ماذا نعني بالرواية حين نتكلم عن الرواية المغاربية؟ أتصور أن نظر أغلبنا ينصرف مباشرة إلى الرواية المكتوبة بالعربية، في منطقة المغرب الكبير! و صاحب هذا النظر يعرف، مع ذلك، أن هناك رواية مغاربية أخرى كتبت ومازالت تكتب، بالفرنسية على الخصوص، وأن هذه الأخيرة كانت متقدمة، على الأقل فنيا، ولسنوات، على العربية. على العكس من القارئ بالعربية، فإن المدمن على القراءة بالفرنسية قد لا يلتفت إلى النصوص المكتوبة بالعربية إلا نادرا ثم إن هناك الآن روايات يكتبها مغاربيون بلغات أخرى، مثل الهولندية، وهي غير حاضرة، بشكل واضح، في وعي الكثيرين منا. أما محاولات كتابة نصوص روائية بالأمازيغية فهي ما زالت تقابل عندنا إما بكثير من التحفظ والتعالي وإما بالتضخيم والإعلاء. وحتى على مستوى التأريخ لظاهرة الرواية العربية المغاربية فإننا لم نصل بعد إلى فترة، وإلى نصوص، نتفق عليها ولو بشكل نسبي، ولكن بتوافق، رغم أن هذه الفترة ليست بعيدة جدا مادامت، وفي جميع الأحوال، لا تتجاوز الأربعينيات. وأما حضور هذه الرواية، كنصوص، عند الدارسين فإن اختيارها مازال يخضع للكثير من العشوائية أو الهوى. هكذا فإنك قد تجد عندنا، هنا في المغرب الأقصى، من يتحدث عن تطور الرواية المغربية من غير أن يذكر عبد الكريم غلاب أو ربيع مبارك وآخر لا وجود لديه لمحمد زفزاف أو عبد الله العروي، الخ...أما راهن هذه الرواية ففي رصده الكثير من الهوى و عدم التجانس بحيث تظهر فيه بعض الأسماء، كأسماء قوية، في بحث معين، وتختفي في بحث آخر نفس الأسماء كأن لا وجود لها على الإطلاق إلى درجة أن المرء قد يتساءل، وهو يقرأ مثل هذه الدراسات، خاصة على صفحات بعض الجرائد والمجلات: هل هناك قدر من الموضوعية، من المصداقية، ومن تصدق وأنت تطالع أبراج الرواية بأقلام هؤلاء؟..صورة غريبة من الالتباس والتضارب قد لا تخلو من إحباط وتشاؤم ولها، على العموم، وجهان لقرائتها بحسب أن نتشاءم أو نتفاءل! الوجه الأول إنني أعرف أن الوضع ليس بكل هذه الصورة المتشائمة، فهناك أنواع أخرى من التعامل مع هذه الرواية، تأريخا أو وصفا، لا تخلو من شئ من الموضوعية ولا من مصداقية، رغم أن بعضها قد يبدو أحيانا استنساخا للبعض الآخر، وقد يمكن تفسير، أو على الأقل تبرير، بعض ملامح تلك الصورة بالتسرع والارتجال، مع غير قليل من الهوى أوالقصد نفسه، ومع بعض ضعف الإحاطة أوالتتبع، إضافة إلى تنامي ظاهرة « القراءة الشفاهية» أو « القراءة بالسماع»...ولكني أردت فقط أن أرسم هذه الصورة، رغم نسبيتها الكبيرة، لطرح بعض الأسئلة: أولا، لماذا لم نستطع حتى الآن الاتفاق على شئ اسمه الرواية المغاربية يحده، زمنيا، تاريخ معين، و تجسده، محتوى، مجموعة من النصوص، وثقافيا، أو لغويا، كما يحضر في كل اللغات التي يكتب بها إلى درجة أن البعض ما زال يصرح بكل ثقة في النفس: ليس عندنا رواية؟ ثانيا، هل يمكن أن يتعلق الأمر بتصورنا لهذه الرواية، فقط، أو يتعلق كذلك بتصورنا لثقافتا ومجتمعنا بأكمله وخاصة فيما يخص متخيله وإبداعيته، الشئ الظاهر كذلك في السياسة والاقتصاد، أو أن المسألة كلها لا تعدو كونها قصورا في النقد والمتابعة أو في عدم قدرة الرواية على فرض نفسها على الكل؟ وأين يكمن ذاك القصور وعدم القدرة هذه التي تجعلنا لا نكف عن التعامل بسوء التفاهم أو سوء النية؟ ثالثا، هل تحولت مجتمعاتنا المغاربية، داخل كل قطر، وفي غفلة أو سذاجة منا، إلى عدة مجتمعات تشبه القبائل اللغوية، أو الروائية، منها العربي والأمازيغي والفرنسي وحتى الإسباني أو الهولندي، وربما في كل جهة، أو مدينة ومدينة، ولكل قبيلة في كل قطر أدب له أنصار وأعداء، ولا أحد يريد فيه أن يعترف بأحد غير ذاته؟ إني أطرح هذا السؤال ليس فقط بناء على الصورة السابقة الذكر ولكن كذلك قياسا على وضع دول أخرى، مثل مصر أو سوريا، كيفما كان الفارق في القياس، ونظرا لأن الأدب في كل دولة، أو ثقافة، يعكس، إلى حدما، وتنعكس عليه صورة المجتمع الذي ينشأ فيه! رابعا، وماذا لو كان هذا الوضع بكل اختلافه وتعدده، بكل مظاهر القوة والضعف فيه، بكل ظلمته ونوره، هو منبع القوة في الرواية العربية المغاربية، السر الذي يجعلها شابة، مغامرة، متنوعة، غير سجينة لا تصور معين ولا شجرة أنساب محددة، رواية ليس لها آباء مؤسسون، غلاظ شداد، يملكون سلطة عليها، ولكنهم، وكيفما كانت قدرة الأبناء على التمرد، يحدون من حريتها وآفاق تحليقها، وليس لها نقاد جبابرة طغاة يعرفون كل أسرارها وخباياها و لا يكفون عن إشهار عصيهم عند كل خرق لسر؟ الوجه الآخر من هذه الزاوية بالذات أود أن أتطرق، في عجالة، إلى بعض المظاهر التي قد تشكل مصادرالقوة والغنى في الرواية العربية المغاربية، أي إلى بعض أبراجها التي يمكن أن نقرأ فيها طالعها في حدود ما يمكن أن تصدق فيه قراءة الأبراج! أولا، الشباب والفتوة: إن أقوى النصوص، في الرواية العربية المغاربية، كما هو معلوم، لم تبدأ في الظهور إلا ابتداء من الستينيات ولم تبدأ يشتد عودها إلا انطلاقا من السبعينيات و لاشك أنها قد أدركت بعض النضج مع الثمانينيات...هذا الوضع يجعل الرواية العربية المغاربية، مبدئيا على الأقل، مفتوحة على كل الإمكانيات والآفاق! ثانيا، نوع التأثيرات الثقافية والفنية: لا يوجد في أي بلد عربي آخر نوع التأثيرات الثقافية والفنية التي تتوفر للرواية العربية المغاربية، ولكل أصناف الفنون والآداب في هذه المنطقة، وأركز على كلمة النوع لأن تبادل التأثيرات موجود في كل بقاع العالم، ولكن نوعه، وكذلك كمه، يختلف من جهة إلى أخرى، فلا تخضع الدول المشرقية، على سبيل المثال، لكل هذا الكم والنوع من التأثير المباشر للأدب الفرنسي، وعبره للأدب العالمي، كما تخضع له أغلب الدول المغاربية، ولا يوجد هذا التأثير الكبير للثقافة الإفريقية والأمازيغية إلا في دول المغرب العربي التي تعيش، وبنفس القوة والعمق، كل الإرث الثقافي العربي الإسلامي وكل منجزات الثقافة العربية الحديثة...