عند مقاربة موضوع معين، أو بالأحرى عند اللقاء الأول بالموضوع مصاغا في عبارة محددة، تنثال على الذهن مجموعة من التداعيات، مرتبطة بشكل أو بآخر بالقراءات والنصوص المستسرة في الذاكرة، وفيما يخص هذا الموضوع، الإنتاج الأدبي الحديث والمعاصر في شمال المغرب، تلقيت الدعوة الكريمة لإعداد عرض حوله بالمعرض الأخير للكتاب بالدار البيضاء، فوجدتني أسترجع، وأنا أحاول صياغة بعض فرضيات القراءة حوله، أصداء من دعوة المختار السوسي الباحثين كي ينكبوا على مناطقهم بحثا مدققا في مختلف المجالات. وأحسب أن الموضوع المقترح هو امتداد لهذه الدعوة لإنجاز دراسات تنصب على مناطق جغرافية معينة تعميقا للبحث، ولكن في أفق التكامل مع دراسات أخرى تتناول مناطق مختلفة، بحثا عن المأتلف والمختلف. وأجدني أيضا في السياق نفسه أتذكر جملة عارضة دالة لأحد الأصدقاء الشعراء يتحسر فيها من كون طنجة المدينة الساحرة العريقة التي ألهمت العديد من الأدباء العالميين لا تضم ولو شاعرة واحدة. لست أدري هل الصديق مصيب أم متسرع، ولكن الأهم أنها أيضا دعوة للنظر في الجغرافية القريبة منا بحثا عن الكتابة بأجناسها المختلفة، خاصة أن النظر في "المحلي" لم تعد مرادفا للإثنوغرافي بدلالته الإغرابية البرانية، وكما يقول جمال الغيطاني، كلما غاص الأدب في المحلية، اقترب أكثر من الكونية والعالمية. يبدو أن هناك فرضيات إبستمولوجية معرفية تتحكم في اختيار هذا الموضوع، قد يكون من بينها افتراض إمكانية تصنيف الإنتاج الأدبي انطلاقا من البعد الجغرافي، وكما قال رولان بارث قل لي كيف تصنف أقل لك من أنت، لا بمعنى الهوية المغلقة، ولكن بمعنى أسئلة القراءة ومحددات الدراسة وموجهاتها، فالحديث عن الشمال يقتضي غربا وشرقا وجنوبا، فهل بالإمكان الحديث في المغرب عن أدب الشمال وأدب الجنوب وأدب الشرق وأدب الغرب؟ أم أن هناك في خلفية الطرح إحالة إلى تصنيفات ذات بعد جغرافي لا ترتبط بالجهات الأربع، وإنما تفرض نفسها استنادا إلى وجود خصائص مشتركة وسمات فارقة لأدب منطقة معينة يسمح بتمييزه عن غيره، كأن نتكلم مثلا عن أدب منطقة الريف والأدب الحساني وأدب الصحراء، وغيرها وكلها تصنيفات يتداولها الدرس الأدبي بالمغرب وقد يكون وراء اختيار هذا المحور الاستجابة الضمنية لثقل التاريخ الأدبي بالمغرب، حيث تنتصب منطقة شمال المغرب مجالا عرف نهضة أدبية مبكرة، لتكون الكتابة عن أدب الشمال هنا والآن محاولة لربط الحاضر والماضي. ونحيل هنا على العدد الذي خصصته مجلة مواسم التي يشرف عليها الشاعر الباحث أحمد الطريبق أحمد للتجربة الأدبية بشمال المغرب لتبين هذا البعد، فمقالات العدد كلها تذهب هذا المذهب عندما تجعل الشمال مكان الشعر الحديث، بتعبير عبد الملك العلوي، أو تتتبع الحركة الشعرية في تطوان كما فعل أحمد هاشم الريسوني، أو تدرس إنتاج بعض الشعراء أو تركز فقط على أحد نصوصهم، ليتبين من خلال ذلك صعوبة اختيار متن الدراسة أو على الأقل مرونة الاختيار، فكل السبل تؤدي