توقيف شاب بالخميسات بتهمة السكر العلني وتهديد حياة المواطنين    بعد عودته من معسكر "الأسود".. أنشيلوتي: إبراهيم دياز في حالة غير عادية    «كوب-29».. الموافقة على «ما لا يقل» عن 300 مليار دولار سنويا من التمويلات المناخية لفائدة البلدان النامية    مقتل حاخام إسرائيلي في الإمارات.. تل أبيب تندد وتصف العملية ب"الإرهابية"    نظام العالم الآخر بين الصدمة والتكرار الخاطئ.. المغرب اليوم يقف أكثر قوة ووحدة من أي وقت مضى    الدرهم "شبه مستقر" مقابل الأورو    الكويت: تكريم معهد محمد السادس للقراءات والدراسات القرآنية كأفضل جهة قرآنية بالعالم الإسلامي    هزة أرضية تضرب الحسيمة    المضامين الرئيسية لاتفاق "كوب 29"    حارس اتحاد طنجة الشاب ريان أزواغ يتلقى دعما نفسيا بعد مباراة الديربي    نهيان بن مبارك يفتتح فعاليات المؤتمر السادس لمستجدات الطب الباطني 2024    مع تزايد قياسي في عدد السياح الروس.. فنادق أكادير وسوس ماسة تعلم موظفيها اللغة الروسية    شبكة مغربية موريتانية لمراكز الدراسات    ارتفاع حصيلة الحرب في قطاع غزة    افتتاح 5 مراكز صحية بجهة الداخلة    إقليم الحوز.. استفادة أزيد من 500 شخص بجماعة أنكال من خدمات قافلة طبية    تنوع الألوان الموسيقية يزين ختام مهرجان "فيزا فور ميوزيك" بالرباط    خيي أحسن ممثل في مهرجان القاهرة    الصحة العالمية: جدري القردة لا يزال يمثل حالة طوارئ صحية عامة        نادي عمل بلقصيري يفك ارتباطه بالمدرب عثمان الذهبي بالتراضي    مدرب كريستال بالاس يكشف مستجدات الحالة الصحية لشادي رياض    توقعات أحوال الطقس لليوم الأحد    مواقف زياش من القضية الفلسطينية تثير الجدل في هولندا    بنكيران: مساندة المغرب لفلسطين أقل مما كانت عليه في السابق والمحور الشيعي هو من يساند غزة بعد تخلي دول الجوار    بعد الساكنة.. المغرب يطلق الإحصاء الشامل للماشية    الإعلام البريطاني يعتبر قرار الجنائية الدولية في حق نتنياهو وغالانت "غير مسبوق"    موجة نزوح جديدة بعد أوامر إسرائيلية بإخلاء حي في غزة    الدكتور محمد نوفل عامر يحصل على الدكتوراه في القانون بميزة مشرف جدا    فعاليات الملتقى العربي الثاني للتنمية السياحية    ما هو القاسم المشترك بيننا نحن المغاربة؟ هل هو الوطن أم الدين؟ طبعا المشترك بيننا هو الوطن..    الأمن الإقليمي بالعرائش يحبط محاولة هجرة غير شرعية لخمسة قاصرين مغاربة    موسكو تورد 222 ألف طن من القمح إلى الأسواق المغربية    ثلاثة من أبناء أشهر رجال الأعمال البارزين في المغرب قيد الاعتقال بتهمة العنف والاعتداء والاغتصاب        ⁠الفنان المغربي عادل شهير يطرح فيديو كليب "ياللوبانة"    عمر حجيرة يترأس دورة المجلس الاقليمي لحزب الاستقلال بوجدة    ترامب يستكمل تشكيلة حكومته باختيار بروك رولينز وزيرة للزراعة    أفاية ينتقد "تسطيح النقاش العمومي" وضعف "النقد الجدّي" بالمغرب    مظلات ومفاتيح وحيوانات.. شرطة طوكيو تتجند للعثور على المفقودات    الغش في زيت الزيتون يصل إلى البرلمان    "طنجة المتوسط" يرفع رقم معاملاته لما يفوق 3 مليارات درهم في 9 أشهر فقط    المغرب يرفع حصته من سمك أبو سيف في شمال الأطلسي وسمك التونة    دولة بنما تقطع علاقاتها مع جمهورية الوهم وانتصار جديد للدبلوماسية المغربية    قوات الأمن الأردنية تعلن قتل شخص بعد إطلاقه النار في محيط السفارة الإسرائيلية    المغرب يعزز دوره القيادي عالميا في مكافحة الإرهاب بفضل خبرة وكفاءة أجهزته الأمنية والاستخباراتية    هزة ارضية تضرب نواحي إقليم الحسيمة    لقجع وبوريطة يؤكدان "التزام" وزارتهما بتنزيل تفعيل الطابع الرسمي للغة الأمازيغية بالمالية والخارجية    المخرج المغربي الإدريسي يعتلي منصة التتويج في اختتام مهرجان أجيال السينمائي    حفل يكرم الفنان الراحل حسن ميكري بالدار البيضاء    كندا تؤكد رصد أول إصابة بالسلالة الفرعية 1 من جدري القردة    الطيب حمضي: الأنفلونزا الموسمية ليست مرضا مرعبا إلا أن الإصابة بها قد تكون خطيرة للغاية    الأنفلونزا الموسمية: خطورتها وسبل الوقاية في ضوء توجيهات د. الطيب حمضي    لَنْ أقْتَلِعَ حُنْجُرَتِي وَلَوْ لِلْغِناءْ !    اليونسكو: المغرب يتصدر العالم في حفظ القرآن الكريم    بوغطاط المغربي | تصريحات خطيرة لحميد المهداوي تضعه في صدام مباشر مع الشعب المغربي والملك والدين.. في إساءة وتطاول غير مسبوقين !!!    في تنظيم العلاقة بين الأغنياء والفقراء    سطات تفقد العلامة أحمد كثير أحد مراجعها في العلوم القانونية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الرباط تنخرط أخيرا في منطق القرن 21 الذي يصنع في المحيط الهادئ وآسيا
نشر في الاتحاد الاشتراكي يوم 13 - 05 - 2016

هل هي بداية انعطافة في علاقات المغرب الدولية بمنطق القرن 21 ؟ أم هل هي تتويج لمسار متميز سياسيا للعلاقات المغربية الصينية الرسمية والشعبية منذ 1958؟ أليست الزيارة الملكية لبكين تدشينا لنسج خيوط متينة بين تحديات القرن 21 افريقيا وعالميا وبين المصالح الحيوية للمغرب كدولة وكأمة؟.