إن مثل هذا الوضع، من زاوية التفاؤل، قد يغني الرواية العربية المغاربية بخصوصيات قد لا تتوفر للرواية المكتوبة بالعربية في دول عربية أخرى، كيفما كان المشترك بيننا وبين هذه الدول! ثالثا، الظهور المتأخر نسبيا لهذه الرواية، مرة أخرى: فلقد ظهرت، من جهة، في وقت نضجت فيه الرواية العربية، وصار لها أعلام ، وكانت فيه الرواية الفرنسية المغاربية، من جهة أخرى، قد تقدمت بشكل كبير، فمن منا لم يقرأ، مثلا، ثلاثية نجيب محفوظ، ناهيك عن نصوص الجيل الذي سيأتي، في مصر، وفي دول عربية أخرى، مع جيل نجيب محفوظ أو بعده، ومن منا لم يسمع، مثلا أيضا، ومثلا فقط، ب « نجمة» كاتب ياسين، و ب « الماضي البسيط» لادريس الشرايبي، أو « تمثال الملح» لألبير ميمي، أو» الدار الكبيرة» لمحمد ديب؟ أضف إلى ذلك أن ترجمة الآداب العالمية، ومنها أدب دول تدخل بقوة، ولأول مرة، إلى حضيرة هذا الأدب الحديث، كما هو الحال بالنسبة لأمريكا اللاثينية، كانت قد انتشرت بشكل ملفت للنظر... إن هذا الوضع قد يخلق، ولا شك، لدى كاتب الرواية العربية المغاربية خيارا وحيدا، وهو تحد كبير في نفس الآن: إما أن يكتب رواية بالعربية في مستوى، أو على الأقل، قريبة مما هو متوفر أمام القارئ بالعربية والفرنسية، في هذه الأقطار، وإما أن يصمت او لا ينتبه إليه أحد. إن الروائي المغاربي سيجد نفسه، والحال هذه، في مواجهة متطلبات قارئ، قد لا يكون ناقدا بالضرورة، وفي مواجهة تراث روائي، متعدد المصادر والآفاق، ولكنه يتحداه من كل جهة: إما أن يقرأ فيه بعناية وإما أن يتخلى عن التطلع إلى المستقبل كروائي، ولعل هذا الأمر لم يتحقق دائما، في هذه الرواية، بصفة عامة، وقد يتحقق بدرجات مختلفة عند نفس الروائي! رابعا، أثر حركة التحرر الوطني واستكمال الاستقلال: لقد شكل ظهور وارتباط الأدب المغاربي بحركة التحرر الوطني في هذه المنطقة، ونشوءه في صحفها ومنشوراتها، لوقت طويل، غنى وتفقيرا لهذا الأدب، في نفس الوقت، فهو عامل غنى لأنه جعل الأدب المغاربي، في مجمله، أدبا ملتزما بقضايا مجتمعه، ولكنه عامل إفقار كذلك ضيق من أفقه وربطه بتصور محدود، ومن زاوية حركات معينة، للالتزام، فالالتزام السياسي، بطبيعته، ومهما كانت نجاعته، في كل الظروف، لا يرقى إلى مستوى الالتزام بالإنسان، الذي ينتهي إلى خيانته وخيبات أمله، طال الزمن أو قصر، جميع الحركات والوعود السياسية. .. غير أن الأمر لا يتعلق بإنسان مثالي ولكن بالإنسان في ظروف زمكانية معينة، في المغرب، مثلا، أو تونس، أو الجزائر، إنسان يكافح، ولو كان من أبسط الفئات الاجتماعية وأدناها، ولو بالصبر والرفع من قدرته على التحمل، من أجل كرامته وحريته، في كل ظرف وحين، أي من أجل إنسانيته، وهو ما انتقلت الرواية في المغرب العربي، للاشتغال عليه، منذ الثمانينيات، بالتدريج والتؤدة الواضحين في بعض النصوص منذئذ! خامسا، في الوجه الأول لهذه الصورة لا نكاد نتبين وجودا لآباء مؤسسين للرواية المغاربية والغالب هو الشعور بأن كل واحد، عندما يدخل إلى حقل الرواية، يظهر، أو يحس، أنه يبدأ من جديد، ولا أب أو أم له من قبل، وإنما هو الأب الفاتح والمبشر بذاته و بغيره... هذا شعور طبيعي لدى كل مبدع في الدنيا وقد يكون شعورا ضروريا ليقوي و يحفز، في غياب، أو ضعف، وسائل التحفيز والتشجيع. ولكنه ليس مفيدا دائما، للرواية ككل، وليس صحيحا دائما بالنسبة لمن سبقونا، خاصة منهم أولئك الذي فتحوا، أو اقتربوا، من آفاق جديدة للرواية في بلداننا.