بالتأكيد ستحتفظ ذاكرة خطاب المرحلة بالحيز شبه المطلق لبعض المفاهيم بحكم التداولات الواسعة إلى حد افتنان أضحت بموجبه، مرجعية البلاغة اليومية بامتياز. فمن بين هذه المفاهيم، مقولة « المجتمع المدني» حيث الزج بها في مختلف المقامات والسياقات بات مسلما به، إلا أن الجهل بتاريخ دلالات هذا المفهوم، هو السمة للقاعدة العريضة. إن صفة الشرود تجعل من هذه القاعدة غير آبهة بقواعد التفاعل مع المحيط، فتغييبها للعمل في إطار منظومتي الإصلاح والتغيير كفعلين يصاغان بالإجماع داخل المجتمع، تفاديها الخوض في إشكالات التحديث، الانتقال الديموقراطي وما له علاقة بثنائية المجتمع والدولة، يبرهن بالحجة على أن جزءا كبيرا من هذا المكون الجمعوي يرتكن في بؤرة البحث عن الامتيازات الذاتية ليس إلا، مما يجعله مقحما داخل دائرة اللامبالاة. إن إضفاء الهالة عليه يقضي بتفعيل الوصاية تجاه الحالات الغير السوية تفعيلا للقوانين التي تنص على الالتزام بمواعيد عقد التجمعات العامة كعملية تفضي إلى تجديد النخب وتداولها سبل التسيير. تستند قراءة النظائر بناء على الطابع الكوني للقضايا، وعلى الاستدلالات الكامنة في تجربة الآخر وذلك بوازع الإلمام، فالحركات الاجتماعية المواطناتية بالغرب تحظى بالاستقلالية وحرية التعبير كأحد رهانات المسارات الديمقراطية، فما يلمس من صعود بالقوة لمبدأ «الجمعية» صار نقطة محورية تجعل من المجتمع فاعلا سياسيا: معطى يدفع برجالات السياسة اليوم التدبر في المكانة التي يجب أن تمنح للمجتمع المدني كأحد مكونات صناعة القرار. هذا التحول انكب على مقاربته «روجي سو» ROGER SUE ، من خلال تجسيده لتيمات جوهرية تستشرف منظورا جديدا للسياسة يقر بعدم ترك الحوار لمحترفي الرأي، وفسح المجال أمام العلوم الاجتماعية لتتجاوز إطارها النظري، واتخاذ طابع الضرورة الاجتماعية بعيدا عن شراك الآراء المستهلكة. إنما يبتغيه هذا الباحث هو إعادة الاعتبار للرهانات القوية والسجالات العامة التي باتت تعاني فتورا، خلطا وارتباكا. إن التساؤل في كتاب «المجتمع المدني في مواجهة السلطة» - الصادر عن منشورات العلوم السياسية بباريز- ينطلق ببحث مكامن الأزمة وسبل التغيير مع رصد ما يسميه المؤلف ب «اقتصاديات الرأسمال البشري»، موضوع هذه الورقة، لينتهي ببحث قيمة الرابط الاجتماعي، دينامية الحركات الاجتماعية منتهيا بإ براز فحوى المجتمع المدني. الإقتصاد الجديد بحكم تعدديتها, أهميتها المتزايدة اللامتناهية، أضحت الجمعيات تحظى بقوة تأثير، كثيرا ما يتم تجاهلها، علما بأن منظومة الاقتصاد الجديد هو من سمح لها بالمقام في الحقل العام، بل مكنها من دور طليعي واستراتيجي. إن الاقتصاد الجديد يعني بدلالاته بزوغ وانطلاق مفهوم التكنولوجيات الحديثة للاتصال، ذلك أن حقيقة الواقع الجديد تكمن في تغيير و تحويل مركز الجذب من اقتصاد تقليدي بالمفهوم العادي إلى اقتصاد المعرفة والرأسمال البشري، هذا الأخير جعل التكنولوجيات المومأ إليها، وسيلته الوحيدة في التعبير، إنها الآلية والمحرك ولا معنى لها مجردة من المضامين والمرامي. إن لإهمالها