إنها بكل المقاييس الجيوستراتيجية تدشين لأفق جديد لعلاقات المغرب مع محيطه الافريقي والعربي والمتوسطي والعالمي.
الصين قصة مختلفة.. هذا يقين علينا الاعتراف به.. ليس فقط لأن الناس والبلد لا يشبهان أي تجربة حضارية أخرى بالعالم، أو أن تعداد السكان هناك هو الأكبر فوق الكرة الأرضية، أو، كون "الفلسفة الصينية" المتأسسة على المنزع الكونفوشيوسي مختلفة عن كل فلسفات العالم، التي ابتدأت من سؤال الميتافيزيقيا، بينما في ضفاف بكين وشنغهاي، قد تأسست الفلسفة على سؤال الأخلاق وسؤال السياسة. وليس، أيضا، لأنها من أقدم دول العالم (تنظيما وإطارا جغرافيا وجماعة بشرية)، التي حافظت على هويتها وحدودها على مدى أكثر من ألفي سنة، وأنها للمحافظة على التراب والنظام والدولة تلك، قد ابتدعت تقنية غير مسبوقة، تمثلت في بناء سور عظيم ابتدأت الأشغال في إنجازه سنة 224 قبل الميلاد (أي قبل 2224 سنة) وانتهت عمليا من بنائه سنة 1644، مما يعني أن عمليات توسيعه ومده، كثعبان هائل، يحمي البلاد والعباد من أقصى الشمال الشرقي، حتى أقصى الجنوب الغربي، قد دام 1800 سنة، هو الذي ابتدأ ب 2000 كلمتر، وانتهى في حجمه النهائي إلى 7 آلاف كلمتر.
الواقع، ليس هذا فقط.. بل، إن الصين قصة مختلفة، بالنسبة لنا مغربيا أساسا، منذ زمن الرحالة المغربي والعالمي الكبير، صاحب "تحفة النظار في غرائب الأمصار وعجائب الأسفار"، ابن مدينة طنجة، ابن بطوطة (محمد بن عبد الله بن محمد اللواتي)، الذي زار الصين، بين سنوات 1343/ 1346 ميلادية، والذي ستدفع رحلته امبراطور الصين "يونغلي" (الثالث في سلالة مينغ الإمبراطورية الشهيرة)، إلى أن يكلف مستشاره وصديقه، الصيني المسلم "تشنغ خه"، للقيام برحلة حول العالم، استلهاما لرحلة الرحالة المغربي ابن بطوطة، يستكشف من خلالها مختلف القارات، وينقل إلى البشرية رسالة من الصين وحضارتها. وهي الرحلة البحرية التي دامت 27 عاما كاملة، في القرن 15، بعد تجهيزه في رحلاته الخمس الكبرى التي قام بها إلى إفريقيا وآسيا وأمريكا الجنوبية (وصل إلى جدة ومكة واليمن وعمان والسودان والصومال عربيا). وهي الرحلات البحرية السابقة بكثير عن رحلات كريستوف كولمب وفاسكو ديغاما وماجلان وجيمس كوك.
«المغرب صديق لأمريكا، لكنه صديق لمصالحه أكثر»
وهي قصة مختلفة أيضا، حتى بمقاييس العلاقات السياسية للدول والشعوب في القرن 20، كون الرباط، هي البلد العربي الوحيد، غير المندرج ضمن خانة المعسكر الشيوعي، الذي اعترف بالجمهورية الصينية وربط معها علاقات ديبلوماسية رسمية يوم 1 نونبر 1958، ضدا على الموقف "شبه الرسمي" لكل المعسكر الغربي، بقيادة واشنطن، الذي كان يرفض الاعتراف بجمهورية الزعيم ماو تسي تونغ (عدا بريطانيا التي اعترفت بها وحدها منذ 1949، ولم تتبعها باريس الجنرال دوغول سوى سنة 1964). حيث كانت العواصم العربية المعترفة حينها ببكين الشيوعية، قبل المغرب، هي مصر والعراق وسورية، بين سنوات 1956 و 1957، وجميعها كان حليفا للمعسكر الشرقي الشيوعي.
