لقد صارت موضوعة الجسد تستقطب اليوم اهتماما بالغا في الفكر الفلسفي والعلمي، ليس لأنها كانت موضوعة خارج التقليد الفلسفي والديني، وإنما بالنظر إليها من زوايا علمية متعددة، كالسوسيولوجيا، والأنثربولوجيا، والتحليل النفسي، والسيميولوجيا والأدب... ونحن هنا، لا نود الانخراط في تاريخ الجسد، ولكننا نرغب في الإشارة إلى أهم القضايا التي أثيرت حوله. ونعني ثلاث محطات رئيسة وهي: الفكر الفلسفي، والفكر الديني، وأخيرا الفكر العلمي. والوقوف عند هذه المحطات يشكل بالنسبة لنا خريطة طريق لملامسة واختراق الإشكالية البحثية التي اقترحنا النظر إليها. وهي محطات تشكل استئناسا أوليا لموضوعنا. يخترق ميشيل فوكو هذا المهمل في تاريخ الأفكار، برسم حدوده التي يسير داخلها كخطاب غربي، حدود تتسم بثلاثة مناطق، هي السلطة والمعرفة والحقيقة. إن غنى وثراء المجتمع، رهين بالكيفية التي يستعمل بها الفرد جنسه، فإذا كان القرن 16 و17 قد عرف المنع والحجب والمراقبة الشديدة للجنس، فإن القرن 19 سيعرف تحولا في النظر إلى الجنس، إذ سيتم تحريره من طرف السلطة لتكثيره وضمه إلى الجسد الاجتماعي، ستتحول الجنسانية إذن عند البورجوازية إلى ربط السلطة باللذة ليصيرا متداخلين ومختلطين داخل آليات معقدة، وإيجابية للإشارة والبحث، ‹‹ المهم هو أن الجنس لم يكن مسألة إحساس ولذة، قانون ومنع، بل أيضا مسألة صواب وخطأ... باختصار لقد تشكل الجنس كرهان للحقيقة ›› . إذا افترضنا أن ثمة قانونا ومنعا، فإننا سنحصّل على الاعتراف، سواء كان اعترافا بالخطيئة كما سارت عليه المؤسسة الدينية، أو اعترافا مشروطا بأسئلة الطبيب أو القاضي... إلا أن هذا الاعتراف يظل خَدّاعا، ويتستر خلف التمويه والخداع، لإعطاء الشرعية للمراقبة والمنع، ولأن الأمر كذلك فقد أضحى الاعتراف إلى حدود اليوم. الطابع العام الذي يشكل خطاب الحقيقة حول الجنس. وبالمُحصّلة سيتحول الاعتراف من حيث هو خطيئة وذنب إلى كونه يكشف عن المرضي والسويّ. يتساءل فوكو: ‹‹ليس الأمر هو طرح السؤال لم الجنس سر، بل سؤال آخر: ما هي تلك القوة التي أخضعته للصمت مدة، وها هي الآن تتحرر، والتي تسمح لنا بالسؤال عنه، لكنه ظل لصيقا بمنطق القمع وعبر القمع؟›› . القمع -إذن– هوالناظم الرئيس الذي يسكن تاريخ الجنسانية، ولأنه كذلك حاول فوكو، تفكيك الإواليات والقوى التي تحركه، فالقرن 18 مثلا، لم يكن قرنا لتحرير الإنسان من الخرافة، وإنما وضعه كجسد تهتم به السلطة، من خلال مراقبة الساكنة، سواء في الولادات أو الوفيات.... إن السلطة لم تعد مهيمنة اقتصاديا، وإيديولوجيا بقدر ما هي مهيمنة على الجسد، فهي تحيل على ما يسميه فوكو، "بيو- سياسي" للسكان. لقد أصبحت الحياة مصدرا للمعرفة والمراقبة والسلطة، وقد اتخذ الجسد موضوعا لها، إذ يقول فوكو: ‹‹ لأول مرة تفكر السلطة في البيولوجيا ›› . لا عجب إذن أن تحتل السلطة سؤالا أساسيا في المنجز الفكري لميشيل فوكو، كأن البحث في المهمل والمنسي والمهمش هو بحث في السلطة. لقد تحول هذا المفهوم من