عهد الملك الحسن الثاني كان عهد ملكية سلطوية تتزاوج فيها صورة الحاكم مع صورة الإمام، إنه أمير المؤمنين الذي يترسخ في قلب الزمن كسلطة دينية في سياق تنتقد فيه الحركات الإسلامية الناشئة النظام وتدعو إلى قيام »خلافة ثانية«. أما الأحزاب السياسية العلمانية التي كانت في السابق ترفض هذا الجانب من السلطة، وترى فيه علامة على »استبداد قروسطي» بدأت تعترف به بل وتدافع عنه بقوة على أمل ضمان تمدين الحقل السياسي الحزبي. إن هيمنة الملك على الحقل الديني والذي يتوخى عزل القوى السياسية الإسلامية المعارضة يقود بالضرورة إلى تثبيت وتقوية وضع الملك كأمير للمؤمنين. ملك وأمير المؤمنين هما وجهان للملك كما أعاد بناءها الملك الحسن الثاني في مغرب ما بعد الاستعمار، وتتجسد إن رمزيا على مستوى اللباس من خلال ارتداء البزة العسكرية أو اللباس الأوربي من جهة، والجلباب والطربوش (الفاسي) من جهة ثانية، وهنا تكمن خصوصية الملكية المغربية. وهذا الكتاب يحاول تتبع نشأة هذه الملكية كما أعاد الملك الحسن الثاني ابتكارها... الفصل الأول التقليدانية الملكية والإسلام السياسي »إذا كان الدين وسيلة، فإن العقل يعرف أنه قادر على استعماله أو أنه قادر على استعمال شيء آخر« (هيغل لاروس حول فلسفة الدين) المغرب بلد يتداخل فيه الماضي والحاضر بقوة الاستعمار، شكل بالتأكيد قطيعة في تاريخه من خلال التغييرات التي تمكن من إحداثها على مستوى بنياته وعقلية رجاله، لكن هذه القطيعة لم تأخذ أبدا صيغة قطيعة مع الماضي بحيث أنه غداة الاستقلال، وجدت نخبته السياسية نفسها في وضعية وريث يواجه صعوبة تدبير إرثين سياسيين، وبالأخص إيجاد تركيبة منسجمة بين تقليدين: السلطنة التي تمتد جذورها عميقا في تاريخ الملكية الدينية وتقنيات حكم مخزنية وإرث فترة الحماية في ما يتعلق ببنيات الدولة وكذلك مع الأفكار السياسية العصرية المكتسبة من الاحتكاك بالغرب. وبالرغم من قصر مدته، فإن استعمار المغرب لم يكن مجرد قوس في تاريخ هذا البلد، فخلافا لما هو شائع ومقبول ليس فقط لدى السياسيين، بل كذلك داخل الجامعات من طرف بعض مؤرخي المغرب الحديث، فإن الحماية أدخلت تحولات عميقة في المغرب وأهم هذه التحولات في رأينا تتعلق بإضعاف، بل القضاء على كل أشكال السلطة المحلية، وهذه أبرز نتيجة لعمل التهدئة التي قادها جيش الاستعمار باسم المخزن، في الوقت الذي كان يبدو أن هذا الأخير محكوما بالانقراض، فسيادة السلطان المعترف به من طرف القوى خلال مؤتمر مدريد سنة 1880 مؤتمر الجزيرة الخضراء سنة 1906، تم تأكيدها في معاهدة الحماية الموقعة بفاس يوم 30 مارس 1912 فإعادة إحياء المخزن الذي استعمل كواجهة لإضفاء الشرعية على حماية تحولت إلى استعمار مباشر، هذا المخزن الذي لم يكن يمتلك أية سلطة حقيقية تحت الوصاية الاستعمارية، سيرث بعد اختفاء تلك الحماية وضعية تم تطهيرها من كل السلط المضادة التي كانت تشكلها للمخزن المركزي في المغرب التقليدي، فالسلطة القبلية كما سلطة الزوايا وسلطة المجموعات الدينية لم تعد سوى ذكرى من الماضي بالنسبة للدولة الوطنية، حيث سيتكفل المخزن الجديد من السنوات الأولى للاستقلال بتعزيز هذا المكسب قبل أن يفرض أيضا هيمنته على القوى السياسية الجديدة، فالرصيد