علينا، ربما، هنا الانتباه إلى أمر هام، هو أن المرحلة، هذه، كانت مرحلة الملك الوطني محمد الخامس، بطل من أبطال التحرير بإفريقيا والعالم الثالث، وواحد من زعماء حركة عدم الانحياز، مثلما أنها مرحلة حكومة أحمد بلافريج، التي لم تعمر طويلا، سنة 1958، قبل تعيين حكومة عبد الله إبراهيم يوم 4 دجنبر 1958. ومعنى الاعتراف بالصين وربط علاقات ديبلوماسية رسمية معها، من قبل تلك الحكومة التي كان يقودها مؤسس الديبلوماسية المغربية، أحمد بلافريج، إنما يقدم الدليل على أن فكرة الحركة الوطنية المغربية، لوضع خريطة العلاقات الديبلوماسية للمغرب، لا يكون بغير القرار السيادي المستقل للمغرب والمغاربة، وبما يخدم مصالحهم كبلد وكدولة، سواء أعجب ذلك باريس وواشنطن ألم يعجبهما (أي سواء نال رضاهم المصلحي، أو لم ينل رضاهم). وهذا التوجه، سيظل، بالوقائع التاريخية، متواصلا حتى في عهد الملك الراحل الحسن الثاني رحمه الله، الذي عزز علاقات المغرب مع موسكو ومع بكين، بذات الخلفية السيادية لقرار الدولة المغربية. ولا يمكن هنا، مثلا، نسيان جملته البليغة، حين بادر إلى تأسيس "الإتحاد العربي الإفريقي" مع ليبيا معمر القدافي سنة 1984، التي عرفت ب "اتفاقية وجدة" كونها وقعت هناك، على الحدود مع الجزائر، وطرابلس حينها محاصرة من قبل كل المعسكر الغربي وتعتبرها واشنطن دولة راعية للإرهاب. لقد قال الملك الراحل الحسن الثاني، للإعلام الأمريكي، ما معناه: "نعم، المغرب صديق لأمريكا، لكنه صديق لمصالحه أكثر".
تشابه بين المغرب والصين
في معنى «وحدة التراب»
هذه الخلفية السياسية، التي حكمت دوما روح العلاقة بين الرباط وبكين، عزز الثقة فيها أكثر، الموقف المتشابه بين الدولتين، حول معنى "وحدة التراب". إذ للصينيين حساسية عالية جدا، حول معنى وحدة التراب الوطني منذ 3 آلاف سنة، التي رفعوا من أجل حمايتها سورهم العظيم. من هنا ظلت، بكين، تعتبر دوما الموقف من قضية جزيرة "تايوان"، جزءا من الموقف السياسي تجاهها كدولة، وجزء من التموقف "مع أو ضد"، حقوقها المشروعة الكاملة في استكمال وحدتها الترابية. كون حكومة تايبي بجزيرة تايوان، التي دعمتها منذ تأسيسها سنة 1949، واشنطن وقوى الحلف الأطلنتي، ضمن منطق الحرب الباردة بين المعسكرين الشرقي الشيوعي والغربي الرأسمالي، هي حكومة صينية تمثل الفريق السياسي الملكي الليبرالي، المنهزم في حرب التحرير العمالية الشعبية الشيوعية التي قادها الزعيم الصيني الكبير ماو تسي تونغ، والتي هرب قادتها وأتباعهم إلى تلك الجزيرة وأسسوا بها نظامهم السياسي المعارض لبكين، والذي لا يزال حتى الآن، يعتبر نفسه الوريث الشرعي للدولة الصينية الإمبراطورية. وإلى اليوم، لا يتجاوز عدد الدول المعترفة ب "تايوان" سوى 22 دولة عبر العالم، ضمنها عدد قليل من الدول العربية، في مقدمتها الأردن والإمارات والبحرين والعربية السعودية، وليس ضمنها المغرب. وهنا يكمن أساس عدم اعتراف الصين بالبوليزاريو، هي المدركة لمعنى سؤال "الحق في استكمال وحدة التراب"، رغم كل محاولات الجزائر منذ 1975، هي التي كانت محسوبة على المعسكر الشرقي، في أن تحمل بكين ولو على موقف مجامل لاستراتيجيتها المناهضة لحق المغرب في استعادة صحرائه الغربية الجنوبية.
بكين وفطنة العلاقة
مع المغرب دولة ومجتمع
هنا لابد من الانتباه، لأمر آخر جد هام. هو أن العلاقة بين الصين وقيادتها السياسية، مع المغرب، تنفرد بميزة استثنائية، هي أنها علاقة نسجت بالتوازي، من قبلها، مع الدولة ومع المجتمع وقواه الحية، خاصة قوى الحركة الوطنية وفي مقدمتها الحركة الاتحادية، لأنه على قدر ما ظلت بكين تأخذ بعين الاعتبار جرأة قرار الدولة المغربية، هي المحسوبة على المعسكر الغربي من ضمن دول العالم الثالث ما بعد الحرب العالمية الثانية، للاعتراف بالجمهورية الشعبية الصينية وربط علاقات ديبلوماسية معها، وعدم اعترافها أبدا بحكومة تايوان، منذ 1958، فإنها قد ربطت أيضا علاقات تواصلية معتبرة مع النخبة السياسية الوطنية المغربية، وفي مقدمتها الحركة الاتحادية. هنا كان دور الشهيد المهدي بنبركة محوريا ومؤثرا وحاسما، هو الذي بادر إلى زيارة بكين منذ 1959 (أكتوبر)، وحرص على أن ينقل مؤسساتيا، سر التجربة التنموية الشعبية للصينيين، خاصة في المجال الفلاحي والمجال التعاوني (وروح فكرة "طريق الوحدة" التي ربطت بين المغرب المستعمر من قبل فرنسا والمغرب المستعمر من قبل إسبانيا، غير بعيدة عن ذلك، في فلسفة وتصور بنبركة). بل إنه دور سيتعاظم، أكثر حين سيصبح هذا الزعيم الوطني والتقدمي المغربي، المسؤول عن سكرتارية مؤتمر القارات الثلاث، الذي سيعقد بالعاصمة الكوبية هافانا في يناير 1966، شهورا قليلة بعد اختطافه واغتياله رحمه الله بباريس يوم 29 أكتوبر 1965، حيث سنجد أن هذا الزعيم المغربي والعالم ثالثي، هو الوحيد الذي سينجح في إقناع القيادتين المتنافرتين والمتواجهتين، ضمن المنظومة الشيوعية (بكين وموسكو) لحضور ذلك المؤتمر وقبول التنسيق بينهما لأجل إنجاحه. وكانت تلك خطوة سياسية جبارة بمقاييس عقد الستينات. دون إغفال الدور الذي لعبته المنظمة الطلابية المغربية "الاتحاد الوطني لطبلة المغرب" في عز إشعاعها في الستينات، من دور في تعزيز العلاقة مع اتحاد الطلبة الصينيين، ضمن منظومة الاتحاد العالمي للطلبة، المحسوب على المعسكر الشرقي الشيوعي.