مركزيته الدالة على الدولة إلى توزيعه و تفريغه على كل الأمكنة التي يحضر فيها الفرد و الجماعات والعمارة وما إلى ذلك، بمعنى لم تعد السلطة – كما تعودنا على فهمها – مقتصرة على جهاز الدولة. هنا تكمن جدة فوكو و رصانة فكره، ذلك أن البحث في السلطة ليس معطى واضحا، وإنما يتستر خلف كل الحجب في الدولة والمجتمع، و في الخطاب واللغة... لقد علمنا رولان بارت أن اللغة فاشية، أي أنها سلطة تفرض علينا حدودها وقواعدها. والسلطة بهذا المعنى أضحت مستحبة لتفكيكها، وتحليلها تحليلا جينيالوجيا يقوم على الحفر في الكيفية التي تتشكل بها داخل الخطاب والمعرفة. لكن ما السلطة؟ إنها، حسب دراسة دولوز لأطروحة ميشيل فوكو تنتج الواقع، قبل أن تقمع. كما تنتج الحقيقة قبل أن تضفي عليها رداء إيديولوجيا، قبل أن تجرد أو تموّه . إنها مشتتة وليست ممركزة، إنها تتسلل إلى كل شيء، وليست محصورة في جهاز بعينه، لقد أعطى ميشيل فوكو للسلطة أفقا آخر غير الذي كانت عليه في فلسفة الحق، ولا حتى في تصور ماركس لها، إنها زئبقية، لا تظهر إلا لتختفي، وبالتالي، فتكاثرها وتشتتها في كل مكان يعطيها حمولة دلالية أخرى. إنها لا تتحدد وفق تراتبية من الأعلى إلى القاعدة، وإنما هي تحتية يلزمها الحفر الجينيالوجي. هكذا يقول جيل دولوز: ( ولو رمنا، منذ الآن، تعريف الطابع العام للمؤسسة، سواء كانت الدولة أو غيرها، لبدَا لنا أنه يتمثل في تنظيم العلاقات التي هي قوام السلطة - الحكومة - وهي علاقة جزيئية أو" ميكرو فيزيائية " تدور حول نواة رئيسة: هي سلطة الأب بالنسبة للأسرة، أو سلطة المال أوالذهب أوالدولار بالنسبة للسوق، أو سلطة الله بالنسبة للدين أو سلطة الجنس بالنسبة للمؤسسة الجنسية )، إنها ميكروفيزياء السلطة، لا تبحث إلا في هذا التشتت الذي لاينتهي، وبالتالي فإن السلطة هي علاقات القوى، كعلاقات تخترق العمودي والأفقي معا للنظام والمؤسسة. نحيل هذا المفهوم على أستاذه نيتشه، باعتبار أن هذا الأخير – كما أسلفنا – أقام قلبا حقيقيا لتاريخ الفلسفة ولنظامها النسقي. إنه كما بين ذلك عبد السلام بن عبد العالي: " لقد بين نتشه أن إرادة المعرفة هي إرادة قوة، وأن المعرفة قوة وتسلط، وأن المسألة النقدية هي معرفة قيمة القيم" . إن علاقات القوى بما هي سلطة، لا تفيد قوة قامعة، وأهمية البحث فيها تكمن في ممارستها بدل تملكها. إنها تبسط نفسها على الكل، وتخترق كل القوى المتواجدة. هذا "موقف نتشوي عميق" كما يعتبره جيل دولوز. وموضوعة السلطة والجنس تفتح شهية البحث والكلام، ولكننا لا نقصد من ضيافتنا لهذا المفكر إلا فتح جسور ممكنة للقاء مع موضوعنا الرئيس. صحيح أن أطروحاته خلقت سجالا عميقا بين المفكرين في فرنسا وخارجها. وخلقت توترا إذ اعتبر البعض أن أطروحته نابعة من وضعه الذاتي (الشذوذ الجنسي). إلا أن هذا الموقف سيخلق ضجة داخل فرنسا وخارجها، على اعتبار أنه من الضروري عزل الحياة الخاصة عن المنجز الفكري له، ونحن هنا لا ندخل في هذا السجال ولا يهمنا من قريب أو بعيد. وإشارتنا