الرمزي يتم إحياؤه وإغناؤه ليس فقط بالانخراط الوطني للملكية وإضفاء القداسة على شخص السلطان من طرف الحركة الوطنية، التي نجحت دعايتها في أن تجعل المغاربة يرون صورة سلطانهم في القمر، في الوقت الذي تم نفيه بالقوة الاستعمارية إلى مدغشقر، ولكن أيضا من خلال تحيين الهيبة الدينية للسلطان التي كانت تبرز أكثر فأكثر في المغرب المستقل، هذه الصورة الدينية للسلطان التي تقوت وأعيد بناؤها طيلة الحقبة الاستعمارية خاصة من طرف الماريشال ليوطي، لن تكون أقل الأسلحة المستعملة في عملية الهيمنة على السلطة التي قادها الملك ضد منافسيه الفعليين أو المحتملين. وأحد أهم مفارقات المغرب المستقل هو المفارقة بين تقليد عريق في الحكم الاستبدادي والملكية المطلقة، بأعرافها وتقاليدها وطقوسها وتقنياتها في الحكم، وبين مكسب الحداثة السياسية بفلسفتها السياسية وأفكارها ومرجعياتها، وكلاهما تدخلا في تشكيل وجه المغرب السياسي والبحث عن تركيب بين هذين المكونين للساحة السياسية المغربية، يستحوذ اليوم على انتباه أهم الفاعلين السياسيين فيها، ومنذ فجر الاستقلال حتى أيامنا الحالية كانت كذلك مصدر توترات ومواجهات خطيرة أثثت التاريخ المعاصر للمغرب، ذلك أن الصيغة التركيبية ليست أمرا سهلا والتوافقات المتخذة حتى الآن لا تحظى بالإجماع، وفي انتظار إيجاد الحل المناسب ترتسم وضعية فريدة، حيث الطبقة السياسية المغربية المقسمة بين قطبين تبحث بصعوبة عن توازن يكون مقبولا من الجميع والصراعات السياسية التي كان المجتمع المغربي مسرحا لها منذ بداية الاستقلال حتى اليوم تحمل علاقة ودليل هذه الوضعية على أكثر من صعيد. فقد عشنا طيلة هذه الفترة بكاملها عدة محاولات مضنية لإيجاد صيغة تركيبية بين التقاليد السياسية للمخزن ومفاهيم سياسية صحيح أنها مستوردة، لكنها مفاهيم مقبولة ومعترف بها كونيا كأساس لكل نظام سياسي عصري منسجم مع زمانه، هذه المفاهيم المستوردة والمنقولة إلى الحقل السياسي المغربي تصبح مشوهة عند الاستعمال كما يمكن لأي ملاحظ أن يتأكد من ذلك عندما يراقب بانتباه اشتغال النظام السياسي المغربي وكيفية استعماله لمفاهيم مثل الليبرالية الديمقراطية، الاقتراع العام، دولة القانون، فصل السلطة الخ... في الواقع اليومي وبالضرورة ينتج عن هذا التفاوت بين معنى المفهوم وتطبيقه محليا، توترات بين »التلقيدانية« الذين يودون باسم الدفاع عن الخصوصية المغربية الانفصال عن النموذج السياسي المغربي وبين الحداثيين، الواعي بضرورة القيام ببعض الإصلاحات ويريدون القطع مع الماضي العتيق. كتب المهدي بن بركة في تقديمه كتاب »الحكومة« المغربية في فجر القرن 20 لمؤلفه محمد لحبابي يقول: »إن دعواتنا إلى الديمقراطية ليست كما كان أو مازال يعتقد البعض، مجرد اقتباسات خارجية يعبر عنها مثقفون لا علاقة لهم بالواقع لأهداف ديماغوجية. على العكس إنها تعبير عن شعور وطني عميق بأن خمسين سنة من خداع وتضليل الحماية والمناورات الاستعمارية لما قبل الحماية لم تفلح في أن تجعلنا ننسى.. بأن ديمقراطيتنا ليست كلمة فارغة، إننا نستمدها من تاريخنا وممارستنا »الدستورية«. ولا حاجة للقول بأن المخزن التقليدي من جهة وحلفاءه بعد الاستقلال، ثم التنظيمات السياسية التي تأسست بعد