لها والتضارب في الإفراط بالتوجه نحو هذه القيم، وكذا التعاطي مع التكنولوجيات أحدث خيبة أمل قصوى خاصة على مستوى البورصة. لقد كان ذلك إذن نتيجة أخطاء على مستوى الموضوع، المساعي والأهداف. فإذا كان العالم فعليا على أبواب مرحلة جديدة، فإنها بالتأكيد ستحمل سمة اقتصاد الإعلاميات، المعرفة والذكاء، بحيث أن اللامادي هو المتحكم، المنطق التدبيري للانتاجات المادية. إنها قفزة نوعية، مقارنة بالعهد الصناعي «الفوردي» FORDIENNE، وذلك لاعتمادها على العامل البشري الذي بات يستحق تسمية بالرأسمال البشري باعتباره المصدر الأكثر ترجيحا، دعما للإنتاجية وللتنمية معا. إذا كانت هذه المسلمة اليوم يتقاسمها الجميع، باعتبارها الأنجع ضمن كل الراساميل، فإن الأمر يقتضي وجوب الأخذ بعين الصواب، التقييم الرصين للطاقات الفردية بجانبيها التقني والشخصي، كالقدرة على المبادرة، الابتكار والتجديد، مما يعني طبعا تطوير الكفاءات العامة، الذاتية لمجموعة ما، وكذا ما يرتبط بالرؤية، منظومة التفكير والعمل الجماعي، إضافة للقدرة على الإصغاء، التواصل والمصالحة... إلخ. ترتبط أرباح إنتاجية هذا النوع من الاقتصاديات في أكبر جوانبها بمدى تطبيق وتشغيل الفرد للقيم، الصفات الجماعية أي تبيان ورصد الذكاء الجماعي على سطح الواقع. إجمالا القيام بتعداد العناصر الأساسية التي تحقق الإنجاز لهذا النموذج من المقاولات والتي أصبحت تتوفر على قيمة مضافة، يسمح بالملاحظة التالية: لا تبتعد هذه العناصر كثيرا عن تلكم التي تتحكم وتتشكل منها جماعة جمعوية. إنه نفس المعطى، إذ الأولوية بالنسبة للفرد واستقلاليته تتحدد في أهمية صفة الرابط الاجتماعي، اقتسام،تبادل المعارف وذلك بوضع مساطر تطمح للانفتاح والديمقراطية، كالحساسية تجاه العدل، الإنصاف، البحث عن سبل الابتكار ثم القرب من العموم أو الزبائن... إلخ. إن قساوسة التدبير الجديد للموارد البشرية، يدافعون وبصورة علانية بغية إقرار نموذج للتدبير يتصف بصفة الجمعوي بمختلف مستويات العلاقات الاجتماعية داخل المقاولات. إن «شارل هاندي» CHARLES HANDY أحد المستشارين الأكثر شهرة في عالم الأعمال والتدبير، لم يتردد بالقول أنه من المفروض على الأجراء أن يعملوا بداخل مقاولاتهم لصوغ علاقات مبنية على انتماء قائم على الحوار والمشاعر الحرة، مثلهم في ذلك مثل المنتمين، المنخرطين بجمعية أو ناد ما، مع كل ما يعنيه هذا المفهوم كلغة وتعبير عن المشاركة في اتخاذ القرارات، اقتسام الأرباح و لما لا الرأسمال نفسه، فحتى عندما يصبح هذا الأجير هو الرأسمال، فمن المرجح و الغالب أنه يكون ميالا للبحث عن الاعتبار، الاحترام، وتقاضي أجرته، على أن يحظى بالاهتمام فقط لكونه أجير ومساهم ACTIONNAIRE... إلخ. يتعلق الأمر إذن بنموذج مرتبط أساسا بالمقاولات ذات المصالح العليا والقيم المضافة، حيث يتوفر المستخدمون على كفاءات، إلا أن هذا ليس بالعامل الوحيد، ذلك أن تنامي اللامادية العمل - انتفاء الطابع المادي- والانتشار المدهش للتكنولوجيات الحديثة سيجعل من المستخدم، المثقف أو (العارف) العملة المعمول بها، المتداولة