هذا المعطى، المتميز والفريد، هو الذي جعل علاقات بكين مع المغرب، قد ظلت دوما علاقات خاصة، فيها قوة توازن حقيقي، مع الدولة ومع المجتمع. وهي قصة تجربة سياسية علائقية متفردة في كل العالمين العربي والإفريقي والعالم ثالثي. فالمغرب محترم جدا في الصين، كدولة (رغم أنها محسوبة على المعسكر الغربي الرأسمالي سياسيا وأمنيا وتبعية اقتصادية) وكمجتمع (عبر قواه الحية من اليسار وحتى من جزء من التيار المحافظ دينيا). بالمقابل، ظلت الصين دوما محترمة ومعتبرة في المغرب، سواء في الدولة أو في المجتمع. ولعل في قرار بكين إعلاء تمثال للرحالة المغربي الأشهر ابن بطوطة، في مدينة "تشوان تشو" ضمن المتحف الوطني الصيني لتاريخ المواصلات البحرية، سنة 2008، وهي المدينة التي أسماها رحالتنا المغربي العظيم في كتابه ب "مدينة الزيتون"، وتحمل فيها مسؤوليات سياسية تدبيرية. أقول، لعل في ذلك، واحدا من عناوين الاعتراف الصيني مجتمعا ودولة، بالمكانة الخاصة لمعنى "المغربي" هناك، في تلك الجغرافية الفريدة من العالم، حضاريا وسياسيا وتدبيريا. فالمغرب عندهم، في المخيال العام الشعبي، في المنهج الدراسي، في النخبة السياسية والاقتصادية والعسكرية، هو صورة "ابن بطوطة". وهي ليست مجرد صورة افتتان بالماضي، بل هي تجل أيضا لتقدير واعتبار بمقاييس الحاضر، خاصة في المجال السياسي، تأسيسا على الفلسفة التدبيرية الصينية، الصادرة عن معنى ثقافي سلوكي تؤطره رؤية مختلفة للعلائق والناس والعالم، مسنودة بروح الفسلفة الكونفوشيوسية، التي بنيت أصلا على معنى أخلاقي سياسي، وليس على سؤال الميتافيزيقا، كما حدث مع جذر الفلسفة المتوسطية (في شقيها الغربي والعربي)، أي الفلسفة الإغريقية والفسلفة العربية الإسلامية.
المغرب وطريق الحرير
الصينية الجديدة
لهذا السبب، ليس مستغربا أن حروب الصين اقتصادية، هادئة، أساسا. هي التي تقدم درسا مختلفا للعالم، متأسس على فكرة الثورة التدبيرية التي كان قد أحدثها رئيسها الأسبق، دينغ سياو بينغ (آخر كبار رفاق مؤسس جمهوريتها الحديثة ماو تسي تونغ)، المتمثلة في ابتكاره منهجية سياسية إصلاحية جد ذكية، تتمثل في دولة واحدة، لكن بنظامين. أي المحافظة على مركزية القرار السياسي الموروث عن ثورة ماو تسي تونغ، لكن مع الاعتماد على نظامين اقتصاديين، متكاملين، واحد مركزي موجه، والآخر مندرج ضمن منطق "نظام السوق". هو الذي تنبأ سنة 1978، أن بلاده ستصبح قوة اقتصادية وسياسية في العالم بعد 50 سنة، أي في أفق 2028، بعد أن كانت اقتصادا شبه متخلف مشلول في بداية السبعينات.
والمرء، حين يتأمل واقع الصين اليوم، اقتصاديا وسياسيا، يدرك صدقية تلك النبوءة وذلك الحلم الذي أطلقه ذلك الزعيم الصيني الكبير، وأن الحلم تحقق 20 سنة قبل الموعد المعلن عنه. ولعل من آخر الأدلة على ذلك ما أعلنت عنه بكين في الدورة الأخيرة لمنتدى "بواو" الآسيوي، سنة 2015، من إنهاء الإجراءات القانونية والتقنية لتأسيس البنك الآسيوي للتنمية، الذي هو فعليا، أكبر مؤسسة مالية في العالم منافسة للبنك العالمي، ومستقلة عمليا، عن صندوق النقد الدولي. وهو أول إجراء مالي دولي هائل، يسجل منعطفا في منظومة الاقتصاد العالمي ومجالات تمويله، منذ نهاية الحرب العالمية الثانية. الأمر الذي جعل رئيس الصين "جين بينغ" (الذي خصص استقبالا رفيعا للعاهل المغربي هذا الأسبوع محمد السادس، لا يكون عادة هناك سوى لكبار قادة العالم)، يعلن بثقة أن بلاده تخطط ل «طريق حرير جديدة في العالم» برية وبحرية،
تعيد آسيا إلى صناعة القرار الاقتصادي والسياسي بالعالم، مقدما أرقاما مدوخة حول حجم الاستثمارات الصينية عبر العالم خلال الخمس سنوات القادمة، حددها في 500 مليار دولار، نعم 500 مليار دولار. وأن دور بلاده الجديد يتأسس على يقين أن "الصين دولة كبيرة وهذا يلزمها بالمزيد من المسؤولية لتحقيق السلام والتنمية بالعالم".
