انخفاض مفرغات الصيد البحري بميناء الناظور    موتسيبي "فخور للغاية" بدور المغرب في تطور كرة القدم بإفريقيا    فتح تحقيق قضائي ضد موظف شرطة بتهمة استغلال النفوذ    إسبانيا...كيف إنتهت الحياة المزدوجة لرئيس قسم مكافحة غسل الأموال في الشرطة    كرة القدم النسوية... الناخب الوطني يوجه الدعوة ل27 لاعبة استعدادا لوديتي بوتسوانا ومالي    مطالب للحكومة بالاستجابة الفورية لمطالب المتقاعدين والنهوض بأوضاعهم الاقتصادية والاجتماعية    وزير الخارجية السابق لجمهورية البيرو يكتب: بنما تنضم إلى الرفض الدولي المتزايد ل"بوليساريو"    المعرض الدولي للبناء بالجديدة.. دعوة إلى التوفيق بين الاستدامة البيئية والمتطلبات الاقتصادية في إنتاج مواد البناء    اعتقال الكاتب بوعلام صنصال من طرف النظام العسكري الجزائري.. لا مكان لحرية التعبير في العالم الآخر    تيزنيت : انقلاب سيارة و اصابة ثلاثة مديري مؤسسات تعليمية في حادثة سير خطيرة    بعد متابعة واعتقال بعض رواد التفاهة في مواقع التواصل الاجتماعي.. ترحيب كبير بهذه الخطوة (فيديو)    الدار البيضاء.. حفل تكريم لروح الفنان الراحل حسن ميكري    محمد خيي يتوج بجائزة أحسن ممثل في مهرجان القاهرة    الطيب حمضي: الأنفلونزا الموسمية ليست مرضا مرعبا إلا أن الإصابة بها قد تكون خطيرة للغاية        كأس ديفيس لكرة المضرب.. هولندا تبلغ النهائي للمرة الأولى في تاريخها        مرحلة استراتيجية جديدة في العلاقات المغربية-الصينية    19 قتيلا في غارات وعمليات قصف إسرائيلية فجر السبت على قطاع غزة    النقيب الجامعي يكتب: على الرباط أن تسارع نحو الاعتراف بنظام روما لحماية المغرب من الإرهاب الصهيوني    الوزير برّادة يراجع منهجية ومعايير اختيار مؤسسات الريادة ال2500 في الابتدائي والإعدادي لسنة 2025    فولكر تورك: المغرب نموذج يحتذى به في مجال مكافحة التطرف    اختفاء غامض لشاب بلجيكي في المغرب    مثير.. نائبة رئيس الفلبين تهدد علنا بقتل الرئيس وزوجته    ترامب يعين سكوت بيسنت وزيرا للخزانة في إدارته المقبلة    سبوتنيك الروسية تكشف عن شروط المغرب لعودة العلاقات مع إيران    فعالية فكرية بطنجة تسلط الضوء على كتاب يرصد مسارات الملكية بالمغرب    محامون يدعون لمراجعة مشروع قانون المسطرة المدنية وحذف الغرامات    تخليد الذكرى ال 60 لتشييد المسجد الكبير بدكار السنغالية    ضربة عنيفة في ضاحية بيروت الجنوبية    "السردية التاريخية الوطنية" توضع على طاولة تشريح أكاديميّين مغاربة    بعد سنوات من الحزن .. فرقة "لينكن بارك" تعود إلى الساحة بألبوم جديد    "كوب29" يمدد جلسات المفاوضات        وسيط المملكة يستضيف لأول مرة اجتماعات مجلس إدارة المعهد الدولي للأمبودسمان    الموت يفجع الفنانة المصرية مي عزالدين    طقس السبت.. بارد في المرتفعات وهبات ريال قوية بالجنوب وسوس    كيوسك السبت | تقرير يكشف تعرض 4535 امرأة للعنف خلال سنة واحدة فقط    عندما تتطاول الظلال على الأهرام: عبث تنظيم الصحافة الرياضية    كندا تؤكد رصد أول إصابة بالسلالة الفرعية 1 من جدري القردة    بنسعيد: المسرح قلب الثقافة النابض وأداة دبلوماسية لتصدير الثقافة المغربية    موكوينا: سيطرنا على "مباراة الديربي"    مهرجان "أجيال" بالدوحة يقرب الجمهور من أجواء أفلام "صنع