تشكل موضوعة « التراث» ، إحدى الموضوعات المركزية في الثقافة العربية منذ القرن التاسع عشر XIX، إن لم نقل قبلها . خصوصا إذا ما وضعناها ? أي الموضوعة تلك- في سياقها التاريخي، فيما يعرف عادة ب « صدمة الحداثة» أو» الفكر النهضوي العربي» . لاعتبارات معروفة لدى الجميع من حيث نزوع المفكر العربي نحو البحث والإجابة عن معضلة التأخر العربي. وكيفيات التقدم و التفكير في « الأنا « و»الآخر» وما إلى ذلك من ثنائيات مازالت تحتفظ براهنيتها إلى اليوم، الشيء الذي أضحى معه مقاربة التراث إجابة ممكنة عن أسئلة الراهن التاريخي، كأن التراث مشجب أو مقاس مهيأ لحمل هذا الراهن.خصوصا ونحن لم نستطع الحسم مع قضاياه، لتجذره في الروح والجسد، في الكلمات والأشياء، في اللغة واللاشعور، في ثنايا الممارسة والفكر، بل أصبح اليوم مقاسا جديدا إلى حد التطرف والإرهاب . وبالتالي أكسبته إيديولوجيا العماء توترا شديدا. هذا ما يدفع بعض المفكرين، فرادى أو مؤسسات، لإعادة بوصلة التاريخ عبر الركون إلى الخلف للدفاع عن التراث في بعده الحضاري و الإنساني أو في إعطاء ألف باء التراث العربي، على مسلمات الإقصاء والتكفير وما إلى ذلك من أمور دأب الإعلام العالمي على ترسيخها في متخيله في إطار ما يدعوه البعض « صدام الحضارات»،. لقد انتبه بعض المفكرين المغاربة إلى هذه التحولات التي طرأت وسهولة إشاعة الظلام عبر الاستفادة من تكنولوجيا المعلومات... في العقد الأخير من القرن الماضي، مثل الدكتور محمد عابد الجابري في كتابه (مدخل إلى القرآن الكريم (الجزء الأول): في التعريف بالقرآن) للدكتور محمد عابد الجابري وهو كتاب يروم في مضمره إلى إيجاد قنوات التواصل عبر الاستفادة من درس الأولين في تدبير الآختلاف « ذلك أن موضوعة التراث هي أم الموضوعات في الثقافة العربية الإسلامية، بما أسالته من مداد وشاهدته من معارك وتيارات بين مقاربات نجملها في : - الاستفادة من التراث في ما يهم الراهن العربي، أي الأخذ منه ما يلبي حاجات الراهن العربي، وترك مالا يستقيم مع هذه الدعوة. كأن التراث بهذا المعنى ? سلعة متنوعة داخل مركز تجاري كبير، نأخذ منه ما نريد ونترك مالا نريد، إنها أطروحة تفضحها الأيديولوجيا ويأسرها المعنى والتاريخ. - مقاربة تدعو العرب إلى ركوب قطار التاريخ دون الجلوس في قاعة الانتظار أي التوجه نحو المستقبل لاستلهام الحاضر الإنساني لطي صفحة الماضي دون العودة إليه بجميع الطرق المعلنة والمضمرة ومن بين المفكرين الذين دافعوا عن هذا الطرح الجريء، ومنذ كتابه الأول» الايديولوجيا العربية المعاصرة « أواخر الستينيات من القرن الماضي هو عبد الله العروي. - مقاربة تدعو العرب إلى قراءة وإعادة قراءة الصفحة قبل طيها، أي قراءة التراث والآستفادة منه. ومن بينها مقاربة الأستاذ محمد عابد الجابري الذين دشن استراتيجية عمله التراثي منذ نهاية السبعينيات وبداية ثمانينيات القرن الماضي، وبالضبط منذ مقدمة