كما تفصح عن ذلك ظاهرة توسع قطاع الوظائف، الحرف الاجتماعية العليا والمتوسطة منها، والتي تتكفل بمهام الوساطة. فبقدر ما يحظى الخيال، الإبداع والعلاقات بأهمية داخل المنظومة الاقتصادية، بقدر ما ينتقل النموذج التدبيري إلى الشكل أو الإطار الجمعوي الذي يتميز بكونه ليس مستعصيا أو بعيدا عن الملائمة، فمنطق الإنجاز الاقتصادي، يكمن في الظهور الواضح، البين للرابط الاجتماعي، وكذا القيم المعاشة خارج إطار العمل و التي أضحت إحدى المؤشرات بداخل المقاولة الحديثة. لقد أعطى تكتل هذه العناصر وزنا متناميا للعلاقة الجمعوية، علما أنه ومن باب المؤكد، الوضع مازال بعيدا عن تحصيل الحاصل والتقييم الشامل. إن العلاقة الجمعوية تعود أساسا إلى الخطاب الذي تهيئه وتعتمده المقاولات الراغبة، الطامحة بكل جهد لتهذيب صورتها عوض مراعاة الحقيقة والواقع. فإذا ما حدث أن أغفلت المقاولات هذه التطورات العميقة، ولم تأخذها بعين العقل، فإن النقابات نفسها كما هو ملاحظ لم يعد بمقدورها ضبطها، إذ ما فتئت تعارض من حين لآخر كل أنماط العمل الجمعوي القائمة في إطار الرأسمال والعمل، مما يدل أن المواجهة واردة سواء بالصورة السلمية عن طريق انسحاب الأجراء أو بالأشكال التلقائية للاحتجاج الاجتماعي كما هو الشأن أمام حالة إعادة الهيكلة والتأهيل الذي نهجته كثير من المؤسسات الكبرى بخصوص حالة التمييز على مستوى تأدية الأجور الغير المبررة باعتبار السياق الجديد، إذ أن أجور مديري المقاولات الكبرى تضاعفت بمعدلات متوسطة، اعتمادا على معدل تنموي فاتر، وبمعية تجميد عام للأجور. نعم إنه لمن مصلحة المقاولة أيضا أن تطالب على الدوام بتصاعد للاستثمارات الذاتية، لأفراد يحملون وعيا بقيمتهم الشخصية وحقوقهم، وذلك بان تفرض عليهم مزيدا من المرونة دون منحهم تعويضات على الخدمة والمجهود، بعبارة أخرى هناك أشكال جديدة للاعتراف، المساهمة والاشتراك في تسيير المقاولة، ذلك أن التدبير «الجمعوي» يمثل مستقبل المقاولة، ليس فقط لأهداف اجتماعية صرفة، كالإنصاف أو العدل، بل أيضا من أجل تحقيق النجاعة في إطار اقتصاد مبني على الذكاء الجمعي، بتجميع وإشراك المواصفات الأصيلة لكل فرد على حدا. إنها الرؤية العميقة التي بات يتبناها اليوم الاقتصاد الجديد، بالرغم من أن المقاولات تتعثر في استنتاج، كسب النتائج على مستوى الحكامة الجيدة: التوزيع، اقتسام السلط والمسؤوليات، دون النفي بطبيعة الحال لفوائد مسارات إنتاج الفرد. يقتضي التنامي المتصاعد للرأسمال البشري في المسار الإنتاجي، التساؤل بصدق عما ينتجه هذا الرأسمال البشري نفسه؟ فإذا كان هذا الأخير قد بات نقطة قرار - بلغة التبئير- بالنسبة للاقتصاد الجديد، فإن السؤال المركزي اقتصاديا أضحى مرتبطا بإنتاج هذا الرأسمال. تكمن إذن المساهمة الضرورية في إنتاج الثروة، بموجب الذي سبق ذكره كتمهيد للمسار الإنتاجي للفرد ذاته: (التكوين - الصحة - الرابط الاجتماعي) بناء على رأسماله الشخصي بما فيه تركيبه البيوجينومية BIOGENETIQUE. إن شروط إنتاج الفرد وفقا لمساره الحياتي يصبح تدريجيا العامل المركزي المحدد