الوزير قيوح يدشن منصة لوجيستيكية من الجيل الجديد بالدار البيضاء    حقائق وشهادات حول قضية توفيق بوعشرين مع البيجيدي: بين تصريحات الصحافي وتوضيحات المحامي عبد المولى المروري    دراسة تكشف آلية جديدة لاختزان الذكريات في العقل البشري    الدورة ال 44 لمجلس وزراء الشؤون الاجتماعية العرب بالمنامة .. السيد الراشيدي يبرز الخطوط العريضة لورش الدولة الاجتماعية التي يقودها جلالة الملك    حصيلة سنة 2024.. تفكيك 123 شبكة لتنظيم الهجرة غير النظامية والاتجار في البشر    الدكتور هشام البوديحي .. من أحياء مدينة العروي إلى دكتوراه بالعاصمة الرباط في التخصص البيئي الدولي    التجمع الوطني للأحرار يثمن المقاربة الملكية المعتمدة بخصوص إصلاح مدونة الأسرة    فرض غرامات تصل إلى 20 ألف درهم للمتورطين في صيد طائر الحسون بالمغرب    الدفاع الحسني يهزم الرجاء ويعمق جراحه في البطولة الاحترافية    38 قتيلا في تحطم طائرة أذربيجانية في كازاخستان (حصيلة جديدة)    رحيل الشاعر محمد عنيبة أحد رواد القصيدة المغربية وصاحب ديوان "الحب مهزلة القرون" (فيديو)    المهرجان الجهوي للحلاقة والتجميل في دورته الثامنة بمدينة الحسيمة    انقلاب سيارة على الطريق الوطنية رقم 2 بين الحسيمة وشفشاون    المغرب الرياضي الفاسي ينفصل بالتراضي عن مدربه الإيطالي غولييرمو أرينا    رئيس الرجاء يرد على آيت منا ويدعو لرفع مستوى الخطاب الرياضي    الإنتاج الوطني من الطاقة الكهربائية بلغ 42,38 تيراواط ساعة في متم 2023    تنظيم الدورة السابعة لمهرجان أولاد تايمة الدولي للفيلم    الندوة 12 :"المغرب-البرتغال. تراث مشترك"إحياء الذكرىالعشرون لتصنيف مازغان/الجديدة تراثا عالميا. الإنجازات والانتظارات    حركة حماس: إسرائيل تُعرقل الاتفاق    أخبار الساحة    الخيانة الزوجية تسفر عن اعتقال زوج و خليلته    روسيا: المغرب أبدى اهتمامه للانضمام إلى "بريكس"    عبير العابد تشكو تصرفات زملائها الفنانين: يصفونني بغير المستقرة نفسياً!    السعودية و المغرب .. علاقات راسخة تطورت إلى شراكة شاملة في شتى المجالات خلال 2024    برلماني يكشف "تفشي" الإصابة بداء بوحمرون في عمالة الفنيدق منتظرا "إجراءات حكومية مستعجلة"    الريسوني: مقترحات مراجعة مدونة الأسرة ستضيق على الرجل وقد تدفع المرأة مهرا للرجل كي يقبل الزواج    التنسيق النقابي بقطاع الصحة يعلن استئناف برنامجه النضالي مع بداية 2025    تأجيل أولى جلسات النظر في قضية "حلّ" الجمعية المغربية لحقوق الإنسان    بعد 40 ساعة من المداولات.. 71 سنة سجنا نافذا للمتهمين في قضية "مجموعة الخير"    توقعات أحوال الطقس ليوم غد الخميس    ابتدائية الناظور تلزم بنكا بتسليم أموال زبون مسن مع فرض غرامة يومية    جهة مراكش – آسفي .. على إيقاع دينامية اقتصادية قوية و ثابتة    برنامج يحتفي بكنوز الحرف المغربية    بورصة الدار البيضاء تستهل تداولاتها بأداء إيجابي    مصرع لاعبة التزلج السويسرية صوفي هيديغر جرّاء انهيار ثلجي    نسخ معدلة من فطائر "مينس باي" الميلادية تخسر الرهان    لجنة: القطاع البنكي في المغرب يواصل إظهار صلابته    ماكرون يخطط للترشح لرئاسة الفيفا    بطولة إنكلترا.. ليفربول للابتعاد بالصدارة وسيتي ويونايتد لتخطي الأزمة    نزار بركة: 35 مدينة ستستفيد من مشاريع تنموية استعدادا لتنظيم مونديال 2030    مجلس النواب يصادق بالأغلبية على مشروع القانون التنظيمي المتعلق بالإضراب    مجلس النواب بباراغواي يصادق على قرار جديد يدعم بموجبه سيادة المغرب على أقاليمه الجنوبية    باستثناء "قسد".. السلطات السورية تعلن الاتفاق على حل "جميع الفصائل المسلحة"    تقرير بريطاني: المغرب عزز مكانته كدولة محورية في الاقتصاد العالمي وأصبح الجسر بين الشرق والغرب؟    