بقدر ما تعتبر زيت أركان رمزا للدعامة الثانية لمخطط المغرب الأخضر، بقدر ما يكشف واقع صناعة وتصدير هذه الزيت عن فشل الحكومة في تحقيق أهداف هذه الدعامة وانزلاق سياستها في هذا المجال عن مبادئ الفلاحة التضامنية والتجارة المنصفة والتنمية المستدامة. فقد ارتبطت صناعة زيت أركان في الأذهان بصورة النساء القرويات يجلسن القرفصاء في حلقة دائرية، ويؤدين مهام معينة ضمن سلسلة من العمليات المتوارثة عبر آلاف السنين وصولا إلى استخراج تلك الزيت العجيبة التي غزت بفضل خصائصها الفريدة رفوف محلات التسوق عبر العالم. فعندما يمسك المستهلك الأوروبي بقنينة زيت الأركان الصغيرة تتسابق في مخيلته صور التعاونيات النسائية في الجبال النائية وصدى الأهازيج الأمازيغية التي ترافق عمليات جمع النواة وتحميصها وتقشيرها وطحنها لاستخراج الزيت، وصور الماعز وهو يتسلق الشجرة المباركة ليلتهم أوراقها وأغصانها الغضة في نهم. غير أن الواقع أصبح مختلفا تماما. فزيت الأركان التي تصدر من المغرب للأسواق العالمية لا علاقة لها بتاتا بالتعاونيات ولا بالنساء القرويات، ولا بالتجارة المنصفة أو بالتنمية المستدامة. فتلك المبادئ كلها أصبحت مجرد كليشيهات تستغلها الشركات المتعددة الجنسية لتسويق منتجاتها التي أصبحت منفصلة عن الواقع الذي تحاول الإحالة إليه لاعتبارات ترويجية محضة. فقد تمكنت الشركات المتعددة الجنسية من اكتساح المجال وتحييد التعاونيات النسائية التي أصبح دورها يقتصر على التقاط نواة أركان وبيعها للسماسرة بثمن بخس. أما استخراج الزيت فتضطلع به خمس أو ست شركات على الصعيد الوطني باستعمال آلات ميكانيكية حديثة، والتي تستخرج الزيت من الحبة دون تحميص. وتعرض هذه الزيت في الأسواق الأوروبية بأسعار باهظة، تتجاوز 3000 درهم للتر، بدعوى أن إنتاجها تم وفق أساليب تقليدية تعتمد أساسا على اليد العاملة النسوية، وأن ثمنها يشكل دعما للاقتصاد المحلي في بلد الإنتاج الوحيد الذي هو المغرب. يعود اهتمام الشركات متعددة الجنسيات بزيت الأركان إلى النصف الثاني من التسعينات، عندما أطلقت حكومة التناوب سياسة اجتماعية تنطلق من تشجيع العمل التعاوني وتدخل الدولة في مجال التعريف بالمنتجات المحلية ودعم تسويقها. وسرعان ما داع صيت الخصائص العجيبة لزيت الأركان في الأسواق الأوروبية بشكل لفت انتباه بعض الشركات المتعددة الجنسية التي اقترحت شراء الزيت مباشرة من التعاونيات. غير أن هذه الشركات سرعان ما بدأت تنتقد غياب احترام "معايير الجودة" العالمية (الصناعية) في الأسلوب التقليدي لاستخراج زيت الأركان مستنطرة أن تلمس النساء القرويات "المتسخات" ذلك المنتوج الثمين بأيادي عارية لا تلبس القفافيز البلاستيكية لحمايته من "أوساخهن". وبدأ ضغط الشركات المتعددة الجنسيات على الحكومات المتتالية للسماح لها بجني بذور الأركان مباشرة ونقلها إلى الخارج لتستخرج منها الزيت وفق "معاييرها". غير أن يقظة المجتمع المغربي دفعت إلى إخراج قانون يمنع تصدير بذور أركان. لكن الشركات متعددة الجنسية التي طردت من الباب سرعان ما عادت من النافدة عبر خلق شركات صناعية وسيطة محدودة العدد، والتي أنشأتها قريبا من أكادير لتمكينها من الحصول على "العلامة الجغرافية" التي أحدثتها سلطات البلد لحماية أركان. ووجد هذا التوجه سندا له في سياسة الحكومة الحالية التي أعطت الأولوية للجانب التجاري في تعاملها مع أركان بدل التركيز على جوانب التنمية المستدامة والفلاحة التضامنية والحفاظ على الموروث الثقافي الإنساني الفريد لمنطقة الأركان. وفي سياق ذلك تتراجع غابة أركان تحت وطأة الاستغلال المفرط والزحف الحضري والزراعي يوما بعد يوم. ومع دخول "المكننة والعصرنة" بدأت تضيع أساليب العمل المتوارثة عبر آلاف السنين في مجال استخراج زيت الأركان. وأكثر من أي وقت مضى أصبحت هذه الثروة التي يختص بها المغرب ومنطقة سوس من دون بقاع العالم في مهب الريح.