خاضت العديد من الدول، تجربة العمل بالمجالس الاقتصادية والاجتماعية كآلية من آليات الدمقرطة، وتقريب القرار الاقتصادي والاجتماعي من المواطنات والمواطنين، كما يعتبر أداة للتشاور والمشورة تعتمدها السلطتان التشريعية والتنفيذية قبل سن أي قانون أو اتخاذ أي قرار يشكل لحظة تمفصل في السياسة الاقتصادية?والاجتماعية للبلاد. ومهما كان فإن لكل بلد دواعيه، وله تجاربه في هذا المجال. والمغرب، وهو يستجيب لحاجات اقتصادية واجتماعية، وبشكل مؤكد، لخلفياته السياسية، في تفاعل مع التحولات التي بدأ يعرفها المجتمع المغربي والعالم من حوله، قرر بدوره الدخول في هذه التجربة بعد مرور أزيد من عقد ونصف على إقرار دستور المملكة العمل بالمجلس الاقتصادي الاجتماعي (دستور 1992 وتم تأكيده في دستور 1996). وخوفا من أن يظل هذا المشروع مجرد رقم جديد ينضاف إلى أزيد من عشرين تجربة عرفها مغرب الاستقلال في العمل بالمجالس العليا الاستشارية، أغلبها جامد، أو أن يظل نسخة جديدة لتجارب أفرغت من محتواها الحقيقي، وملئت بمحتويات أخرى تبعدها عن أداء مهامها كما يقتضيها إعلان النيات الحسنة عند التأسيس، وكما هي متعارف عليها عند أمم أخرى، وخوفا من أن يشكل هذا المجلس بالصيغة التي يعرض بها مشروع قانونه التنظيمي حاليا على أنظار الحكومة، فإني أرى أنه من الضروري الإدلاء ببعض الملاحظات.. .. طبعا لا يمكن إلا أن نثمن هذا الدور الاستشاري، خاصة إذا تم الاعتماد في إبداء الرأي على دراسات وأبحاث متخصصة مشفوعة بمواقف القوى الحية في المغرب االجديد، لكن لا يجوز بأية حال من الأحوال أن يكون ذلك مبررا جديدا لعرقلة عمل المشرع، وإطالة مسطرة التشريع، خاصة وأنه ليس في الدستور ولا في القوانين التنظيمية ما يلزم الحكومة والبرلمان بالتقيد برأي المجلس الاقتصادي الاجتماعي. ٭ المجلس ليس آلية من آليات التأمل يقودها التقنيون: إن العديد من الدول التي تبنت هذه التقنية لم تتبنها لمجرد كونها مجلسا للتداول بين الفاعلين الاقتصاديين والاجتماعيين، ولكن لكونها آلية من الآليات التي تنظم العلاقات بين متطلبات الاقتصاد الوطني ومتطلبات السياسة الاجتماعية. ذلك أن من طبيعة عمل الدولة الحديثة، خاصة في المجتمعات الليبرالية اقتصاديا، خلق نوع من التضارب والتباعد بين الطموح الاقتصادي لهذه الدول، وبين متطلبات تمفصلات التحولات الاجتماعية المصاحبة لكل عملية إقلاع اقتصادي؛ وهو ما يشكل صلب هوية الأنظمة الليبرالية، خاصة في صيغها الريگانية والتاتشيرية. إن الوجه المقابل لكل عملية اقتصادية، في مجتمعاتنا المعاصرة، هو بصيغة أو بأخرى، نوع من المساس بالحقل الاجتماعي، ولعل أبرز مشهد يمكن استحضاره في هذا السياق هو ذاك الصراع المرير الذي عرفته هذه المجتمعات في إطار النقابية المركزية والقطاعية، وحيرتها التاريخية بين تحديات المنافسة الشرسة بين الشركات والمقاولات من جهة ومتطلبات الحياة الاجتماعية للعمال والمستخدمين، ذلك أن كثيرا من أرباب العمل يجدون أنفسهم، من أجل الحفاظ، على وتيرة نمو الإنتاج، مضطرين للبحث عن اليد العاملة الرخيصة، أو على الأقل عدم الاستجابة لكل مطالب العمال بالرفع من الأجور والرعاية الاجتماعية بصفة عامة، بل إن بعض الدول التي خضعت لضغوطات هذه النقابات وجدت نفسها أمام ارتفاع مستوى معيشة اليد العاملة التي هي في حاجة إليها، مما يجعلها تستورد هذه اليد العاملة أو على الأقل تحاول خلق التوازن بين المستويين على حساب الدورة الاقتصادية، وهو ما لا تسمح به دائما الأوضاع الاقتصادية، ولنا في النمور الأسيوية أكثر من شاهد. جعل التمثيلية حقيقية على مستوى القطاعات والشرائح الاجتماعية: نظراً لما ذكرنا سابقا، فإن المجلس لا يمكن أن يؤدي دوره الحقيقي إلا إذا كانت التمثيلية فيه حقيقية وفعلية، ولا تستجيب لمجرد الانتخاب أو التعيين في المنصب لذاته أولأهداف أخرى بعيدة عن استراتيجية التوفيق بين المتطلبات الاقتصادية والإكراهات الاجتماعية؛ بل يجب أن يكون ذلك بناء على مؤهلات حقيقية في مجال التمرس بإشكالات المجتمع