في المغرب"    افتتاح أول مصنع لمجموعة MP Industry في طنجة المتوسط        من العاصمة .. إخفاقات الحكومة وخطاياها        مجلس المنافسة يفرض غرامة ثقيلة على شركة الأدوية الأميركية العملاقة "فياتريس"    مندوبية التخطيط :انخفاض الاسعار بالحسيمة خلال شهر اكتوبر الماضي    طبيب ينبه المغاربة لمخاطر الأنفلونزا الموسمية ويؤكد على أهمية التلقيح    الأنفلونزا الموسمية: خطورتها وسبل الوقاية في ضوء توجيهات د. الطيب حمضي    القانون المالي لا يحل جميع المشاكل المطروحة بالمغرب    لَنْ أقْتَلِعَ حُنْجُرَتِي وَلَوْ لِلْغِناءْ !    تناول الوجبات الثقيلة بعد الساعة الخامسة مساء له تأثيرات سلبية على الصحة (دراسة)    اليونسكو: المغرب يتصدر العالم في حفظ القرآن الكريم    بوغطاط المغربي | تصريحات خطيرة لحميد المهداوي تضعه في صدام مباشر مع الشعب المغربي والملك والدين.. في إساءة وتطاول غير مسبوقين !!!    في تنظيم العلاقة بين الأغنياء والفقراء    سطات تفقد العلامة أحمد كثير أحد مراجعها في العلوم القانونية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



نخبة اليسار في المغرب والمسألة الديمقراطية عبد الرحيم بوعبيد نموذجا

ارتبط سؤال الديمقراطية في المغرب ارتباطا وثيقا بتاريخ المغرب الراهن سواء ما تعلق بمرحلة الحركة الوطنية إبان زمن الحماية أو خلال مرحلة بناء المغرب المستقل التي تميزت بتعدد الأزمات السياسية والتداخل في العلاقة بين المؤسسة الملكية والأحزاب. وهو السؤال الذي ظل يطرح باستمرار طيلة سنوات الاستقلال بصيغة محددة: لماذا لم نلج زمن الديمقراطية عند حصول المغرب على استقلاله سنة 1956؟. وفي هذا السياق شكل الفعل السياسي لعبد الرحيم بوعبيد (1920-1992) مرجعية تاريخية للتقصي والتساؤل لدى الفاعلين السياسيين والباحثين حول محطات متعددة من تاريخ المغرب الراهن، خاصة فيما يتعلق بأسئلة الحاضر حول المسارات السياسية التي يعرفها المغرب منذ الانفتاح السياسي والحقوقي بداية التسعينات من القرن الماضي.
من هنا تستند قراءتنا في إشكالية الديمقراطية خلال مرحلة مغرب الاستقلال على دراسة وتحليل آراء ومواقف عبد الرحيم بوعبيد حول المسألة الديمقراطية في المغرب المستقل، مجسدة في خطابه ورؤيته الخاصة لبناء نظام سياسي ديمقراطي باعتباره رجل دولة ساهم في تدبير الشأن الحكومي والديبلوماسي، وزعيم سياسي عمل في واجهة العمل الحزبي. فبعد أن كان أحد الوجوه البارزة في معركة المطالبة بالاستقلال فإنه قد أصبح أيضا من الشخصيات الفاعلة والمؤثرة في مجرى الأحداث خلال مرحلة الاستقلال، والتي دافعت عن الديمقراطية في المغرب من خلال إرساء نظام ملكي دستوري ديمقراطي، وهو ما تجسد في قيادته لحزبي الاتحاد الوطني والاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية لاحقا حيث نقلهما من الاختيار الثوري إلى النضال الديمقراطي، وعبر عن مفهومه للديمقراطية ورؤيته لها من خلال مواقفه من المؤسسة الملكية، وأيضا عبر حواراته وخطاباته ومذكراته وأدبيات الحزب التي ساهم فيها ولعل أبرزها «استراتيجية النضال الديمقراطي» التي اختارها حزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية منذ مؤتمره الاستثنائي سنة 1975 كخط سياسي مرحلي للمساهمة في التغيير الديمقراطي من داخل المؤسسات المنتخبة.
