إن النهوض بالمقاولة اليوم من منظور ضرورة اعتماد تدبير مؤنسن للتنظيم ومعترف بالعنصر البشري كرأسمال متجدد ومستديم، يتطلب سياسة جديدة في تدبير الموارد البشرية تضع مجالات اهتمام بحثنا أي التواصل الداخلي والتحفيز وأثرهما على الأداء في إطار مقاربة علم إنسانية متكاملة تحضر فيها الدراسات الحديثة والمتنامية التي تولي أهمية للأبعاد السيكولوجية والاجتماعية والثقافية مستبعدة التركيز الأوحد على المقاربات الاقتصادية والمالية، ففي هذا السياق يتزايد اليوم الاهتمام بسوسيولوجيا وسيكولوجية المقاولات. فقد يمكن التناول الاركيولوجي للثقافة، وكذا البحث في النفس البشرية وسمات الشخصية وما لذلك من علاقة بالتنشئة الاجتماعية، قد يمكن كل ذلك من توفير عوامل مفسرة لكل من التحفيز والتواصل والأداء والعلاقات القائمة بينها. المقاولة والمجتمع: علاقة متبادلة ينظر إلى التنظيم داخل أي مؤسسة كظاهرة اجتماعية مؤهلة للتغيير والتطور كباقي الظواهر الاجتماعية الأخرى، ولقد تبين في السنوات الأخيرة أن الاشتغال على التنظيم وتحليله يستقطب الكثير من الاهتمام ويتطلب تدخل مجهودات متنوعة المشارب يبدلها خبراء ومتخصصون كل من موقع اختصاصه. إلا أنه يبدوا أن المقاربة السوسيولوجية تحظى بامتياز يجعلها عند أصحابها مؤهلة بشكل أكبر للتعامل مع الفعل التنظيمي في شموليته كفعل جماعي اجتماعي. فقد نعتقد أن التنظيمات ذات الطابع الاقتصادي كالمعمل أو المقاولة هو عالم مغلق ومستقل تطبعه التكرارية والرتابة ويتسم بالجمود والاستقرارية، ولكن الواقع أن هذا التنظيم ينتمي إلى تربته الاجتماعية ومعني بمشاكل التغير وفي تفاعل دائم مع محيطه. فمهما كانت درجة الإحكام التنظيمي داخل المؤسسة فإنها تظل عبارة عن وسط اجتماعي قابل للتأثر بما يقع في محيطه من أحداث ومتغيرات لم يعد اليوم مقبولا الاستمرار في الاطمئنان إلى الرأي السائد والقديم الذي يؤكد على قوة المقاولة وديناميتها والتركيز في دورها في قطاع الإنتاج والتركيز على الانجازات والنجاحات بغض النظر عن حجم التضحيات والإكراهات. لقد أصبح من المؤكد اليوم أن الفوائد والنتائج التي تحققها المقاولة اليوم تدخل في صميم المقاربة السوسيولوجية وذلك على أكثر من مستوى. فمن جهة، المقاولة توجد في المجتمع وتنتج قيما مادية، وخدمات وأفكارا، ومن جهة ثانية المجتمع في بعده السوسيوثقافي ليس عديم التأثير على المقاولة. إن ما تحققه المقاولة تظهر أثاره على المجتمع برمته، ومن خلال وبفضل الدور الاقتصادي والاجتماعي الذي تضطلع به داخل المجتمع، تؤثر بشكل قوي على تقوية النسيج الاجتماعي والمساهمة في التطور على مسويات متعددة. إن تحديث أي تنظيم والمقاولة كنموذج شديد التأثير على تحديث المجتمع وتطوره. صحيح أنه تم التركيز في المنطلق على البعد الاقتصادي كبعد حظي بكثير من الاهتمام بالدرجة الأولى، وارتباطا بالقدرة التنافسية، والمصالح المباشرة والحيوية للمقاولة، إلا أن الاهتمام اليوم ينصب أيضا عن الدور الهام الذي تضطلع به المقاولة في بلورة واقع اجتماعي مجتمعي جديد. لقد كان الدور الأول هو التأكيد على طابع الأولوية المتمثل في تحسين الأذاء وتأهيل المقاولة في مناخ عالمي تنافسي قوي وجديد. لكن لا يمكن اليوم إغفال الدور الثاني المتمثل في الانعكاسات الإيجابية لتطور المقاولة والاقتصاد الوطني والمجتمع ككل. إن تأهيل المقاولة أصبح مطلبا مجتمعيا بامتياز، باعتباره عاملا اساسيا في توفير شروط التوازن