من قال إذن، إن التنين الصيني لم يولد بعد؟ أو أنه لم يخرج من قمقمه بعد؟ واهم من يعتقد غير ذلك، لأن بكين جديدة ولدت مع الإعلان عن إنشاء البنك الآسيوي للتنمية، الذي يضم 28 بلدا عضوا من العالم، 4 منها من العالم العربي هي السعودية والأردن والكويت وقطر، وطلب مصر كخامس دولة عربية في طريقه إلى القبول. ويضم أيضا 8 من أهم دول أوروبا نذكر منها ألمانيا وفرنسا وإنجلترا وروسيا. ودولة واحدة من أمريكا اللاتينية هي البرازيل، ولا توجد ضمنه أي دولة إفريقية عدا الطلب المصري الذي قدم في آخر لحظة قبل تاريخ إغلاق الانخراط يوم 31 مارس 2015. ويحق لنا جديا، التساؤل، هنا، عن السبب في عدم تقدم المغرب حينها بطلب الالتحاق بعضوية بنك المستقبل هذا؟
لقد كانت بكين واضحة في منتدى بواو، الأخير، حين أعلنت رسميا أنه تسعى لترسيم حزام طريق حرير اقتصادية جديدة بالعالم برية وبحرية، تربط البرية بين آسيا وأروبا عبر دول آسيا الوسطى (أي أفغانستان وإيران وتركيا)، بينما تربط البحرية التي أطلق عليها "طريق الحرير البحري للقرن 21" بين الصين وباقي العالم من خلال تحويل بحار ومحيطات آسيا إلى بحار سلام وتعاون بين الدول الآسيوية وباقي العالم. إننا بإزاء إعادة ترتيب غير مسبوقة لمنظومة العلاقات الدولية، تكاد تنهي مع تلك المنظومة التي ولدت بعد الحرب العالمية الثانية. ومن يدري، قد يتحول ذات يوم مقر هيئة الأمم المتحدة من نيويورك إلى هونغ كونغ، لأن الصين التي بدأت تؤسس لبنية مالية واقتصادية عالمية جديدة، تنافس البنك العالمي وتستقل نهائيا عن صندوق النقد الدولي، أعلنت أنها ستغني اقتصاديات الدول التي ستتعامل معها، كونها سوقا كبيرة للاستهلاك بسكانها البالغين مليار ونصف مليار نسمة، خلال الخمس سنوات القادمة، بسبب أنها ستستورد سلعا ومواد أولية من العالم بقيمة 10 ترليون دولار، وأنها ستعزز السوق السياحية العالمية في أفق 2020 بما مجموعه 500 مليون سائح صيني. وهنا، نحن بإزاء انعطافة جدية (رغم كل التشكيك الذي تمارسه العديد من مراكز الدراسات الغربية، الأوربية والأمريكية، وكذا عدد من وسائل الإعلام الوازنة بها، حول ذلك)، لإعادة ترتيب منظومة العلاقات الدولية، بشكل مختلف وجوهري، عما بلغت البشرية بعد الحرب العالمية الثانية. ويكاد المرء يتنسم ملامح ميلاد قدر جديد للبشرية، أصبح يصنع لأول مرة، منذ القرن 17، خارج المركزية الأوربية والغربية، وأنه يتأسس خارج المحيط الأطلنتي والبحر الأبيض المتوسط، حيث بدأت قوة القرار تنتقل بهدوء ويقين وإصرار صوب المحيط الهادئ، وآسيا، وفي مقدمته الصين بقوتها البشرية (كسوق) وقوتها التكنولوجية الجديدة والمالية غير المسبوقة.
واضح أن الصينيين، قد استفادوا من درس الأزمة المالية اليابانية التي عمرت حتى الآن 20 سنة كاملة، مثلما أنهم نجحوا في أن يرسخوا عالميا، أن منطق اقتصاد السوق وحده لا يقود سوى إلى أزمة كارثية عالمية مثل تلك التي حدثت سنة 2008، ولا تزال تداعياتها قائمة في اليونان والبرتغال وإيرلندة وإسبانيا، وأن تدخل الدولة كناظم للمصالح وكحام لشرائح المجتمع الأقل هشاشة، والحامية للطبقة المتوسطة، هو السبيل لضمان سلاسة النمو (هنا يكمن عمق معنى، الخيار الصيني الناجح، لدولة واحدة لكن بنظامين اقتصاديين).
إننا بإزاء معان تدبيرية سياسية جد دقيقة، مهم أن نقرأ فيها، على الأقل في فضائنا العربي وفضائنا الإفريقي، ما تقدمه لنا بكين من نموذج، على أن ربح المستقبل لا يكون بتغول نظام السوق، بل بضرورة تعزيز وحماية دور الدولة، كواق ضد منطق التغول ذاك، أي أنه لا بد من حسن التعايش بين السوق market والدولة state. ومكر فكرة الزعيم دينغ سياو بينغ، المتمثلة في دولة واحدة ونظامين، تستحق جديا الدراسة والتأمل لكل مشروع مجتمعي يريد أن يكون حداثيا ومتقدما وابنا للقرن 21. مثلما أنه مثال يتكلم لغة حروب الاقتصاد والمال والتنمية، لا لغة المدافع والحروب والدمار (التي ظلت ولا تزال تلعبها واشنطن، منذ الحرب العالمية الأولى سنة 1914، بمنطق مبادئ الرئيس ويلسون الشهيرة الصادرة سنة 1918). إنها، في مكان ما، فلسفة الزن الكنفوشيوسية الهادئة، تلك التي لا تتكلم كثيرا، لكنها تبني بيقين وصبر وإصرار النمل.