لكل عملية إنتاجية. ولهذه الأسباب يتم اقتراح مفهوم رباعي كالتمديد، إعادة بناء المراحل الابتدائية، الثانوية والثالثية لإعطاء معنى لهذا التحول نحو مجال تتمركز فيه بكثرة القطاعات والأنشطة، بحيث ينظر للفرد بصفة المنتوج والمنتج في مسار الإنتاج. إن الأمر غير مرتبط هنا فقط بالتكوين أو الرأسمال البشري الملائم، المطابق، الحامل للنفع المباشر للمقاولة، بل إنه وبصورة أوسع يشمل كل ما من شأنه العمل لإنتاج الثروة وتعدد الكفاءات لفردنة، مما يعني تجاوز مجموع ما تلقاه الفرد مدرسيا وما حصل عليه من شواهد، إذ يصبح تكوين هذا الفرد شاملا بالمعنى الواسع للمعارف الرحبة، المتراكمة في إطار العلاقات الاجتماعية، الخدمات الثقافية، الصحية أو المرتبطة بالبيئة السليمة ككل. إنها جميعها إطارات مرتبطة في جوانبها الكبرى بالمصالح العمومية. يمكن التمثيل لهذه التنمية الدالة على الخدمات بقطاع الصحة، فلا أحد اليوم (دولة وجماعات) يفكر في زيادة الضغط المالي أو الزيادة في عدد الموظفين ولا حتى التحويل الشامل أو البسيط لهذه الخدمات باتجاه السوق لدوافع أخلاقية، بل لأسباب تتعلق بالمردودية بحكم أن هذه الخدمات أوالمصالح واجبة وضرورية من أجل التنمية، علما أنه و بكل واقعية ما زالت جميعها غير متطورة ومتخلفة إلى حد بعيد. إن الأزمة الآنية والمستقبلية للنظام التنموي، تجد تفسيراتها العقلانية، في عدم القدرة على تطوير الاختصاصات والمجالات الأساسية للاقتصاد الجديد. فاستناد وتشغيلا للمفاهيم الماركسية يمكن القول بأن قوى الإنتاج الجديدة لم تتولد عنها علاقة إنتاجية أكثر تلاؤما؛ فبما أن المقاولات قد استوعبت هذا التطور، فقد صارت توليه اهتمامها، إلا أن هذا الأخير انصب بعمق على اقتصاديات الفرد. فالأمر وبدون شك لم يعد في منأى عن محاولات للانتقال نحو سوق القطاعات - كالتعليم، التربية والصحة - كما تشهد بذلك النقاشات الساخنة، العنيفة أحيانا، التي تعرفها دون قطيعة المنظمة العالمية للتجارة (OMC). إن خوصصة من هذا النوع، للمصالح، الخدمات العمومية، قد يؤدي لا محالة لتقليص مستوى الاستثمار بهذه القطاعات - انعدام الالتزام العمومي، ضعف الاستهلاك عند ذوي الدخل الضعيف - كما يمكن أن يكون سببا في خلق فواصل مع مبدأ التساوي بين الأفراد، فحينما يصير الولاياتالمتحدة كدولة تنهج سياسة الليبرالية القصوى، المتطرفة في المجالات الحيوية السالفة الذكر، لتحتل بذلك الصف السابع والثلاثين في تقييم النظام الصحي، نجد بالمقابل دولا كفرنسا بقمة التصنيف، الشيء الذي يدعو للكثير من التأمل والتفكير. يكون الاقتصاد بناءا على المعطيات السالفة، الخاسر، إذ تصبح الفوارق على مستوى الخدمات الضرورية، الأساسية كالآنفة الذكر، واضحة وأكثر تمظهرا كمسلمة يصعب قبولها، مما يعني أن سيناريو من هذا الصنف يحمل مخاطر إقحام العالم في بؤرة تبضيع المورد البشري والسير باتجاه عملية خوصصة الخدمات العمومية. لقد شرع الجميع يشعر بهذا انطلاقا من مسألة حيازة شهادة البراءة للأحياء والعمل على ملاءمتها مع المعطيات الحديثة، لأغراض تجارية، باللجوء إلى