إلى أدب الشمال، أكان الانطلاق من نص مفرد، أم من أعمال شاعر معين، أم من الانتاج الأدبي في شموليته1. تكمن أهمية هذا الموضوع في هذا الجانب إذن، أي جانب البحث المدقق المنصب على منطقة جغرافية معينة، بحثا عن خصائص الكتابة الأدبية، وتفاديا أيضا لتشتيت الجهد في حصر المتن، أو لتجاوز صعوبات التعامل مع متن شمولي ضخم، فيكون البعد الجغرافي معيارا للحصر والاختيار. ويظل السؤال هنا أين ينحد الشمال؟ وهل تتطابق الجغرافية المكانية والجغرافية الأدبية؟ بعبارة أخرى، هل يتوزع الادب إلى جغرافيات تتوافق والجغرافية الخارجية المكانية؟ وهو الأمر الذي أشار إليه محمد بنيس في تأمله حول التميز بين المشرق والمغرب في الأدب العربي، ليخلص إلى أن "الفصل الجغرافي بين المشرق والمغرب لا ينطبق على الوضع الثقافي فيهما، حيث أعطانا الخطاب الثقافي هذا الفصل وكأنه حقيقة مطلقة، لأن التقسيم الثقافي للعالم العربي على هيئة التقسيم الثقافي الجغرافي يظل على الدوام خادعا ومخدوعا"..ويستطرد : "يدلنا الحقل الثقافي العربي على أن بالمشرق مغارب عديدة، كما أن بالمغرب مشارق عديدة"2 سنحاول مقاربة هذه الجوانب بما يسمح به هذا المقام أي عرضا دون تمحيص، وما سمح به أيضا الحيز الزمني لإعداد المداخلة، علما أن هذا الموضوع هو في حاجة إلى تضافر الجهود سعيا إلى الإحاطة بالإنتاج الأدبي بشمال المغرب، مع ما قد تطرحه هذه الصياغة من تحفظات تتحرز من مغبة السقوط في نظرة تجزيئية ضيقة تظل أسيرة تصنيفاتها المتعسفة، أو تجنح إلى البحث عن خصوصية متوهمة تفصل أدب الشمال عن مجمل الأدب المغربي. والحال أن الباحث والمهتم لن يفوته ملاحظة ما عرفته الحركة الأدبية في شمال المغرب من نشاط ملحوظ خلال السنوات الأخيرة في مختلف الأجناس الأدبية، وتجلى ذلك في كثرة الإصدارات المتلاحقة المتزامنة في الشعر والرواية والمسرح والترجمة والنقد الأدبي وغيرها. وبما أن المجال لا يسمح بالإحاطة الشاملة بكل الإنتاج الأدبي الصادر مؤخرا، فإننا سنتوقف قليلا عند مجال الكتابة الروائية وتحديدا في مدينة تطوان، مع وجوب الإشارة إلى أن الاجناس الأخرى عرفت أيضا حركية هامة كانت وراءها في الشعر أسماء عبد الكريم الطبال وأحمد بنميمون ومحمد الميموني وفاطمة الزهراء بنيس وإيمان الخطابي وأحمد الشيخي ومحمد العناز ومخلص الصغير، وأحمد هاشم الريسوني وأحمد الطريبق أحمد وسعاد الناصر، وفي الترجمة خالد الريسوني ومزوار الإدريسي بإصرارهما على مد الجسور بين ضفتي المضيق وإعماره بالقصائد المرتحلة هنا وهناك، وفي المسرح رضوان احدادو والزبير بوشتى، وفي النقد الأدبي شرف الدين ماجدولين ومحمد مشبال وعبد الرحيم جيران، وغير هؤلاء جميعا ممن يجب التوقف أيضا عند كتاباتهم. واللافت للنظر أن مدينة تطوان عرفت في السنوات الثلاث الأخيرة مجموعة من الإصدارات الروائية المتزامنة المتلاحقة نذكر منها المصري وباريو مالقا لمحمد أنقار، وانكسار الريح لمحمد المخلوفي وأطياف البيت القديم لخالد