مرة أخرى لنذكر بما سبق وقلناه، في كتابات أخرى سابقة: أليس العالم يتحول من منطق الأطلنتي الذي ميز القرن 20 إلى منطق المحيط الهادي الذي سيكون قدر القرن 21 بدليل، أنه حتى واشنطن، زعيمة الحلف الأطلنتي، لم تغير مجداف سفينة خياراتها الاستراتيجية صوب آسيا اعتباطا. بالتالي، فإن قيمة الزيارة الرسمية للعاهل المغربي محمد السادس، بصفته رئيس الدولة وأمير المؤمنين دستوريا، على رأس وفد حكومي (مالي وفلاحي وتجهيزي وديبلوماسي وعسكري وسياحي)، هذه الأيام إلى الصين، إنما هو انخراط كامل للمغرب ضمن منطق هذا التحول العالمي الجديد. بدليل، نوعية وقيمة ما تم التوقيع عليه من اتفاقيات، ارتقت رسميا بالعلاقات المغربية الصينية، التقليدية والراسخة والقوية سياسيا، منذ 1958، إلى مستوى العلاقات الاستراتيجية، بمنطق القرن 21، وبمنطق "طريق الحرير الصينية الجديدة"، من خلال توقيع الملك شخصيا (وهذا أمر شبه استثنائي في كل زيارات ملك المغرب الدولية) مع الرئيس الصيني، بقصر الشعب ببكين، على الإعلان المشترك لإرساء "شراكة استراتيجية بين الدولتين".
هذا منعطف جدي، فعلا، في علاقات المغرب الدولية، ظل يتأجل ويراوح مكانه، منذ 2013، إلى أن ترسم اليوم، بشكل نهائي لا رجعة فيه، سرعت منه أكثر طبيعة لعبة التوازنات التي تسعى واشنطن إلى فرضها علينا كبلد ومجتمع ودولة، على حساب مصير وجودنا كأمة من خلال ملف وحدتنا الترابية (يكاد الأمر يشبه ما حاولته معنا بريطانيا في نهاية القرن 19، منذ 1858، حتى اتفاقها السري مع فرنسا الاستعمارية سنة 1904، والذي انتهى فقط إلى إيقاظ مارد فكرة "الوطنية المغربية" ويقين قرار الإصلاح عند النخبة بداية، ثم عند كامل المجتمع المغربي بعد 30 مارس 1912. والظاهر أن قدرنا المغربي يتجدد لتعزيز لحمتنا الوطنية بالتوازي مع مواصلة صيرورة الإصلاح بدون تفريط أبدا في وحدة البلاد ووحدة التراب) .
إن الشراكة الاستراتيجية المغربية الصينية، الجديدة، قد تعززت، بالتوقيع على 15 اتفاقية تعاون جديدة بين حكومتي البلدين، تهم مجالات حيوية استراتيجية من الناحية التنموية والمالية والأمنية والعسكرية.
وهي الاتفاقيات، التي حددت كالآتي، حيث تهم الوثيقة الأولى مذكرة للشراكة الاقتصادية والصناعية تهدف إلى تعزيز التعاون بين البلدين في قطاعات تتوفر على مؤهلات كبيرة على مستوى إحداث فرص الشغل والقيمة المضافة، من قبيل صناعة السيارات، والنسيج والألبسة، والتجهيزات المنزلية، وصناعة الطيران واللوجستيك. وتهدف المذكرة تلك، التي وقعها وزير الصناعة والتجارة والاستثمار والاقتصاد الرقمي، مولاي حفيظ العلمي ووزير التجارة الصيني كاو هوشينغ، مساعدة المقاولات الصينية للاستقرار بالمغرب وتشجيع التعاون بين المقاولات الصينية والمغربية. مع التوقيع على اتفاقية لإحداث منطقة للتعاون الاقتصادي والصناعي (غالبا ما سيكون فضاؤها هو طنجة، قرب الميناء المتوسطي الضخم، والناظور، في أفق مشروع ميناء بني نصار القادم الضخم والكبير).
وتتعلق الوثيقة الثالثة، القضائية، باتفاقية للترحيل يلتزم بموجبها المغرب والصين بالترحيل المتبادل للأفراد الموجودين فوق تراب أحد البلدين والمتابعين أو المدانين من طرف السلطات القضائية لبلدهم. كما يلتزم الطرفان في إطار هذه الاتفاقية، التي وقعها كل من وزير العدل والحريات مصطفى الرميد، ونائب وزير الشؤون الخارجية الصيني تشانغ يسوي. كما وقع الوزيران اتفاقية رابعة للتعاون القضائي في المجال الجنائي.
وتتعلق الوثيقة الخامسة، التي وقعها كل من وزير الاقتصاد والمالية محمد بوسعيد ووزير التجارة الصيني غاو هوتشينغ، باتفاق للتعاون الاقتصادي والتقني (ضمنها هبة مالية بقيمة 100 مليون يوان صيني).
أما الوثيقة السادسة، التي وقعها وزير الشؤون الخارجية والتعاون صلاح الدين مزوار ونائب وزير الخارجية تشانغ يسوي، فهي عبارة عن مذكرة تفاهم تتعلق باستثناء بعض الفئات من التأشيرة للسفر للبلد الآخر. وتهدف هذه المذكرة إلى إلغاء التأشيرة لفائدة الحاصلين على "جواز سفر الشؤون العامة" بالنسبة للصينيين و"جواز سفر خاص" المغربي، الذي تسلمه وزارة الشؤون الخارجية والتعاون، وتبسيط إجراءات إصدار التأشيرة بالنسبة للمواطنين الصينيين الراغبين في زيارة المغرب من أجل السياحة، فضلا عن رجال الأعمال المغاربة والصينيين الحاملين لجوازات السفر العادية.
