قد يجد بعض الفلسطينيين أن الأردن يمكنه أن يوفر لهم خشبة خلاص، أو رافعة يعتمدون عليها، أو مظلة تحميهم، في مواجهة المشروع الاستعماري التوسعي الإسرائيلي المتفوق، وقد يكون تفكير هذا البعض منطقياً ومشروعاً، من وجهة نظرهم، ولصالحهم، لسبب جوهري يتمثل في أن مشروعهم الوطني التحرري الديمقراطي باستعادة كامل حقوقهم، أو بعضاً من حقوقهم، يتعثر ولا يجد الملاذات الآمنة، والأدوات المناسبة، والطريق المفتوح لنيل حقوقهم واستعادتها، وأن خياراتهم محدودة، لا أمل لهم سوى الاعتماد على عوامل خارجية عربية أو دولية، لتوفير الحد الأدنى من متطلبات العيش في ظل الاحتلال والحصار والحرب المتقطعة التي يحيون تحت وطأة سخونتها ورمادها. الحركة الوطنية الفلسطينية أخفقت بعد نصف قرن من النضال والتضحيات، وهي تواجه مأزق مثلث الأضلاع الأول مأزق تفوق العدو، والثاني مأزق التشتت والانقسام، بفعل وجود سلطتين وبرنامجين واتفاقيتين، اتفاق التنسيق الأمني بين رام الله وتل أبيب، واتفاق التهدئة الأمنية بين غزة وتل أبيب، والثالث مأزق عدم توفر الدعم وغياب الاحتياجات الضرورية للصمود، إضافة إلى أن المفاوضات وصلت إلى طريق مسدود، وتضحيات الشبيبة من الشباب والشابات التي بدأت في القدس مع هبة الأقصى في تشرين أول 2015، تقدم تضحيات وضحايا لم تجعل من الاحتلال مكلفاً، بل النضال الفلسطيني والتضحيات الفلسطينية هي الأكثر كلفة على الشعب المعذب. أمام قسوة هذا المشهد، والنتائج التي وصل إليها هذا البعض، بدا لهم أن الملاذ والخلاص والخيار هو العودة إلى ما قبل الخمسين سنة الماضية، أي إلى عهد ما قبل 67، قبل استعادة الهوية، والتمثيل المستقل، وقرارات الأممالمتحدة الخاصة، وهو اجتهاد متعجل وهروبي، تغيب عنه الأولويات، وتفتقد لمتطلبات المواجهة، وتتوه معركة الاستقلال الوطني عن أهم مراجعها وأهدافها بهذا التحليل الضيق الأفق وهذا الاجتهاد وخلاصاته المشؤومة. وثمة حقائق تتوه عن هذا البعض في غمرة اليأس والبحث عن بدائل من جانبهم في محاولة لكسر رتابة الإخفاق وهي كما يلي: أولاً: أن الذين ولدوا بعد عام 1967، ولدوا كفلسطينيين ولا خيار لهم وأمامهم سوى هويتهم الوطنية بكل مالها وما عليها، وما لهم سوى وطنهم يحضنهم ويدفعوا ثمن البقاء فيه. ثانياً: أن جموح المشروع الاستعماري التوسعي الإسرائيلي، لا يقبل الشراكة على الأرض الفلسطينية، فهو يسعى للتخلص مما هو قائم عبر جعل الأرض الفلسطينية طاردة لأهلها وشعبها، وأقصى ما سوف يقدمه في ظل المعطيات القائمة هو الإقرار بدولة فلسطينية في قطاع غزة يتبع لها ما تبقى من الضفة الفلسطينية، بدون القدس وبدون الغور بهدف بقاء الهوية الفلسطينية لسكان المدن مع دولتهم في قطاع غزة، حتى لا تتحول دولة الاحتلال إلى دولة ثنائية القومية متعددة الديانات. ثالثاً: خيار علاقة فلسطين مع الأردن، خيار لا يستطيع الأردن أن يتحمل تبعاته والتزاماته، فهو يعني مما يعنيه