2. موقف عبد الرحيم بوعبيد من الانتخابات الجماعية والتشريعية (1976-1977):
ظل عبد الرحيم بوعبيد مؤمنا بضرورة إقامة مجتمع ديمقراطي مع تراكم المكتسبات دون تفريط في المبادئ، لذلك وقع تحول مهم على مستوى الخطاب والممارسة السياسية لعبد الرحيم بوعبيد ابتداء من منتصف السبعينات اتجاه المسألة الديمقراطية بفعل التطورات التي عرفتها قضية الصحراء ومساهمته وموقعه في كل الاستشارات الدائرة بشأنها، حيث بدأ يعطي الأسبقية لرمزية شخصية الملك مع التركيز على خلق جو سياسي جديد .
ففي العرض الذي قدمه باسم المكتب السياسي للحزب أمام دورة اللجنة المركزية التي انعقدت بمدينة بني ملال يوم 4 أبريل 1976 تناول عبد الرحيم بوعبيد قضية الديمقراطية والانتخابات مشيرا إلى أن الخط الحزبي المقرر خلال المؤتمر الاستثنائي للحزب نص على وجوب إقامة ديمقراطية حقة، لإعتقاده أنها هي التي ستفتح المجال لطريق أبعد وديناميكية أقوم وأسرع لكي يصبح الشعب المغربي متحكما في مصيره في كل القطاعات حيث قال "إننا نؤكد من جديد أن الديمقراطية التي نريدها ليست ديمقراطية شكلية، وإنما الديمقراطية التي تجعل القضايا الجماهيرية تطرح وتناقش على الصعيد الوطني" . وعرج بوعبيد في نفس العرض إلى الحديث عن الانتخابات معتبرا أن اقتحام المعركة الانتخابية لن يكون من أجل الحصول على بعض النتائج أو انتخاب أشخاص أو جماعات معينة بل إن الشيء الأساسي من المعركة الانتخابية هو أن تتمكن أطر الحزب من أن يكون لها لقاء جماهيري وحوار مع هذه الجماهير يتناول كل القضايا الوطنية والمحلية، لأن إزالة كل إبهام بشأن الديمقراطية الشكلية والديمقراطية الحقيقية يفرض أن يكون الحوار منصبا على القضايا التي تهم كل القطاعات الجماهيرية في هذه البلاد .
وفي ظل الشروط السياسية الجديدة التي أخذت تؤطر العلاقة ما بين المؤسسة الملكية والمعارضة الاتحادية وتدفع نحو اقتحام مرحلة جديدة في هذه العلاقات قوامها التوافق بدل التنافر، بات الثابت الديمقراطي في اهتمام ونضال عبد الرحيم بوعبيد أكثر إلحاحا ومفعولية فقد انخرط بحماس وقوة في تجربة الانتخابات الجماعية سنة 1976 والانتخابات التشريعية سنة 1977 على علاتها، داعيا إلى خوض غمار التجربة ومشددا على أهمية الاتصال المباشر بالجماهير والتواجد في المؤسسات ولو كانت مغشوشة باعتبارها واجهة نضالية تتيح للحزب التعبير عن مطامح وآمال الجماهير ، وهو ما جسده عبد الرحيم بوعبيد عبر ترشحه خلال الانتخابات التشريعية في مدينة أكادير لإقناع مناضلي المدينة بأهمية المشاركة بعد رفضهم ذلك إثر التزوير الذي عرفته الانتخابات الجماعية في نفس المدينة .