الاقتصادي والاجتماعي. فكثيرة هي المؤشرات الاقتصادية ذات التداعيات الاجتماعية: فمعدلات الاستثمار والبطالة، والناتج الداخلي الخام، ومعدل النمو والأرضية الاقتصادية ذات علاقة قوية بمعدلات التعليم والولوج إلى الصحة، ومعدلات الجريمة، والهجرة ... ولعل هذا الارتباط بين تطور المجتمع وتأهيل المقاولة في ظل التحولات المهولة التي يشهدها العالم اليوم تجعل الاهتمام بظروف المقاولة وشروط اشتغالها الأولوية القصوى عند الربط بين التنظيم والمقاولة كنموذج في المقاربة السوسيوثقافية. وفي ظل مسألة التحديث، وضرورة التكيف مع واقع العولمة وإكراهاته، لا يمكن تجاوز السؤال التالي: كيف يمكن أن تتساوق سلوكات الأفراد والتنظيمات مع متطلبات التغيير، كيف يمكن تجاوز المفارقة بين الجديد الذي فرضته تحولات العالم وبين مجتمعات لها من الخصائص الثقافية والتاريخية ما يجعلها مختلفة عن بعضها من جهة وغير قادرة على استيعاب متطلبات الجديد القادم من جهة ثانية؟ نشهد اليوم ومنذ بداية الثمانينيات تزايد الاهتمام بثقافة المقاولة، ونجد ذات الاهتمام حتى قبل هذا التاريخ عند مجموعة من الباحثين ك TURNER (1971) و HANDY (1976)وغيرهم، إذ أبدوا اهتماما بالجوانب الثقافية كالهوية في مجال الشغل، والمعتقدات والمواقف، وإن كان المقال ذو الأهمية الكبرى وصاحب الفضل في ظهور ثقافة المقاولة هو ذاك الذي نشر في مجلة BUSINESS-WEK سنة 1980 تحت عنوان شديد الدلالة: ثقافة المقاولة: صعوبة تغيير القيم التي تؤدي إلى النجاح أو الفشل. فمنذ هذا التاريخ تصاعد الاهتمام بالعلاقة بين المقاولة كتنظيم، وبين المكونات الثقافية للمجتمع الذي توجد فيه المقاولة. فإذا كانت الثقافة خلفية للسلوك الإنساني، فإن انعكاساتها في حياة الأفراد، وداخل فضاء المقاولة مسألة تكاد تكون بديهية، إذ ليست المقاولة مجرد مجموعة من القوانين والمقتضيات التنظيمية، بعيدا كل البعد عن الأثر الثقافي للأطراف المتواجدة فيها، وإن كانت هذه المقاربة المدمجة للعنصر الثقافي لا تخلو من صعوبة على المستوى المنهجي نظرا لإكراهات التكميم والتتبع كلما تعلق الأمر بتدخل العناصر ذات الطابع الإنساني الاجتماعي. إلا أنه من المعلوم أن التطورات والتحولات التي عرفتها المجتمعات الحديثة أدت إلى ظهور وضعية صعبة داخل التنظيمات الاقتصادية. فهذه الأخيرة ليست مطالبة فقط بتحقيق النتائج المادية والمألوفة: إنتاج القيم المادية، الرفع من الإنتاجية وتحقيق الربح في ظل المنافسات المتزايدة، ولكنها مطالبة بالتفاعل المتواصل مع محيطها من خلال ما يحدث داخلها، والقوانين المنظمة داخلها. في هذا السياق، ظهر الاهتمام بضرورة إدماج مفهوم الثقافة واعتبارها إضافة نوعية وموردا يمكن توظيفه لتحقيق أهداف وبرامج المقاولة. فهناك إمكانية استثمار وتوظيف القيم والعادات والتقاليد والمعتقدات التي تنتمي عادة إلى مجال الثقافة، إذ أصبح من الممكن إنجاح المقاولة من حيث تحسين الأذاء وإبراز الحافزية وتيسير سبل التواصل من خلال الاستثمار الجيد للقيم والتقاليد الثقافية التي يحملها أعضاء التنظيم والتي تنتمي عادة إلى دائرة الثقافة. وفي هذا المجال تؤكد الدراسات التي تمحورت حول تدبير الموارد البشرية منذ السبعينيات، أن الأمر لم يعد مكتفيا بوسائل التحفيز المعروفة، وبسبل الاشراك التقليدية، وبضخامة الاستثمار في مجال التكوين، وخلق ما يسمى بحلقات الجودة في أحضان المقاولة CERCLES DE QUALITE، بل تم اللجوء