ذلك في محيطه، بإيعاز من وزارة الداخلية. من جهة أخرى، ستكون ركائز الدفاع عن التصور التقليداني تحت غطاء الدفاع عن شعار »الأصالة المغربية« و»الخصوصية التاريخية« للسلطة في المغرب. أما المدافعون عن المشروع الثاني الأكثر حداثيا أو تحديثا ظهروا أولا داخل تنظيم حزب الاستقلال القوي والكبير بغير قليل من الغموض في التعبيرات أو الخلط في النماذج والمرجعيات بين مختلف مكوناته التي كانت تطالب ومازلت، كل من موقعه الجديد، بعد انقسام حزب الاستقلال ثم بعد ذلك مختلف الانفصالات داخل التشكيلات الناتجة عن تلك الانفصالات. تطالب باحترام الاتفاق المبرم إبان الحماية بين الحركة الوطنية والقصر من أجل إرساء نظام سياسي عصري بدستور وفصل للسلط وانتخابات وبرلمان ومؤسسات وحكومة مسؤؤلة، أمام نواب يختارهم الشعب بحرية في شكل ملكية دستورية، وبالنسبة لجزء آخر من هذه الطبقة، هذا الشكل من النظام السياسي لا يجب أن يكون متناقضا مع الفلسفة السياسية للإسلام بما أن الملكية الدستورية موجودة في هذه الحالة كإحياء جديد لنظام «الخلافة الحقيقية في الإسلام». وقد أدى انقسام حزب الاستقلال سنة 1959 إلى نوع من الوضوح الإيديولوجي ، لكن كذلك أدى إلى اختلاف واضح للمواقف السياسية بين هذين الطرفين من النخبة السياسية المغربية، حزب الاستقلال التقليدي بإيديولوجيته الدينية الإصلاحية في شكلها السلفي بزعامة علال الفاسي، في مناخ ثقافي وإيديولوجي يتميز ببروز وهيمنة الأفكار السياسية العصرية والمرجعيات الإيديولوجية العلمانية، كان يحاول بلورة والدفاع عن تصور للدولة مستلهم من التعاليم الإسلامية للسلطة. كان الحزب الوطني يبحث في نفس الوقت عن التأقلم مع الإيديولوجيات السياسية العصرية. في اتجاه عصرنة الإسلام طبقا لروح الإصلاح ومقاربة الاجتهاد كما كان يبرزها شيوخ وزعماء السلفية في العالم العربي والإسلامي أمثال جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده ورشيد رضا، أما التيار الحداثي، الذي كانت تخترقه حساسيات ايديولوجية مختلفة من السلفية إلى الشيوعية مرورا بالوطنية الراديكالية والقومية العربية بأشكالها الناصرية والبعثية، فقد كان يناضل ويدافع عن إرساء دولة جديدة تقطع مع الماضي العتيق. ويبدو عقد السبعينات اليوم كلحظة مميزة في مسلسل تقليدانية النظام السياسي، ويشهد على ذلك التاريخ السياسي وأيضا التاريخ الثقافي. فبعد الحماس الذي خلقه الاستقلال توالت الإحباطات والانكسارات المتتالية، واستغرق شيئا فشيئا أسطورة الدولة المتسلطة والمهيمنة، بغير قليل من المقاومة، مكان توازن نسبي لكنه هش بين القوى السياسية التي خلفتها المرحلة الاستعمارية التي كانت توحي بإمكانية بروز دولة ديمقراطية في شكل ملكية دستورية. هذه الأخيرة كان يفترض أن تعوض المخزن القديم، لكن هذا الأخير، على العكس من ذلك، تقوى كثيرا من خلال الاستحواذ على بنيات الدولة العصرية وإمكانياتها اللوجستيكية الموروثة عن الإدارة الاستعمارية، غير أن ملاءمتها وتجويدها كان من إبداع خبراء ومخططي الدولة الوطنية. دولة تقليدية أكثر فأكثر، لكنها تستفيد إذا جاز القول، بأقصى ما يمكن من الامتيازات التي توفرها الحداثة، أنها الحداثة بصيغة ملائمة أكثر لوصف المخزن المتجدد.