لا جدال في جدة مفهوم المسؤولية المجتمعية في أدبيات النظم الاقتصادية والإدارية، وفي أدبيات المقاولات والمؤسسات الإنتاجية، حيث يرتبط المفهوم بجملة من السياقات والأطر النظرية، التي لا يمكن فصلها عن مباحث ونظريات المقاربات ذات الصلة بسجلاَّت البحث في العلوم الاجتماعية. نتابع في حلقات هذا العمل، السياقات التي أنتجت مفهوم المسؤولية المجتمعية في عالم جديد. ونبحث في صوَّر وكيفيات تلقِّي الثقافة الاجتماعية في مجتمعنا لهذا المفهوم، حيث نبحث في الشروط والمداخل المجتمعية والسياسية والثقافية، التي تساعد في عملية التهييء لولوج دروب المسؤولية المجتمعية وما يتصل بها من قيم. نُوجِّه اهتمامنا في هذا العمل نحو مفهوم المسؤولية المجتمعية وسياقات تبلوره النظري، في حقول معرفية مرتبطة بقضايا التنمية والأخلاق والمؤسسات الإنتاجية. ولأننا نُعَايِن في الأدبيات المتداولة في موضوع المفهوم والإشكالات المرتبطة به، سواء في الولاياتالمتحدةالأمريكية أو في أوروبا، مقاربات تتجه للعناية بجوانبه الإجرائية والعملية، بحكم أن سياقات تبلور وتعزيز أدواره تقتضي ذلك، فقد وَجَّهْنَا اهتمامنا في هذه الورقة نحو بعض أبعاده النظرية، المتصلة بكيفيات تلقِّيه وتوطينه في المجتمعات العربية، لوعينا بأن سياقات ابتكاره وتوظيفه في مواطنه الأولى، ترتبط بفضاء من الشروط الاجتماعية ومدوَّنات من القيم المرتبطة بها، وهذه الشروط والمدوَّنات المصاحبة لعمليات تبلور المفهوم واستوائه النظري، لا نعتقد بتوفُّرها في المجتمعات العربية. هذا دون إغفال الإشارة إلى أن المفهوم تبلور في محيط اجتماعي، يُولِي أيضاً عناية خاصة لأدوار المعرفة في التنمية والتقدُّم. يروم المسعى الذي اخترنا في هذه الورقة، الاهتمام بجوانب من المرجعيات والأبعاد التاريخية والنظرية للمفهوم، وذلك نظراً لأهميتها البالغة في مساعي التوطين، التي نتوخَّى بلوغها بتمثُّلنا للمفهوم، وتركيب ما يُسْعِف بالاستفادة منه في مجتمعنا وثقافتنا. اخترنا زاوية نظرية معينة للاقتراب من مفهوم المسؤولية المجتمعية، ومن الإشكالات التي يطرحها، وذلك لوعينا بصعوبة استيعاب نتائج وخلاصات تجارب معينة في موضوع المسؤولية المجتمعية، وخاصة عندما نعرف أن مجتمعاتنا لا تتوفَّر كما أشرنا، على جملة من الشروط والبنيات المتصلة بالمفهوم وسياقاته الثقافية والقِيَّميَّة. وإذا كانت الملامح والسياقات النظرية والتاريخية العامة، المرتبطة بالمفهوم، قد استقرت على مبادئ وأسس معينة، في الولاياتالمتحدةالأمريكية وأوروبا منذ عقود. وحصل تعزيز صُوَّر تداولها لاحقاً بفضل أدبيات المنتظم الدولي، الذي ساهم في إنشاء المؤسسات الحاضنة والراعية لمقتضياته وما يتصل به من تصوُّرات، حيث شكَّلت الإجراءات والقيم المرتبطة به في بيانات ومواقف المنتظم المذكور، ما ساهم في منحه النمط التصوُّري الذي استقر عليه في التداول المعرفي والاجتماعي الحاصلين اليوم، نحن نشير إلى أدبيات المنظمات الدولية من قبيل، البنك الدولي ومنظمة التجارة العالمية ومجلس الأعمال العالمي للتنمية المستدامة ومؤسسة العمل الدولية إلخ... وقد عملت على متابعة وتأطير الجهود الرامية إلى ترسيخ قيم وإجراءات المسؤولية المجتمعية. إن انتقال المفهوم إلى فضاء الإدارة والتدبير ومؤسسات الإنتاج والعمل والثروة في المجتمعات العربية، ما زال كما نعرف متعثراً، بل ما زال يغفل أهمية وضرورة إسناده بالتفكير في الأطر والمرجعيات المجتمعية والقيَّمية، التي تُمَكِّنُه من سُبُل تيسير عمليات توطينه في محيطنا الثقافي، وداخل الأنظمة المؤطرة لعمل مقاولاتنا، بالصورة التي تجعلنا نستفيد من المؤسسات الإنتاجية، عندما يتحول في ضوء مقتضيات المفهوم إلى طرف فاعل في برامجنا في التنمية، وخططنا في النهوض باقتصادياتنا ودمجها في برامج التنمية المستدامة. نتجه في هذا العمل نحو ما يمكن أن نسميه، البحث في الشروط القادرة على تهيئة الطريق المناسب لغرس قيم ومقومات المسؤولية المجتمعية. وأبرز هذه الشروط في تصوُّرنا، لا يمكن فصلها عن معارك التعجيل بمسلسل تحديث المجتمعات العربية، نقول