البشير الدامون، روائي مغربي، دخل عوالم السرد بقوة وجرأة، بنص روائي اختار له عنوان ( سرير الأسرار )، والذي صدر عن دار الآداب البيروتية في طبعة أنيقة، بعد أن تهربت الكثير من دور النشر المغربية من نشر هذا العمل الروائي الذي طاف به صاحبه دون جدوى، تحت مبررات واهية جدا. احتفاء بأسرار السرير وهوس الكتابة والطموحات، أجرينا هذا الحوار: - أين كان البشير الدامون قبل (سرير الأسرار)؟ < منذ محاولات شعرية وقصصية متواضعة وخجولة، في أيام «مراهقة حياتي»، ارتبطت بما أراه إلى حد الآن أمتع ما يمكن أن يعيشه الإنسان :«إنه عالم القراءة». يمكنني الجزم أنني أتيت عالم السرد والمحكي عن طريق القراءة. العوالم التي كنت أستمتع بها وأنا أحاول القبض عليها والانغماس فيها من خلال القراءة قد تكون خلف رغبتي في أن أحاول صياغة عوالم أخرى تحمل من المكاشفة ما يجعل القارئ ينجذب إليها ويحس بمتعة ما. - في روايتك وصف دقيق للملامح، لأشياء المنزل، وللأحزان القاطعة، كيف استطعت التمكن من هذه الآلية؟ < لا أنكر حين فكرت في أن أكتب هذا النص، سكنني قلق كبير، عماذا أحكي؟ كيف أحكي؟ كيف أكتب ولمن أكتب ولماذا سأكتب؟ قلت لنفسي، فإما أن أكتب محكيا يحاول أن يضيف للمتلقي «قيمة مضافة»، قيمة تجعله يغادر عوالم الرواية وتثير داخله إحساساً ما يشعره بأنه غادرها مختلفا بعض الشيء عما كان عليه حين دخلها. أولا أكتب وكأن مخاضا مقلقا أسفر عن هذه المحكيات. - غالبا ما تتم اللذة في الليل أو في عتمة الأمكنة كما تعبر عن ذلك الرواية؟ < للمتعة حضور قوي في الحياة. والعتمة في المسار الحكائي للرواية بمعانيها المختلفة تهيمن على عوالم الرواية. ولوأمعنا النظر في المادة السردية لتبين لنا أن العتمة تشمل معظم جوانب حياة «شخوص» الرواية. هناك حضور كثيف لليل، الأمكنة معتمة... وهناك روح تقاوم عتمتها، وهي العتمة التي يصعب تنويرها. - اللوكو، سرطحا، الوروار...، هل هو استحضار للموروث الطفولي، أم رغبة في بصم مجرى الحكي بميسم له خصوصيته؟ < كنت أتمنى وأنا أبني مسار الحكي أن أستطيع الانطلاق من المعاش المحلي والخصوصي إلى ما هوكوني وإنساني، تمنيت أن أتطرق للعمق الجواني للإنسان المقهور والمعذب. كانت محاولة للغوص في الحياة الآسنة للإنسان المهمش والمعذب في الأرض. - كيف استطعت الإلمام بكل هذه الأسرار الحكائية، وما هي مرجعياتها ؟ < مما لاشك فيه أن «المعايش الشعبي» مادة لاستجلاء المحكي، لقد حاولت أن أعري حيوات من مجتمعنا ونفسيات شخوصها بما تحتويه من ألم وتدمر وتشظ. سأكون صادقا حين أقر بأنني مسكون بحب عوالم الأحياء الشعبية والفضاءات الشعبية، وطبيعة العلاقات الاجتماعية والإنسانية التي تسودها هي نواة المجتمع المغربي التي لا تختلف في جوهرها عن العلاقات التي تسود وتشكل الحياة بمعظم البلدان الفقيرة والمتخلفة. - «سرير الأسرار» ليست رواية مكان بالدرجة الأولى وإن استحضرت بقوة مدينة «تطوان» ما رؤيتك الخاصة لهذا الفضاء وكيف وظفته حكائيا وتخييلا؟ < الرواية ليست رواية مكان وليست سردا جغرافيا لأزقة المدينة. ولكنني أظن أنني حاولت أن أجعل من أمكنة الحكي «شخوصا» تتفاعل مع أحاسيس مرتاديها. لست أدري إن كنت قد تمكنت من ذلك. إن السرد الأليق هو أن يوظف المكان في علاقاته بشخوص الرواية توظيفا فنيا حتى يصبح مساهما في بلورة جمالية المحكي . وإن كان المحكي في الرواية قد استدعى حضور فضاء المدينة بأحيائها وأزقتها ودروبها، فإنه لم يكن حكيا تسجيليا عن الأمكنة، وإنما كان حكيا عن صراعات «الأرواح» التي تسكنها أوتعبرها. - هناك لذة مهربة ودعارة وفقر مدقع، ولقطاء يمزق الحزن أوصالهم، وهناك شخصيات ساقطة ومنحرفة، كيف استطعت توليف كل ذلك في سرير الأسرار؟ كيف تضامت هذه الحكايا وهذه الشخوص دون انزلاقات سردية؟ < أظن أن الحكايا الفرعية والمقاطع السردية المتجزئة تنصهر مع المحكي الرئيسي في الرواية. لقد كانت دراستي للعلوم الاقتصادية خلف التعرف عن قرب على معضلة التخلف ببلادنا وباقي البلدان .كنت أظن أن النظريات العلمية للتخلف قادرة على أن تجد مخرجا من الوضع المتأزم لهذه البلدان، وطبعا للإنسان بها، إلا أن الأمل كان دائما يتبخر. أحسست، أنني جد مثقل إلى درجة المرض من وطء التخلف هذا. قلت قد أجد بعض الشفاء في الكتابة. وحين كتبت ذهلت من شدة تعدد مظاهر ومشاهد التخلف.فاحترت، عمَّ أكتب. ومن أين أبدأ. كما قلت، كان هاجسي أن أبوح ببعض فظائع واقعنا وببعض فوادح الحياة، فاتضح لي أنها عوالم من الصعب حصرها وأنها سرد لا متناه. فتشكلت لدي عدة حكايات أتعبتني حين هممت بتوليفها في قالب روائي متماسك. إنني كتبت عن بعض ما يرعب في حياتنا والذي ما هو إلا غصن من شجرة شائكة.. - سأشرع في الحكي، وأنا متيقن من كونه لم ولن ينتهي، سرد لا متناه ص122... إذن هذا وعد مضمن بأن في جعبتك الكثير من الحكي، ما هي مشاريعك؟ < أقر هنا بأنني لم أكن جريئا كما أود. هناك عدة أسباب تكون قد ضخمت لدي الرقيب الذاتي. فلكي يقول الإنسان كل ما يفكر فيه يجب عليه أن يتملك شجاعة ربما لا أمتلكها. لقد فوجئت بكون بعض النقاد وسموا الرواية بكونها جريئة. لقد ضخموا هذه الجرأة. وأنا ما كتبت سوى النزر اليسير، فكيف لوكان البوح أكثر صدقا. نقاد آخرون شبهوا عملي بإبداع الكاتب الكبير محمد شكري، بل إن أحد النقاد وسم الرواية بكونها رواية الكائن المهمش بامتياز. وأنا أقول إنني لا أملك جرأة محمد شكري الذي سمى الأشياء بمسمياتها. فروايتي تتكلم عن واقع «أشد مرارة مما رواه محمد شكري. إلا أنني اخترت البوح «عما هودوني وساقط بلغة «أنيقة». نعم، حاولت أن أسرد، كما قلت «بلغة» ظننتها أنيقة، الدعارة الرخيصة، والجسد المباح والأرواح المشروخة للنساء والرجال فكانت سرير أسرار مرعبة للسقوط الأخلاقي والاجتماعي. هي ليست بالجرأة المتوخاة. الجرأة، في نظري، يجب أن تكون «موضوعية» وإلا خرجت عن دورها الفني وأصبحت نشازا مقحما لغرض في نفس الكاتب . كما أرى من اللازم أن أتذكر في هذا السؤال قولا للأستاذ يوسف ادريس :»إن كل حريات العالم العربي لا تكفي ولوكتابا واحدا ليعبر بحرية عما يحسه». إنني بصدد مراجعة أخيرة لعمل ثان، والعمل يحكي عن انجراف حلم الإنسان وقد يحمل كعنوان «المدامغ». - نقرأ الجنس بأسماء ملطفة، فالبغايا «ضيفات» وتعاطيهن لحرفتهن يتم تحت ظروف قاهرة، مما يجعل القارئ يتعاطف معهن. فهل هذا ما كنت تسعى إليه؟ وهل هذه وجهة نظر خاصة؟ أم رؤية من رؤى يمكن أن تؤطر الحكي هنا؟ < دعارة اللذة لا تصدق على عوالم العاهرات التي حكيت عنها، حيث الحاجة والفقر والضياع...هي الأسباب الرئيسية. أكتب عن عاهرات بئيسات يبعن ماتبقى من أجسادهن لدرء العوز والمرض والفقر. وربما هن لا يستحققن أن يخاطبن كالعاهرات و... ولهذا وصفتهن بضيفات الدار الكبيرة. أنا كتبت عن مآسي وغصات نحياها أونحيى حواليها، ونحن نتعمد أن نلفها بالتجاهل والتناسي، ندفنها في لاشعورنا عمدا حتى لا نتذكرها خوفا من خدش جراحنا. إنها لعبة نلعبها هروبا من فواجع الحياة حتى لا نحطم هدوءنا ورضانا في افتعاله ونوهم أنفسنا بأننا نحياه.