رسّخت دراسات محمد برادة النقدية مفاهيم ومصطلحات لم تكن مألوفة في النقد الأدبي العربي الحديث، مثل «الحقل الثقافي»، «الرؤية للعالم»، «الحوارية»، «الوضع الاعتباري»، «المؤلف»، «الخطاب»..، وغيرها من المقولات ذات الصلة بالمحفل الخاص بالأدب. تتقصّد هذه الورقة إلى إثارة منافذ للتفكير في العمارة النقدية لناقد من أهمّ أعلام النقد المغربي والعربي المعاصر هو الناقد محمد برادة، والإصغاء لمنهجه النقدي في دراسة الأدب والتنظير له، خاصة دراساته التي تكرّست للتأمل في أسئلة الأدب العربي الحديث، والرّواية بشكل خاص، على مستوى طرائق التحليل والتأويل والتنظير. وذلك بناء على سؤال واسع يتبأر على مفهوم الناقد للحداثة في الثقافة والأدب والنقد، باعتبار الحداثة حاملا أساسيا ومركزيا يلقي ضوء كثيفا على الوعي النقدي البرّادي الذي لم يكف عن فتح مجالات الخطاب النقدي على التوسّع والاغتناء والتجدد. نعتبر أن هذا السؤال الجامع الذي يقع مفهوم الحداثة في صميمه، يتسع لاحتضان أسئلة عديدة تتولّد من رحمه، ولا تنفصل عن إيمان محمد برادة باستقلالية الأدب والنقد. أولا، لأن «الإبداع لا يتحقق إلا من خلال استقلالية تحمي المبدعين من التبعية لمحافل سلطة أخرى، وتتيح لهم أن يصوغوا رؤاهم وفق تفاعل وتجارب تكون الذات المبدعة فيها هي عصب الموضوع وحامله (1)»، و ثانيا لأن (الأدب والنقد) متجذران في الفضاء الاجتماعي والثقافي. وبعبارة أخرى فالأدب سياسي، كما يكتب سارتر في كتابه «ما الأدب؟»، فهو يتعيّن بوصفه انعكاسا لزمنه. فالأدب هو الإيديولوجيا (2). وبهذا المعنى، فإن دراسة الأدب لا يمكن أن تتم بمنأى عن التفكير في منطوياته الثقافية والإيديولوجية. لذلك عندما نعتبر أن هذه الأسئلة التي تضع الأدب من حيث مفهومه وشروط إنتاجه في علاقة جدلية بالثقافي والسياسي وبالمؤسسة الأدبية، فذلك لأنها لا تنفصل عن إيمان محمد برادة بالحداثة وضرورتها في نزع القداسة عن اللغة، والقيم والتراث بهدف إنتاج أدب ونقد يلتحمان بالجدلية الاجتماعية، وبالإشكاليات التي تولّدها الحياة اليومية، وآفاق التطور والصراع. إن التأمل في استراتيجيات النقد البرّادي، وهو نقد حواري مزدوج ينصبّ على النصوص والمؤسّسات والنزعات السلطوية، يمكّن من تلمّس العلامات الأساسية التي من شأنها أن تهيئ السبيل لفهم القراءة النقدية التي بلورها هذا الناقد المجدّد الذي يعدّ من نقاد سوسيولوجيا الأدب البارزين، وما ينطوي عليه خطابه النقدي من أبعاد فلسفية وفكرية وثيقة الصلة برؤيته للعالم، وإيمانه بوجود الكاتب والناقد في قلب تلك الرؤية التي يشغلها قلق الحرية والحداثة والتغيير والديمقراطية. وللتدليل على هذه المكانة التي يحتلها الناقد ليس فقط في المجال الأدبي، وإنما كذلك في الحياة بصفة عامة، يهمنا الإحالة على ما أشار إليه الناقد المصري سيّد البحراوي في حديثه عن الدور المركزي الذي ينهض به الناقد، والذي يتعدى مسألة قراءة النصوص إلى التأثير في المجتمع من خلال الوعي النقدي الجدلي الذي ينطوي عليه خطابه. وفي هذا السياق يرى سيد البحراوي أن الناقد من حيث التكوين «يجمع في آن واحد بين العالم والفيلسوف والفنان فهو من حيث مجال عمله في الأدب أو الفن لا بدّ أن يتمتع بحساسية فنية عالية، تؤهله لتذوق وتلقي ثم درس العمل الفني أو الأدبي، وهذه الحساسية لا ينبغي