كتابه/ المفتاح « نحن والتراث «. وقد راكم د. الجابري أفقه الاستراتيجي كأفق كانطي (نسبة إلى كانط ) في البحث عن بنية العقل العربي أي في البحث عن الأصول، أصول تروم معرفة الآليات والإواليات التي فكر فيها العرب. وهي أطروحة مازال الجدال والنقاش حولها مستمرا إلى اليوم. - مقاربة تجد في المقاربات الأخرى نسيانا للجسد العربي وتمثلاته المتعددة وهي مقاربة تستفيد من البحث الجديد « وما بعد الحداثة « أي نحو البحث في الرمزي والمكبوت واللاشعور. والأمثال والعمارة وما إلى ذلك من أمور ظلت أسيرة في الأسئلة الأولى التي طرحها الأستاذ عبد الكبير الخطيبي. لا نرمي من هذا العرض البسيط تبويب المقاربات لوضعها في الأرشيف أو رفوف المكتبات بقدر ما نروم تلمس الطرق الممكنة لفهم مغلوط أو صحيح لمآزقنا وخيباتنا وتأخرنا والمضاعفات التي أحدثها في الحاضر وفي المستقبل. يدفعنا هذا التقديم لقراءة الكتاب الأخير للأستاذ الجابري:» مدخل إلى القرآن الكريم- الجزء الأول ?». وهو تقديم يدخل ضمن اهتمام قراء الجابري ومتتبعي المقاربات المتعددة لهذا الحقل من حقول المعرفة، حيث يطرح عنوان هذا الكتاب المتصل بمشروع (تكوين العقل العربي) للجابري، سؤال الأسبقية من حيث تبويب هذا المشروع . ألم يكن بالأحرى أن يكون هذا المدخل هو الكتاب الأول في سلسلة كتبه، مادام القرآن الكريم مقدمة ومدخلا لأي قراءة ممكنة للتراث العربي. بالشكل الذي خطه الأستاذ الجابري. ربما يكون المبرّر الذي يستند إليه في الكتب الأخرى، مبرّرا يضيف لاستراتيجية الكاتب أسباب النزول ،بمعنى أنه في اللحظة التي يفكر فيها في بنية العقل السياسي وجد نفسه مرهونا في البحث عن بنية العقل الأخلاقي، وهكذا...، ربما يجد الجابري في ما بعد إمكانية إعادة فهرسة كتبه وتبويبها حسب منطقها الداخلي وليس حسب أسباب نزولها. « مدخل القرآن الكريم « عنوان يفترض التوقف عنده عبر ربط الغلاف بالصفحات، أي عبر قراءة هذا بذاك، وإذا ما توقفنا عند العتبة نجد أن التعريف يظل في حدوده العامة، تعريفا بيداغوجيا لا يرقى إلى الآليات التي اشتغل بها في بنية العقل العربي. قد يكون الجابري، في هذا الكتاب مدعوا بشكل صريح إلى الإجابة عن أسئلة الإيديولوجيا، وأسئلة الراهن العربي بعد 11 سبتمبر 2001 وهذا ما يؤكده :» من هنا يمكنني القول إن التفكير في تأليف هذا الكتاب قد جاء، بصورة ما، نوعا من الاستجابة لظروف ما بعد أيلول / سبتمبر 2001...» (الصفحة15). كأن 11 سبتمبر 2001، حادثة تاريخية تم بمقتضاها تغيير رؤية الإنسان إلى العالم، بينما تشكل، في نظري، حادثة عرضية. والكتابات التي تلت هذه الحادثة في التفسير والتأويل وما إلى ذلك، يدخل ضمن التداول الإعلامي العالمي. من هنا تكون الاستجابة ركونا إلى الخلف للدفاع عن الأصل. ليظل الأصل مربوطا ب (أل) التعريف في محاولة للخروج من مقاربة دعوية للدخول إليها عبر طرح الأسئلة والتخلي عنها. إن الجابري لا يخفي