وفي هذا الصدد أحب أن أحيي روح كاتبين على الخصوص، لأني أعتبرهما أبوين لي، وهما محمد زفزاف ومحمد ديب، فستشكل أعمال كاتب مثل زفزاف، هنا في المغرب، ومن منظور الالتزام بالإنسان، بهذا المفهوم، معطفا لأغلب كتاب الرواية من الجيل الذي سيأتي بعده، ولكن الجيل الذي يقرأ ويحب أن يتعلم من سابقيه. أعني أن مسألة الآباء المؤسسين للرواية العربية المغاربية نسبية جدا وكل من يستطيع أن يتحمل سلطة أب بإمكانه أن يجده في أحد سابقيه، فليس الطاهر وطار، مثلا، أقل قيمة من مجايليه، في المشرق، وما علينا سوى أن نتذكرالحفاوة التي كانت تستقبل بها رواياته هناك، خاصة اللاز وعرس بغل! سادسا، أود، وباختصار، أن أؤكد على ما يلي: إن الرواية العربية المغاربية قد أصبحت جزءا لا يتجزأ من الرواية العربية ككل، بدليل عدد الأسماء المغاربية الحاضرة بين الروائيين العرب، وما أصبحت تحظى به هذه الأسماء من تقدير، ربما بسبب نديتها، ولكن كذلك بفضل تلك العوامل، التي ذكرت في الوجه الأول للصورة، التي تمنحها بعض الخصوصية، لكن الكثير من الرواية العربية المغاربية ينجز مع، وضد، الرواية التي تكتب بلغات أخرى، وخاصة بالفرنسية، من طرف مغاربة، كما تكتب مع وضد الرواية العربية في دول المشرق. وذلك بالمعنى الإيجابي لكلمتي مع و ضد. ومع كل هذا فإن مشكلتها الكبرى في المغرب العربي. أي أنها، وتقريبا مثل السينما، لا تتلقى بشكل إيجابي، إلا فيما ندر، أي لم تخلق بعد ما يكفي من الاتفاق أو التواطؤ، ربما بسبب ضعف استغلالها لكل تلك الخصوصية وربما بسبب ضعف الصنعة فيها، إن لم يكن السببان معا، و قد يكون وراء كل ذلك أيضا شيء ما في المجتمع ذاته، شيء يمنعنا من الإعلاء من أنفسنا، بواقعية، أو تقديرها حق قدرها كيفما كانت مظاهر الضعف فيها وبدون غض الطرف عن مظاهر الضعف! خاتمة أستطيع الآن، على كل حال، أن أتصور أن مستقبل الرواية العربية المغاربية سيظل على وجه الصورة الأولى، التي بدأت بها، ولكنها لن تكون، وعلى ضوء الملاحظات الأخيرة، التي قدمت في الوجه الثاني، صورة قاتمة وإنما صورة متعددة الألوان والأشكال والأصوات، أتصورها بستانا مليئا بأنواع الفواكه، والزهور، المختلفة، ولولا أني لا أحب مثل هذا التشبيه الروامانسي لأضفت العصافير، وحتى الحشرات، والبهائم كذلك، لأن قيمة الشئ في ذاته، ومهما علت واغتنت، لا معنى لها إلا بالقيمة التي يعطيها له المجتمع. وبعبارة أخرى مثلما أن المواطن، ولو كان فلان الفلاني، لا قيمة له خارج المعنى الذي يعطيه المجتمع للمواطنة، كذلك، لا قيمة، و لا معنى، للروائي، خارج قيمة الرواية في مجتمعه، ولو أضفى على نفسه كل النعوت، ونسب إليها كل المواهب، فوضعه الاعتباري سيتحدد انطلاقا من الوضع الاعتباري للرواية داخل المجتمع بينما إمكانية العكس مازالت ضعيفة. وإلى ذلك الحين، ومن أجل ذلك، يبدو لي، إن لم نكن قد اتفقنا بعد ضمنيا على هذا الأمر، أننا ينبغي أن نستمر، فقط، في الكتابة، كتابة الرواية، بكل تواضع، وإذا أمكن، بالكثير من التواطؤ ، أعني التعاون، فيما بيننا، روائيين ونقادا، فرواية من هذا النوع مسؤولية كبيرة وهدف ضخم لأن غايتها أن تنجز الكثير وفي نفس الوقت أن تقنع بقوة. وهذه، من زاوية العرافة، بعض آفاقها، فهل تصدق العرافة؟