تعتبر ظاهرة تداول الجرائد والصحف في الفضاءات العامة وخصوصا المقاهي وتمكين الرواد والزبناء من قراءتها مجانا ظاهرة تعبر عن عصرنة وتمدن وتجلي من تجليات حداثة المجتمعات ... ظهرت منذ مطلع القرن العشرين في أوروبا وانتقلت إلى الجنوب مع الاستعمار والغزو الغربي للعالم الثالث المتخلف، مثلما انتقلت معه عادات وسلوكات عصرية أخرى مرتبطة بقراءة الجرائد في وسائل النقل العمومي والمكاتب والإدارات وظهور أيضا باعة الجرائد البراحين المتجولين، واستنبات الأكشاك في محاور الشوارع الرئيسية ..إلخ وبعد رحيل الاستعمار صوريا واستقلال الدول العربية شكلا لا مضمونا، دخلت جميع دول الجنوب في حروب شرسة بين النخب السياسية (زعماء المقاومة والتحرير) سابقا والقيادات العسكرية التي كونها وأطرها الاستعمار من أجل حروبه الكونية في شرق آسيا وألمانيا وأمريكا اللاتينية والقوى التقليدية التيوقراطية للانقضاض على كراسي السلطة و الظفر بما عافه الاستعمار من قشور الكعكة، فظهرت بوادر السياسات القمعية الممنهجة والقبضات الستالينيية الديكتاتورية (اعتقالات اختطافات تصفيات جسدية تواطؤات داخلية وخارجية ..إلخ ) من أجل إخراس كل الأصوات التقدمية والقومية، فكان استهداف وشن الحرب على الجرائد الوطنية لسان حال الشعوب التواقة إلى استقلال حقيقي وغير مزيف وإرساء أسس الدولة الديموقراطية الحديثة . وسيشهد تاريخ الصحافة في المغرب، على سبيل المثال لا الحصر ،عديدا من وقائع التشنجات والمضايقات، بل وتشميع مقرات جرائد اليسار وسحب أو منع توزيع بعض الأعداد المشاغبة في آخر لحظة بسبب مقال أو حتى بسبب جملة أو كلمة (ثورة انقلاب اشتراكية ..الطبقية .. إلخ) واعتقال صحفيين ومحاكمات وتهديد البعض الآخر، لا لشيء إلا لأن الجرائد الوطنية اليسارية تحديدا (التحرر المحرر الإتحاد الاشتراكي البيان أنوال ) كانت بكل تأكيد صوت الشعب وسنده الأساسي من أجل تكريس حقوقه في العدالة الاجتماعية والاقتصادية الثقافية . ومنذ تجربة التناوب السياسي أواخر التسعينات والانفراج الذي عرفه المغرب في العهد الجديد، عادت ظاهرة تمتيع رواد المقاهي بقراءة الجرائد والصحف مجانا بعد الحظر المعنوي والرمزي الذي كرسته، إن لم نقل فرضته تلقائيا، هيبة السلطة منذ فجر الاستقلال بتضييقها الخناق على حرية تداول الجرائد في المقاهي إلا في ما ندر من أجل القليل من الماكياج الديموقراطي ليس إلا. ومع استفحال ظاهرة تفريخ الآلاف من المقاهي الراقية والشعبية بكل ميوعة واستخفاف بحرمة البعد الثقافي والحضاري للمجال العمومي لجل المدن المغربية وأحوازها ، وضربا لرمزية صورتها التاريخية والسياحية حتى شاع المثل السائر (بين قهوة وقهوة قهوة)، عمدت عديد من هذه المقاهي من أجل كسب المزيد من الزبناء إلى البحث عن تحسين خدماتها ومن بينها توفير الجرائد والصحف الوطنية وبعض الصحف العربية مثل الشرق الأوسط والحياة اللندنية مجانا، مما شكل ظاهرة سوسيوثقافية إيجابية أسهمت بشكل كبير في بلورة وعي سياسي واجتماعي جديد ورأي عام وطني مواكب لتحولات مغرب ما بعد التناوب التوافقي ومجيء العهد الجديد . لكن في المقابل فإن هذه الظاهرة وبارتباطها بالتناسل المهول للمقاهي، قد أضرت بالمنشأة والمقاولة الصحفية التي تعتاش أساسا على عنصري المبيعات والإشهار. فلم تعد اليوم الجريدة لسان حزب يقوم على مبادئ عامة ومشروع برنامج سياسي خاص واضح في إعلامه الحزبي ، بل لقد صارت الجريدة عبارة عن منتوج اقتصادي واستثماري لا يختلف في أهدافه عن أهداف أية مقاولة صناعية تتغيى الرفع من أسهمها والارتقاء بمنتوجها إلى درجات الجودة العالية التي يبحث عنها المستهلك كيفما كان مستواه الاجتماعي والطبقي، مثلما يبحث عن الجودة في المنتوجات الاستهلاكية من مأكل وملبس وملحقات كمالية أخرى ..