المغربي الإقتصادية والاجتماعية، بل والسياسية. لابد من توفر معايير محددة لا تقف عند حدود تمثيل شريحة أو قطاع اقتصادي معين أو الدراية بالقطاع وبدهاليز العمل النقابي والتمثيلي بالقطاع وبإكراهاته ومختلف الإشكاليات التي تتحكم فيه. كل هذا وحده لا يكفي إذا لم يكن يؤطره إلمام حقيقي بالإشكالات الاقتصادية والاجتماعية التي تشكل عصب الصراع المحتكم بين العمل الاقتصادي والعمل الاجتماعي. وهو ما يمكن أن يوفره المراس الطويل بالمداولات والنقاشات السياسية والفلسفية والنظرية، إلى جانب الممارسة العملية، والاحتكاك عن قرب مع هذه الإشكالات. وبمعنى آخر إن هؤلاء الأعضاء الممثلين لمختلف القطاعات والشرائح الاجتماعية، لا يجوز أن يحظوا بالثقة، تعيينا أو انتخابا، لمجرد صلاتهم التنظيمية بالمنظمة الاقتصادية والاجتماعية، ولكن،إلى جانب توفر هذا الشرط ، يجب أن يتميزوا بنوع من الإلمام والمدارسة والمناقشة بما يجعلهم قادرين على التوفيق بين الحس الوطني والحس الاجتماعي، في أفق القدرة على التحكم من ممكنات المتطلبات الاقتصادية وتحديات الشروط السياسية والثقافية والاجتماعية، وبالتالي أن يكون قادرا على اقتراح وإعطاء حلول لا تميل إلى ترجيح كفة القبيلة السياسية أو الاقتصادية أو الاجتماعية على حساب مبادئ وأخلاق التنمية التشاركية مع كل الفاعلين الآخرين، مهما بدوا في الصورة النقيض المذكي للصراع الطبقي للتحليلات الماركسية. وبذلك يمكن أن نضمن للمجلس، لا فقط الاستمرارية في أداء مهامه الاستشارية لدى السلطتين التنفيذية والتشريعية، وإنما أيضا ضمان سداد ومعقولية المقترحات والتوصيات التي يتقدم بها لدى الفاعل السياسي والاقتصادي، بما يفيد تقدم الاقتصاد الوطني دون المساس بأسس الرخاء الاجتماعي المطلوب. إن كل تفريط في جانب على حساب الآخر لا يمكن إلا أن يشكل مدعاة حقيقية وأكيدة لإنشاء المجلس الاقتصادي الاجتماعي كفضاء للتداول حول هذا التعارض بين الحقلين، الاقتصادي والاجتماعي برعاية من رجل السياسة، هو ما جاء المجلس أصلا ليسد الفراغ فيه . ضبط الاختصاصات بما لا يؤدي إلى التنازع مع هيئات أخرى مجاورة: الكل يعرف أن في المغرب العديد من الهيئات التي تنظر في القضايا الاقتصادية والاجتماعية، أبرزها مجلس المستشارين، الغرفة الثانية في البرلمان المغربي، وربما هذا هو الذي حدا بالبعض إلى المطالبة بإلغاء هذه الغرفة وتعويضها بالمجلس الاقتصادي الاجتماعي. كما أن هناك هيئات أخرى كثيرة تعمل على المداولة والمناقشة في هذه القضايا ومشابهاتها. واعتقد أن إنشاء المجلس الاقتصادي الاجتماعي يجب أن يؤدي إلى إعادة النظر في هذه المؤسسات على مستوى قوانينها التنظيمية بضبط اختصاصات كل منها بما لا يؤدي إلى الالتباس أو تكرار الدراسات وهدر الجهد والمال، كما هو الحال بين الغرفتين البرلمانيتين، ذلك أن الإدارة تتوفر على أجهزتها الإدارية التي تتأمل وتناقش مختلف القضايا الاقتصادية والاجتماعية كوزارة المالية والاقتصاد وزارة التشغيل والتكوين المهني وزارة الصناعة والتجارة إلخ ... كما أن الإدارة يمكنها اللجوء إلى مكاتب ومراكز الدارسة والمخابرة المختصة، وإلى ذوي الخبرة والاختصاص، بما يفيد في ضبط هذه القضايا. لذلك لا يمكن بتاتا التفكير في جعل المجلس مجرد مختبر أو مكتب تقني للدراسات الاقتصادية والاجتماعية، يقدم مقترحات تقنية للسلطتين التنفيذية والتشريعية، علما بأنه بإمكان الإدارة وتقنييها أن يقوموا بذلك، ولكنه أداة للتأمل الفلسفي والمستقبلي والفكري والعملي في القضايا والإشكالات الاقتصادية والاجتماعية المطروحة أمام المجتمع المغربي ومؤسساته السياسية والإدارية في تحد تؤطره التطورات السريعة بفعل العولمة والحداثة. وعندما أقول الإشكالات فهذا معناه أنها ليست مشاكل قابلة للحل بمجرد قرار تقني أو إداري أو اقتصادي، أو بمجرد تدخل جهة، مخول لها أو غير مخول، دون الآليات الأخرى، إنما هي اشكاليات تحتاج التداول بين مختلف الفاعلين في الحقلين الاجتماعي والاقتصادي، بما يجعلهم على وعي ودراية بهذه الإشكالات .