ويتعلق الاتفاق السابع بمذكرة للتفاهم حول التعاون في قطاع النقل السككي بين الشركة الوطنية الصينية للسكك الحديدية والمكتب الوطني للسكك الحديدية بالمغرب. ووقع هذه الوثيقة وزير التجهيز والنقل واللوجيستيك عزيز رباح والمدير العام للمكتب الوطني للسكك الحديدية ربيع الخليع وعن الجانب الصيني الوزير المكلف باللجنة الوطنية للتنمية والإصلاح شو شاوشي ورئيس إدارة الشركة الوطنية الصينية للسكك الحديدية شينغ غوانغزو. مع التوقيع على مذكرة تفاهم أخرى من أجل تعزيز التعاون في مجال البنية التحتية، بهدف توفير الدعم للمقاولات الصينية والمغربية العاملة في مجال البنية التحتية على مستوى مختلف الأنشطة، بما في ذلك التصميم والبناء والاستغلال والإنتاج وتحويل وتصنيع مواد البناء وتصنيع الأجهزة. كما تنص على أن يضع الطرف المغربي رهن إشارة المستثمرين الصينيين كافة الإجراءات المحفزة والتفضيلات الخاصة الممنوحة للمستثمرين في إطار اتفاقيات أو عقود الاستثمار.
ويهم النص التاسع برنامج تنفيذ اتفاقية التعاون الثقافي (2016 -2020)، وقعه وزير الثقافة محمد أمين الصبيحي ونظيره الصيني لوو شوغانغ.كما وقع وزير الطاقة والمعادن والماء والبيئة عبد القادر اعمارة ووزير التراب والموارد الطبيعية جيانغ دامينغ، اتفاقية للتعاون في مجالي الجيولوجيا والمعادن. ويهم النص الحادي عشر، الذي وقعه والي بنك المغرب عبد اللطيف الجواهري ونائب رئيس البنك الشعبي الصيني شين يويو، اتفاقا لتبادل العملات بين البنكين المركزيين للبلدين.
أما النص الثاني عشر، فيهم مذكرة تفاهم من أجل تعزيز التعاون السياحي، خصوصا عبر تشجيع الأنشطة الترويجية من خلال توفير التسهيلات الضرورية بشكل متبادل، وتكوين المهنيين وتنظيم دورات تدريبية وتبادل الخبرات، والتنسيق بين وكالات الأسفار والمكتبين الوطنيين للسياحة. وتم توقيع هذه الاتفاقية من طرف كل من وزير السياحة لحسن حداد ورئيس الإدارة الوطنية للسياحة الصيني لي جينزاو.ووقع اعمارة ورئيس اللجنة الوطنية الصينية للطاقة نور بكري، اتفاقا للتعاون في قطاع الهيدروكربورات والطاقة. ويهم مجالي الهيدروكربورات (التنقيب على البترول والغاز والهيدروكربورات غير التقليدية) والطاقة (الطاقة الكهربائية والطاقات المتجددة والنجاعة الطاقية).
أما النص الرابع عشر، وهي اتفاقية جد هامة أمنيا وبيئيا وصحيا، المرتبط بمذكرة تفاهم حول التعاون في مجال سلامة المنتجات الغذائية المستوردة والمصدرة، وقعها وزير الفلاحة والصيد البحري عزيز أخنوش والوزير الصيني المكلف بمراقبة الجودة والتحري والسلامة الصحية، زهي شوبينغ.
وتنص الوثيقة الخامسة عشر، والأخيرة، التي وقعها كل من الوزير المنتدب لدى رئيس الحكومة المكلف بإدارة الدفاع الوطني عبد اللطيف لوديي، ومدير هيأة الطاقة النووية الصيني شو دازهي، اتفاقية تعاون في مجالات العلوم والتكنولوجيا وصناعة الدفاع (وهذه اتفاقية جد هامة من النواحي الإستراتيجية).
من هم صناع إفريقيا القرن 21، المؤثرون فعلا؟
علينا تذكر، هنا، كيف شكلت شهور يونيو ودجنبر 2015، شهور إفريقيا، عالميا، من خلال نوع من البداية الجنينية، التأسيسية الراسخة لتعاون جنوب جنوب بقارتنا السمراء، شاء المكر الطبيعي للأمور أن تكون جغرافيات حاسمة جيو استراتيجيا فيها، هي مجال بروزها من قيمة المغرب ومصر وجنوب إفريقيا. ولو شئنا بتحديد أكثر دقة، كانت فضاءات إفريقيا الشرقية والغربية والجنوبية مجال تبلورها. لأنه لو تأملنا قليلا خريطة قارتنا، التي تعتبر نوعا من الإلدورادو الجديد للتنمية في العالم، تسيل لعاب كبريات المؤسسات المالية والصناعية العالمية، سنجد أن المغرب ومصر وجنوب إفريقيا هي الرؤوس الثلاثة البارزة للمثلث الطبيعي الذي تشكله خريطة إفريقيا ضمن جغرافية باقي قارات الكرة الأرضية. أي أن الطبيعة منحت لها، أن تشكل المداخل الإستراتيجية لتحقيق تلك التنمية، في علاقة مع قارتي آسيا وشرق أروبا عبر البوابة المصرية، ثم في علاقة مع القارة الأروبية وقارة أمريكا الشمالية والوسطى عبر البوابة المغربية، وأخيرا في العلاقة مع جنوب المحيطين الهادي والأطلسي، عبر البوابة الجنوب إفريقية.