إلخ إن الإعلام الورقي اليوم يعيش في أزمة تراجع خطيرة جدا لأعداد السحب والمبيعات والسبب لا يعود أساسا لظاهرة توفير الجرائد في المقاهي بالمجان، وتناوب عشرات القراء على تداولها يدا بيد في ما بينهم طيلة اليوم كما يتوهم أو يدعي البعض، لكن أساسا بسبب تدهور أخلاقيات المهنة وتراشق بعض مدراء الجرائد المستقلة على الخصوص بالفضائح في ما بينهم، ثم كذلك وهذا هو الأهم انتشار الربط الشبكي في جل ربوع الوطن وتناسل المواقع الإخبارية الإلكترونية، ومرونة تقديمها للمعلومة بمختلف الوسائط وتنوعها (نص فيديو صور ملفات صوتية ..إلخ) الشيء الذي دفع بهذه المنشآت الصحفية الورقية بدورها إلى الانحناء للعاصفة وإطلاق نسخها الإلكترونية في الفضاء الرقمي، ولم يكن ذلك إقرارا وقناعة بمواكبة التحولات التكنولوجية والإعلامية الرقمية، وإنما كان ذلك في العمق إقرارا بالرضوخ القسري إلى حتمية التطور الذي كان لابد منه مهما كانت تضحية الاستماتة والتشبث بالسند الورقي قوية ومقاومة للمد الجارف أكثر مما يتصور. فهل سحب ومنع الجرائد من التداول مجانا في المقاهي سيكون هو الحل الأنجع لمقاومة طوفان الوسائط الإعلامية البديلة التي سببت إشباعا مفرطا حد التخمة للمتلقي الذي باتت أحداث العالم المختلفة متوفرة في هاتفه الذكي، حيث تتدفق المعلومات تباعا أولا بأول من المكالمات الهاتفية والقنوات الفضائية ومواقع التواصل الاجتماعي والمواقع الإلكترونية الإخبارية والرسائل النصية القصيرة من الوكالات العالمية و..و..إلخ ألم تعمد جريدة لوموند العملاقة قبل عشر سنوات إلى تسريح المئات من عمالها ومراسليها في مختلف مكاتبها في العالم ، خصوصا في إفريقيا بعد أن أطلقت نسختها الإلكترونية منذ 2007 وهناك جرائد عالمية أخرى لا يسع المجال هنا لتعدادها ولعل آخرها جريدتا السفير والنهار اللبنانيتين. أما مجلة الآداب البيروتية، فإنها قد أقفلت نسختها الورقية إلى الأبد واكتفت فقط بنسختها الإلكترونية ... فهل كان تداول هذه الجرائد العالمية في الفضاءات العامة سببا في تدهور مبيعاتها أم أن تفكيرها العقلاني ودخولها عصر الرقمية حتم عليها ترشيد وتدبير مقاولاتها تماشيا مع متطلبات العصر؟ يبدو أن إجراء وزارة الاتصال وباتفاق مع فيدرالية ناشري الصحف والخاص بمنع تداول الجرائد بالمجان في المقاهي لهو بكل تأكيد عودة غير حكيمة إلى عقلية بائدة للحلول الترقيعية، وهي إجهاز على مطالب حق المواطنين في الوصول إلى المعلومة وآلية تمويهية لحصار الرأي العام في أفق إجراء الاستحقاقات السياسية المقبلة . إن من شأن أجرأة هذا القانون وتصريفه على أرض الواقع لأن يدفع بزبناء المقاهي أعني بملايين المواطنين، موظفين وعمالا ومتقاعدين ومعطلين وغيرهم، ليس إلى موقف تضامن مع المؤسسات الإعلامية الورقية في محنتها الراهنة والحرجة وإنما سيدفعها إلى موقف كراهية وعداء تجاهها لحرمانها من عادة قد دأبت عليها منذ أكثر من عقدين من الزمن بل هناك عشرات الآلاف من المواطنين من كانوا ومازالوا يرتادون المقاهي من أجل قراءة الصحف والجرائد فقط. إن الحفاظ على عافية وصحة المقاولة الصحفية الورقية يمر قبل كل شيء باستيعاب التحولات المهولة في الجسم الإعلامي العالمي بشكل عام، وبضرورة العبور من هذا النفق المعتم إلى النموذج الإعلامي الاقتصادي الرقمي وتمكين الصحفيين من التكوين المستمر في مجال المعلوماتية والرقمية، وكيفية استثمارها في إبداع المعلومة الطرية الطازجة والآنية وفق مقاربة تأخذ بعين الإعتبار أن الهواتف الذكية ستصبح في المدى المتوسط عضوا جسديا لا يختلف في دوره عن باقي الأعضاء الأخرى .