عبدالكبير الخطيبي. شهدت الثقافة المغاربية تطورا ملحوظا في الأشكال الروائية منذ 1945. وتعد هذه الظاهرة الثقافية غير معزولة، حيث أنها تعبر من الناحية التاريخية عن مرحلة النضج السياسي وكذا الصراع المسلح في منطقة المغرب العربي. ويمكن شرح هذه الظاهرة من خلال شرطها الذاتي وكذا الشروط السوسيوسياسية التي تؤسسها. كما يسمح هذا الجنس الأدبي من حصر بعض مشاكل الثقافة الوطنية. وقد عرفت الرواية كإستيطيقا غربية تطورا خاصا، والذي يحدث بانتقاله إلى ثقافات أخرى ممارسات فكرية خصوصية، ويركن في إطارات جديدة. ماذا يعني هذا التحول بالنسبة لبلدان المغرب العربي؟ لقد نشأت الرواية في إطار المجتمع الفيودالي والثقافة الأرستقراطية. كما تطورت بشكل موازي مع صعود البرجوازية منذ القرن 19. وقد أضحت الرواية اليوم في المجتمعات الاستهلاكية الخبز اليومي للمواطنين. الحديث عن ذلك لا يعني فقط تحديد الرواية تاريخيا، ولكن أيضا تعيين تيمة خاصة بالأدب الغربي. لقد اكتشف لوسيان غولدمان تماثلا صارما بين البنية الاقتصادية للرأسمالية وبنية المخيال الروائي. وتتطلب هذه الفرضية مجابهتها بالتطور الخاص للمجتمعات المستعمرة (بفتح الميم) سابقا. إن تطور الرواية في المغرب العربي في الفترة الممتدة من 1945 إلى 1962 يقابل مرحلة الصراع ضد النظام الكولونيالي. فمن الطبيعي أن يؤثر تسييس الأدب المغاربي على القضايا الإستيطيقية النوعية. ماذا تبقى من الإنتاج الثقافي لتلك المرحلة؟ وما هي دلالة وحمولة هذه الظاهرة؟ مما لا شك فيه أن إفريقيا الشمالية قد عرفت أدبا دائم الحيوية يخص بالتحديد النمط الشعري التقليدي (القصيدة الشعرية)، لكن الثقافة العربية في المغرب العربي ظلت متحجرة من الداخل ومحاصرة من الخارج بواسطة الاستعمار. ويعود الفضل إلى الكتاب وذي التعبير الفرنسي في تأصيل الرواية في الثقافة المغاربية. يرى البعض بأن هذا الأدب لا ينتمي إلى المنطقة المغاربية لأنه مكتوب بلغة أجنبية. من الأكيد أن كل ثقافة وطنية تستعمل لغة وطنية. كما أن هدا الأدب المكتوب بلغة فرنسية هو حصيلة وضعية شاذة. انه موجه للاستهلاك المركزي، وأن جمهوره مكون أساسا من الفرنسيين. هدا، وليس غريبا إذا كان محمد ديب يقرأ من طرف بعض العائلات العمالية الفرنسية أكثر منه في المجتمع الجزائري. وليس غريبا أيضا أن يموت تقريبا هدا الأدب مع نهاية الاستعمار. ننتقل الآن من مشكل الأدب إلى مشكل الكتاب المغاربيين. فبعد الحرب العالمية الثانية، اهتم الجيل الأول (فرعون، ديب، معمري، الصفريوي...) بتحليل المجتمع المحلي، ووضع بورتري جد دقيق لشرائحه الاجتماعية المختلفة، وبشكل موجز القول : "هكذا نحن، وهكذا نعيش"، وبالتالي الحديث عن هدا الأدب كشهادة حول حقبة وحول وضعية معينة. وقد كان هدا الوصف بشكل من الأشكال مقبولا، بمعنى أنه كان عبارة عن جرد وصفي للوضعية الكولونيالية. لكن هدا الوصف في هدا المستوى كان متجاوزا بواسطة الأحداث التي تقع في شمال إفريقيا. فمثلا، في الوقت الذي حمل الجزائريون السلاح من أجل تحرير البلاد بالعنف، فان الروائيين قد انشغلوا بوصف دقيق للحياة اليومية لبعض الجماعات القبايلية، وأن الشعراء ينشدون خوفهم من شخصيتهم الممزقة. ويواجه الكاتب وضعية صعبة، لأنه محكوم عليه برصد واقع في تغير مستمر، فادا أراد متابعة هدا الواقع بشكل دائم، فانه يقع في الكتابة الصحفية. أما إذا اتخذ مسافة كبيرة، فانه يقع في حضن أدب غير متجذر. إن "الوعي الشقي" يقلق في كل لحظة الكاتب المغاربي. لقد تعقدت الوضعية مع حرب الجزائر، حيث حاول بعض الكتاب (حداد، بورهون، جابر، قرية...) تسخير كتاباتهم في خدمة الثورة. وقد عرفوا بطريقتهم الخاصة بالمشكلة الجزائرية. ويعد هذا الأدب في مجمله شهادة حية على زمانه، وقد مات مع الثورة. ويتطلب الآن عند مواجهة المشاكل الكبرى في البناء الوطني طرح وبدون مواربة مسألة الأدب: ففي مجتمعات معظمها أمية، بمعنى أن الكلمة المكتوبة لديها فرص ضعيفة راهنا في تغيير الأشياء؛ هل يمكن تحرير شعب بلغة لا يفهمها ؟ ربما أنني مع الموت المؤقت للأدب، ومع التزام المثقف في الصراع السياسي؛ فهذا الأخير ملزم بتوعية الآخرين بمشاكلهم الأساسية، وكذا تطوير هذا الوعي. ويعد التحرر الجذري في البنيات و الإيديولوجيا الأساس نفسه للثقافة الوطنية. فعلا، إنني أبالغ إذا ما ذهبت بتحليلي هذا إلى مداه البعيد. فالحاجة إلى الكتابة هي حصيلة معقدة من الأحاسيس والمواقف والمشاعر والإغراءات والأحلام . هل يمكن منع عن حق الشاعر من التغني بأحزانه وأفراحه رغم وجود أطفال يموتون جوعا، على حد تعبير سارتر؟ الكتابة بطريقتها الخاصة هي براكسيس، الفعل الذي يلعب دوره كاملا. ويتطلب ذلك من الكاتب معرفة أن الثقافة ليست إرادة أناس فرديين، ولكنها بناء مجموعة من القيم والأفكار في خدمة تحرير الإنسان. حينئذ، يطرح المشكل على مستوى علاقات القوة. لازالت ثقافتنا أساسا تقليدانية أو محاكاتية. ويكمن المشكل في معرفة كيفية تفجير هذا التقليد وكذا خلع طابع القداسة عليه، وإيجاد أشكال جديدة قادرة على التعبير عن واقعنا وعلى ترسيخ رغباتنا الدفينة. ترجمة: عبدالعالي نجاح.