أقلعي واحتراق في زمن الصقيع لعبد الجليل الوزاني وسرير الأسرار للبشير الدامون ورواية أبنية الفراغ لمحمد عز الدين التازي. والجدير بالذكر أن روايتين من هذا المتن صدرتا من خارج المغرب عن داري نشر عربيتين مرموقتين وهما المصري وسرير الأسرار عن دار الهلال ودار الآداب على التوالي، وليس في هذه الإشارة انتقاص من الروايات الأخرى، وإنما هو إقرار بأن الرواية المغربية، ولا أقول من شمال المغرب تحرزا من الشوفينية، تخطت الحدود الجغرافية لتنفتح على القارء العربي. يمكن قراءة هذا التزامن والتجاور الجغرافي باعتباره يندرج في إطار ما سماه عز الدين التازي بتحقيق الرواية المغربية عموما عمقا جغرافيا متميزا، يقول: "إن الرواية المغربية قد شيدت عبر الكتابة واللغة والتخييل عمقا جغرافيا للمغرب بكل تنويعات الجغرافية، وحيث تكون متن روائي مغربي ينسب إلى الأمكنة والفضاءات بأبعادها الجغرافية، وأصبح ممكنا أن نتحدث عن روايات تستلهم فضاءات الخصوصية المحلية بمدلولاتها الدلالية والجمالية"، وبفضل هذه الروايات التي اشتغلت على فضاءات مدينية وقروية أصبح ممكنا الحديث، كما يرى ذلك التازي، عن روايات اشتغلت على فضاء فاس وطنجة والدار البيضاء ومراكش، وأخرى اشتغلت على فضاءات الريف والشاوية وغيرهما. بهذا المعنى تكون الروايات المذكورة الصادرة بتطوان قد حققت هذا العمق الجغرافي بامتياز، باعتبار كون جلها اشتغل على فضاء تطوان وخاصة المدينة العتيقة بها، وإن ظل السؤال الفني مطروحا حول حدود الانتقال من الاستلهام الجغرافي إلى الكتابة الروائية التخييلية، باستحضار ما قاله جمال الغيطاني عن المحلية كسبيل للكونية. وهنا يستوقفنا استشهاد الكاتبة المغربية زهرة زيراوي بهذه الروايات نفسها الصادرة بتطوان في سياق تبيان التطور الذي عرفته الرواية المغربية المعاصرة، ففي نظرها أن "عالم الرواية المغربية اليوم يفرض نفسه على القارئ والباحث عن الجديد، فالإصدارات اليوم تفاجئ القارئ المتعطش بما تعتمده من تقنيات وبما تبنيه من فضاءات تتراوح بين أنواع السرد الواقعي والواقعي الخيالي والواقعي الشعري" وهنا تستحضر الباحثة روايات أنقار وأقلعي والوزاني والمخلوفي للدلالة على ذلك التطور، لتخلص إلى أن هناك تنوعا في "مسالك الاختيار السردي لإماطة اللثام عن مكان واحد في زمن واحد، إنه تساوق يكشف عن التحولات الحاصلة" وتحذر في النهاية من أن "التجديد والعمق ليس حكرا في المشهد الحديث على جهة دون أخرى من جهات المغرب، بل هو نوع من التيار العام الذي يشترك الكل في صنعه." وأحسب أن الدعوة إلى الاهتمام بأدب الشمال عموما هو في الأساس دعوة إلى تضافر الجهود لتوسيع المتن الأدبي المغربي واستجلاء غناه وتنوعه بعيدا عن مفهم المركز الثابث والمحيط التابع. وقد تكون المناسبة هنا سانحة لتقديم بعض الملاحظات العامة حول المتن الروائي الصادر في مدينة تطوان مؤخرا، وهي في شكل رؤوس أقلام تركز على المشترك العام دون تدقيق. - قد أسمح لنفسي باقتراح