فخلال شهر يونيو، مثلا، ذاك، شهدت قارتنا ثلاثة مواعيد هامة، قبل القمة الصينية الإفريقية بجنوب إفريقيا (شارك فيها المغرب بوفد هام ترأسه رئيس الحكومة عبد الإله بنكيران). وهي مواعيد تترجم بعضا من إعادة هيكلة شكل تكون مشروع تنمية إفريقيا المأمول، كانت الرباط والقاهرة وجوهانسبورغ في القلب منه. المتمثلة في نتائج الجولة الملكية حينها، للعاهل المغربي محمد السادس، إلى عدد من دول إفريقيا الغربية، ثم الخلفية المؤطرة للقمة الإفريقية بجنوب إفريقيا، التي تحركت فيها جوهانسبورغ بمنطق روح مجموعة "البرنكس"، أي مجموعة الدول الخمس الصاعدة في العالم وهي الهند والبرازيل وروسيا والصين وجنوب إفريقيا. وأخيرا ما احتضنته شرم الشيخ المصرية من قمة اقتصادية لتوقيع اتفاقية تبادل حر بين 3 تكتلات اقتصادية إفريقية متمركزة كلها في شرق القارة، هي "السوق المشتركة لدول الشرق والجنوب الإفريقي" (كوميسا) ومنظمة تنمية الجنوب الإفريقي (سادك) ومجموعة دول شرق إفريقيا (إياك).
إن زيارة العاهل المغربي محمد السادس الجديدة، لأربع دول إفريقية، 3 منها عضوة بالمجموعة الإقتصادية لدول غرب إفريقيا، بروح نتائجها التنموية، المرسخة لتعاون جنوب جنوب، وبالدور الديني فيها لإمارة المؤمنين، المؤسسة لمشاريع مشتركة على مستوى إعادة هيكلة البنية التحتية لتلك الدول في مجالات حاسمة مثل الصحة والفلاحة والموانئ والصيد البحري والمطارات والعقار، إنما يعزز أكثر من عودة المغرب إلى عمقه الحيوي الإفريقي، بالشكل الذي يرسخ من إعادة هيكلة كل الجغرافية الممتدة والغنية لغرب إفريقيا، في انتظار انتصار عقل المصلحة المشتركة مغاربيا، خاصة مع الجارة الشقيقة الجزائر. مثلما تترجم عودة للقوة التاريخية للمغاربة، كإنسية حضارية، حين كانت فاس ومراكش وسبتة معابر وسيطة بين الشمال الأروبي والجنوب الإفريقي لدول الساحل حتى خليج غانا منذ القرن السابع الميلادي حتى القرن 18. إذ هناك كان عمق قوة المغاربة الحضارية والسياسية والإقتصادية، وهناك ستبقى حتى في القرن 21 وما بعده. وحلم طريق طنجة لاغوس، لن يتحقق إلا بالنتائج الإقتصادية المؤسسة مثل التي تحققت حتى الآن بين المغرب ودول وازنة بمجموعة غرب إفريقيا.
أما قمة شرم الشيخ المصرية التي شهدت توقيع اتفاقية التبادل الحر بين تلك المجموعات الإقتصادية الوازنة، التي تخص 26 دولة إفريقية تهم حوالي 59 بالمئة من ساكنة قارتنا السوداء وتمثل 61 بالمئة من الناتج المحلي الإجمالي بها بما مجموعه 1,3 تريليون دولار. فإنه يحولها إلى أكبر تجمع إفريقي اقتصادي منظم، شبه مندمج مع مجموعة "البرنكس" التي تضم دولا آسيوية وازنة مثل الهند والصين وروسيا. وهي تعيد موقعة القاهرة استراتيجيا في عمقها الإفريقي شرقا وفي عمقها المتوسطي باتجاه أروبا الشرقية وفي عمقها الآسيوي عبر دول الخليج.
وعلينا الإنتباه لحكم الجغرافية الحاسم في كل العلاقات الدولية وفي آلية تنظيم لعبة المصالح عالميا، حتى ندرك معنى الدور الإستراتيجي لمداخل إفريقيا الإستراتيجية مثل قناة السويس المصرية وميناء طنجة المتوسطي المغربي في مضيق جبل طارق وممر الرأس الأخضر بجنوب إفريقيا. وهي الجغرافيات، التي شهدت أيضا ليس فقط تحركات ذات وزن اقتصاديا، بل أيضا مناورات عسكرية من النوع الإستراتيجي، أكبرها "مناورات الأسد الإفريقي" مع كل فرق الجيش الأمريكي البرية والجوية والبحرية بالمغرب، ثم أول مناورات من نوعها بين القاهرة وموسكو بالبحر المتوسط بحرية وجوية سميت "جسر الصداقة"، ثم المناورات غير البعيدة بين جوهانسبورغ وألمانيا.
علينا ربما الإنتباه، بهذا المعنى، أن إفريقيا الناهضة القادمة إنما تصنع عبر أضلاعها الثلاث الكبرى، الشرقية والغربية والجنوبية، ولكل ضلع رأسه الإستراتيجي الحاسم بمنطق الجغرافية، التي هي مصر والمغرب وجنوب إفريقيا، في ما يشبه مثلثا مقلوبا واعدا بالخصب لقارتنا السوداء. وعلى نخبنا الجديدة، أن تدرك أن ذلك مشروعها التاريخي للقرن 21 كله. فإفريقيا ستصنع بين السويس وطنجة وكيب تاون. ورهان بكين على الشمال المغربي، كمنصة انطلاق استراتيجية صوب أروبا والمحيط الأطلنتي، ليس رهانا اعتباطيا.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.