تزايد أعداد الأقمار الاصطناعية يسائل تجنب الاصطدامات    مجلس النواب بباراغواي يجدد دعمه لسيادة المغرب على صحرائه    ضربات روسية تعطب طاقة أوكرانيا    وزير الخارجية السوري الجديد يدعو إيران لاحترام سيادة بلاده ويحذر من الفوضى    السعدي : التعاونيات ركيزة أساسية لقطاع الاقتصاد الاجتماعي والتضامني    ارتفاع معدل البطالة في المغرب.. لغز محير!    طبيب يبرز عوامل تفشي "بوحمرون" وينبه لمخاطر الإصابة به    ما أسباب ارتفاع معدل ضربات القلب في فترات الراحة؟    "بيت الشعر" يقدم "أنطولوجيا الزجل"    للطغيان وجه واحد بين الدولة و المدينة و الإدارة …فهل من معتبر …؟!!! (الجزء الأول)    حماية الحياة في الإسلام تحريم الوأد والإجهاض والقتل بجميع أشكاله    عبادي: المغرب ليس بمنأى عن الكوارث التي تعصف بالأمة    توفيق بوعشرين يكتب.. "رواية جديدة لأحمد التوفيق: المغرب بلد علماني"    توفيق بوعشرين يكتب: "رواية" جديدة لأحمد التوفيق.. المغرب بلد علماني    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



نخبة اليسار في المغرب والمسألة الديمقراطية عبد الرحيم بوعبيد نموذجا

ارتبط سؤال الديمقراطية في المغرب ارتباطا وثيقا بتاريخ المغرب الراهن سواء ما تعلق بمرحلة الحركة الوطنية إبان زمن الحماية أو خلال مرحلة بناء المغرب المستقل التي تميزت بتعدد الأزمات السياسية والتداخل في العلاقة بين المؤسسة الملكية والأحزاب. وهو السؤال الذي ظل يطرح باستمرار طيلة سنوات الاستقلال بصيغة محددة: لماذا لم نلج زمن الديمقراطية عند حصول المغرب على استقلاله سنة 1956؟. وفي هذا السياق شكل الفعل السياسي لعبد الرحيم بوعبيد (1920-1992) مرجعية تاريخية للتقصي والتساؤل لدى الفاعلين السياسيين والباحثين حول محطات متعددة من تاريخ المغرب الراهن، خاصة فيما يتعلق بأسئلة الحاضر حول المسارات السياسية التي يعرفها المغرب منذ الانفتاح السياسي والحقوقي بداية التسعينات من القرن الماضي.
من هنا تستند قراءتنا في إشكالية الديمقراطية خلال مرحلة مغرب الاستقلال على دراسة وتحليل آراء ومواقف عبد الرحيم بوعبيد حول المسألة الديمقراطية في المغرب المستقل، مجسدة في خطابه ورؤيته الخاصة لبناء نظام سياسي ديمقراطي باعتباره رجل دولة ساهم في تدبير الشأن الحكومي والديبلوماسي، وزعيم سياسي عمل في واجهة العمل الحزبي. فبعد أن كان أحد الوجوه البارزة في معركة المطالبة بالاستقلال فإنه قد أصبح أيضا من الشخصيات الفاعلة والمؤثرة في مجرى الأحداث خلال مرحلة الاستقلال، والتي دافعت عن الديمقراطية في المغرب من خلال إرساء نظام ملكي دستوري ديمقراطي، وهو ما تجسد في قيادته لحزبي الاتحاد الوطني والاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية لاحقا حيث نقلهما من الاختيار الثوري إلى النضال الديمقراطي، وعبر عن مفهومه للديمقراطية ورؤيته لها من خلال مواقفه من المؤسسة الملكية، وأيضا عبر حواراته وخطاباته ومذكراته وأدبيات الحزب التي ساهم فيها ولعل أبرزها «استراتيجية النضال الديمقراطي» التي اختارها حزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية منذ مؤتمره الاستثنائي سنة 1975 كخط سياسي مرحلي للمساهمة في التغيير الديمقراطي من داخل المؤسسات المنتخبة.
