لقد صارت موضوعة الجسد تستقطب اليوم اهتماما بالغا في الفكر الفلسفي والعلمي، ليس لأنها كانت موضوعة خارج التقليد الفلسفي والديني، وإنما بالنظر إليها من زوايا علمية متعددة، كالسوسيولوجيا، والأنثربولوجيا، والتحليل النفسي، والسيميولوجيا والأدب... ونحن هنا، لا نود الانخراط في تاريخ الجسد، ولكننا نرغب في الإشارة إلى أهم القضايا التي أثيرت حوله. ونعني ثلاث محطات رئيسة وهي: الفكر الفلسفي، والفكر الديني، وأخيرا الفكر العلمي. والوقوف عند هذه المحطات يشكل بالنسبة لنا خريطة طريق لملامسة واختراق الإشكالية البحثية التي اقترحنا النظر إليها. وهي محطات تشكل استئناسا أوليا لموضوعنا. لا تكمن أهمية ميشيل فوكو في تأريخه للأفكار، وإنما في استشكال المهمل منها. لقد اهتم بالجنون والسجن، وهي موضوعات لم يقاربها أحد بالشكل الذي قاربها به ميشيل فوكو. ‹‹كأنه يجر البحث الأكاديمي إلى الهامشي والمنسي، إنها جدة هذا المفكر الاستثنائي الذي قال عنه صديقه "جيل دولوز": لم يتعامل فوكو مع الكتابة على أنها هدف أو غاية فقط، وهذا ما يجعله في مصاف كبار الكتاب، وما يجعل الفرحة عظيمة، والابتسامة جلية أكثر فأكثر فيما يكتبه. كوميديا إلهية للعقوبات. ومن حق المرء أن يُفتن ويُسحر إلى حد الموت من الضحك أمام هذا القدر الهائل من الابتكارات الشاذة›› . لكننا هنا لا نستطيع سوى مسايرة هذا المفكر - بكثير من القلق والتأمل – كما لو كان يقدم فرضياته النظرية بقراءة واقعنا وفكرنا. لهذا استقطَبَ اهتمامَ مفكرين عرب، عبر استلهامهم لبعض آلياته النقدية، للنظر في تاريخ الفكر العربي الإسلامي. نحن إذن أمام مفكر يطوف بنا من فضاء إلى آخر، من الجنون إلى السجن والجنس بمقاربة فلسفية عميقة، وهي بالجملة تتأسس على جدليات السلطة، الحقيقة والمعرفة، و بما أن موضوعنا في هذا الفصل هو الجسد، فيما يحمله من علامات متعددة، و بما أن هذا الجسد مرتبط بالدولة والمجتمع، مما أوجب تطويعه وإخضاعه لآليات السلطة كي يكون منتجا وفاعلا، فإن دراسته ستقوم على مقاربات علمية ومختبرية متعددة، و ميشيل فوكو لا يدرس هاته الموضوعة بشكل تاريخي وإنما بشكل جينيالوجي، مخترقا بذلك كل التصورات التي حيكت حول الجسد الإنساني سواء في شقها القانوني، أو السياسي، أو البيولوجي و الاقتصادي والطبي وما إلى ذلك. إنه يقوم بخلخلة هاته التصورات عبر فضح الميتافيزيقا الثاوية خلفها، والسلطات التي توطنها... و إذا كان ميشيل فوكو قد ضَمَّن في كتابه "الحراسة والعقاب" حديثا عن السجن، وما يشكله كمكان داخل/خارج في ضبط المنحرف، وإذا كان يعتبر أن المجتمعات الحديثة هي مجتمعات موسومة بالانضباط، فإن مفهوم الانضباط لا يقاس بالمؤسسة وبالجهاز وإنما هو ‹‹ لون من السلطة، أساليب وفنون تتخلل سائر أنواع الأجهزة والمؤسسات، لربطها من جديد و لجعلها تتظافر، ممارِسَة نفسَها بطريقة جديدة›› . هاهنا يعيدنا ميشيل فوكو إلى مشتله الفلسفي والفكري، من خلال مجموعة من المفاهيم التي ترتمي في حضن السلطة والمعرفة والحقيقة، كمفهوم الانضباط والقمع، والعزل، والتحرير، والسجن، والشذوذ، والجنس، وغيرها... حيث يقوم بتحليل هذه المفاهيم تحليلا نقديا، يتغيا خلخلة كل ما يستره وما يحجبه. قد نفهم هذا بشكل جلي حين يقول ‹‹كل التقنيات والإجراءات المستخدمة في مستشفيات المجانين في القرن 19 كالعزل والاستنطاق، الخاص أو العام، والمعاملات التأديبية مثل الاستحمام، والمعاملات المعنوية (التشجيع أو