لقد صارت موضوعة الجسد تستقطب اليوم اهتماما بالغا في الفكر الفلسفي والعلمي، ليس لأنها كانت موضوعة خارج التقليد الفلسفي والديني، وإنما بالنظر إليها من زوايا علمية متعددة، كالسوسيولوجيا، والأنثربولوجيا، والتحليل النفسي، والسيميولوجيا والأدب... ونحن هنا، لا نود الانخراط في تاريخ الجسد، ولكننا نرغب في الإشارة إلى أهم القضايا التي أثيرت حوله. ونعني ثلاث محطات رئيسة وهي: الفكر الفلسفي، والفكر الديني، وأخيرا الفكر العلمي. والوقوف عند هذه المحطات يشكل بالنسبة لنا خريطة طريق لملامسة واختراق الإشكالية البحثية التي اقترحنا النظر إليها. وهي محطات تشكل استئناسا أوليا لموضوعنا. لقد عودنا التقليد الفلسفي تحقيب هذه المرحلة من أفلاطون إلى ديكارت، بكونها تتميز بخصائص مشتركة في التفكير في الوجود، ولأنها كذلك فإن الجسد يتحدد وفق ثنائية الجسد والروح، وهي ثنائية، تناسلتْ من ثنائية الفكر والواقع، باعتبارها ثنائية ما فتيء حضورها ينبسط على طول وعرض تاريخ الفلسفة. ونحن هنا – كما أسلفنا الذكر – لن نتعقب هذه الفكرة الموضوعة من فيلسوف إلى آخر بقدر ما سنحاول الإحاطة بها، أي الإحاطة بأنموذجين فلسفيين تركا أثرهما على الفكر الفلسفي برمته. إنهما لا يزالان يعيشان معنا قراءة وبحثا وتدريسا ومشكلات. وإذا كان تاريخ الفلسفة يعتبر أفلاطون بدايته الفعلية نظرا لتدشينه الفلسفة على قواعد أكاديمية مدرسية، وصوغها كتابة على شكل حوار بين سقراط والسوفسطائيين، فإننا مع ذلك نتحفظ على هذا التقليد الفلسفي، ليس كما قال نيتشه في كون أفلاطون دمر الفلسفة، عبر إخراجها من المعيش اليومي وإدخالها إلى أسوار أكاديميته، بل لأن هذه الأسوار هي المشكّلة للجسد الذي يبتغيه أفلاطون، من حيث هو جسد يتوق نحو تحرره من الحواس الدالة على المقبرة، باعتبارها موتا وزوالا. فأسوار أكاديمية أفلاطون لا تقبل الأجساد كما هي، وإنما ينبغي تدريبها حتى تكون لها الحظوة للدخول إليها. تداريب تشكل إستراتيجية النظر الفلسفي الإغريقي، باعتباره وجهة نظر مؤسسة على الانسجام في الكون والوجود. لهذا يعتبر سقراط أن قيمته هي أنه خلق إنسانا وليس بهيمة، ورجلا وليس امرأة، وأخيرا إغريقيا وليس بربريا. والتأمل في هذا الاعتراف السقراطي يفيد الانسجام الناظم بين كونه إغريقيا/إنسانا، وكونه رجلا. كما أن حدود العلاقة بين هذه الثلاثية/الاعتراف هو معيار الأفضلية، أفضلية هذا على ذاك. فمن حيث أنه رجل فهذا يعني القوة التي يتميز بها على الآخر. فمفعول القوة هوالناظم الرئيس لهذا الاعتراف، والذي سيتّبعه فيه تلميذه أفلاطون في رسمه حدود الفلسفة، من حيث أنها تتكلم اليونانية بتعبير مارتن هايدجر. الاعتراف السقراطي إذن هو تحديد لمركزية الرجل، بما أنه حر، وذلك لكونه خطابا موجها لهذا الحر، إنه (أي الاعتراف) رسم للمجتمع الآثيني، لأن قيادته رجولية، أما النساء فهن خارج الرسم المحدد. إنهن موضوعات للرغبة. إنهن يفتقدن القيمة البطولية التي هي مقتصرة على الرجل الحر. هاهنا تتجلى أخلاق الإغريق بالشكل الذي رسمها سقراط/أفلاطون، من حيث هي أخلاق تنزع نحو أفضلية الرجل على المرأة وأفضلية الروح على الجسد. والمركزية التي وُضع فيها الرجل عند أفلاطون وأرسطو تتأسس على أربع بنيات رئيسة، صاغها ميشيل فوكو في "تاريخ الجنسانية"، تتعلق