2. موقف عبد الرحيم بوعبيد من الانتخابات الجماعية والتشريعية (1976-1977):
ظل عبد الرحيم بوعبيد مؤمنا بضرورة إقامة مجتمع ديمقراطي مع تراكم المكتسبات دون تفريط في المبادئ، لذلك وقع تحول مهم على مستوى الخطاب والممارسة السياسية لعبد الرحيم بوعبيد ابتداء من منتصف السبعينات اتجاه المسألة الديمقراطية بفعل التطورات التي عرفتها قضية الصحراء ومساهمته وموقعه في كل الاستشارات الدائرة بشأنها، حيث بدأ يعطي الأسبقية لرمزية شخصية الملك مع التركيز على خلق جو سياسي جديد .
ففي العرض الذي قدمه باسم المكتب السياسي للحزب أمام دورة اللجنة المركزية التي انعقدت بمدينة بني ملال يوم 4 أبريل 1976 تناول عبد الرحيم بوعبيد قضية الديمقراطية والانتخابات مشيرا إلى أن الخط الحزبي المقرر خلال المؤتمر الاستثنائي للحزب نص على وجوب إقامة ديمقراطية حقة، لإعتقاده أنها هي التي ستفتح المجال لطريق أبعد وديناميكية أقوم وأسرع لكي يصبح الشعب المغربي متحكما في مصيره في كل القطاعات حيث قال "إننا نؤكد من جديد أن الديمقراطية التي نريدها ليست ديمقراطية شكلية، وإنما الديمقراطية التي تجعل القضايا الجماهيرية تطرح وتناقش على الصعيد الوطني" . وعرج بوعبيد في نفس العرض إلى الحديث عن الانتخابات معتبرا أن اقتحام المعركة الانتخابية لن يكون من أجل الحصول على بعض النتائج أو انتخاب أشخاص أو جماعات معينة بل إن الشيء الأساسي من المعركة الانتخابية هو أن تتمكن أطر الحزب من أن يكون لها لقاء جماهيري وحوار مع هذه الجماهير يتناول كل القضايا الوطنية والمحلية، لأن إزالة كل إبهام بشأن الديمقراطية الشكلية والديمقراطية الحقيقية يفرض أن يكون الحوار منصبا على القضايا التي تهم كل القطاعات الجماهيرية في هذه البلاد .
وفي ظل الشروط السياسية الجديدة التي أخذت تؤطر العلاقة ما بين المؤسسة الملكية والمعارضة الاتحادية وتدفع نحو اقتحام مرحلة جديدة في هذه العلاقات قوامها التوافق بدل التنافر، بات الثابت الديمقراطي في اهتمام ونضال عبد الرحيم بوعبيد أكثر إلحاحا ومفعولية فقد انخرط بحماس وقوة في تجربة الانتخابات الجماعية سنة 1976 والانتخابات التشريعية سنة 1977 على علاتها، داعيا إلى خوض غمار التجربة ومشددا على أهمية الاتصال المباشر بالجماهير والتواجد في المؤسسات ولو كانت مغشوشة باعتبارها واجهة نضالية تتيح للحزب التعبير عن مطامح وآمال الجماهير ، وهو ما جسده عبد الرحيم بوعبيد عبر ترشحه خلال الانتخابات التشريعية في مدينة أكادير لإقناع مناضلي المدينة بأهمية المشاركة بعد رفضهم ذلك إثر التزوير الذي عرفته الانتخابات الجماعية في نفس المدينة .