هكذا شارك حزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية في الانتخابات الجماعية في 12 نونبر 1976 وحصل على الرتبة الثالثة من بين مجموع القوى المشاركة فيها. كما شارك في الانتخابات التشريعية في 3 نونبر 1977 وحصل على 15 مقعدا من أصل 264 . لكن اقتناع بوعبيد ورفاقه بنهج المشاركة الانتخابية رافعين شعار "المقاعد لا تهمنا" لا يبدو أنه كان موضع إجماع خاصة عندما تتأزم الظروف السياسية ويصدر عن الطرف الآخر (الدولة) ما يدعو المترددين للتشكيك في جدوى المشاركة في الانتخابات وهو ما تجلى في اغتيال عمر بن جلون أحد مهندسي "الاختيار الديمقراطي" في 18 دجنبر 1975، وتزوير الانتخابات الجماعية والتشريعية، وإسقاط بوعبيد خلال الانتخابات التشريعية في مدينة أكادير. وقد وصف الحزب هذا المسلسل الانتخابي بكونه "مزيفا" و"مزورا" ولا يعبر عن إرادة الشعب، وكان رد الفعل الفوري للحزب اتخاذ إجراءين: الأول إقدام عبد الرحيم بوعبيد على تقديم استقالته من اللجنة الوزارية المكلفة بمتابعة سير الانتخابات، والثاني إحجام الحزب عن تقديم الطعون في النتائج حتى لا تتم تزكيتها خاصة عدم فوز بوعبيد في أكادير .
شكلت دورة اللجنة المركزية لحزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية في 19 يونيو 1977 محطة مهمة مكنت عبد الرحيم بوعبيد من تقديم موقفه وموقف قيادة الحزب مما وقع في الانتخابات الجماعية والتشريعية. فبعد أن شرح بوعبيد في عرضه أمام اللجنة المركزية ملابسات المرحلة التي طبعت الاقتراعين الانتخابيين والظروف التي مرت فيها الانتخابات وملابسات التزوير الذي طالها وخاصة في مدينة أكادير التي ترشح فيها بوعبيد، سيخلص هذا الأخير إلى أنه لن تكون في المغرب انتخابات سليمة ولا ديمقراطية صحيحة ما دام الجهاز الإداري على الشكل الذي عليه وعبر عن ذلك قائلا "فالتجربة كانت مفيدة لأنها أظهرت لنا أنه لا سلامة لأية انتخابات ولا ديمقراطية صحيحة ما دام الجهاز الإداري على الشكل الذي عليه، أي مادامت تصرفات الجهاز الإداري لا تخضع للقرارات الرسمية... وأن هناك جهازا آخر سري هو الذي يعطي الأوامر التي تنفذ" . وعبر بوعبيد عن موقفه المتشبت بالاستمرار في استراتيجية النضال الديمقراطي من داخل المؤسسات التي صادق عليها المؤتمر الاستثنائي للحزب خلال تعقيبه على المناقشات والتدخلات التي جرت داخل اللجنة المركزية بالقول "من الممكن أن يقول البعض أن وجودنا داخل البرلمان هو تزكية له، لكن علينا أن نفهم ماذا تعني التزكية، فالتزكية في الحقيقة هي أنه إذا كنت تعلم أن هناك شيئا مغشوشا ومدلسا وتسكت عنه، أما إذا عملت على فضحه فهذه ليست تزكية فالمقصود إذن من مشاركتنا هو الاستمرار في الكفاح في واجهة يجب أن نستفيد منها ويستفيد منها الشعب وعلينا كذلك أن نستمر في اتصالاتنا بالجماهير الشعبية وشرح برامجنا لها" .