الأولى بتطوير تغذية الجسد، والثانية بالاقتصاد بخصوص الزواج، والثالثة هي الإيروسية في التمتع بالغلمان، والأخيرة في الفلسفة بخصوص الحقيقة. إن هذا التفكيك الذي قام به ميشيل فوكو للجنس عند الإغريق يتمحور حول كمال الجسد باعتباره طريقا نحو الحقيقة. والحقيقة بهذا المعنى لا تنكشف إلا مع جسد صحيح وسوي، أي ذاك الجسد الذي نقى نفسه من الأكليشيهات الحسية العالقة به. فحتى أكاديميته لا يدخل إليها إلا من كان رياضيا. والمشتغل بالرياضة له قيمة مائزة، لكونه يتعامل بالتجريد. هذا الأخير لا يستقيم إلا بالقطع مع الحسي والمادي، لنعد مرة أخرى إلى " محاورة الكهف " الدالة على جسدين، جسد مكبل بالوهم داخل الكهف يرى الظلال معتبرا إياها حقيقة، وجسد آخر تحرر للتو من الظلال مكتشفا الحقيقة، فالحقيقة إذن تتجلى في كيفية الوصول إليها، وهي عملية تدريبية يقطع فيها الجسد مراحل متعددة، إلى حدود الوصول إلى الخير كأسمى المثل. وربْط البنية الأولى بالأخيرة يضعنا مرة أخرى أمام موضوعة الجسد عند الإغريق، لأنه جسد تتملكه الرغبة. ولأن الرغبة تحيل على موضوعها، كتقابل الذات الراغبة مع موضوعها. نقص يبحث عنه الراغب لملئه واكتماله، مثل علاقة الرجل بالمرأة تماما، فالرجل – حسب أرسطو – قوة فاعلة بينما المرأة تكون منفعلة. وبين الفعل والانفعال مساحة تأويلية تندغم فيها المدينة. مدينة أفلاطون وأرسطو، أي في الحدود التي يُرسم فيها الجسد بكل تشكلاته و في حدود الممارسة الجنسية المعتدلة، داخل بيت الزوجية. إن هذه العلاقة في العمق التبادلي بين الرجل والمرأة تفيد قيادة البيت، وهي – في العموم – لا تختلف عن ممارسة السلطة داخل المدينة، لأنّ آليات السّلطة المعقّدة يمكن أن ترجع إلى خطاطات واحدة متشابهة وإن تعقّدت تمظهراتها، يقول ميشيل فوكو في هذا الصدد : ‹‹لقد كنت بحاجة أيضاً إلى انزياح نظريّ حتّى أحلّل ما نصفه عادة بكونه تجليات ‹‹للسلطة››: وقد قادني الأمر إلى التساؤل بالأحرى حول العلاقات المتعدّدة والاستراتيجيّات المفتوحة والتقنيات العقلانيّة التي تحكم ممارسة السّلط›› . إن العلاقة الجنسية تكتسب في عمقها نظاما اجتماعيا داخل المدينة، بين الفاعل والمنفعل، بين المهيمن والمهيمن عليه... هكذا يبدو الجنس مرتبطا بسياسة المدينة، ليس لكون الأول فعلا للإنجاب، وإنما في الكيفية التي يتم بها التدبير السياسي لهذا الفعل داخل المدينة، فإذا كان أفلاطون يبحث عن الانسجام في كل شيء، انسجام العلاقات الاجتماعية التراتبية بين العبيد، والجند، والأحرار كمواطنين فاعلين في المدينة، فإن هذا الانسجام يروم الطبيعة، وبالتالي فإن أفلاطون – في كتاباته المتأخرة – كان ضد الغلمان، لكون محبتهم وممارسة الجنس معهم هو ضد الطبيعة. ها هنا يعود الجسد مرة أخرى لاستعارته البطولية، إنه الجسد المثال الذي يتمظهر أمامنا. لقد طرح أفلاطون وأرسطو بصراحة مسألة العلاقة بين الأنثوي والذكوري، وأنماط القيمة، لكن في مفهوم فيزيائي قائم على أن البطولة لا تخص سوى الذكور الشباب: القوة الرشاقة.... ما هي العناصر التي تتدخل لتحدد الوضعية الملائمة للجسد البطولي كجسد محارب، جسد يتعرى للنظر والحكم عليه . و مسألة النظر التي تموقِعُ قيمة الجسد، هي ما تكشف عنه فلسفة أفلاطون وأرسطو، أو بالأحرى هي المعيار التمثلي للجسد.