هكذا شارك حزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية في الانتخابات الجماعية في 12 نونبر 1976 وحصل على الرتبة الثالثة من بين مجموع القوى المشاركة فيها. كما شارك في الانتخابات التشريعية في 3 نونبر 1977 وحصل على 15 مقعدا من أصل 264 . لكن اقتناع بوعبيد ورفاقه بنهج المشاركة الانتخابية رافعين شعار "المقاعد لا تهمنا" لا يبدو أنه كان موضع إجماع خاصة عندما تتأزم الظروف السياسية ويصدر عن الطرف الآخر (الدولة) ما يدعو المترددين للتشكيك في جدوى المشاركة في الانتخابات وهو ما تجلى في اغتيال عمر بن جلون أحد مهندسي "الاختيار الديمقراطي" في 18 دجنبر 1975، وتزوير الانتخابات الجماعية والتشريعية، وإسقاط بوعبيد خلال الانتخابات التشريعية في مدينة أكادير. وقد وصف الحزب هذا المسلسل الانتخابي بكونه "مزيفا" و"مزورا" ولا يعبر عن إرادة الشعب، وكان رد الفعل الفوري للحزب اتخاذ إجراءين: الأول إقدام عبد الرحيم بوعبيد على تقديم استقالته من اللجنة الوزارية المكلفة بمتابعة سير الانتخابات، والثاني إحجام الحزب عن تقديم الطعون في النتائج حتى لا تتم تزكيتها خاصة عدم فوز بوعبيد في أكادير .
شكلت دورة اللجنة المركزية لحزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية في 19 يونيو 1977 محطة مهمة مكنت عبد الرحيم بوعبيد من تقديم موقفه وموقف قيادة الحزب مما وقع في الانتخابات الجماعية والتشريعية. فبعد أن شرح بوعبيد في عرضه أمام اللجنة المركزية ملابسات المرحلة التي طبعت الاقتراعين الانتخابيين والظروف التي مرت فيها الانتخابات وملابسات التزوير الذي طالها وخاصة في مدينة أكادير التي ترشح فيها بوعبيد، سيخلص هذا الأخير إلى أنه لن تكون في المغرب انتخابات سليمة ولا ديمقراطية صحيحة ما دام الجهاز الإداري على الشكل الذي عليه وعبر عن ذلك قائلا "فالتجربة كانت مفيدة لأنها أظهرت لنا أنه لا سلامة لأية انتخابات ولا ديمقراطية صحيحة ما دام الجهاز الإداري على الشكل الذي عليه، أي مادامت تصرفات الجهاز الإداري لا تخضع للقرارات الرسمية... وأن هناك جهازا آخر سري هو الذي يعطي الأوامر التي تنفذ" . وعبر بوعبيد عن موقفه المتشبت بالاستمرار في استراتيجية النضال الديمقراطي من داخل المؤسسات التي صادق عليها المؤتمر الاستثنائي للحزب خلال تعقيبه على المناقشات والتدخلات التي جرت داخل اللجنة المركزية بالقول "من الممكن أن يقول البعض أن وجودنا داخل البرلمان هو تزكية له، لكن علينا أن نفهم ماذا تعني التزكية، فالتزكية في الحقيقة هي أنه إذا كنت تعلم أن هناك شيئا مغشوشا ومدلسا وتسكت عنه، أما إذا عملت على فضحه فهذه ليست تزكية فالمقصود إذن من مشاركتنا هو الاستمرار في الكفاح في واجهة يجب أن نستفيد منها ويستفيد منها الشعب وعلينا كذلك أن نستمر في اتصالاتنا بالجماهير الشعبية وشرح برامجنا لها" .