شكل بيان اللجنة المركزية انتصارا لعبد الرحيم بوعبيد الذين راهن على معركة الديمقراطية رغم وعيه بصعوبة ذلك لما تتطلبه التجربة من نفس طويل. وقد حمل بيان اللجنة المركزية خطابا جديدا يعبر عن المنعطف الذي وجد الحزب فيه نفسه غداة الانتخابات، وبعد التذكير بعدد من الحيثيات من دراسة لتقرير بوعبيد وتقارير ممثلي الأقاليم ومناقشة التجارب الانتخابية، فإنه أكد على مضي الحزب في طريق الاختيار الديمقراطي بالقول "لا طريق للخروج بالمغرب من الأوضاع المتردية التي يرتطم فيها سياسيا واقتصاديا واجتماعيا وثقافيا ودوليا إلا طريق الديمقراطية الحق التي تنطلق من الإيمان بضرورة إشراك الجماهيرالشعبية الكادحة إشراكا فعالا في إقرار الاختيارات ومراقبة تنفيذها عبر مؤسسات ديمقراطية حقيقية نابعة من انتخابات حرة نزيهة تحترم فيها إرادة الشعب احتراما كاملا" . كما شجب البيان الضغوط والتزوير الذي مورس في عمليات الانتخابات، وركز أيضا على إقتناع الاتحاديين بالنضال الديمقراطي من داخل المؤسسات رغم كل مظاهر التزوير "إن الديمقراطية الحق لا تمنح وإنما تنتزع انتزاعا بالنضال المتواصل في كافة الواجهات، ومن جملتها واجهة المجالس التمثيلية حتى لو اكتست هذه المجالس طابعا غير ديمقراطي البتة. إن التحرك بالجماهير ومع الجماهير لا يتنافى مطلقا مع التواجد النضالي في المؤسسات التي يراد منها أن تقرر في مصالح الشعب بل في مصير الوطن كله. فعلى هذا الأساس وضمن هذا الأفق سيكون تواجد إخواننا في البرلمان، إنهم سيمثلون حزبنا هناك كمعارضة بناءة ولكن صلبة وصامدة لا تساوم في حقوق الجماهير ولا تتردد بأي شكل من الأشكال في فضح كل ما من شأنه أن يمس قضايا وطننا وأهداف ورغبات شعبنا" .
3. عبد الرحيم بوعبيد ورهان استمرار الاختيار الديمقراطي خلال المؤتمر الثالث للحزب سنة 1978:
بالرغم من الاختراقات الكبيرة التي أحدثها حزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية بقيادة عبد الرحيم بوعبيد في الممارسة السياسية سواء بعمله في المؤسسات أو بتوسيعه لمجالاته النضالية عبر تأسيس منظمته النقابية الكونفدرالية الديمقراطية للشغل سنة 1978، واسترجاع شرعية المنظمة الطلابية الاتحاد الوطني لطلبة المغرب، وتعدد العمل الجمعوي، وتكثيف النضالات الاجتماعية، وتقوية العمل الشبابي والنسائي، وتكريس حضور عربي ودولي ، فإن ما وقع من تزوير في الانتخابات الجماعية والتشريعية أدى إلى بزوغ معارضة سياسية للخط السياسي للحزب من قلب التنظيمات الحزبية، إذ انبثق نقاش سياسي عميق حول سلامة الخط السياسي المرحلي والعلاقة مع النظام والجدوى من الانتخابات المغشوشة وأهمية النضال الديمقراطي .
وفي سياق هذا الجو الداخلي المشحون انعقد المؤتمر الثالث للحزب في دجنبر 1978 حيث قدم عبد الرحيم بوعبيد التقرير العام باسم المكتب السياسي للحزب والذي جاء في نبراته العامة متجاوبا مع دقة اللحظة وحراجة الموقف . فقد تعرض بوعبيد لمختلف القضايا التي كانت مطروحة وطنيا وحزبيا لكنه ركز بالأساس على إجهاض المسلسل الديمقراطي بالتزوير في الانتخابات مستعرضا ظروف اتخاذ الحزب لقرار المشاركة في الانتخابات وما تم خلال الحملة الانتخابية من تجاوزات، والتدخل من طرف أجهزة الدولة في دائرة أكادير التي ترشح فيها. وبعد أن شرح الاعتبارات التي جعلت الاتحاد الاشتراكي يشارك في الانتخابات وفي البرلمان ولم ينسحب منه ولا من المجالس المحلية، أكد بوعبيد على موقفه من ضرورة النضال من داخل المؤسسات قائلا "فلقد كان قرارنا بالبقاء في البرلمان والمجالس المحلية صادرا عن وعي وتبصر، هادفا إلى الصدع بصوت الجماهير المحرومة في كل واجهة، وهذا ما نفعله الآن بوصفنا حزيا ثوريا واعيا بكون المهمة الحقيقية للحزب الثوري ليست في ترك الفراغ للخصوم بل في مضايقتهم يوميا في كل ميدان والعمل في نفس الوقت على تعميق وعي جماهير الشعب بقضاياها ومشاكلها، ونحن لا نشك في أن حضورنا اليقظ والمسؤول في تلك المؤسسات سيؤتي ثماره قريبا..." ، كما اعتبر بوعبيد "...