تأمينات خاصة في المجال الصحي, بعبارة أخرى يستحيل القول بأن اقتصاديات المورد البشري أضحت تعرف انتشارا وتوسعا بوصفها أكثر إنسانية، دون مراعاة ما تنطوي عليه من تهديدات تدفع باتجاه المفهوم المجمل ل « أحسن وأفضل العوالم». الديمقراطية كمورد اقتصادي إذا ما كانت هناك إرادة لتفادي هذا السيناريو الأسوأ، حيث الفرد بشموليته جسدا وروحا منشغل بالسوق، فإنه ينبغي الاعتماد على اندفاع اقتصادي، يوسع من حجم الجمعيات التي تقوم وتتحمل مهام الخدمة العمومية أو المصلحة العامة في سياقات أكثر نجاعة، وبكلفة تتحدى كل منافسة. يمكن بحق تصنيف الاقتصاد الجمعوي في جانبه الأكبر كاقتصاد غير نقدي، ذلك أن ما يطلق عليه ب «الاقتصاد الاجتماعي» بمجموع مجالاته لا يمثل إلا نسبة ضئيلة من الإنتاج الخام، غير أن هذه المساهمة تتصف بلا شك بطابع قوي في إطار تكوين الرأسمال البشري، باعتباره كان على الدوام مرجعية التعليم الشعبي في بداياته، كأحد الثوابت الكبرى في غالبية المشاريع الجمعوية، والتي بحكم طبيعتها، ظلت تحمل بعدا تربويا وتعليميا: الرفع من قيمة الشخص، تطوير كفاءاته، توسيع وتنويع وظائفه، التركيز على أهمية المعرفة التطبيقية لديه، العمل بروح التعاون... إلخ. إن بعض المقاولات على سبيل المثال لا الحصر, شال shell - إحدى كبريات شركات الوقود - استطاعت وبسرعة، التنبوأ بالربح الممكن تحصيله من تعاونها مع الجسم الجمعوي، لاسيما تحسين صورة «علامتها» وذلك بمؤازراتها الوفيرة، الظاهرة، المتجلية في إطار الجمعيات الإحسانية، بهدف الإدماج الاجتماعي والتنشيط الثقافي وذلك بوضع رهن إشارة هذه الجمعيات مأجورين متطوعين، يكسبون أرباحا إضافية، بمعنى كفاءات جديدة وروح جمعوية تستثمر في خدمة المقاولة. لقد أصبحت الجمعية آلية أصيلة في التكوين المستمر بدلالته الواسعة وبكلفة متواضعة نسبيا؛ كما أنه من وجهة أخرى، وضمن سياسات التشغيل يمكن أن تحتل المسارات الجمعوية اليوم مكانة مهمة في سجل المرشحين، إذ ينظر إليها باستحسان كبير، بل إنها تتدخل أحيانا في القرار النهائي كعامل حاسم للتوظيف أو التشغيل. لقد اضطرت الكثير من الشركات المتعددة الجنسيات، خلال العقدين الأخيرين، التعامل مباشرة مع جمعيات المستهلكين، المنظمات الغير الحكومية الأكثر حضورا والتي من طبعها الاحتجاج وعدم الإنصراف عن ممارسة الضغط محليا وعالميا. فمقاولات وشركات كبرى ك «فورد « FORD عانت الكثير من تجربة مريرة، أرغمتها في نهاية الأمر على جمع منتوجاتها الغير المرغوب فيها والتي كانت مصدر احتجاجات قوية على مستوى السوق. لقد تم رفع مفهوم التنمية المستدامة كشعار ذو حمولة شعبية كاملة، بفضل الإطار الجمعوي وآلياته، لدرجة فرضه وإقراره على مجموع الفاعلين الاقتصاديين. فجميع المقاولات بصرف النظر عن حجمها لا تستطيع تجاهله، مثله في ذلك مثل مسألة احترام البيئة، الاستثمار النظيف أو الأخلاقي، الأخذ بعين الحكمة، الانعكاسات الاجتماعية، النتائج ذات الطابع الاجتماعي. إن هذه المفاهيم حتما وبمجملها دخلت حيز الاهتمام باحتلالها مكانة جادة في منظور التقييم، الأمر