أن تقلّ بأي حال من الأحوال عن حساسية الفنان أو الأديب نفسه، ونفس الأمر فيما يتعلق بلغته، غير أن الناقد بحكم طبيعة عمله لا يبدع عملا فنيا، ولكنه ينتج دراسة تسعى لأن تكون علمية منضبطة منهجية ومستفيدة من العلوم المختلفة التي تتجاوز حدود النقد بالمعنى الضيق إلى علوم اللغة والنفس والاجتماع والتاريخ والسياسة وغيرها (3)». وبهذا الدور يسهم النقد في تأسيس القاعدة الأساسية للثقافة والحضارة بشحذ الفكر «والعمل على نشر قيم الحرية والاستقلالية الفكرية، التي تعمل على استنهاض طاقات الكتاب والمفكرين على جميع المستويات المعرفية، وتحريكهم للاطلاع بدورهم العقلاني التنويري والمساهمة في وضع فهم جدلي لثنائية التراث والمعاصرة من جهة، والانفتاح على الآخر من جهة ثانية (4)». لنقل إن النهوض بقراءة الخطاب النقدي لمحمد برادة يعدّ مسألة شديدة الأهمية في سياق النقد المغربي والعربي الحديث، وأهميتها لا تتمثل فقط فيما تتيح للدارس من مراجعة متأنية ومتفحصة لمتن خصب من الدراسات والأبحاث التي كتبها محمد برادة، وإنما كذلك في التمكين من وضع عمله النقدي ضمن إطار واضح يسمح باستخلاص نتائج من شأنها رسم صورة شفافة بخصوص المساهمة النقدية لهذا الناقد ولمسارها، ولما تمكن من فتحه من آفاق مغايرة أمام الدراسات الأدبية في المغرب، وفي العالم العربي. فنحن بإزاء مثقف وناقد لم يشتغل على الأدب بهدف إنتاج الفهم به وتفسيره وحسب، بل إنه يحمل تصورا عميقا للحقل الأدبي المغربي، ما يعني أن إسهامه النقدي يقع في صميم البحث عن دينامية الأشياء والعالم، وتجاوز عوامل الجمود والاستكانة. من المعروف أن الأبحاث والدراسات الاجتماعية حول الأدب تطورت تطورا كبيرا في دول أوربية مثل ألمانيا وإيطاليا وفرنسا التي حظي فيها الكتاب بوضع اعتباري، وبحضور لافت في الاقتصاد التجاري والثقافي، كما تدلّ على ذلك أعمال عالم الاجتماع الفرنسي بيير بورديو التي تكرّست للتفكير في الأدب من خلال الشروط المؤطرة لعملية إنتاجه، ولموقعه في الحقل الثقافي. وقد كان لتفاعل النقد المغربي والعربي مع هذا التيار النقدي ولتمثل مفاهيمه ومصطلحاته، أكان ذلك على مستوى الترجمة، أو على مستوى الاتصال المباشر بأفكاره وتصوراته، دورا كبيرا في بلورة فهم وتأويل مغايرين للعلاقة التي تشدّ الأدب إلى المجتمع والثقافة والتاريخ. وليس في الأمر أي تزيّد عندما نقول إن مساهمة محمد برادة في التفاعل مع هذه المرجعيات النقدية تعد عميقة ومؤثرة، من حيث تمثله لهذه المقاربات النقدية المختلفة وتشبعه بأدواتها ومفاهيمها في النظر إلى الأدب على أساس أنه ينطوي على معان ومشاعر وقيم تحول دون النظر إليه على أنه واقعة حسّية مباشرة. فمساهمة محمد برادة في تجديد الخطاب النقدي انطلاقا من مثاقفة خصبة ومنتجة يزكيها قول الناقد المغربي أحمد بوحسن حيث يعتبر الاهتمام بالنظريات النقدية المعاصرة بحث عن التطور والتجدد اللذين يشوشان على القائم الساكن ويحركانه. وإذا كان من أحد في أمسّ الحاجة إلى هذا التطلع والتحرك، فهو عالمنا الذي يشعر بالتفاوت الكبير بينه وبين العالم الآخر المتقدم (5). لقد رسّخت دراسات محمد برادة النقدية مفاهيم ومصطلحات لم تكن مألوفة في النقد الأدبي العربي الحديث، مثل «الحقل الثقافي»، «الرؤية للعالم»، «الحوارية»، «الوضع الاعتباري»، «المؤلف»، «الخطاب»..