أن بعض مناضلينا يلجأون في بعض الأحيان إلى نوع من محاسبة الضمير. إنهم يتساءلون عما إذا لم نكن نزكي فعلا هذه المؤسسات التمثيلية المزورة بوجودنا فيها. إن مثل هذا التساءل كان سيكون مبررا ومشروعا لو أننا قبلنا أو نقبل الآن السقوط في ما من شأنه أن يناقض إيديولوجيتنا أو يخالف اختياراتنا في الميادين الأساسية... إنه لا يمكن تزكية جهاز ما بفضحه والتشهير بأخطائه واختياراته اللاشعبية وبتقديم الدليل الملموس وبالأرقام على الظلم الاجتماعي الذي خلقته اختياراته وتصرفاته التي جعلت كمشة من المحظوظين يستفيدون وحدهم من إمكانيات شعبنا وخيراته، في هذا الإطار لا يمكن الحديث عن التزكية بل عن الفضح" . وقد اضطر بوعبيد في تقريره إلى الرد على الآراء داخل الحزب التي تريد إعادة النظر في مبدأ المشاركة في هذه المؤسسات وبالتالي ضرورة الانسحاب منها قائلا "... مهما كان سلوك الجهاز الإداري ومهما كانت نتائج الاقتراع فإنه من غير الجائز أن لا يبادر حزبنا إلى الإستفادة من هذه الفرصة التي ستمكنه من الدخول مع الجماهير الشعبية في حوار مباشر حول المشاكل المحلية والوطنية..." . وهكذا كان خطاب بوعبيد في ختام أشغال المؤتمر الثالث للاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية سنة 1978 - الذي ركز بيانه السياسي على مسألة تأميم الدولة وإقامة ملكية برلمانية - يراعي في نفس الوقت حماس المؤتمر والمرحلة وبنية النظام الملكي في المغرب .
4. مذكرة الإصلاحات السياسية والدستورية والطريق نحو الانفتاح السياسي:
في سياق التحالفات الجديدة التي بدأت في التسعينات بين الاتحاد الاشتراكي وحزب الاستقلال من جهة، والنضالات العمالية المشتركة بين الكونفدرالية الديمقراطية للشغل والاتحاد العام للشغالين بالمغرب من جهة أخرى، قدم عبد الرحيم بوعبيد بمعية امحمد بوستة الأمين العام لحزب الاستقلال مذكرة مشتركة للملك الحسن الثاني حول الإصلاحات السياسية والدستورية في أكتوبر 1991. وقد تمحورت هذه المذكرة حول إقرار حق مجلس النواب في تشكيل لجان البحث والتقصي، والعفو الشامل، وانتخاب جميع أعضاء مجلس النواب بالإقتراع العام المباشر، والتقليص من الولاية التشريعية إلى خمس سنوات، وجعل الغرفة الدستورية ترقى إلى مجلس دستوري مستقل بذاته، وحماية حقوق الإنسان، والتنصيص على ضمانات دستورية لحقوق الإنسان وكرامة المواطن، وإحداث مؤسسة الوسيط، وإصدار عفو عام شامل على من تبقى من المعتقلين السياسيين، والسماح للمغتربين بالعودة الى الوطن، وتسوية وضعية كل النقابيين الذين صدرت في حقهم قرارات التوقيف والطرد، وإطلاق سراح المعتقلين في أحداث 14 دجنبر 1990، وضمان حرية التعبير والرأي والاجتماع والانتماء السياسي والنقابي، ووضع حد للهيمنة التي تمارسها الأجهزة السلطوية لوزارة الداخلية، ومحاربة الفساد الإداري، وتوطيد استقلال القضاء، وتوسيع قاعدة الديمقراطية بإتاحة الفرص أمام الشباب للمشاركة السياسية بتخفيض السن الإنتخابي للمشاركة في التصويت إلى 18 سنة .