شكل بيان اللجنة المركزية انتصارا لعبد الرحيم بوعبيد الذين راهن على معركة الديمقراطية رغم وعيه بصعوبة ذلك لما تتطلبه التجربة من نفس طويل. وقد حمل بيان اللجنة المركزية خطابا جديدا يعبر عن المنعطف الذي وجد الحزب فيه نفسه غداة الانتخابات، وبعد التذكير بعدد من الحيثيات من دراسة لتقرير بوعبيد وتقارير ممثلي الأقاليم ومناقشة التجارب الانتخابية، فإنه أكد على مضي الحزب في طريق الاختيار الديمقراطي بالقول "لا طريق للخروج بالمغرب من الأوضاع المتردية التي يرتطم فيها سياسيا واقتصاديا واجتماعيا وثقافيا ودوليا إلا طريق الديمقراطية الحق التي تنطلق من الإيمان بضرورة إشراك الجماهيرالشعبية الكادحة إشراكا فعالا في إقرار الاختيارات ومراقبة تنفيذها عبر مؤسسات ديمقراطية حقيقية نابعة من انتخابات حرة نزيهة تحترم فيها إرادة الشعب احتراما كاملا" . كما شجب البيان الضغوط والتزوير الذي مورس في عمليات الانتخابات، وركز أيضا على إقتناع الاتحاديين بالنضال الديمقراطي من داخل المؤسسات رغم كل مظاهر التزوير "إن الديمقراطية الحق لا تمنح وإنما تنتزع انتزاعا بالنضال المتواصل في كافة الواجهات، ومن جملتها واجهة المجالس التمثيلية حتى لو اكتست هذه المجالس طابعا غير ديمقراطي البتة. إن التحرك بالجماهير ومع الجماهير لا يتنافى مطلقا مع التواجد النضالي في المؤسسات التي يراد منها أن تقرر في مصالح الشعب بل في مصير الوطن كله. فعلى هذا الأساس وضمن هذا الأفق سيكون تواجد إخواننا في البرلمان، إنهم سيمثلون حزبنا هناك كمعارضة بناءة ولكن صلبة وصامدة لا تساوم في حقوق الجماهير ولا تتردد بأي شكل من الأشكال في فضح كل ما من شأنه أن يمس قضايا وطننا وأهداف ورغبات شعبنا" .
3. عبد الرحيم بوعبيد ورهان استمرار الاختيار الديمقراطي خلال المؤتمر الثالث للحزب سنة 1978:
بالرغم من الاختراقات الكبيرة التي أحدثها حزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية بقيادة عبد الرحيم بوعبيد في الممارسة السياسية سواء بعمله في المؤسسات أو بتوسيعه لمجالاته النضالية عبر تأسيس منظمته النقابية الكونفدرالية الديمقراطية للشغل سنة 1978، واسترجاع شرعية المنظمة الطلابية الاتحاد الوطني لطلبة المغرب، وتعدد العمل الجمعوي، وتكثيف النضالات الاجتماعية، وتقوية العمل الشبابي والنسائي، وتكريس حضور عربي ودولي ، فإن ما وقع من تزوير في الانتخابات الجماعية والتشريعية أدى إلى بزوغ معارضة سياسية للخط السياسي للحزب من قلب التنظيمات الحزبية، إذ انبثق نقاش سياسي عميق حول سلامة الخط السياسي المرحلي والعلاقة مع النظام والجدوى من الانتخابات المغشوشة وأهمية النضال الديمقراطي .
وفي سياق هذا الجو الداخلي المشحون انعقد المؤتمر الثالث للحزب في دجنبر 1978 حيث قدم عبد الرحيم بوعبيد التقرير العام باسم المكتب السياسي للحزب والذي جاء في نبراته العامة متجاوبا مع دقة اللحظة وحراجة الموقف . فقد تعرض بوعبيد لمختلف القضايا التي كانت مطروحة وطنيا وحزبيا لكنه ركز بالأساس على إجهاض المسلسل الديمقراطي بالتزوير في الانتخابات مستعرضا ظروف اتخاذ الحزب لقرار المشاركة في الانتخابات وما تم خلال الحملة الانتخابية من تجاوزات، والتدخل من طرف أجهزة الدولة في دائرة أكادير التي ترشح فيها. وبعد أن شرح الاعتبارات التي جعلت الاتحاد الاشتراكي يشارك في الانتخابات وفي البرلمان ولم ينسحب منه ولا من المجالس المحلية، أكد بوعبيد على موقفه من ضرورة النضال من داخل المؤسسات قائلا "فلقد كان قرارنا بالبقاء في البرلمان والمجالس المحلية صادرا عن وعي وتبصر، هادفا إلى الصدع بصوت الجماهير المحرومة في كل واجهة، وهذا ما نفعله الآن بوصفنا حزيا ثوريا واعيا بكون المهمة الحقيقية للحزب الثوري ليست في ترك الفراغ للخصوم بل في مضايقتهم يوميا في كل ميدان والعمل في نفس الوقت على تعميق وعي جماهير الشعب بقضاياها ومشاكلها، ونحن لا نشك في أن حضورنا اليقظ والمسؤول في تلك المؤسسات سيؤتي ثماره قريبا..." ، كما اعتبر بوعبيد "...