الذي جعل منها إحدى علامات ومقاييس تنقيط المقاولات أي أنها أصبحت ضمن محددات القرارات المتخذة من لدن المستثمرين. إن رمز التصنيف الاجتماعي والإنساني: «تجارة متساوية» أو «إيكولوجية» أصبح أحد استدلالات البيع المؤثرة بثقلها في اختيار المقاولات واختيارات المستهلكين، الشيء الذي ترتب عنه، من جميع الجوانب، بروز الجمعيات واعتبارها أنظمة تمارس بحق تأثيرها المتنامي والمتصاعد في توجيه المسار الاقتصادي. فعلى الرغم من البون الشاسع, المسافة الفاصلة عن السلطة الحقيقية للمأجور، للمستهلك أو المرتفق، فإن تباشير عديدة أضحت ترتسم في الأفق من أجل ضوابط اقتصادية جديدة، وإمكانيات متعددة لحصر وتأطير السوق، دون أن يشكل ذلك تناقضا مع المصالح الراسخة للمقاولات. إذا كانت الجمعيات تمهيديا وفي الواقع، ضرورية لتطوير الرأسمال البشري: باعتبار العلاقة الجمعوية طابعها العلائقي الذي أصبح يندرج تدريجيا داخل الفضاءات المهنية، وإذن هذه الجمعيات في النهاية تمارس تأثيرها على نمط ونوعية حاجيات الاستهلاك، فإنه قد يصبح ممكنا إطلاق دائرة تحمل سمة الفضيلة، شكلا جديدا للضبط الاقتصادي من جانب المجتمع المدني وممثليه. بعبارة أوضح أنه أمام استحالة الضبط الذاتي للأسواق، وأمام عجز السلطات العمومية، بات يطفو للوجود نموذج آخر للضبط منبثق عن المواطنين أنفسهم. يتخذ مفهوم الاقتصاد التضامني Economie de Solidarité في هذا السياق، كل معانيه. فهذا الأخير صار بمثابة المعطى الأكثر حضورا، إذ لم يعد محصورا داخل قطاع ثالثي يتصف بالغموض، الالتباس أو كونه قابع على هامش اقتصاد السوق والاقتصاد العمومي، بل هو نموذج للإنتاج القائم الذات، ينتشر بدرجات متفاوتة ومتعددة بدءا بالجمعية الصغيرة التكوين، وانتهاءا بكبريات الشركات المتعددة الجنسية، مما يفسر مطالب عدد كبير من رؤساء المقاولات ذوي الفطنة، الواعون بتدهور، انحطاط صورتهم لدى الرأي العام والمتجلية في الدعوة بأن يقوم المجتمع المدني باستثمار المقاولة، تحويلها إلى بنية أكثر مواطنة. فعبر هذا النموذج الجديد للضبط، الذي تم التبشير به، أصبح الجميع ملزما بطبيعة الوضع، التعبير عن المساندة والدعم، حتى تتجسد معالم وإمكانية دمقرطة اقتصادية حقيقية، بمعنى المشاركة الاجتماعية الأكثر توسعا بواسطة الجمعيات بهدف توجيه المسارات الاقتصادية. تفضي القراءة المتأنية لواقع الحال أن الاقتراب من هذه اللحظة التاريخية يبدو جليا، حيث أن المجتمع المدني، اعتمادا على الدور الاقتصادي، سيسمح للجمعيات من بلوغ تحقيق التطور الملموس، انطلاقا من القيم التي تعمل على نشرها، ليحصل هذا المجتمع في نهاية المطاف على حقوقه في مجموع المجالات الاقتصادية. إن هذه اليوتوبيا الجديدة صارت واقعا لا يرد، بحيث أن دمقرطة الاقتصاد لم تعد ترتبط ولا تعتمد فقط على رؤية إيديولوجية و لا حتى على إرادوية اجتماعية. إنها تقرن بالضرورة الاقتصادية نفسها، خاصة عندما يحاول الاجتماعي أن يكون مصدرا اقتصاديا، يحمل سمة التفوق والرجحان برسمه جانبا، إطارا اقتصاديا واجتماعيا يخرج للوجود، تاركا التهميش وحالة الشرود.