فعندما نتأمل في المسار السياسي لعبد الرحيم بوعبيد منذ الاستقلال إلى وفاته سنة 1992، فإننا نستنتج أن القضية المركزية التي شكلت على الدوام مدار اهتمامه ونضاله هي قضية الديمقراطية، ذلك أن الاختيار الديمقراطي في إرساء أسس الدولة وتنظيم المجتمع وبناء الأداة الحزبية ظل محوريا في رؤيته السياسية للمسألة الديمقراطية، ومدخلا ضروريا للتحرر السياسي وإطارا فعالا لتحقيق التنمية الاجتماعية والاقتصادية. ولعل أبلغ دلالة على رسوخ التوجه الديمقراطي لدى عبد الرحيم بوعبيد ما قاله في آخر كلمة له أمام اللجنة المركزية للحزب يوم 9 نونبر 1991 "وأنا على يقين بأن المهام التي رسمناها لأنفسنا إما في الدفاع عن حوزة البلاد أو في عمل الإصلاح الجذري (...) إن هذه المهام هي قدرنا لتكون الديمقراطية ومبادئها دائما نصب أعين المناضلين صباح مساء حتى تفرض مبادئ الديمقراطية وحقوق الإنسان" .
خلاصة عامة:
لقد جمع عبد الرحيم بوعبيد في مساره السياسي الطويل بين جدلية الوطنية المغربية والنضال الديمقراطي، أي المزج بين القضايا الوطنية المصيرية والقضايا المرتبطة بحرية التعبير وكرامة المواطن وحقه في الديمقراطية في إطار الثوابت الوطنية، وهي خاصية ميزت عمله السياسي ومواقفه من المسألة الديمقراطية في المغرب. فبقدر ما كان قريبا من المؤسسة الملكية فإنه كان مؤمنا بملكية دستورية ديمقراطية، ورافضا للملكية المطلقة، ومدافعا عن دمقرطة النظام السياسي بالمغرب، وبناء دولة المؤسسات والحريات، وإقرار دستور نابع من الإرادة الشعبية للمغاربة، وتخللت خطاباته حمولات قوية اتجاه النظام في مراحل الأزمة بين الحزب والملكية. وحتى في المراحل الصعبة التي مر منها المغرب المستقل، فقد عرف عبد الرحيم بوعبيد كيف يحافظ على علاقاته بالقصر من خلال قنوات خاصة، وساعد هذا الموقف في العديد من الأحيان على تجنيب المغرب الباب المسدود. ولعل هذا العمل يدخل في إطار إحدى الثوابت التي عرفها المغرب في تاريخه الطويل وهي العلاقة بين المخزن والزوايا والقبائل، علاقات ساعدت دائما على تجنب الفراغ في مؤسسات الدولة .
وشاءت الظروف التاريخية أن تكون وفاة عبد الرحيم بوعبيد يوم 8 يناير 1992 في سياق منعطف تاريخي جديد في المسار السياسي للمغرب المستقل يجمع عدد من الباحثين أنه بداية لزمن سياسي جديد انفتحت فيه المؤسسة الملكية ومعها الأحزاب الوطنية على جيل جديد من الإصلاحات السياسية والدستورية تتمثل في استفتاءين على الدستور سنتي 1992 و1996، وانفراج سياسي وحقوقي تمثل في عودة المنفيين واللاجئين السياسيين وإطلاق سراح عدد كبير من المعتقلين السياسيين، وهو المسلسل الإصلاحي الذي توج بتقلد عبد الرحمن اليوسفي الذي خلف عبد الرحيم بوعبيد في قيادة حزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية لمسؤولية الوزير الأول سنة 1998 في إطار ما عرف في أدبيات الحقل السياسي المغربي بتجربة "التناوب التوافقي"، ودخول المغرب لمرحلة "الانتقال الملكي" في يوليوز 1999، لتبدأ بعد ذلك صفحة جديدة من الإصلاحات تراوحت بين المد العارم والفرملة القوية.
باحث في التاريخ الراهن-
جامعة محمد الخامس الرباط


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.