أن بعض مناضلينا يلجأون في بعض الأحيان إلى نوع من محاسبة الضمير. إنهم يتساءلون عما إذا لم نكن نزكي فعلا هذه المؤسسات التمثيلية المزورة بوجودنا فيها. إن مثل هذا التساءل كان سيكون مبررا ومشروعا لو أننا قبلنا أو نقبل الآن السقوط في ما من شأنه أن يناقض إيديولوجيتنا أو يخالف اختياراتنا في الميادين الأساسية... إنه لا يمكن تزكية جهاز ما بفضحه والتشهير بأخطائه واختياراته اللاشعبية وبتقديم الدليل الملموس وبالأرقام على الظلم الاجتماعي الذي خلقته اختياراته وتصرفاته التي جعلت كمشة من المحظوظين يستفيدون وحدهم من إمكانيات شعبنا وخيراته، في هذا الإطار لا يمكن الحديث عن التزكية بل عن الفضح" . وقد اضطر بوعبيد في تقريره إلى الرد على الآراء داخل الحزب التي تريد إعادة النظر في مبدأ المشاركة في هذه المؤسسات وبالتالي ضرورة الانسحاب منها قائلا "... مهما كان سلوك الجهاز الإداري ومهما كانت نتائج الاقتراع فإنه من غير الجائز أن لا يبادر حزبنا إلى الإستفادة من هذه الفرصة التي ستمكنه من الدخول مع الجماهير الشعبية في حوار مباشر حول المشاكل المحلية والوطنية..." . وهكذا كان خطاب بوعبيد في ختام أشغال المؤتمر الثالث للاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية سنة 1978 - الذي ركز بيانه السياسي على مسألة تأميم الدولة وإقامة ملكية برلمانية - يراعي في نفس الوقت حماس المؤتمر والمرحلة وبنية النظام الملكي في المغرب .
4. مذكرة الإصلاحات السياسية والدستورية والطريق نحو الانفتاح السياسي:
في سياق التحالفات الجديدة التي بدأت في التسعينات بين الاتحاد الاشتراكي وحزب الاستقلال من جهة، والنضالات العمالية المشتركة بين الكونفدرالية الديمقراطية للشغل والاتحاد العام للشغالين بالمغرب من جهة أخرى، قدم عبد الرحيم بوعبيد بمعية امحمد بوستة الأمين العام لحزب الاستقلال مذكرة مشتركة للملك الحسن الثاني حول الإصلاحات السياسية والدستورية في أكتوبر 1991. وقد تمحورت هذه المذكرة حول إقرار حق مجلس النواب في تشكيل لجان البحث والتقصي، والعفو الشامل، وانتخاب جميع أعضاء مجلس النواب بالإقتراع العام المباشر، والتقليص من الولاية التشريعية إلى خمس سنوات، وجعل الغرفة الدستورية ترقى إلى مجلس دستوري مستقل بذاته، وحماية حقوق الإنسان، والتنصيص على ضمانات دستورية لحقوق الإنسان وكرامة المواطن، وإحداث مؤسسة الوسيط، وإصدار عفو عام شامل على من تبقى من المعتقلين السياسيين، والسماح للمغتربين بالعودة الى الوطن، وتسوية وضعية كل النقابيين الذين صدرت في حقهم قرارات التوقيف والطرد، وإطلاق سراح المعتقلين في أحداث 14 دجنبر 1990، وضمان حرية التعبير والرأي والاجتماع والانتماء السياسي والنقابي، ووضع حد للهيمنة التي تمارسها الأجهزة السلطوية لوزارة الداخلية، ومحاربة الفساد الإداري، وتوطيد استقلال القضاء، وتوسيع قاعدة الديمقراطية بإتاحة الفرص أمام الشباب للمشاركة السياسية بتخفيض السن الإنتخابي للمشاركة في التصويت إلى 18 سنة .