إلى ما يسمى بثقافة المقاولة التي تمنح القيمة المضافة إذا أحسن استعمالها. وتعتبر هذه الإضافة أي الاهتمام بثقافة المقاولة مواجهة لعجز وسد الفراغ الذي عرفته النظريات التي ركزت اهتمامها على الناحية التنظيمية الصرفة، إذ تبين أن الانتباه إلى الخصوصيات الثقافية والتنوع السوسيولوجي لمختلف المجتمعات التي تنشأ فيها المقاولة مسألة لا محيد عنها. إن الاقتصاد في العالم بقدر ما يتجاوز الحدود جغرافيا، بقدر ما يبحث عن امتيازات مغرية من أجل جلب رؤوس الأموال وتوسيع الاستثمارات، بقدر ما يظهر ضعف إحاطاته بالخصوصيات الثقافية لمجتمعات تختلف في قيمها وعاداتها ونمط عيشها. إن هذه المقاربة السوسيوثقافية تؤكد العلاقة الموجودة بين التطور الذاتي للمقاولة على المستوى الاقتصادي، وتطور المجتمع وتحديثه ككل. ويكفي في هذا المجال الإشارة إلى الدور الذي لعبه المقاول في المجتمعات الأروبية ليتبين أن الحداثة كانت تحولا على مجموعة من المستويات، وخاصة منها مؤسسات وثقافة المجتمع كما اشار إلى ذلك J.F CHANLAT. فالحداثة كانت تغيرا واضحا على مستوى السلوك والعلاقات الاجتماعية، إذ كانت البداية الفعلية لهذا الاهتمام بالبعد الثقافي مقرونة بالتفوق الذي حققته المقاولة اليابانية مقارنة بالمقاولة الأمريكية في إطار الدراسات المقارنة كما ورد عند مجموعة من الباحثين ك WILIAM OUCHI (1981)، وpeter waterman(1982)، حيث اتجه الاهتمام بشكل جدي نحو الدور الهام الذي تضطلع به ثقافة المجتمع في تطور المقاولة. ففي الوقت الذي ضعف فيه الارتباط بين الانتاجية وجودة الاداء وبين العوامل الثقافية في أمريكا، تبين أن الاستثمار لهذه العوامل في اليابان انعكس إيجابا على حياة المقاولة اليابانية. كتوظيف مفهوم الثقة والحميمية وغيرها من المقومات الثقافية. وفي نفس السياق انتهى PHILIPE D'IRIBARNE بعد العديد من دراساته الميدانية في مناطق مختلفة من العالم إلا أنه لا توجد قواعد كونية شاملة وقارة في مجال التدبير لا تصطدم بمقومات الثقافة الوطنية: فالثقافة الفرنسية عنده مثلا تتميز بمنطق الشرف LOGIQUE L'HONNEUR، فثقافة المجتمع الهولاندي يطبعها مفهوم الموضوعية والنفور والإكراه والضغط. أما ثقافة المجتمع الأمريكي فيؤطرها مفهوم التعاقد وسمو القانون. ويعتبر التسيير الجيد في إطار هذا البراديكم الثقافي، هو ذاك الذي يستجيب لمقومات الثقافة المحلية. ولقد شملت دراسة PHILIPE D'IRIBARNE نموذجا من المقاولات المغربية بالبيضاء التابعة لشركة طومسون العالمية S GS – Thomson، التي حققت نجاحا كبيرا بعد أن عرفت تغييرا في نمط تسييرها انسجمت فيه الخصائص الثقافية للمجتمع المغربي مع الأساليب الحديثة في مجال التدبير، ليؤكد D'iribarne أن الثقافة الإسلامية في المجتمع تنسجم تماما مع مبدأ التدبير بالجودة TQM . فالشفافية والجدية والإخلاص والاستمرار في التكوين والتعلم ، والتنصيص على أن العمل عبادة، واحترام الرئيس، وصلة الرحم، والتعاون، هي بعض المبادئ الدالة على الثقافة الإسلامية في المجتمع المغربي والمطلوبة في أساليب التدبير الحديثة. إن جيرت هوفستيد كان واحدا من الباحثين الذين وقفوا عند التحولات الكبرى التي شهدها العالم الاقتصادي وما رافقها من نمو للشركات الكبرى من توسيع للمبادلات والمعاملات الاقتصادية، وكان من بين الذين بحثوا عن العوامل الجديدة والمؤثرة في التطور، التي أغفلتها الدراسات السابقة، وهي العلاقة بين الثقافة والقيم