، وغيرها من المقولات ذات الصلة بالمحفل الخاص بالأدب. وفي هذا المجال كان دوره مؤثرا. ذلك أنه في قلب المرحلة البنيوية التي برزت فيها اللسانيات، خاصة طروحات فيرديناند دي سوسير بوصفها النموذج المحتذى من حيث المفاهيم والمناهج من قبل الباحثين في العلوم الإنسانية والاجتماعية، نجح برادة في أن يحدد لخطابه النقدي موقعا مختلفا ومميزا عن التصور السوسيري والبنيوي للغة، وأقرب إلى ماركسية موسعة ومرنة يلتقي فيها لوكاش وغرامشي وغولدمان وألتوسير وبورديو. وفي هذا السياق اكتشف محمد برادة ميخائيل باختين الذي مهد السبيل أمام النقد الأدبي لمجاوزة الاعتراضات التي طرحتها البنيوية على المقاربات النقدية الواقعية المتأثرة بالماركسية من خلال الاستفادة من تصوراته العميقة حول اللغة وأبعادها الاجتماعية وكذلك حول المتكلم وخطابه. بهذا المعنى تتعين أهمية الاقتراب من مفهوم الأدب الذي يوجه دراساته وأبحاثه المختلفة، وذلك بهدف تحليله وربطه بالتحولات العميقة التي ما فتئت تطاول مشهد النقد والنظرية الأدبية منذ النصف الثاني من القرن الماضي، فارتادت به آفاق جديدة غيّرت من شروط إنتاجه، ومن مفهومه، وعلاقته بموضوعه، وكذلك من آلياته وأدواته المنهجية، وهذا ما أثر على دور الناقد في الحياة الاجتماعية، وعلى صورته لدى جمهوره الذي صار يميلُ إلى اختيار ما تحدده ذائقته أكثر مما يميل إلى ما يقرّره النقاد. بل يمكنُ القولُ أن الاختيارات الشخصية أضحت إحدى نقاط الارتكاز الناظمة للهويات المعاصرة (6). ولقد غيرت هذه المياه كثيرا من القناعات والتصورات السّابقة حول النقد والأدب، فأدت إلى حدوث ما يشبه القطيعة ليس فقط مع المنظورات النقدية التي تأسّست على فكرة الحكم على القيمة الفنية للعمل الأدبي، وإنما كذلك مع المناهج والنظريات الشعرية (7) ذات الخلفية اللسانية والبنيوية التي تقصّدت إلى أن تقنّن للنقد، وتضع له الأحكام والضوابط، كما عرّضت مقترحات وتصورات نقادها حول النص الأدبي وطرق أداء العلامات، للمساءلة والنقد من فرط ما بدا أن هؤلاء النقاد يستحوذ عليهم التخصص الدقيق، واللغة الاصطلاحية الغامضة(8). مراجع: 1 - محمد برادة: الرواية العربية ورهان التجديد، كتاب دبي الثقافية، العدد49، مايو2011، ص20. 2 - J.P.Sartre, Qu'est ce que la littérature, Gallimard, 1948, p.128. 3 - سيد البحراوي: التبعية الذهنية وأزمة المنهج، ملف: النقد العربي وأزمة الهوية، مجلة القاهرة، العدد 160، مارس1996، ص53. 4 - إبراهيم الحيدري: النقدة بين الحداثة وما بعد الحداثة، دار الساقي، بيروت2012، ص12. 5 - أحمد بوحسن: نقل المفاهيم بين الترجمة والتأويل، نقل مفاهيم نظرية التلقي، ضمن كتاب: في المناهج النقدية المعاصرة، دار الأمان، الرباط2004، ص85. 6 - إدريس الخضراوي: دور الناقد وحالة ما بعد الحداثة: قراءة في كتاب"موت الناقد" لرونالد ماكدونالد، مجلة تبين، العدد الخامس عشر، 2016. 7 - إن استعمال مفهوم "الشعرية" ها هنا يرد بمعنى النظرية الداخلية للأدب. ويعد هذا المصطلح من المصطلحات الحديثة التي يعود الفضل في انتشارها إلى الشكلانيين الرّوس وكذلك إلى رومان جاكبسون بشكل خاص. 8 - نادر كاظم: هل وصل النقد إلى طريق مسدود؟، ملف: النقد الأدبي العربي اليوم: الرهانات والتحولات، )بيروت: المستقبل العربي، العدد 114، 2014) ص112.