فعندما نتأمل في المسار السياسي لعبد الرحيم بوعبيد منذ الاستقلال إلى وفاته سنة 1992، فإننا نستنتج أن القضية المركزية التي شكلت على الدوام مدار اهتمامه ونضاله هي قضية الديمقراطية، ذلك أن الاختيار الديمقراطي في إرساء أسس الدولة وتنظيم المجتمع وبناء الأداة الحزبية ظل محوريا في رؤيته السياسية للمسألة الديمقراطية، ومدخلا ضروريا للتحرر السياسي وإطارا فعالا لتحقيق التنمية الاجتماعية والاقتصادية. ولعل أبلغ دلالة على رسوخ التوجه الديمقراطي لدى عبد الرحيم بوعبيد ما قاله في آخر كلمة له أمام اللجنة المركزية للحزب يوم 9 نونبر 1991 "وأنا على يقين بأن المهام التي رسمناها لأنفسنا إما في الدفاع عن حوزة البلاد أو في عمل الإصلاح الجذري (...) إن هذه المهام هي قدرنا لتكون الديمقراطية ومبادئها دائما نصب أعين المناضلين صباح مساء حتى تفرض مبادئ الديمقراطية وحقوق الإنسان" .
خلاصة عامة:
لقد جمع عبد الرحيم بوعبيد في مساره السياسي الطويل بين جدلية الوطنية المغربية والنضال الديمقراطي، أي المزج بين القضايا الوطنية المصيرية والقضايا المرتبطة بحرية التعبير وكرامة المواطن وحقه في الديمقراطية في إطار الثوابت الوطنية، وهي خاصية ميزت عمله السياسي ومواقفه من المسألة الديمقراطية في المغرب. فبقدر ما كان قريبا من المؤسسة الملكية فإنه كان مؤمنا بملكية دستورية ديمقراطية، ورافضا للملكية المطلقة، ومدافعا عن دمقرطة النظام السياسي بالمغرب، وبناء دولة المؤسسات والحريات، وإقرار دستور نابع من الإرادة الشعبية للمغاربة، وتخللت خطاباته حمولات قوية اتجاه النظام في مراحل الأزمة بين الحزب والملكية. وحتى في المراحل الصعبة التي مر منها المغرب المستقل، فقد عرف عبد الرحيم بوعبيد كيف يحافظ على علاقاته بالقصر من خلال قنوات خاصة، وساعد هذا الموقف في العديد من الأحيان على تجنيب المغرب الباب المسدود. ولعل هذا العمل يدخل في إطار إحدى الثوابت التي عرفها المغرب في تاريخه الطويل وهي العلاقة بين المخزن والزوايا والقبائل، علاقات ساعدت دائما على تجنب الفراغ في مؤسسات الدولة .
وشاءت الظروف التاريخية أن تكون وفاة عبد الرحيم بوعبيد يوم 8 يناير 1992 في سياق منعطف تاريخي جديد في المسار السياسي للمغرب المستقل يجمع عدد من الباحثين أنه بداية لزمن سياسي جديد انفتحت فيه المؤسسة الملكية ومعها الأحزاب الوطنية على جيل جديد من الإصلاحات السياسية والدستورية تتمثل في استفتاءين على الدستور سنتي 1992 و1996، وانفراج سياسي وحقوقي تمثل في عودة المنفيين واللاجئين السياسيين وإطلاق سراح عدد كبير من المعتقلين السياسيين، وهو المسلسل الإصلاحي الذي توج بتقلد عبد الرحمن اليوسفي الذي خلف عبد الرحيم بوعبيد في قيادة حزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية لمسؤولية الوزير الأول سنة 1998 في إطار ما عرف في أدبيات الحقل السياسي المغربي بتجربة "التناوب التوافقي"، ودخول المغرب لمرحلة "الانتقال الملكي" في يوليوز 1999، لتبدأ بعد ذلك صفحة جديدة من الإصلاحات تراوحت بين المد العارم والفرملة القوية.
باحث في التاريخ الراهن-
جامعة محمد الخامس الرباط


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.