التعجيل لأننا نعرف أن مجتمعاتنا تنخرط منذ عقود في التمرُّس بقيم التحديث، إلا أن سُمْك وصلابة التقاليد السائدة في مجتمعاتنا، تقف بمثابة سَدّ منيع ومعطَّل لكثير من تطلعاتنا في هذا المجال. ولأننا نربط مفهوم المسؤولية المجتمعية بتحوُّلات جارية في المجالات الاقتصادية ومجالات القيم في مجتمعات تواجه تحدِّيات التنمية والعدالة، فإننا نرى أن انخراط مجتمعاتنا في بناء قيم المسؤولية المجتمعية، المكافئة والمطابقة لروح ما نتطلع إليه في مجتمعاتنا اليوم، من نهضة وتقدُّم وانفتاح على مكاسب عصرنا، يقتضي إعداد الشروط المناسبة لذلك، أي شروط الملاءمة التي تمكِّن من التفاعل المُخْصِب لما نتلقاه من خبرات ومعارف، نعتقد أنها يمكن أن تساعدنا في تحقيق ما نرومه من تنمية وعدالة وتقدُّم. ضمن الأفق الذي حاولنا توضيحه في الفقرات السابقة، نتصوَّر أن استيعاب روح مفهوم المسؤولية المجتمعية، يستدعي العناية المركَّبة بمختلف جوانب وأبعاد المفهوم وسياقاته، وخاصة الأطر والخلفيات التاريخية والنظرية المؤطرة له، والتي تمكِّن من تهييئ أرضية مساعدة في عمليات تملُّكه، والاستفادة من نتائج العمل بمقتضياته، أي الاستفادة من الأهداف التي أنشئ من أجلها. يواجه العالم في بدايات الألفية الثالثة جملة من التحوُّلات نتيجة إيقاع عاملين اثنين، ثورة تكنولوجية مهدت لاقتصادات جديدة، وثورة في التواصل غذت وتغذي آليات التعولُم الجارية منذ عقود. وهما معاً، يرومان تنميط السوق والثقافة والقيم، وقد ترتَّب عنهما وعن عوامل أخرى ترتبط ببنية النظام الاقتصادي العالمي في تطوُّره، مآزق عديدة في الاقتصاد والسياسة والمجتمع، الأمر الذي أدَّى إلى ضرورة التفكير في كيفية الحدّ من الفروقات الاجتماعية المتفاقمة داخل المجتمعات، وما صاحبها من أزمات اجتماعية وبيئية في أغلب بقاع المعمور. وقد استدعى ذلك، تركيب آلية جديدة في العمل بمسمَّى المسؤولية المجتمعية، حيث أصبح بإمكان مؤسسات الإنتاج أن تساهم في تحقيق التوازنات الاقتصادية، الأمر الذي يوفِّر للمجتمع إمكانية التقليص من التناقضات والفروق بين فئاته ويُقرِّبه من العدالة والإنصاف داخل المجتمع. يندرج مفهوم المسؤولية المجتمعية ضمن جملة من التصورات المبتكرة بهدف إيجاد حلول تَحُدُّ من أزمات السوق، وتحدِّيات مجتمعات جديدة في عالم يبحث باستمرار عن مخارج مناسبة لمآزقه واختلالاته. وقد أصبح المفهوم متداولاً بصورة بارزة في أوروبا خلال تسعينيات القرن الماضي، وواكب عمليات تداوله المكثَّف تحرير الاقتصاد العالمي وتراجع في الأدوار الاجتماعية والاقتصادية للدولة. تستدعي التحديات المتولِّدة في عالم يتحول بإيقاع سريع، ويعرف ثورات تقنية تتطلب إعادة بناء موارده وخيراته وأنماط عمله، كما تتطلب بمحاذاة ذلك ابتكار مواثيق أخلاقية لقيم يكون بإمكانها إعادة ضبط وتنظيم هذه المستجدات. وقد دفع هذا الحال كثيراً من المنظمات والمؤسسات الدولية، لبناء مبادرات وإجراءات بهدف مغالبة التحوُّلات الجارية، والحدّ من التحدِّيات المترتِّبة عنها في مختلف مجالات وأنشطة المجتمع. إذا كان مفهوم المسؤولية المجتمعية قد أصبح اليوم متداولاً بصورة مكثَّفة في مجالات الأعمال، ليلتحق بعد ذلك بدوائر البحث الأكاديمي في الغرب، حيث تتنافس كثير من المراكز والمؤسسات البحثية العالمية، في أمريكا وأوروبا في بلورة جملة من المعطيات التي تساهم في بنائه، وبناء التصوُّرات المرتبطة به في المستوى النظري. كما تساهم المقاولات ومختلف مؤسسات الإنتاج في تحويل تصوُّراته إلى إجراءات مناسبة لبنيتها في علاقتها بالفضاءات المحلية التي تنتمي إليها، وكل ذلك كما أبرزنا في تفاعل مع متغيرات الاقتصاد العالمي وتحوُّلات القيم في عالم متغير، فإن ذلك لا يعني أبداً أننا أمام مفهوم يحظى بالوضوح والإجماع، ولعل من بين الأسباب التي تفسر ذلك، ارتباطه من جهة بحقول ومجالات معرفية متعددة ومتداخلة، الاقتصاد، التنمية، الأخلاق، التدبير إلخ.. إضافة إلى ارتباطه بمؤسسات الإنتاج والمال ورجال الأعمال، وهذه المؤسسات والتخصُّصات ليس من السهل دائماً تدبير أمور توافقها..