من أسر عادت من كوريا، من التايوان أو من منشوريا، ليس أكثر من أبي كوبو أو ميكي توكو، العائدين هما نفسيهما من منشوريا، أو هانايا ياتاكا، الذي كبر في التايوان. علاوة على ذلك، فإن كاتبا مثل أكاغاوا جيرو أو كاتبة مثل يامامورا ميزا، اللذين كان والديهما موظفين ساميين في الإدارة الكولونيالية بمنشوريا وبكوريا، والذين يعتبران، على هذا المستوى، مرتبطين بشكل وثيق بالنظام الكولونيالي، لا يماثلان أكثر هذا التيار رغم انتمائهما لجنس أدب الترفيه. بصيغة أخرى، فتسمية «مرحلي» الأدب تستجيب لتحديد حصري جدا، أضيق مثلا من «تيار ما بعد الحرب»، أو «تيار من لا إيمان لهم ولا قانون». لكن، و إذا تبنينا تحديدا أكثر اتساعا لل «أدب ما بعد الكولونيالي» أو «أدب القوى الكولونيالية سابقا»، فإننا نلاحظ، بالفعل، أن عددا كبيرا من الكتاب الأكثر أهمية في أدب ما بعد الحرب يرتبطون على نحو وثيق بالمستعمرات القديمة، أو بالأراضي التي عاشت الاحتلال العسكري. لنأخذ مثال أبي كوبو: هو الذي عاش في موكدن (شينيانغ اليوم) حيث درّس والده الطب، أ لم تظل راسخة في ذاكرته مناظر منشوريا الفسيحة أو مناخها؟ فروايته الأولى المنشورة سنة 1948، «حول ضابط على الدرب الذي»، مشبع بالإحساس بالعزلة وبالشقاء الوجودي الذي يحسه شاب ياباني حين يُجبر، بعد الهزيمة، على العودة إلى «ميتروبول» لا يعرفه معرفة جيدة وحيث يكون عليه العثور على جذوره؛ عندها، وفجأة، تصبح المناظر التي كانت مألوفة بالنسبة له في منشوريا مناظر بلد غريب، و «الحيوانات المتوحشة تتجه نحو البلد الأصلي»، المنشور سنة 1957، يحكي عن رحلة محفوفة بالعراقيل لشاب صغير يفر، بعدما تم التخلي عنه في منشوريا، أمام تقدم الجنود الروسيين للعودة إلى «وطنه»، اليابان. ماذا نلاحظ إذن؟ أنه إذا كانت الدراسات المخصصة لعمل أبي تجد متعة في تناول مكانة المدينة في مخياله، الطابع التجريبي لكتابته، تأثير السوريالية، تكرار التيمة الكافكاوية، فكر الصحراء أو اللاعقلانية، لا نجد فيها، إذا صح القول، أي تحليل ملموس لما يتضمنه قلب تجربته، استمرارية مناخ منشوريا، فقدان بلد الأصل. يمكننا بالتأكيد تفسير هذا الخصاص بكون أبي نفسه - إذا ما استثنينا رواياته الأولى وكذلك مسرحياته على أمواج الإذاعة - يكاد لا يتحدث تقريبا عن منشوريا، السلوك الذي يُقويه الميول العام للمجتمع الياباني لما بعد 1945، أي السكوت على التجربة الكولونيالية. وبطل «الحيوانات المتوحشة تتجه نحو البلد الأصلي»، الرواية التي يتناول فيها أبي تجربته بمنشوريا بتقريرية واضحة ، شاب يحاول، على نحو يائس، العودة إلى اليابان لكي يجد بها بلد جذوره. لكن، بينما هو يفر من منشوريا، وكلما اقترب أكثر من اليابان، كلما ابتعد اليابان، بلد جذوره. لأن بلده الأصلي، بلد جذوره هو في الحقيقة بلد ضائع سلفا، بلد ولّى، وأن سفرهُ تيهٌ في متاهة شاسعة تشبه صحراء قاحلة. «امرأة الرمال»، حيث يواصل البطل إلى ما لا نهاية حفر ثقبه في الكثبان، «وجهُ أخر»، حكاية رجل في مدينة ضيعت وجهها - بإمكاننا البرهنة بشكل جيد أن كل روايات أبي الأساسية ترتكز على تجربته لما بعد الحرب، تجربة من ضيّع، بضياع منشوريا، وطنه، جذوره، وهويته الخاصة. بإمكاننا أن نقول الشيء نفسه عن هانايا ياتاكا الذي لم يُكمل روايته الضخمة «الأرواح الميتة»، التي تعتبر تحفة في أدب ما بعد الحرب. ومن الممكن جدا ربط التجربة التي خاضها في التايوان، ابن القوة المستعمِرة، بالتيمة الفلسفية الأساسية لديه، أي تيمة «القلق المقترن بمبدأ الهوية»، أو بالفكر الاشتراكي الهادف إلى تحقق المساواة بين الجميع؛ إلا أنه لا وجود على الإطلاق لدراسة تعمل على توضيح المعنى الذي تكتسيه، في عالم هانايا، «تجربته التايوانية». ومع ذلك، لا يبدو لنا أننا نجانب الصواب إذا قرأنا، في ظل الشخصيات الكورية أو الصينية التي تظهر في «الأرواح الميتة»، محاولة غير مكتملة لكتابة تلك التجربة الآسيوية في تايوان المستعمَرة.