الإيديولوجيا التي تسكنه منذ» نحن والتراث»، ولا يدفع السؤال المعرفي ركوب مخاطرته ، و تشكل آستجابته لكتابه هذا مأزقا نظريا وإيديولوجيا. فهو من جهة يصرح بأسباب النزول ومن جهة ثانية يدفع كتابه نحو ما يمكن أن نسميه» دليل المسلم المعاصر.» إن قاريء هذا الكتاب بأقسامه الثلاثة يدخل ضمن سؤال الجابري المتكرر، وهو سؤال ينبه إليه في كثير من الأحيان:» كيف نبني لأنفسنا فهما للقرآن، وأجوبة عن الأسئلة التي يطرحها التعامل معه كوحي إلهي، بصورة تجعل هذا الفهم معاصرا لنا (لمعهودنا) وفي نفس الوقت معاصرا لنفسه بوصفه ينتمي إلى عالم المطلق؟ص 212». إن هوية القرآن الكريم مزدوجة من حيث كونه نصا مطلقا و من جهة ثانية نصّا لغويا. هذا هو الإطار العام الذي يحدد فيه القراءة ومنعرجات التأويل، لكن إذا آفترضنا فرضية الجابري فإننا نتصور-بشكل ضمني- ثراء المقاربات النظرية التي آهتمت بهذه الموضوعة كاللسانيات و الانتروبولوجيا والإثنولوجيا ونظرية الخيال والرمزيات... لكننا لا نجد هذه المقاربات في هذه القراءة، ليس لأنها غائبة عن ذهن صاحبها بل لأنها ربما ستقحمه في مخاطرة لم يعهدها من قبل. هكذا نحاول استجلاء هدفه المصرح به سواء في جعل النص القرآني معاصرا لنا ومعاصرا لذاته أو في قراءة القرآن بعضه ببعض، ويتجلى ذلك على سبيل المثال لا الحصر في مجموعة من المفاهيم القرآنية الأساسية والمفاهيم المجاورة لها كمفهوم القرآن بربطه بالحديث والذكر والكتاب والفرقان أو في سياق آخر بالنبي والرسول، أو على مستوى مساءلته لموضوعة تدوين القرآن في عهد عثمان بن عفان والمضاعفات التي تركها هذا التدوين بين أهل السنة ثم فيما بعد بين الشيعة. وهي بالجملة ما يدفع قارىء الكتاب إلى ما يسكت عنه . كان الهدف معلنا ومسكوتا عنه في نفس اللحظة بالنسبة لأستاذنا الجابري حين وضع سؤال العصري كسؤال ملتبس بالنظر إليه من زاوية حدث وقع في سبتمبر 2001 بأمريكا. ذلك أننا نجد في إعلانه المسكوت عنه خاصة فيما يحدّده عصر التدوين(تدوين القرآن الكريم ) والسور التي رفعت، من الكتاب الأصل وتصريح الجابري الأول مع تصريحه الثاني، نوعا من التناقض البين بين الآيات ثم حذفها من القرآن ونفيه لهذا القول باستدعاء آية من آياته الكريمة لتفسير النفي. هل يستقيم المسكوت عنه في كتاب الجابري بدعوته الإصلاحية (ص16) أي إصلاح فهمنا لماضينا، دعوة الإصلاح لا تروم التجاوز بقدر ما تضعنا أسرى لماضينا وهذا أحد مآزق فكرنا العربي وإن كان آستاذنا خبيرا بمقاصدها ومضاعفاتها، وإذا كان هذا الكتاب يقدم لقارئه بعض القضايا التي تؤطر خياله وجسده وتعجن روحه بتاريخه،فيبدو مع ذلك أن ما يسكت عنه الجابري هو « المصيدة» التي سقط فيها بنيّة أو بدونها. وكأن الحادث الإرهابي الذي حدث في أمريكا أصابت شظاياه بوصلة أستاذنا. مدخل إلى القرآن الكريم (الجزء الأول): في التعريف بالقرآن للدكتور محمد عابد الجابري/ مركز دراسات الوحدة العربية 2006.