عنوان قد يصدق على مجمل هذا المتن الروائي القصصي وهو العنوان الدال لرواية خالد أقلعي: أطياف البيت القديم3. وفي إيحاءات لفظة أطياف اختزال لعملية الكتابة بأبعادها التخييلية والواقعية والتباس العلاقة بين المستويين، خلوصا إلى الإمساك المتذبذب بزمن الطفولة وشغبها ومغامراتها في شكل أصداء وأطياف وأشباح تسعى لعبة الكتابة إلى إعطائها جسدا، ومن معاني المتن الجسد، تقول الساردة في سرير الأسرار: "صور ضبابية تنتشر مشتتة في ذاكرتي، يقترب مني ذلك الشتات بحدة يلفني....صور تتراقص أمام عيني، متماوجة بألوان صارخة تنبعث وتنطفئ في مخيلتي"4 ؛ - يغلب فضاء المدينة العتيقة على هذه النصوص ويحتل مكان شخصية رئيسة تتحكم في مصائر الشخصيات وترسم قدرها وتتتبع تقلباتها، وعلى غرار دروب المدينة الضيقة الملتوية، يتفرع الحكي سعيا إلى التقاط لحظات تختلط فيها المأساة بالشغب الطفولي، ويتم تصوير الفقر والعنف بعيدا عن أية رغبة في استدار العطف واستحلاب الشفقة، أو الإدانة الأخلاقية الضيقة؛ - يتقصد السرد الملامسة الحيية الخفرة لكل ما يتعلق بالجسد والرغبة الجنسية والعلاقات بين الجنسين، ففي هذا المتن الروائي يستشعر القارئ تهيبا من الخوض فيما قد يقود إلى عوالم أديب آخر ينتمي إلى نفس الجغرافية الطبيعية وهو محمد شكري، واللافت أنه في رواية سرير الأسرار يتعمد النص أن يجعل الشخصية الرئيسة تفلت بطريقة بطولية خارقة من قبضة عصابة كانت تهم باغتصابها، ما جعل النص يظل دائما في حدود اختياره الفني المتحرز من "أحابيل" الجسد ولغاته؛ - تحضر المرأة بقوة في مختلف هذه النصوص، لا كجسد أو كظل الرجال المستتر، بل كفاعل موجه للسرد متحكم في استرساله، خاصة في رواية "سرير الأسرار" للبشير الدامون، وأيضا في رواية أطياف البيت القديم لخالد أقلعي؛ - تلتقي هذه النصوص في استلهامها السيرة الذاتية وانتصارها للكتابة الواقعية ولعنصر الحكاية، وابتعادها عن التجريب، وليس في الأمر أي حكم قيمة، وهنا أستحضر ما ذكره أحمد المديني في مقدمة مجموعته القصصية "خريف.." مشيرا إلى انتقاله من التجريب في "كل اتجاه...إلى ضرب من القول الأدبي يؤمن بالتجنيس المنسق بعد أن عركه وتمرس به، وإلى يقين الالتزام بالكتابة كنظام"، وما ذلك منه إلى رغبة في السباحة في ذلك النهر العميق للأدب، في مجراه الممتد إلى ما لا نهاية، مد الكلاسيكية الأصيل" سعيا للالتقاء "بالآباء الذين شادوا والأبناء ورثوا وجددوا، الأرض صلبة تحت أقدامهم، والسماء هي السقف الوحيد لهاماتهم"5. فلم لا تكون السماء سماء تطوان ذات متن إبداعي ثري متوفز؟ 1 مجلة مواسم، عدد مزدوج 15-16، صيف 2003-خريف 2004. 2 الشعر العربي الحديث، بنياته وإبدالاتها، محمد بنيس، الجزء4، دار توبقال للنشر، ط1، 1991، ص86. 3 أطياف البيت القديم، خالد أقلعي، منشورات سلمى الثقافية، 2007 4 سرير الأسرار، البشير الدامون، در الآداب، ، ط1، 2008، ص5-6. 5 خريف...، أحمد المديني، منشورات أحمد المديني، ص17، 2008.