أو المعايير والمعتقدات من جهة والمقاولة كتنظيم من جهة ثانية، إذ لابد من الإشارة إلى أن الدراسة التي قام بها هوفستيد والتي تعتبر من أهم الاستطلاعات السوسيولوجية حول الثقافات الوطنية توخت الكشف عن الدور الذي تلعبه القيم والعادات في سلوك الأطر التابعة لشركة إ- ب – م. ذات الفروع المنتشرة في العالم، وعرض نتائجها تحت عنوان "انعكاسات الثقافة" سنة 1980، وجعل عنوانها "الفوارق الثقافية في التدبير" في الطبعة الفرنسية سنة 1987 وحدد في ذلك اربعة مقاييس في تحليل العوامل الثقافية ذات التأثير في العملية التنظيمية. إذ عند استقراء الثقافات المختلفة رصد كلا من "المسافة التراتبية" "والفردانية أو روح الجماعة" و مدى "القدرة على التحكم في المجهول" و"العلاقة بين الجنسين"(المقاولة والثقافة ص 212-211) ، مؤكدا في نهاية المطاف أن الثقافة الكونية للمقاولة غير قادرة على إلغاء مقومات الثقافة الوطنية، بل مطالبة بإدماجها وتوظيفها لتحسين مستوى الأداء والارتقاء بمناخ الشغل. وهكذا تخلص هذه المقاربة عند جيرت هوفستيد وفليب دبريبارن وكل الذين يصنفون في إطار ما يسمى بالتدبير البينثقافي Mangement Interculturel إلى بناء العلاقة بين الثقافة والمقاولة لحل الإشكال بين ما هو محلي وجغرافي وبين ما هو كوني كأخر ما تم الوصول إليه في مجال تدبير الإدارة. إلا أنه من المعلوم أن متغير الثقافة أخد منحى مختلفا عند باحثين آخرين ركزوا اهتمامهم على الطقوس والمبادئ والقيم والمعتقدات والرموز التي تنتجها المقاولة نفسها، باعتبارها ثقافة مكتسبة داخل المقاولة، وذات الصلة بما يجري فيها، قصد الرفع من الأداء وتحسين أجواء العمل، والعمل على إنجاح المقاولة وتفوقها. ومن بين هؤلاء T.e.deal و kennedyA.(1982) اهتما بثقافة المقاولة بهذا المنحى، إذ تخلق هذه الأخيرة نوعا من الانسجام والالتفاف حول نفس القيم يجمع بين مختلف العاملين داخل المقاولة، فتصبح لهم هوية مشتركة، تمحو الخلافات، وتقوي الالتحام وتربي على الالتزام، وتوجه أفعال العاملين نحو الأهداف المشتركة بعيدا عن المصلحة الذاتية الضيقة، فتقوي المناخ الإنساني العلائقي، ويتم تحقيق مشاريع المقاولة في نفس الوقت. إن المقاولة تنتعش بالثقافة وتنتجها في نفس الوقت يؤكد المنحيان المرتبطان بمفهوم ثقافة المقاولة أن الأمر يتعلق بعلاقة متبادلة التاثير: من المجتمع إلى المقاولة أو من المقاولة إلى المجتمع. إن هذه المقاولة التي انتصر لها الكثير من الباحثين والسوسيولوجيين تجد نفسها أمام صعوبتين على الأقل: أولا هناك تخوف مشروع من أن تؤدي هذه العناية بثقافة المجتمع وقيمه، ومدى تدخلها في المقاولة كتنظيم، إلى السقوط في نزعة ثقافوية قد تضعف دور عوامل أخرى في تطور المقاولة وتحديثها. ثانيا لابد من التحلي بالكثير من الحذر هند استدعاءالمتغيير الثقافي في منحييه نظرا لصعوبة التوصل إلى معرفة موضوعية دقيقة، وقابلة للقياس لطبيعة الدور الذي يلعبه المتغير الثقافي في نشاط التنظيم. لقد أصبح اليوم الاهتمام متزايدا بأهمية التعدد المقاربتي والتظافر المعرفي في تناول الظاهرة المقاولاتية، باعتبارها ظاهرة تستدعي أكثر من تخصص، وتحيل على دراسات وأبحاث ذات طابع اقتصادي ومالي من جهة، كما تنهل من التطورات المعرفية المتنامية في مجال تخصصات العلوم الإنسانية، كسوسيولوجية التنظيم وعلم نفس المقاولات، وذلك نظرا لتزايد الوعي بأهمية العامل أو العاملة داخل المؤسسة كعنصر بشري فاعل.