أن يكون الأردن ملاذاً للهروب الطوعي من ثقل الظروف على أرض فلسطين، والأردن لا يملك خيار السماح بتدفق المزيد من السكان بعد كارثة الربيع العربي وتداعياته، فالوضع الاقتصادي والاجتماعي والأمني في الأردن لا يتحمل إضافة أعباء جديدة، ولذلك واهم من يتصور أن الأردن له مصلحة في هذا الخيار. صحيح أن الأردنيين بما يملكون من إرادة وطنية وحس قومي ودوافع دينية وقيم إنسانية واجبة يمكن أن يشكل رافعة دعم للشعب الفلسطيني بما تتوفر لديه من خيارات أو فرص، ولكنه لا يملك رفاهية التفكير بحل المشكلة الفلسطينية للعدو الإسرائيلي على أرض الأردن وعلى حساب الأردنيين أرضاً وإمكانات، بل خيار الأردن هو صيانة هويته الوطنية الأردنية، والحفاظ على الهوية الفلسطينية على أرضها. لقد كان أخر إنجاز حققه الرئيس الراحل ياسر عرفات بفعل الانتفاضة الأولى عام 1987، نقل الموضوع الفلسطيني من المنفى إلى الوطن، فالصراع السياسي الفلسطيني قبل أوسلو كان أردنياً فلسطينياً، وسورياً فلسطينياً، ولبنانياً فلسطينياً، أي كان الصراع بين الشقيق وشقيقه، بين الأخ وأخيه، بصرف النظر من يتحمل المسؤولية الفلسطيني أو الأردني والسوري واللبناني، ولكن بعد أوسلو وعودة الجزء الأكبر من القيادة الفلسطينية والمؤسسات الفلسطينية إلى وطنها، وخاصة بعد مفاوضات كامب ديفيد شهر تموز 2000، انفجر الصراع واضحاً جلياً فاقعاً بين الشعب الفلسطيني على أرضه وفي مواجهة عدوه الذي لا عدو له غيره، وهو المشروع الاستعماري التوسعي الإسرائيلي الذي يحتل أرض الفلسطينيين، ويصادر حقوقهم، ويهدر كرامتهم، ولذلك إن أحد أهداف السياسة الإسرائيلية هي إعادة رمي المشكلة الفلسطينية خارج فلسطين، وخاصة نحو الأردن، وأن أحد أهداف السياسة الأمنية الوطنية الأردنية، هي بقاء المشكلة الفلسطينية على أرض فلسطين في الحضن الإسرائيلي، وفي مواجهة المشروع الاستعماري التوسعي الإسرائيلي لتحقيق هدفين أولهما حماية الأمن الوطني الأردني من الأطماع التوسعية الإسرائيلية، وثانياً خدمة قضية الشعب الفلسطيني بإبقاء أولوياتها الكفاحية على أرض فلسطين. الحديث عن علاقات أردنية فلسطينية وحدوية، أو فدرالية، أو كونفدرالية، هو تسلية لمن لا يُجيد قراءة المعطيات السياسية، وهي عبث بالقضية الوطنية الفلسطينية، وعدم تحمل مسؤولية، وهروب من مواجهة العدو الإسرائيلية، وهي مساس بالأمن الوطني الأردني، ولذلك إن الذين يتحلون بالمسؤولية ويملكون الحد الأدنى من الفهم الوطني والقومي والإسلامي واليساري لا يقبلون أي علاقة أردنية فلسطينية إلا بعد أن يستعيد الشعب العربي الفلسطيني كامل حقوقه غير المنقوصة وعندها، عندها فقط، تكون العلاقة الأردنيةالفلسطينية بين الشعبين والنظامين المستقلين علاقة متكافئة ندية طبيعية تشكل مدماكاً ومقدمة لعلاقات أوسع وأرحب وأمتن ونموذجاً يحتذى لكل الأطراف العربية، وهو ما يتوسله غالبية الأردنيين إن لم يكونوا جميعهم.