التوبيخ) النظام الصارم، العمل الإجباري المكافآت والعلاقات التفضيلية بين الطبيب وبعض مرضاه، و علاقات الإخلال والامتلاك والترويض والعبودية أحيانا التي تربط المريض بالطبيب... فإن وظيفة كل ذلك تتمثل في جعل شخصية الطبيب سيد الجنون›› . إن اهتمام الدولة الحديثة بالجسد هو أمر بالغ الأهمية عند ميشيل فوكو، ليس فقط في تربية الأطفال، بل حتى في الإنجاب والصحة الجنسية، وغير ذلك من الأمور التي تهتم بالجسد، لذا سيشكل الجنس موضوعة رئيسة في مشروعه الفلسفي والفكري، ويتمثل ذلك في ثلاثيته الموسومة بتاريخ الجنسانية Histoire de la Sexualité. وهو مشروع يؤسسه صاحبه على سؤال إشكالي: لماذا يحتاج المجتمع الغربي والأوروبي، على الخصوص، لعلم جنسي، منذ قرون إلى اليوم؟ ولمَ تلك الرؤية النهمة حول معرفة الحقيقة عبر الجنس؟ لا غرو أن يدشن ميشيل فوكو تاريخ الجنسانية بطريقة تفيد تاريخ التمثلات، أوالممارسات الجنسية وأشكال تطورها، بقدر ما هو بحث تحليلي جينيالوجي للخطابات الجنسية، أي فيما يسميه فوكو ب " لعبة الحقيقة "، كلعبة للصواب والخطإ. إنه مفهوم ظهر في القرن التاسع عشر، والذي عم إدخاله في عدة مجالات معرفية اتخذته موضوعا لبحثها، من طب، وتحليل نفسي، وطب مرضي ونفسي، وعلم الجنس.... لقد شكل الجنس في الثقافة الغربية ( ق 16 – 17 م) موضوعا مهملا، بل أكثر من ذلك وقع عليه الحظر والمنع، إلى حدود الإجهاز عليه مع الإنحراف الجنسي أو المثلية (Homosexualité)، إلا أن هذا الحظر سرعان ما سيتكلم، ويعترف بكل الأشكال التعبيرية، وهذا لم يتم داخل المصحة وقبالة الطبيب المعالج، بل سيتم في القرن 19 الكلام عن الجنس في الطب، والطب النفسي، والتحليل النفسي... لكن الذي يهم ميشيل فوكو هو الكيفيات التي تم بمقتضاها الحديث عن الجنس، لذا سيبحث في الأرشيفات الخاصة به، كنوع من إزالة الغبار والصمت المطبق عليها. نعني بذلك القمع الذي سلط على الجنس في الثقافة الغربية (ق 16 – 17). هذا القمع المتأرجح بين المعلن والمحجوب. قمع يظهر ويختفي في هذا الأرشيف الغربي، لذا يقول: ‹‹ إن الشكوك التي أود أن أعارض بها الفرضية القمعية، لا تهدف إلى القول بأنها خاطئة، بل في إعادة موضعتها داخل اقتصاد عام للخطابات حول الجنس في المجتمعات الغربية منذ ق 17›› . تبدو استراتيجية ميشيل فوكو متمحورة حول السلطة، بما هي مفعولات مشتتة في كل الأمكنة، وليست محصورة في جهاز بعينه، كجهاز الدولة مثلا... إنها قطب الرحى التي تشكل تلك الإستراتيجية. فالبحث في الجنس إذن هو بحث في السلطة، والمعرفة والحقيقة في تجاذبهما وتعالقهما، نعني بذلك الكيفية التي أضحى بها الجنس خطابا تتداخل فيه إرادة المعرفة بالتقنيات المتعددة للسلطة، وذلك من أجل معرفة كيف تستخدمها السلطة من خلال إرادتها المعرفية، وتقنيات المراقبة المصاحبة لها، وكل ذلك بقصد إنشاء علم الجنسانية. ‹‹ افترض أن إنتاج الخطاب في كل مجتمع هو في نفس الوقت إنتاج مراقب، ومنتقى ومنظم، ومعاد توزيعه من خلال عدد من الإجراءات التي يكون دورها هو الحد من سلطاته ومخاطره. والتحكم في حدوثه المحتمل. وإخفاء ماديته الثقيلة والرهيبة... إننا نعرف جيدا أنه ليس لدينا الحق في أن نقول كل شيء، وإننا لا يمكن أن نتحدث عن كل شيء في كل هدف، ونعرف أخيرا ألا أحد يمكنه أن يتحدث عن أي شيء كان، هناك الموضوع الذي لا يجوز الحديث عنه، وهناك الطقوس الخاصة بكل طرف وحق الامتياز أوالخصوصية الممنوحة للذات المتحدثة›› .