لهذه الضجة الإعلامية تروم لفت الانتباه فقط إلى العلاقة بين الذات ومنتوجها الفكري. ثمة موضوعات لم نستطع التفصيل فيها، ولم أستطع تبيين العلاقات الفكرية بين هذا النص وذاك. لكن الذي حفزنا لاستضافة فوكو، هو الثورة التي أحدثها في الفكر المعاصر – ثورة امتدت من وضعه كمثقف منخرط بقضايا مجتمعه، بالسياسة، بما يقع في العالم، إلى انخراطه العلمي والفلسفي في هذا الذي لا نفكر فيه، في السجن والجنون والجنس... صحيح أن بضع صفحات ستكون مجحفة في حق هذا المفكر الذي لا نستطيع إكمال صفحة من صفحات كتبه، إلا وتفرض علينا العودة إليها. إنه زئبقي كما أشاد به نتشه وهيدجر. ولأنه كذلك فإن أسئلته وفرضياته في "تاريخ الجنسانية" ستصاحبنا حين قراءة المتن العربي الإسلامي، أي في الموضوعة التي سنبحث فيها. صحيح أننا انطلقنا –في الفصل الأول– من وضع الجسد من خلال مقاربات فلسفية مختلفة، إلا أن اختيارنا لبعض الفلاسفة دون غيرهم مسألة تروم مسرحة هذا المشهد الأول، كأننا لا نريد الضياع داخل المكتبة الفلسفية، بل حتى هذا الاختيار أضاعنا، وفتحنا علينا تيها بلا حدود، لذا كان من اللازم الترحال في هذا التيه حتى نحدد المسرح الفلسفي الذي نود النظر إليه. لقد أعلنا أن نظرتنا ستكون خاطفة وومضية وبرقية، لأننا نعرف منذ البدء أن ترحالنا مشوب بالمخاطر والمزالق، وأن المخاطرة مغامرة، وأن المغامرة تفترض هذا الترحال المتجدد، وهذه القراءة التي تتسع كلما يخيل لنا قرب نهايتها، أليست لكل نهاية بداية ولكل سؤال جواب، وكل سؤال لغم ينفجر هنا أو هنالك. لكن كيف نربط ترحالنا من جغرافية إلى أخرى، من جلجامش إلى ميشيل فوكو مرورا بأفلاطون وديكارت ونيتشه وميرلوبونتي. هل يمكن تقريب الجغرافيات، وتهييء المسرح بأقنعة تَقنّع بها هؤلاء بما يحيله القناع من حجب المعنى، أليس المعنى هنا بخارا يتدلى بين هذا الفيلسوف وذاك؟ لنبحث عن إبرة وخيط نرتق بها هذه الفراغات، وحتى إذا قمنا بذلك، فنحن لا نضيف لخرائطية هذه الأفكار الفلسفية إلا انفصالاتها، لكن نحن على خشبة مسرح يحضر فيها هؤلاء، ليتحاور كل بأسلوبه الخاص حول الجسد، هذا الذي ظل حاضرا ومغيبا، حاملا للخطأ والصواب، مريضا أو سويا، فاعلا أو منفعلا، عبدا أو سيدا، ناقصا، أو كاملا، شقيا أو سعيدا... جسد يتحول من جغرافية فلسفية إلى أخرى، من زاوية نظر إلى زاوية نظر أخرى. جسد يتغطى بثنائية (الذكورة والأنوثة) في علاقة الإرادة بالقوة، أي فيما يجمع ويفرق بينهما، في ذلك الوسط الذي ليس بأنثى ولاذكر، أي في ذاك الشاذ الذي طردته الطبيعة والثقافة معا، ليتجدد ويتمظهر في الراهن العالمي باسم الحقوق..... إنّ الربط بين التصورات الفلسفية – السالفة الذكر –يسكن تاريخنا الخاص والعام، ليس فقط كقراء للفكر الفلسفي، وإنما في ما تشكله تكمُن الرغبة لترحال متزايد في العالم والذات. هل أعطينا للجسد معنى في اختيارنا لهؤلاء الفلاسفة؟ أم أننا لا نستطيع جمع المعنى إلا فيما بعد. تلك هي المهمة التي تنتظرنا مع ما تبقى من الباب الأول.