الصورة هي لغة السينما وأداتها إلى جانب المكونات البنائية الأخرى. وتحتل الصورة مكانة هامة في سيرورة الفيلم وبواسطتها نتعرف على المنجز الفيلمي. سعيد خلاف مخرج مغربي وقع أخيرا أول أعماله السينمائية منحه عنوان: «مسافة ميل من حذائي»، وقام بإسناد أدوار البطولة لكل من أمين الناجي في شخصية سعيد ونفيسة بنشهيدة في دور طبيبة نفسية إلى جانب الممثلة راوية وسناء بحاج. تشكل القصة محورا للفرجة، وهي ذات طابع اجتماعي سيكولوجي تركز على حياة بطل الفيلم الذي يحيا منذ طفولته حياة تتلخص في المعاناة المستمرة مع رصد للأسباب والنتائج، مما يجعله فيلما توجيهيا تربويا. تبدأ هاته المعاناة بقسوة زوج الأب وتنتهي في شارع لا يرحم ثم تتواصل في مأساة السجن إلى حين انفراج الحكي بخروج البطل من السجن ولقائه بزوجته وصديقه وطفلته التي ولدت وهو داخل معترك الأسر. ما يؤثث الصورة هو درجة العنف التي تصلنا عبر مترابطات معينة وهي: المكان، الشخوص، الحدث، الحوار والموسيقى. وقد اعتمد سعيد خلاف على فضاءات حقيقية متمثلة في شوارع وأزقة المدينة وبعض بؤرها المهجورة، وحاول أن يركز على البعد التصويري البانورامي أحيانا والمصغر حينا آخر من خلال نظرة البطل من فوق سطح الغرفة التي يقطنها. هنا تبرز الدارالبيضاء في توحشها وعنادها المطلق. لقد استعار المخرج ديكورات مغلقة ومفتوحة واستغل الرؤية الليلية لكي تكتمل الصورة الدموية وتصل إلى مداها. الشخصية السينمائية لها طابع خاص في الفيلم، فهم مجموعة من اللصوص منتظمين في شكل عصابات أو مشردون أو مساجين أو زوج أب قاس. والرابط الأوحد بين الشخصيات هو العنف من أجل البقاء ومحاولة فرض الهيمنة والزعامة. فهي شخصيات دموية تتنوع بين مجرم شيزوفريني ومجرم طيب. والغريب أن الوضع الاجتماعي المزري ليس هو الذي أفرز لنا هذا العنف، بل نجد في الفيلم شخصية ضابط الشرطة الذي يعيش تفككا داخل تركيبة الأسرة بسبب مشاكل مع زوجته بعد تعرضها للاغتصاب من طرف صديق البطل سعيد. وهنا يعالج الفيلم قضية العنف النفسي الذي تحس به الزوجات اللواتي عشن تجربة الاغتصاب المريرة. عنف الشخوص في واقع مريض يتمثل في المثلية الجنسية وتعنيف الطفولة وتشغيل الصغار بل يصل في أقوى مشاهده في إدانة المجتمع للضحية وترك المجرم حرا طليقا. وهذا ظهر في أولى مشاهد الفيلم بعد محاولة اغتصاب اليافع سعيد من طرف مشغله. أما فيما يخص الحدث، فالقصة تجيب على نفسها. بينما تشكيل الصورة السينمائية كان متوازيا مع الأحداث والتفاصيل. وإذا حاولنا استقراء المشاهد، فإننا سنتفق على فرضية: الحدث العنيف. حيث كانت الكاميرا تتحرك بقوة وتركز على ملامح الوجه كي تقرب لنا الحدث في أقصى ملحميته. إن الحدث البارز في الحكاية هو الشخصية الرئيسية في حد ذاتها. كرونولوجيا بطل اجتماعي واقعي من طفولته إلى مرحلة النضج باعتماد تقنية الفلاش باك وعبر استرجاع متداخل للأحداث. فيصبح الحدث الآني جزء من الماضي او العكس، وذلك لأن عنفية الماضي صنعت لنا عنف الحاضر و عنف المجتمع الذكوري تصنع لنا عنف الفرد. يعمل سعيد خلاف من خلال زاوية رؤيته الخاصة على تشكيل مشهد داخلي لدى المتفرج، فيمتد الحدث إلى المتلقي الذي يجد نفسه يتعاطف مع بطل مجرم، ولاحظوا كيف استطاع المخرج أن يجعلنا نتعاطف مع سعيد في حدث الهجوم على مخمور خارج للتو من الخمارة، وجعلنا نفهم الأسباب الحقيقية والدوافع الأساسية لارتكاب الجريمة، وفي نفس الوقت دفعنا لكراهية رفيقه المثلي الذي قتل الرجل المخمور. الحدث المركب هنا بين العنف المبرر وغير المبرر.بخصوص الحوار والذي يكون عادة باكورة اشتغال بين السيناريو والإخراج، فإن جل حوارات الفيلم تؤشر لبنية اجتماعية ووسط من القذارة القصوى حيث تصبح القوة العضلية وسلطة العنف هي وسيلة للبقاء او للانتقام. هذا اذا استثنينا بعض الحوارات التي تبرز الجانب الإنساني الخفي في شخصية البطل او حوار المتابعة والمعالجة النفسية. فأغلب الحوارات الاخرى يغلب عليها قاموس الإدانة والسب والإهانة والتحقير والسخرية والانتقام والندم ... وتحضر الذات والآخر بشكل كبير. ذات تحاول أن تكرر دينامية الكره والآخر المشكل في المجتمع والهاجس الأمني يحاول أن يحد من همجية الذات المشروخة عمل سعيد خلاف على التركيز على عين البطل سعيد. نظرات تختزل كل العنف والحقد على مجتمع لا يعترف بالآخر المهمش،وهنا تبرز قوة أداء الممثل أمين الناجي أولا، وحركة الكاميرا ثانيا حتى يسير الخط السينمائي الذي يصل إلى ثيمة العنف. الموسيقى كذلك، وباعتبارها لغة جمالية ومكملا مهما في السرد السينمائي، فقد تناغمت مع المكان والشخوص والحدث والحوار حتى تجسد لنا عنفية الصورة وأحيانا تلعب مساحات الصمت لعبتها.لقد حاول سعيد خلاف الاستناد إلى الأصوات الواقعية في تواز مع البعد المكاني المتمثل في مسرح الأحداث: الأحياء الفقيرة لمدينة كالدارالبيضاء. كما وظف الموسيقى الصاخبة أثناء المطاردة أو الهروب أو الاعتقال. الموسيقى تعبر عن قوة المشهد أو دراميته، والاكيد أن المخرج وعى بأهمية ملاءمتها مع المشاهد. إن فيلم «مسافة ميل» صرخة في وجه مجتمع يرسخ للعنف في كل تجلياته. العنف الذي نتوارثه، ونمرره عبر قنوات تواصلنا المعطوبة وعبر تربية تفرخ بدورها حقدا اجتماعيا: منظر اغتصاب زوجة الضابط رغم انها أعطته ما يريد، فهذا المشهد يزكي فرضية الانتقام الطبقي. إن ثيمة الفيلم تدين الصمت والفكر الجماعي تجاه ظاهرة الإقصاء الاجتماعي للفئات المحرومة .كما ان حضور شخصية طبيبة نفسية ومتضامنة اجتماعية، والذي لعبت دوره نفيسة بنشهيدة يعتبر حلا من الحلول، لاحتواء العنف الذي يركن في ظلال الصمت إلى أن ينفجر في العلن، وحينها يكون الوقت قد تأخر كثيرا وأضعنا الكثير من الفرص.